بقـــــــلم الدكتــور مــحــمــد الــدهــان
البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير.
لقد توصل “جاك بيرك” إلى بعض الاستنتاجات النظرية خلال دراسته للبنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير يمكن تلخيصها كالتالي:
1-انتماء المجموعات القبلية في الأطلس الكبير لكيان أوسع يتجاوز الحدود الجهوية وحتى القطرية ليعم افريقيا الشمالية بأكملها. هناك استمرارية أفقية وتشابه بين كل التنظيمات الاجتماعية في المغرب العربي سواء تعلق الأمر بالتنظيمات القبلية في القرى والبوادي، أو التنظيمات القرابية في المدن.
هذه التنظيمات القاعدية تتشكل أساسا من من خلايا عائلية “أبوية” تتشابه فيما بعضها ولا تختلف إلا من ناحية التركيب. إنها تتشكل في القمة من النسب الأبوي في صيغته الحقيقية أو الوهمية، وترتبط قاعديا بخلايا متشابهة، تنتظم في تجمعات لها أشكال متنوعة، لم يفهم البحث الأنثروبولوجي حتى اليوم أسباب تنوعها.
“إننا لم نعثر بعد ،يقول “بيرك” ، على المبدء العام الذي تنتظم وفقه هذه التجمعات، ولو عرفنا ذلك لاكتشفنا إحدى القوانين الأساسية التي تتحكم في تنظيم المجتمع المغاربي”.
من جهة أخرى لاحظ “جاك بيرك” وجود تجانس واستمرارية بين كل المكونات الاجتماعية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي في إفريقيا الشمالية، حيث لايوجد اختلاف يذكر بين القبيلة البربرية والمدينة الاسلامية، بين البدو والرحل، العرب والبربر. هذه الاستمرارية تتأكد حينما ندرس التنظيم الاجتماعي من الناحية لمورفولوجية (التنظيمات تتشكل من وحدات قرابية)، أو من الناحية التاريخية حيث نجد ارتباطا واضحا لهذه البنيات على مستوى إفريقيا الشمالية بكاملها مما يفند زيف التقسيمات السياسية الحالية التي تضع حدودا مصطنعة ووهمية داخل نفس الكيان الجغرافي والاجتماعي والتاريخي من خلال تقسيم افريقيا الشمالية إلى دول ودويلات…
2- الخلاصة الثانية تتعلق بالتجذر التاريخي لكل التنظيمات القبلية في افريقيا الشمالية وانتمائها لمنظومة واحدة ، بما في ذلك القبائل النائية والتي تبدو معزولة وبعيدة عن كل احتكاك حضاري بحكم تواجدها في قمم الجبال أو في مناطق صعبة الولوج. كل “دشر” أو قبيلة لهما جذور تغوص في عمق التاريخ المغاربي دون استثناء وهو ما عبر عنه “جاك بيرك” ب”تاريخانية” التنظيمات القبلية في لإفريقيا الشمالية ضدا على ما كانت تدعيه النظرية التطورية في شقها الاستعماري التي كانت تعتبر هذه التنظيمات كبقايا ورواسب لمجتمع جامد يكتفي بإعادة ‘نتاج أنساقه والتموقع خارج التاريخ.
لقد تمكن “جاك بيرك” من خلال استنطاق الوثائق المكتوبة، وأسماء الأماكن والأعلام، والمصادر الشفوية بما فيها من أساطير وتراث أدبي غير مكتوب، من إبراز الوعي التاريخي للقبائل وارتباطها بشكل جدلي مع محيطها الجغرافي والاجتماعي. إن البنيات الاجتماعية في افريقيا الشمالية ناتجة عن حركة ثنائية تربط الخاص والعام، المحلي والشمولي بحيث لاتوجد قبائل خارجة عن حركة التاريخ. لقد بين “جاك بيرك” من خلال النموذج المحلي الذي قام بدراسته ( ويتعلق الأمر بقبائل سكساوة في الأطلس الكبير)، أن هذه التجمعات التي تبدو معزولة في قمم ووديان الأطلس، لم تنقطع يوما عن انتمائها لكيان أوسع، جهوي وقطري وانها ساهمت في التاريخ من خلال تأثيرها على مجريات الأحداث خلال عشرة قرون منذ مساهمتها في المشروع الموحدي حتى اليوم دون أن تفقد خصوصيتها الثقافية والاجتماعية.
3- تتميز التنظيمات الاجتماعية في افريقيا الشمالية بقدرتها على استيعاب مضامين ثقافية متعددة المصادر وإدماجها في النسق العام الذي تتشكل منه الهوية القبلية. إن القبائل التي شكلت النسيج الاجتماعي لإفريقيا الشمالية تتميز بحيويتها وتفتحها واستفادتها من كل ما هو جديد دون أن تفقد هويتها وتذوب في الآخر. وقد كتب “جاك بيرك” في هذا الصدد:
“إن الأمور تحدث، وكأن هذه التنظيمات تسعى، من خلال تعويض داخلي إلى إعادة التوازن والمحافظة على استقلالها الذاتي. إن قبول هذه التنظيمات لما هو جديد، وخضوعها لأشكال العنف والاغراء لايتنافى أبدا مع تشبثها بقيمها الأساسية”.
ونفهم من هذا القول أن الشخصية الجماعية تقوم بإعادة تأويل مستمر للعناصر الثقافية الواردة من الخارج وتكييفها مع الحاجيات المحلية وإعطائها طابعا محليا. هذه القدرة على استيعاب مضامين جديدة وإدماجها في النسق الثقافي المحلي هي إحدى المميزات الأساسية للتنظيمات الاجتماعية في الأطلس الكبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق