قليلة هي الروايات التي تركت لديّ انطباعاً لتميزها في سبر أغوار النفس البشرية، خاصة من الكتاب الشباب الذين يمثلون مستقبلاً واعداً في الأدبي، وامتداداً لجيل عمالقة الرواية العربية. غمرني هذا الإحساس وأنا أخوض تجربة قراءة رواية بثينة العيسى الثانية “سعار”، والصادرة عن المؤسسة العربي للدراسات والنشر بعام 2005م.
قسّمت بثينة روايتها إلى قسمين، الهامش والمتن، تناول أوله شاب كويتي يدعى مشعل يتعرّفُ على فتاة كويتيه اسمها سعاد في سويسرا، فيقعُ في هواها حتى النخاع ويسعى للتقرّب منها، مستغلاً بعده الجغرافي عن قيود الأعراف والتقاليد.
ولكن المشكلة أن الخجل يمنع مشعل ومن التفوّه بجملة واحدة أمام سعاد دون أن تأتأة، فيُفاجأُ بتوددِ سعاد إليه وبجرأة لم يألفها في فتاة من قبل، فيمضي معها لحظات سعيدة. إلا أن غيوم الغبطة تنقشع من سماء مشعل حين يعود إلى البلاد ويحاول التواصل مع سعاد في أروقة الجامعة التي تجمعهما، ليُصعَق بصدّها له وكأنها لم تقابله قط. وبعد أربع سنوات ينوء فيها مشعل من عذاب بعده عن محبوبته، يُفاجأُ-ونُفاجأُ معه-بعودة سعاد له!
ولكنننا-نحنُ فقط دون مشعل-نكتشف سر ذلك في المتن، حيث تتجلى حقيقة طفولة مضطربة عاشتها سعاد مختبئةً خلف دولاب وهي تستمع إلى أحاديث والدها مع ضيوفه، لتتفتّح عيناها على أسرار تفوق عمرها بسنوات، ومن ثمّ ترعرعها تحت كنف رجل ناصح استغل قربه من والدها، ليكشّر عن أنيابه لاحقاً ويحاول أن يفتك بها.
تعبّرُ رواية “سعار” عن الصراع النفسي الذي يتفجّر في شخصية سعاد المضطربة التي تشكلّت على يد رجل استغلها ولم تستطع التخلص من سيطرته، إلى أن انقشعت الغمامة ببزوغ أمل يحمله مشعل لها، ففرّت إلى بر الأمان، حتى طلبت وبكل جرأة من مشعل الزواج بها!
خطّت الكاتبة حروفها بلغة رصينة تسبق سنها، حيث مزجت سردها بلغة شاعرية تُرهِف الإحساس وتمنح نصها قيمة أدبية ملحوظة، حيث نلاحظ في المتن قدرتها على سبر أغوار النفس البشرية والارتقاء بما تعتليه من متغيرات يومية جلية في عالم ذكوري مغلق.
إلا أنني أعتب عليها زجّها بالحوارات العامية في سردها الفصيح والجميل، فلو كانت الحوارات فصيحة أيضاً لانسجمتُ أكثر مع هذا العمل.
ولكن ذلك لا يمنعني من التسليم بأن الروائية الكويتية بثينة العيسى قد وضعت قدماها بقوة في ساحة الأدب العربي حين طرحت روايتها الأولى “ارتطام..لم يسمع له دوى”، فعززّت مكانتها “بسعارها” المتألق. ولن أبالغ لو قلتُ بأنه لن يمضي وقت طويل قبل تصبح بثينة العيسى أبرز الأقلام الشابة في ساحة الأدب العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق