الأربعاء، 29 مايو 2013

الرسالة الأخيرة للحمار الميت الذي لا يريد أن يبقى مديناً


الرسالة الثالثة والعشرون

ذبابة الحمار الحبيبة جداً ،
لم يجدوا مكاناً مناسباً ليضعوني فيه، جهنم قليلة بالنسبة للذنوب التي اقترفتها قالوا: "لنضعه في قعر جهنم ولنر ماذا سنجد له مستقبلاً."
كانوا يخيفوننا بجهنم أثناء حياتنا، أليس كذلك؟ لكنها ليست مخيفة إلى الحد الذي صوروه لنا، أما كانوا يقولون، جهنم ألسنة لهب، ثم تقف ليصبح كل مكان متجمداً. نعم إنها كذلك.. كيف
كنت أعيش في قبو يشتعل حراً، صيفاً، وكالثلاجة شتاءا. هنا ما يشابهه تماماً. كأنني لم أمت بل أكمل حياتي السابقة. تعرفين أن الهوا لم يكن يدخل إلى القبو الذي نعيش فيه أبداً. لكن هنا
يدخل الهواء كلما فتح الباب لدخول مذنب جديد. ما أريدك أن تفهميه أن المحيط الجديد في جهنم لم يؤثر في مطلقا بل أفادني.. كنت دائماً أكرر: لم أستطع الذهاب في حياتي ولو مرة
إلى المصيف. كأنني أتيت إلى المصيف وعلاوة على ذلك لا يوجد هنا أي ذباب، أو بعوض ولا ضجيج مذياع رفعوا صوته الجيران ولا صراخ الأولاد أو مناداة الباعة المتجولين ولا
أصوات المزامير أو السيارات ولا صوت سيارات الشرطة.. لا يوجد هنا أي نوع من أدوات التعذيب، مثل التلفزيون، الراديو، الجرائد... جمدت أحشائي من شدة برد الشتاء في الدنيا ولكني الآن في جهنم بدأت قليلاً أتحرك. كان زبانية جهنم يدهشون عندما أقول:
- دخيلكم أضرموا النار أكثر...
ما كانوا يقولونه أن الناس في جهنم مكدسون فوق بعضهم، بعضهم من يصرخ وبعضهم من يبكي ومنهم من يتوسل، لا يهمني مطلقاً. رغم هذا صدقي أن جهنم أقل ازدحاماً وضجيجاً من
بيتنا. كما تعلمين كنا نعيش فيه تسعة أشخاص. لم يكدسوا الناس بهذا الشكل في جهنم لأنه عمل لا إنساني.
ذبابة الحمار الحبيبة: لا أستطيع أن اعد لك كل مزايا جهنم الجميلة. لم نعرف أن لأمثالنا خلاصاً في ذهابهم إلى جهنم منذ زمن بعيد. كدت أن أنسى أن أهم مزايا جهنم عدم وجود مشاكل المؤجر والمستأجر...
لم أستطع البقاء في بيت لمدة ستة أشهر في حياتي، بسبب عدم استطاعتي دفع الأجرة وإيانا في الشارع. لقد أصبح رمينا وأشياؤنا في الشارع من تقاليد حياتنا. وأولادنا كانوا يمرحون
كثيراً يوم الحجز وينتظرونه بالدقائق.. كان يوم الحجز بالنسبة لهم عيداً.. كانت تُنثر في الشارع الصحون المكسرة، الزجاجات، المقاعد الخشبية، التنكات الصدئة.. والأولاد يقفزون
ويلعبون بينها.. كان عندنا راديو قديم، يهجم عليه – لحجزه – كل من يدخل بيتنا من موظفي حجز وشرطة، لأن الفرش واللحف لا تحجز لم يجدوا في بيتنا ما يحجزونه سوى الراديو.
كان الهجوم على الراديو، هو أول عمل لأي موظف حجز يدخل بيتنا. موظفو الحجز أناس بطبيعة ريبة. كانوا ينصبون أنفسهم أعداء باسم المدين.. حجز الراديو أكثر من خمس عشرة
مرة ثم عاد لنا. فكرت، فوجدت أن موظفي الحجز مهتمون به كثيراً فأخرجت ما كان بداخله وملأته بالخردوات. أتى موظفو الحجز والشرطة مرة أخرى. لو رأيتهم كيف هجموا على
الصندوق ظناً منهم أنه راديو. وهكذا خلصنا من الدين والراديو معا.
لا يوجد هنا لا تنفيذ حجز ولا أجرة ولا صاحب دين...
للأسف لم تستمر راحتي الجهنمية هذه كثيراً. رفع زبانية جهنم تقريراً إلى الجهات العليا حول سعادتي، وراحتي هنا. دقِقَ ملّفي. أُصدر قرار: "إن حياته في جهنم تجري طبيعية جداً كونه
لا يوجد عذاب لم يتعذبه أو ألم لم يتألمه في حياته. لأنه متعود على كافة أنواع الهموم والآلام والمرارات فجهنم بالنسبة له، مصيف رأينا – من أجل تعذيبه – أن ندخله الجنة".
لأشرح لك كيف الجنة هذه: أتذكرين – قبل الانتخابات – كيف كان كل حزب من أحزاب المعارضة يصف الحالة التي سيجعل بها البلد. الجنة هي مكان كهذا الذي يصفون..
لقد أعطوا أجمل أماكن الجنة لمن عمل أكبر خير في حياته. لم أر كل الجنة، ولكن رأيت في القسم الذي تجولت فيه قصراً لا أستطيع وصف جماله.. يماثل تماماً الأمكنة التي توصف
وتوصف ثم يقال إنها مثل الجنة.. القصر وسط حديقة كبيرة جداً، لكن ممنوع الدخول. ثمة لوحة فوق الباب ذي الأرفتين كتب عليها "انتبه! يوجد كلب" لا ضرورة لتلك اللوحة لأن نباح
الكلاب مسموع. نظرت إلى الحديقة من تلة عالية: كما وصف لنا تماما. الجسر يجري في كل مكان. (ماركة) كوثر. امثلي واشربي.. تحت كل شجرة مكان للعشاق.. يد في السمن وأخرى
في العسل.. هناك كل ما تشتهينه.
سألت الأقدم مني عن اسم ذاك الحي، قيل لي "جنة العلا".. يعيش في منطقة جنة العلا هذه من عمل صالحاً أكثر. كما يعيش أكبر نجوم هوليود في منطقة (بافيرلي هِل). استفسرت عن نوع
العمل الصالح الذي قام به صاحب الفيلا. كان ساكنها في حياته أحد رجال الصناعة الأغنياء جداً. أنشأ مشفى ضخماً لمعالجة مرضى السل. مقابل هذا أعطي أجمل قطعة أرض في الجنة.
كما ترين يا ذبابة الحمار، يجب أن يعمل الإنسان خيرا في حياته لكي يدخل الجنة، ولكي يعمل خيراً يجب أن يكون غنياً.
سألت عن الرجل، قيل لي إنه كان يملك عدداً من المصانع، يعمل فيها آلاف العمال. كان يصاب العدد الأكبر من عمال مصانعه بالسل ويموتون. حزن كبير. لطيبة قلبه، وليكون عماله
في حالة أحسن، أنشأ لهم مشفى سل. وهل هناك مثل عمل الخير. انظري كم هو طيب القلب ذاك الرجل. كان يمرض عماله بالسل أولاً ثم يداويهم..
أعطيت مفارز الأراضي جانب البحر لأصحاب الأعمال الخيرية الكثيرة. لا أحد يستطيع الدخول إلى البحر سواهم. كتبوا في جنة الله لوحات "ممنوع الدخول إلى البحر من هنا"
ووضعوا لأنفسهم قانوناً خاصا.
كما ترين يا ذبابة الحمار الحبيبة، لا فرق بين الجنة هذه وجنة وطننا.
حادثت هذا الصباح أحد أبناء البلد الذين هاجروا إلى الجنة قبلي. ولأنه ميت منذ فترة طويلة،
سألني:
- ماذا هناك، في البلد؟
قلت:
- لا شيء.
- يعني كما كانت منذ زمن. لم يتغير شيء.
قلت:
- هناك بعض الأشياء القليلة تغيرت.
- الحمام، هل تغير الحمام؟
- لا يا سيدي، الحمام كما هو، القديمة ذاتها.. لا يهدمونها لأنه تحمل قيمة تاريخية ولا يرممونها لأنهم لا يملكون النقود. ينتظرون أن تهدم من نفسها.
- الطاسات؟
- الطاسات أيضاً كما هي، لم تتغير. يبيضونها بين الفترة والأخرى.
- من يبيضها؟
- أي من كان..
- ماذا عن القُيام؟
- يتغيرون من فترة لأخرى.. ولكن القادم يجعلنا نفتقد للذاهب.
- من أي جهة؟
- باختصار يسلخون جلدنا..
- ماذا يعمل بكري مصطفى*؟
عندها تلفت يميناً ثم يساراً، قال:
- لا تخف، لا تخف. نحن هنا أحرار. نستطيع أن نتكلم بما نريد.. ماذا يعمل بكري مصطفى؟
قال عندما طأطأت رأسي:
- فهمت، فهمت.. لا ضرورة للشرح أكثر..
أختي الحبيبة ذبابة الحمار، أظن أنني سأكون بهذه الرسالة دفعت ديني كاملاً لمديري. لهذا ستكون هذه رسالتي الأخيرة. على أمل اللقاء في أحد الأيام، أُقبل عينيك.
حمار ميت
 
اسم، غدا رمزاً للإنسان الشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق