‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقال. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقال. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 11 ديسمبر 2014

أفضل الكتب التي قرأها بيل غايتس هذه السنة

أفضل الكتب التي قرأها بيل غايتس هذه السنة

بيل غيتس ياخذنا في جولة في اهم ما قراه للعام 2014 والكتب ليست بالضرورة تقنية بحتة او معقدة جدا بل بعضها ممتع وجيد ويحتوي علما وعمقا كبيرين ينبانا عن ذوق واختيار بيل في الكتب . 

المقال بالانجليزية كاملا هنا . بقلم بيل غيتس نفسه .

فيديو : 


الأحد، 23 نوفمبر 2014

روسيا تنوي إقامة موسوعة على غرار "ويكيبيديا" البريطانية


أ ش أ


يفكر المسئولون فى المكتبة الرئاسية الروسية "يوريس- إيلسن" في تطوير نسخة مماثلة للموسوعة البريطانية المعروفة على شبكة الإنترنت "ويكيبيديا" بحيث تكون مخصصة لروسيا فقط.


وهذا الموقع الثقافي الروسي الجديد سيعرض بصورة إيجابية ومتاحة للبلد وشعبها وكل ما يتعلق بروسيا حسبما صرحت به السلطات الروسية .


 من موقع "دوت مصر" 


  أعتقد شخصيا أن المبادرة أو المشروع سينجح بعد نجاح النسخة الروسية من الفيسبوك وهي موقع www.vk.com  أو ما أطلق عليه الفيسبوك الروسي.




الخميس، 6 نوفمبر 2014

محمد الماغوط: حين لا يخلع الشاعر كآبته

كلُّ شِعرٍ نَظيرُ قائلهِ المتنبي.



1
كآبة الشاعر…

كل شيء، في شعر محمد الماغوط، فيه كآبة الشعر. من أي الطرق كان الشاعر يذهب إلى كآبته؟ وهل كان يرى الأشياء بعين القلب كما يقول الشعراء، أم بعين النص والحياة والتجربة؟ كان يتبخّر وهو يكتب النص بسيل الكلمات وحرارة الألم، وهل نستطيع اليوم أن نقرأ ما كتبه الماغوط دون كآبة؟ نرى في كآبة الماغوط قريناً ونديماً، يسكنها وتؤانسه مثلما تأخذ بيده إلى دروب ضبابية متصلة بالمعنى الشعري كقوله هنا: (في فمي فمٌ آخر وبين أسناني أسنانٌ أخرى)، (أصابعي ضجرةٌ من بعضها وحاجباي خصمان متقابلان)، أو (وألتفُّ حول قصائدي كالذيل)، (إنني أحلم أكثر مما أكتب، ولكنها أحلام تتطور ليلة بعد ليلة إلى كوابيس رائدة).

نستعيد من جديد روح الماغوط بنبض الحياة، فتنضج اللحظة الشعرية المستعادة التي نرى بها أنفسنا، كقراء، نتذكر الماغوط من حيث نعلن أننا نريد توديعه أو نسيانه، كمن يوقظنا من حيث يريدنا، النص، أن ننام على نغمة الكتابة الشعرية الأولى لتشكل كل الأسئلة النقدية بمضامينها اللغوية والفنية المختلفة طريقة للاتصال بالماغوط وانبعاثه حياً من حيث تريد القراءة المستعادة التأكد من غيابه الآن، فيكون هنا من جديد من حيث لا يعود زمنه، المتصل بالنص، قائماً هنا لنعلن من جديد أن القراءة لا تستعيد الأسئلة النقدية وحسب، بل تتحول إلى سؤال نقدي جديد، والأسئلة النقدية لا تملأ فضاء القراءة، ولا تسد جوع القارئ ولا تبدد إلحاحه أو بحثه الجمالي.

وإذ قدمت شعرية الماغوط بتأويلاتها المتعددة أجوبة ذاتية على أسئلة موضوعية متصلة بالحياة إلا أنها لم تستطع ردم الهوّة بين الذات والموضوع، بين الحرية والعبودية أو بين الواقع والحلم لتتحول هي ذاتها من جديد إلى موضوع للسؤال النقدي الموازي للقراءة، لنقرأ هذه الجمل من قصيدته المعنونة: (القتل: وأنا أسير أمام الرؤوس المطرقة منذ شهور، والعيون المبلَّلة منذ بدء التأريخ، ماذا تثير بي؟ لاشيء، انني رجلٌ من الصفيح).

ثمة نصوص، للماغوط، ذرائعية قابلة لكل أنواع الإسقاطات ولكل أنواع الأسطرة والأدلجة، فتعددت القراءات النقدية والتأويلات التي تشكل الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية عاملاً حاسماً في تحديد منهجية القراءة والتأويل إضافة إلى ذات القارئ والشاعر. فيمكن القول أن لكل تأويل منهجه ومقصده (الايديولوجي) أي أنه خاضع لإشكالياته وشروطه الموضوعية والذاتية فهو بما معناه قراءة ايديولوجية للنص ومهما ادعى، الناقد العقائدي، التحرر من الايديولوجيا والتمسك بفنية النص ودلالاته فالبراءة، هنا، ليست من مملكة النقد أو القارئ، وإلا فنحن خارج النص والمعنى واللغة، ويمكن لنا أن نشير هنا إلى البعض من عناوين النصوص الذرائعية: (الأعداء، وجه بين حذاءين، بكاء الثعبان، النسور العالية تفترق بغضب، الغجري المعلَّب، بدوي يبحث عن بلاد بدوية). عندما تضع الكتابة الشعرية نفسها موضوعاً لذاتها وسؤالاً وجودياً يبحث باستمرار عن الإجابة فهذا دليل على حيوتها المعرفية بالرغم من اندراج هذه الأسئلة في سياق غياب المعنى ليعود السؤال من جديد حول الكتابة في منظور الماغوط طريقة للإتصال بهذا المعنى وطريقة شعرية للتأكد بأنه ما زال غائباً، وعندما نستعيد قراءة نصوص الماغوط فهذا يعني البحث عن تأويلٍ ما للكتابة والقراءة، مُرتبط بأسئلة نقدية جديدة وبمعطيات فنية  لغوية بعينها، لنتأمل هذه العبارات: (كنت أفكر بأنني سأكتسح العالم بعيني الزرقاوين ونظراتي الشاعرية).

2

شاعر لم يوارَ الثرى بعـدُ…

الشعر الذي يستلهم الحرية ويُلهمها أو الذي يستلهم التحرر ويُلهمه، من هنا يمكننا القول: محمد الماغوط، شاعر باسل، حافل في حياة وطن، وحافل في حياة الفرد منّا فقبل أن يشهق القارئ شهقة الاستغراب العجيبة لغيابه أريد أن أقول له ما مفاده: حين يأتي الموت سيُقضي على الشاعر ويُبقي الشعر وهذا الأمر خارج أحتمال الموت ومعادلته اللاعادلة لذلك لم يفكر في النيّل منه فالشاعر دوماً محكوم بالبحث عن الكتابة الشعرية التي تعيد إلى حركة الحياة حركية الاحتجاج وديمومتها ضد الظلم والقهر، ذلك أن حلم الشعراء هو أن يتمكّنوا من جعل الحياة بكل معانيها ورموزها هدفاً بذاتها ولذاتها وأن يزيلوا من طريق الحياة كل الفواصل التي تجعل منها مجّرد عبور مأساوي إلى ما لا يعرفون من نهايات، وإذ نطرح اليوم على أنفسنا السؤال الوجودي الكبير: هل للموت من نهاية؟ فإننا نضع أنفسنا حيث يجب أن نكون، أي في موقع التحدي الكبير في الإجابة عن هذا السؤال بالشعر لا بالفلسفة أو التفخيم البلاغي، وهنا بالذات تبدأ عملية البحث بضراوة فائقة عن هذه الـ(تسمى) الحداثة الشعرية التي لا ننطلق فيها من الشعر بل من حيث تأتي القصيدة محملة بالمعنى الجمالي أو الموقف الأخلاقي، وعلينا أن ندرك بوعي نقدي أن عملية البحث هذه إنما تتم في ظل متطلبات مقاومة الموت والتردد والخوف لا خارج هذه المتطلبات التي ستجعل بحثنا عقيماً لا يوصلنا إلى أي من اغراضنا النقدية المبتغاة وفي مقدمتها المعنى المتصل بالنص الشعري . بقيّ الماغوط يشدو حَنِينْاً لموطنه منذ أول قصيدة، ولعل أكثر ما يجلب الانتباه في تفاصيل حياته هي موضوعة الاسلوب الهوميري في قصيدته الشعرية أو التقاطاته الشذرية التي تشبه إلى حد ما حياته وهذه الفقرة حصراً لا تخفى على أي قارئ أو دارسٍ لنصوصه، إنني لا أسعى من خلال هذه الملاحظات النقدية المبتسرة إلى تقويم التجربة الشعرية للماغوط فمثل هذا العمل يستدعي الاعتماد على متن كبير ومتنوع من المراجع والهوامش والتأمل النقدي، لنطلع على بعض الالتقاطات المشاكسة: (جميع الحقوق محفوظة ويكفلها القانون، قانون الطوارئ طبعاً) (لا أراهن على نفاذ الخبز أو الماء أو الوقود بل على نفاذ الصبر) (مدينتي محجبة، ولكن بالياسمين) (لا أريد من مدينتي الحديثة سوى أرصفتي القديمة) (ألقى أحدهم قصيدة وقد أقتصرت الأضرار على الماديات) (هناك تعتيم إعلامي واضح عليك حسناً يفعلون، إنني لا أشع إلا في الظلام) (لن أحلق بوطني على علو مرتفع حتى لا يصيبه الدوار).

موت شاعر بمواصفات الماغوط لا اعتبره موتاً، بل هو وقارٌ في حضرة الغياب بمعنى آخر، هو موت لم يوارَ الثرى بعدُ وهكذا يختزن الاحساس الجّواني لدى القارئ أو الناقد كارتداد وجودي يحبسه الدمع إذا ما كفكَفتُه العين اليمنى وتبعتها أختها اليسرى من نوازل الأسى بفقد شاعر مهم . لقد رحل الماغوط لكنه في ذات الوقت ترك وراءه إرثاً شعرياً غنياً ومثيراً للجدل، فهل رحل الشاعر على حين غرّة ولم يكمل قصيدته الأخيرة؟ فقد كان يكتب الشعر بكل ما تمليه البساطة التي هي مُلكه وحده، لهذا بقيّ صادقاً على تطبيقها في حياته، كان يجاهر بالقصيدة مثلما يجاهر بالبساطة، يحمل كل الأشياء الحميمة منذ خروجه من (السلمية) حيث مسقط الرأس والتي قال عنها: (سلمية، الدمعة التي ذرفها الرومان على أوّلِ أسير فكَّ قيوده بأسنانه ومات حنيناً إليها)، (سلمية: من استغل غيابي واشبعك ضرباً ولكماً ورفساً وتمزيقاً؟)، فقد تبين لنا من خلال شعره إن شاعراً بحجم الضوء والحزن الذي نادى به كبديل للفرح لم يكن عابراً، ألم يقل ذات مرة: (الفرح ليس مهنتي) وعلى مثل هذا الشعور سار بنا إلى عوالمه الجميلة الساخطة، إنه ثورة شعرية جامحة قادرة على امتلاك الأشياء، فسلطة الشعر هي الأجدى ومثلما يقال أن السياسية هي فن الممكن هكذا هو الشعرأيضاً فن الممكنات عِبْرَ التأويل، الترميز، الإيقاع والمخيلة ومُوحيات أخرى لا نهاية لها.

الشاعر لا يتلون حسب الفصول، إنه يملك استراتيجية شعرية حتى وأن مات هكذا على أريكته، فنراه تارة يحاذر وأخرى يكابر حتى يعتزل الناس لذلك نرى دائماً في شعر الماغوط شيئاً ما تفوح منه رائحة التمرد والتحريض، اليأس والثورة، الحب والحرب، السجن والحرية ومآسٍ أخرى لا تعّد، ومن خلال شعره أيضاً نقفز من فوق سياج العلة كي يتسنى لنا رؤية المعلول، لنصغي إلى ما قاله في قصيدته المعنونة (ترميم قصيدة أو مجد الصغائر) وبها يتنبأ بموته في الربيع: (آخر أخباري مثل أولها، إنني مثل رومل أقاتل على عدة جبهات الشعر، المسرح، الصحافة، الأصدقاء، الأعداء، خائضاً حتى الركبتين في مستقع الفقر والفقراء، على كل حال جهزي إطاراً أخضر لصورتي لأنني سأموت في الربيع)، وحتى في كتابه الأخير (البدوي الأحمر) بقي يعيش على هواه الشعري تنعشه الكلمات المتحررة من التطريز اللفظي، فيتنفس الشعر من خلالها بعد أن يتناول الواقع، بتناقضاته وتقلباته، مع وجباته الشعرية اليومية، بغيته الأولى الصدق، صدقه الذي أودى به وجعله يكتب ذات مرة (سأخون وطني) ومع هذا بقيّ أيضاً يستّل من الحياة موضوعاته الشعرية الأثيرة إلى روحه ليداوي أوجاعاً مقيمة فينا وافراحاً غائبة عنا منذ لحظة العناق الأولى مع تلك القصيدة العصية على الامتثال والترويض، لنقرأ ما كتبه في هذا النص: (طريق الحرير: كل يوم اكتشف في وطني مجداً جديداً وعاراً جديداً، اخباراً ترفع الرأس وأخرى ترفع الضغط).

3

خاتمة..

بموت الماغوط يكون شعره قد ردَّ جزءاً كبيراً من الجميل الذي أبى على نفسه أن يظلَّ ديناً عليه لما قدمته حكومة هذا البلد العربي أو ذاك خصوصاً حين اعتبر الأسنان حسب قوله وأعني مزاحه الشعري: (الأسنان فائض قيمة أو انتاج يجب أن تزول وقد حقق لي القضاة العرب هذه الأمنية باستجواب واحد) شاء أن يرينا جحود البلاد وجميل الشعر، ولا يسعنا المقال هنا لكل ما يدفعنا الألم لعرضه، لكننا كلّما توغّلنا أكثر في حياته وشعره كلما تعرفنا أكثر على حزنه ـ كآبته وأدركنا مع من كان يتحاور في شعره خصوصاً وهو يردد على مسامعنا بلا تحفظات سوى تحفظاته المقصودة على القصيدة: (كنت بذيئاً بالسليقة، ثرثاراً بالفطرة وفي عالم تتازعه أوتار شوبان وأكلة لحوم البشر، كلما قضى أحد خصيانه بسبب التعذيب، صار الخبز والسيف والتغوّط محور الشر في حياتي) وكذلك في قصيدته المعنونة: (النخاس: الأسم، حشرة، اللون، أصفر من الرعب، الجبين، في الوحل، مكان الأقامة، المقبرة أو سجلات الأحصاء، المهنة، نخاس)، فلا أظنُّ أن حواره هذا ومحتواه الساخر أقل وهجاً من ثورته الشعرية النقية، هذه هي الرؤيا الماغوطية الصادقة التي اختتمها قبل موته، أجل هكذا أراد شاعرنا أن يكون أو يموت لا فرق بين الحالتين، الهوميري العريق أو البدوي الأحمر.

هكذا شاء الماغوط أن ينقح بموته أحزاننا ولغتنا، أن أهمية الشاعر تتجلى بالصدى الشعري الذي يخلّفه وراءه، خصوصاً في هذه اللحظة الزمنية الحرجة، ذاك لأن مراحل حياته ستبقى متلونة بألوان القصيدة . لو قيّض له أن يعيش أكثر، هل سيكمل قصيدته الأخيرة كما أراد ويراد لها حتى ولو تباعدت المسافات الضوئية بين أمنيتين تجمعهما وحدة الشعر؟ هل سيضحك مما قاله ذات قصيدة بحق صديقه السياب: (تشبث بموتك أيها المغفل) من سيغافل الكآبة أو الحزن المقيم فينا بغيابك؟ من سيستبيح الفرح العابر بالكلمات ليحلم باحثاً في حلمه عن الحلم؟ ما الذي سيقوله اليوم وهو يرى البلاد ومدنها وريفها غارقة بالدم والموت؟ هل سيسهم الشاعر في اكتشاف معالم الحزن القديم مرة أخرى، محمد الماغوط لا يكترث بالقبر والموت والاسئلة لكونه دائم الصراخ والتجديد، المشاكسة والأمل، الحلم والتحليق كقوله هنا: (كلما شربت كأساً نبت لي جناح) وكأنه يصرخ بنا، ثمة زمن آخر سيأتي يحرر الثقافة من قيودها، كي تكون ثقافة، هو: زمن الحرية، وهذا الزمن الجديد الذي يحرر الثقافة ويعطي المثقف تعريفاً جديداً هو الذي يفصل بين المثقفين والكهنة، وهو يفصل بين العقائديين والمقهورين أو بين الربيع الذي تحدث عنه (البحتري) أو الذي قال عنه الماغوط في قصيدته: (الربيع: كلما كتبت كلمة جديدة تنفتح أمامي نافذة جديدة حتى أنتهي في العراء) كأن التأريخ لا يحرر الثقافة إلاّ وهو يحرّر المقهورين الذين يعيدون صياغة الثقافة والذين يخلقون، وقد أصبحوا مثقفين من طراز جديد، عالماً جديداً لا كهنوت فيه.

يكتب الماغوط: (رقصة الحرب؟ كل شئ إلاّ هذا، فاكسسواراتها ولوازمها مكلفة، سيوف تروس، أوسمة، شعراء، مطربون، كيف أتحمّل أعباءها؟ وأنا أحمل سبع هزائم متوالية على ظهري ونفقات أيتامها وأراملها تكفيني أجرة المقرئين، إذاً لنرقص، لنجن، لنقم بأي شئ غير معقول، حتى (بيكيت) صار متخلفاً وكلاسيكياً في هذه الأيام إذاً لننتحر، الأنتحار حرام وهل الشقاء حلال؟) إن كانت الأرواح المغتطبة لا تعرف الصمت، فإن الماغوط عاش متمرداً، ولعل دراسة أسلوبه الشعري تكشف عن مستويين لا يتصالحان بالضرورة، مستودى ذاتي يبني القصيدة على المغايرة والمشاكسة ومستوى آخر، تحدده البنية الاخلاقية والمعرفية والاسلوبية، إذ المفردات تتزاحم والجمل تتراكم في حركة شعرية لا تتوقف، حركة تطالب بالحرية وتمارس، في الوقت نفسه، ثورة ذاتية صاخبة، وأخيراً، الشاعر لا ينأى عن عوالم هذه المشاكسات الشعرية، هو داخلها باستظهارات وأساليب مختلفة أيضاً، فلا فصل بين المعنى والدلالة، لأن الثنائية لا تستوي إلا في حضور طرفيها معاً، ثنائية قائمة على الالتحام والتوحّد .

هامش:

1ـ محمد الماغوط، الأعمال الشعرية الطبعة الثانية دار المدى 2006/ شرق عدن غرب الله الطبعة الأولى دار المدى 2005/ سياف الزهور الطبعة الأولى دار المدى 2001/ البدوي الأحمر الطبعة الأولى دار المدى 


بقلم  عبد الكريم كاظم
المصدر  موقع  الامبراطور


الأحد، 21 سبتمبر 2014

وليمة سقراط الأخيرة






حتى اللحظات التي لفظ فيها انفاسه الاخيرة في تلك الصبيحة من الصباحات الربيعية ظل المعلم سقراط محافظا على صفائه والعهدة على الرسام جاك-لوي دافيد، الذي خلده في احدى اشهر لوحاته الفنية مادا يسراه عن طيب خاطر وبثبات وعزم مكين الى قدح الشكران

كان في قمة صفائه الروحي ورباطة الجأش نفسه والسخرية اللاذعة ذاتها التي واجه بها القضاة الخمسمائة بقيادة الرجال الثلاثة "ميليتوس" و"أنيتوس" و"بوليقراط" الذين لم يشفع لهم كبر سن الرجل ووهن عظمه، ولا ليونة انامل الداية "فيناريت" على طراوة أجسادهم ساحبة اياهم من ظلمات ارحام أمهاتهم، الام/ امه التي ظل طول حياته يبرهن من خلالها على عدم عقم الفلسفة. الصفاء الروحي نفسه ورباطة الجأش والسخرية اللاذعة ذاتها وهو يصب السائل السام في جوفه دفعة واحدة كانه يعب خمرا، ساخرا من ايسكولاب، اله الطب، في ذلك الصباح من الصباحات الربيعية 

فيما كانت يسراه معلقة في الهواء تشرح احدى نظرياته التي ألبت عليه الاكليروس، ومنتهرا طلابه الذين أخفوا سحناتهم في أطراف قمصانهم مستغرقين في بكاء مرير.
افلاطون الذي كتب على باب أكاديميته " من لم يكن مهندسا فلا يدخلن علينا ". 
وارسطو ابن نيكوماخوس الذي ابتدع فيما بعد فلسفته المشائية، وكتب الكتاب الفريد سر الاسرار.
و كريتون أقرب الطلاب الى نفسه، والذي أمره بدفع ثمن ديك لايسكولاب دون مفاصلة، حتى وهو يعالج السكرات الاخيرة من الموت قبل ان يغمض عينيه في تلك الصبيحة من صباحات اثينا الربيعية

حتى وهو في اللحيظات الاخيرة من الحياة لم يكف سقراط عن التامل والدفاع عن الفضيلة والسخرية والتفكير عن مال الفلسفة، وفي حساء العدس المحبب الى نفسه، شئ وحيد لم يستحمله المعلم وهو في ارذل العمر، لا مآل الفلسفة، أبدا، لأنه يعرف اي الرجال هم الذين لقنهم خلود المعرفة، ولا مستقبل اثينا لان الديكتاتوريات تدول وتزول، بل عويل ونواح اكزانتيب التي كانت دائمة السخرية من تخريفاته، وهي تذرو على راسها التراب وتتمرغ في الوحل خارج أسوار السجن، والذي ظل يتناهى الى مسامعه ويمزق نياط قلبه حتى اللحيظات التي لفظ خلالها أنفاسه الاخيرة، مسلما الروح في ذلك الصباح من صباحات فصل الربيع

نقوس المهدي

السبت، 22 ديسمبر 2012

نجيب محفوظ والإخوان


يظهر للقاريء المدقق لمحفوظ أنه كان واعيا طوال الوقت بمكانة الإسلام السياسي في مصر، فطوال تاريخ كتابته ظلت الشخصية التي تحاول تحقيق مكاسب سياسية من خلال أرضية إسلامية متواجدة في أدبه، بداية من "القاهرة الجديدة" أول رواية عصرية كتبها وحتى كتاباته الأخيرة. قبل موته بوقت قصير قال في جلسة أصدقاء تناقلتها الصحف أن مصر تريد أن تجرب حكم الإخوان المسلمين، هذا الذي حدث بعد وفاته بست سنوات.

كانت "القاهرة الجديدة" أول رواية لمحفوظ تدور في زمن معاصر له وكان مهتما بأن يظهر فيها التيارات الفكرية المتصارعة في زمنه، ليضع علي طه المؤمن بالمادية والاشتراكية في مقابل مأمون رضوان الذي يؤمن بـ"الله في السماء، والإسلام على الأرض"، وإن لم يتكلم محفوظ هنا صراحة عن انتماء مأمون رضوان للإخوان المسلمين. مع تقدم الرواية انسحب الحديث عن الصديقين الندين ليركز على شخصية محجوب عبد الدايم وصعوده الوظيفي الفاسد، قبل أن يجتمع الندين مرة أخرى معلقين على نهاية محجوب البائسة وعلى حال مصر قائلين: "ماذا تخبيء لنا أيها الغد؟!".

يعود محفوظ في السكرية ليصير أكثر صراحة في التعبير عن انتماءات شخصياته، ولا يتجاهل هنا أن يضع أيضا الشيوعي والإخواني في مواجهة بعضهما البعض، يضعهما محفوظ هنا كشقيقين من بيت واحد، حتى مع نهاية الرواية يضعهما في سجن واحد. تدين عبد المنعم المصبوغ بصبغة سياسية كان مثار سخرية أكثر من شخصية من عائلته، ليس فقط من قبل غير المهتمين بالدين - سخرية عمه كمال الباطنية من "يقينه وتعصبه"، وسخرية أخيه أحمد الظاهرة الذي يرى في الإخوان المسلمين "خازوق رباني" - ولكن أيضا من الشخصيات المتدينة في العائلة، تدين الجد أحمد عبد الجواد ومن ثم ابنته خديجة كان تدينا مختلفا، وشعبيا، آثار عبد المنعم إعجاب و"سخرية" الجد أحمد عبد الجواد عندما توجه إليه الأول لطلب يد حفيدته ابنة عائشة، كان كلام عبد المنعم مستشهدا "بالقرآن والحديث". وتسخر الأم خديجة – الأكثر تدينا في عائلتها - من ابنها قائلة: الدين جميل ولكن ما ضرورة هذه اللحية التى تبدو فيها مثل محمد بيّاع الكسكسى؟!" لا يتجاهل محفوظ الإيحاء بملاحظات على الخطاب السياسي الذي تقدمه جماعة الإخوان المسلمين من خلال شخصياته الأدبية، فيقول الشيخ علي المنوفي المعلم المباشر لعبد المنعم في الرواية: تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة تنظيم شئون الناس فى الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو العبادة دون غيرها من النواحى مخطئون فى هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف". ومن جهة أخرى تقول سوسن حماد: "الإخوان يصطنعون عملية تزييف هائلة، فهم حيال المثقفين يقدمون الإسلام في ثوب عصري، وهم حيال البسطاء يتحدثون عن الجنة والنار، فينتشرون باسم الاشتراكية والوطنية والديمقراطية". أو يرد عدلي كريم على تخوف أحمد من الإخوان قائلا: " ... ليسوا بالخطورة التي تتخيلها، ألا ترى أنهم يخاطبون العقول بلغتنا فيقولون اشتراكية الإسلام؟ فحتى الرجعيون لم يجدوا بدا من استعارة اصطلاحاتنا، وهم لو سبقونا إلى الانقلاب فسوف يحققون بعض مبادئنا ولو تحقيقا جزئيا، ولكنهم لن يوقفوا حركة الزمن المتقدمة إلى هدفها المحتوم، ثم إن نشر العلم كفيل بطردهم كما يطرد النور الخفافيش". إذا نظرنا للرواية كأننا ننظر لمؤشرات أولية لانتخابات أو حركة على الأرض، سنجد أن كفة اتجاه عبد المنعم رابحة من جهة التنظيم والعدد، فالحديث المتكرر عن شعب الإخوان والعدد الذي يؤازر عبد المنعم في مناسباته الاجتماعية يبدو مؤثرا أكثر من اتجاه أحمد، رغم أن أحمد ورفاق اتجاهه ينظرون للأولين بتعالي مستمر.

يحاول مصطفى بيومي صاحب كتاب "نجيب محفوظ والإخوان المسلمون" أن يبلور الخطاب الإخواني في أدب محفوظ، يكتب: "يتسم الفكر السياسي للإخوان بالميل إلى التعميم والحرص على الغموض والابتعاد عن الوضوح والتحديد، فهم سياسيون يرفعون الشعارات الدينية، ودينيون يعملون في السياسة، وفي هذا السياق، يتجلى تمسكهم الدائم بتجنب طرح برنامج تفصيلي ذي نقاط واضحة، ويتشبثون دائما بخصوصية غير منطقية وعاجزة عن الإقناع: الحديث السياسي المترفع كأنهم من رجال الدين، والخطاب الديني المختلف كأنهم يحتكرون الإسلام".   ثم يكتب عن موقف الإخوان من الوفد قائلا: "اختلاف الإخوان مع الوفد لا يحول دون حقيقة أن الغالبية من الرعيل الأول للإخوان كانوا وفديين، أو متعاطفين مع الحزب الشعبي الكبير. ولقد تعرض الإخوان للاضطهاد والمطاردة في العهود غير الوفدية، لكنهم تحالفوا دائما مع كل مضطهديهم ضد الوفد. الإخوان لا يقنعون بالوفد في عالم نجيب محفوظ والوفديون يضيقون بالإخوان وتعصبهم".

لاحظ أن كثيرا ما تكون نظر محفوظ للوفد (حزب سعد زغلول) أقرب للرومانسية في رواياته، فهو الحزب الذي يعبر بشكل أساسي عن الوطنية المصرية، وكل خروج عنه هو خروج عن هذا الحس الوطني. لذلك كان خلط محمد حامد برهان بين وفديته وبين اهتمامه بالانتماء للإخوان المسلمين في رواية "الباقي من الزمن ساعة" مثار انزعاج أبيه الوفدي، مرة أخرى يشير محفوظ إلى أن الدين "الإخواني" الذي تتوطد علاقة محمد به دين مختلف "... عن دين أسرته المتسم بالسماحة والبساطة". ولكن مثلما ابتلي محمد الإخواني بالاعتقال قبل ثورة يوليو ابتلي باعتقال أصعب بعدها رغم التوقع بتحالف بين الثورة والإخوان، ليخرج محمد من السجن "بعين واحدة وساق عرجاء". ليصبح وضعه أقرب للسلبية في عهد جمال عبد الناصر قبل أن يعبر عن حماس للسادات الصديق وحالما بـ"الحل الإسلامي"، ثم ينقلب رأيه بعد زيارة الرئيس إلى إسرائيل. وتتشابه شخصية سليم حسين قابيل في "حديث الصباح والمساء" مع شخصية محمد حامد برهان، إذ تتلاعب الرياح السياسية التي هبت مع ثورة يوليو بسليم المنتمي للإخوان، هذا الذي يجعله يعتبر الكوارث الوطنية كهزيمة يونيو واغتيال السادات كعواقب إلهية.

وإذا كان محفوظ في "السكرية" و"الباقي من الزمن ساعة" و"حديث الصباح والمساء" قد تحدث عن كوادر إخوانية، فهو في المرايا يتحدث عن "أسطورة"، عبد الوهاب إسماعيل: "إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير". لن نلعب طويلا لعبة "من الشخصية الحقيقية؟" مع عبد الوهاب إسماعيل (نحن الذين نقارب عدلي كريم "السكرية" بسلامة موسى وطاهر عبيد" قشتمر" بصلاح جاهين)، فمحفوظ في حواره الطويل مع رجاء النقاش أشار إلى أن الشخصية تحمل ملامح كثيرة من سيد قطب. يرى الراوي في "المرايا" بذور التعصب في شخصية عبد الوهاب إسماعيل، فهو يرفض الكتابة عن كاتب قبطي جيد لأنه لا يثق في أتباع الديانات الأخرى"، ثم يعبر أمام الراوي عن أفكاره الرجعية التي تتضمن ضرورة عودة المرأة إلى البيت واجتثاث الحضارة الأوروبية. ارتفع نجم عبد الوهاب اسماعيل سريعا وهبط سريعا بعد ثورة يوليو كالشخصيات الإخوانية، لصدام الإخوان مع عساكر الثورة.

الشخصيات التي تؤمن بالإسلام السياسي عند نجيب محفوظ غالبا ما تكون أقل جاذبية من الشخصيات التي تؤمن بأفكار أخرى، فستجد من محفوظ اهتماما وتعقيدا أكبر عند شخصية كعلي طه أكثر من مأمون رضوان، وعند أحمد شوكت أكثر من عبد المنعم شوكت، ولكن مع ذلك تظل هذه الشخصيات المتدينة بيقينها وربما تعصبها تحمل صلابة في مواجهة الصعاب عن الشخصيات الأخرى حتى لو حولتها الضربات السياسية لكائنات أقرب للسلبية السياسية مثلما صار محمد حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة".

أمير زكي
ديسمبر 2012

***

مصادر:

-         عمنا نجيب محفوظ تنبأ بسطوع نجم الإخوان في السياســـــة، حوار مع عبد الرحمن الأبنودي، أخبار اليوم، 15/7/2012
-         نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، مكتبة مصر، 1945
-         محفوظ، السكرية، مكتبة مصر، 1957
-         مصطفى بيومي، نجيب محفوظ.. والإخوان المسلمون، كتاب اليوم، 2005
-         محفوظ، الباقي من الزمن ساعة، مكتبة مصر، 1982
-         محفوظ، حديث الصباح والمساء، مكتبة مصر، 1987
-         محفوظ، المرايا، مكتبة مصر، 1972
-         رجاء النقاش، نجيب محفوظ – صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، 1998


الاثنين، 10 سبتمبر 2012

كل الأحكام هي أحكام بالموت


الوقوف أمام المحكمة كمتهم يعني أن تكون مضطرا لتبرير نفسك أمام كل الحاضرين، غالبا أنت تحاول تبرئة نفسك من جريمة أو خطيئة، وأنت مضطر أيضا لأن تكشف نفسك وتقريبا تاريخك أمام أناس ربما لم تكن لتسمح لهم بأن يدخلوا إلى عالمك.

ميرسو بطل رواية كامو "الغريب"يتصور أمر المحاكمة (التي تمت في الفصلين الثالث والرابع من الكتاب) كله كتمثيلية، الشرطي الذي يرافق ميرسو يقول له إن كثرة القضايا تشعره بالملل، وربما الأمر كذلك بالفعل، فالقضية متكررة ربما على كل البشرية إلى جانب ميرسو، أنت محكوم عليك بالموت، الحكم جاهز ومعروف، والخطيئة/ الجريمة التي قمت بها لا تجد نفسك مسئولا تماما عنها، "كونك ولدت" كما يقول كالديرون، أو كونك قتلت عربيا فقط لأن الشمس/ الطبيعة ضغطت عليك، هذا التبرير الذي يثير الضحك عندما يقوله ميرسو في المحكمة، فهذا ليس سببا معقولا، وهو تبرير لن يمنع حكم الإعدام. في قاعة المحكمة يجد ميرسو تفاصيل حياته التافهة كأشياء تؤخذ ضده؛ بروده – الذي يمكن أن يوصف بأنه برودا عاديا – وشربه القهوة باللبن وتدخينه السجائر في مواجهة موت أمه، عدم رغبته في رؤية جثتها، مشاهدته فيلما في السينما مع صديقته بعد ذلك وممارسته الجنس معها، هذا كله أداء يومي عادي، لا يستحق لأول وهلة أن تعتقد أنه سيتخذ كدليل ضدك، وأن هؤلاء المعارف والعابرين في حياتك سيكونون شهودا عليك. يكتشف ميرسو أيضا كم هو مكروه من قبل الحاضرين، وفي لحظة يتصور أن الحاضرين يتحدثون عن شخص غيره. من الناحية الفنية يبدو كامو متأثرا بدوستويفسكي – الذي أثبت في "الأخوة كارامازوف" أنه الكاتب الخبير بمشاهد المحاكمات – فمن الممكن أن يصرح الشاهد برأي ونقيضه كما فعل حارس دار المسنين التي كانت تعيش فيها أم ميرسو فهو لم ير ميرسو يبكي في مواجهة جثمان أمه ولكنه أيضا لم يره غير باكيا، مثلما نصبح في شك من شهادة شخصية "جريجوري" في رواية "الأخوة كارامازوف" عن أحداث قتل الأب في ليلة شرب فيها قدح ونصف من شراب مخلوط بالكحول. أحد الصحفيين في "الغريب" يذكر أن أهم قصص الحوادث هذا الصيف كانت قصة ميرسو وقصة الرجل الذي قتل أبيه، هذه القضية التي تماثل قضية ديمتري المتهم بقتل أبيه.

مرة أخرى في "الأخوة كارامازوف" لدوستويفسكي يتكرر أن يبدو المتهم  خارج عملية الصراع - وذلك في مشاهد المحاكمة التي خصص لها دوستويفسكي 14 فصلا من الرواية، هذا بالإضافة إلى اعتذار الكاتب أنه لن يستطيع أن يذكر لنا كل الأحداث - فالمنافسة بين المحامي فيتوكوفيتش ووكيل النيابة كيريلوفيتش مثلا في المحاكمة كانت تبدو بمعزل عن حرج مصير ديمتري، فيبدو أن المنافسة تأتي على حساب حياة هذا الشخص، ولكن رغم ذلك لم يكرر ديمتري انفعال ميرسو النفسي القائل: "ما هذا؟ من هو المتهم هنا؟ إن المتهم شخص مهم في القضية، ثم إن لديّ شيئا أريد أن أقوله". باستعادة حياة ديمتري كلها تقريبا في جلسات المحكمة نكتشف أن الحكم هنا هو حكم يقيم تجربة ديمتري الحياتية، رغم أن القاريء يعلم أنه مظلوم في هذه القضية ولم يقتل أبيه، في بعض الأحيان يتخيل ديمتري أنه سيحمل صليب أخطاءه الأخرى بالحكم عليه بغض النظر عن مدى تورطه في هذه الجريمة. تتلخص فلسفة العمل كله في مشهد المحاكمة؛ تحب جروشنكا ديمتري أكثر وقتها، يتضح تردد كاترينا إيفانوفنا بين ديمتري وإيفان، يلخص إيفان فلسفته عن قتل الأب، كل هذه العلاقات تتكشف أمام الجميع في قاعة المحكمة.

عند كافكا كانت "المحاكمة" هي الرواية كلها، كان المطلوب من  "جوزيف ك" أن يبرر نفسه أمام الجميع في مواجهة التهمة التي لا يعرفها محاولا أن يتخلص من هذا الاعتقال الشاذ. في حين أن المشهد الذي اعتدنا أنه يتكثف في الروايتين السابقتين أصبح أكثر عبثية هنا (مشهد المحكمة في الرواية كان أقرب إلى جلسة استماع لا محاكمة)؛ جوزيف ك يحاول أن يبريء نفسه أمام الجمهور، يحاول أن يكسبهم بتصريحاته وينتزع منهم صيحات الإعجاب وكأنه أمام جمهور مباراة رياضية، حتى يكتشف أن كل هذا ليس لصالحه، الحاضرون كلهم يعبثون به، وقد يتجاهلونه لينظروا بشغف لرجل يحتضن المرأة الغسالة في قاعة المحكمة. في لحظات في الرواية يعتقد ك أنه ذو أهمية كبيرة سواء بسبب المؤامرة التي تحاك ضده أو بسبب الاهتمام الغريب به من بعض الشخصيات ومنها الشخصيات النسائية، وفي لحظة أخرى يقول له قس السجن ببساطة: "المحكمة لا تريد منك شيئا، إنها تستقبلك عندما تأتي وتصرفك حينما تذهب".

عند نجيب محفوظ سطور قليلة كونت مشهد محاكمة بارز لعاشور الناجي في رواية "الحرافيش"، كان عليه فيه أن يبرر استيلائه على دار البنان. المشهد كان نقطة تحول أخرى في شخصية عاشور، فبعد الحكم عليه يخرج من السجن ليصبح فتوة الحارة ويرسى تقليد الفتونة الذي ستصبح معيار بقية الملحمة. صورة أخرى لمحاكمة ظهرت عند نجيب محفوظ كانت تمزج بين السريالية والرمز، وهي أحد "أحلام فترة النقاهة" في الكتاب الذي صدر في نهاية حياة محفوظ، وهو الحلم رقم 100 الذي ضم عدة زعماء في قفص المحكمة ينتظرون الحكم عليهم، فيحكم القاضي على السارد الجالس في قاعة المحكمة رغم أنه يعتقد أنه خارج القضية. يختلط الوضع هنا بين كون الجدل يتم بعيدا عن الشخصية المحكوم عليها مثلما الحال مع ميرسو وديمتري، وعدم معرفة التهمة كما الحال عند جوزيف ك، ولكن على أي حال فهناك رمزية واضحة في الحلم في كون أن الشعب المصري هو من يتعرض للعقاب رغم أنه لا يعتقد أنه موضع الاتهام من الأصل، هذا التفسير المباشر الذي يجعل الحلم أكثر أحلام نقاهة محفوظ استخداما إلى درجة الابتذال.

شخصية أدبية أخرى تصبح محاكمتها معلما بارزا في عالم الأدب؛ هنا الأديب نفسه يقف أمام المحكمة وليس فقط شخصية من شخصياته، كانت محاكمة أوسكار وايلد بتهمة "الأفعال غير اللائقة" تمثل ذروة انحداره هذا الذي اتجه إليه بنفسه، كان من الممكن لوايلد أن يتجنب كل ما حدث له لو لم يرفع قضية تشهير على ماركيز كوينزبري (والد رفيقه ألفرد دوجلاس)، الذي بدوره استطاع أن يثبت تهمة الشذوذ عليه. بدا وايلد يتحدث بمصطلحاته هو في مقابل القضاة والخصوم الذين لا يستوعبون مشاعره الخاصة، هو "أعظم متحدث في عصره" كما يقول ييتس عنه، يوضح وايلد لهم أن خطاباته لألفريد دوجلاس مجرد أعمال فنية، إن مشاعره تجاه الشباب تشبه أفكار أفلاطون وأعمال ميكيلانجلو، وأن صداقته بهم تشبه صداقة داود بيوناثان، قطع أدبية يقولها وايلد أثناء المحاكمة تثير الاستحسان والضحكات. مرة أخرى هنا يصبح ماضي وايلد كله شاهدا عليه - كما كان ماضي ميرسو وديمتري - حياته في العالم السفلي الإنجليزي وإيحاءته اللا أخلاقية في "صورة دوريان جراي"، لم يكن صعبا أن يسقط وايلد، ليعتبر بعد ذلك في كتابه "من الأعماق" أن أعظم نقطتي تحول في حياته هي حينما بعثه أبوه ليتعلم في أوكسفورد، وعندما أرسله المجتمع إلى السجن. وينتهي وايلد في "من الأعماق" لكتابة ما يعتبر صدى لكل المحاكمات السابقة، ولكل المحاكمات التي نمر بها جميعا:
"كل المحاكمات هي محاكمات لحياة المرء، وكل الأحكام هي أحكام بالموت".

أمير زكي
سبتمبر 2012

***

مصادر:

- ألبير كامو، الغريب، ت: محمد غطاس، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولي 1997
- فيودور دوستويفسكي، الأخوة كارامازوف، ت: سامي الدروبي، مكتبة الأسرة، 2009
- Franz Kafka, The Trial, T: Mike Mitchell, Oxford World’s Classics, First Edition 2009
- نجيب محفوظ، الحرافيش، مكتبة مصر
- نجيب محفوظ، أحلام فترة النقاهة، دار الشروق، الطبعة الأولى 2005

الأحد، 6 مايو 2012

ترجمتان عربيتان لـ"دبلنيون"


في شهر أبريل الماضي احتفلت مدينة "دبلن" بالمبادرة السنوية "مدينة واحدة.. كتاب واحد"، والتي تختار فيه مكتبات دبلن كتابا مرتبطا بالعاصمة الأيرلندية بشكل أو بآخر لتقرأه المدينة في هذا الشهر، تحديدا هم يركزون على قراءة كُتّاب أيرلنديين بدون النظر كثيرا إلى مدى ارتباط الكتاب بالعاصمة، السنوات الماضية احتفت المدينة بروايات مثل: "صورة دوريان جراي"، و"دراكولا"، و"رحلات جاليفر" للكُتّاب الأيرلنديين أوسكار وايلد وبرام ستوكر وجوناثان سويفت. هذا العام اختاروا عمل جيمس جويس المنشور الأول "دبلنيون"، وهي المجموعة التي تتكون من 15 قصة قصيرة، ونشرت لأول مرة عام 1914.

جيمس جويس أديب مرهق بالنسبة للمترجمين العرب - ناهيك عن كونه مرهقا بالنسبة للقراء في كل أنحاء العالم – هذا يتجلى بشكل أكبر في روايته البارزة يوليسيس، التي شهدت ترجمة مكتملة واحدة لطه محمود طه، في مقابل ترجمتين لم يتجاوزا ثلث الرواية لمحمد لطفي جمعة وصلاح نيازي.

"دبلنيون"، التي تم الاحتفاء بها هذا العام، أيضا كان لها حضورها في الثقافة العربية، عندما بحثت سريعا على الإنترنت، وجدت بعض قصص المجموعة مترجمة بأيادي هاوية ومحترفة، ولكني لم أجد ترجمة مجموعة القصص في كتاب إلا مرتين.

الترجمة الأولى تعود إلى عام 1961 وهي لمترجمة غير معروفة بالنسبة لنا اسمها عنايات عبد العزيز، وبمقدمة للكاتب المعروف مرسي سعد الدين، وصدرت ضمن سلسلة الألف كتاب الأولى التي كانت تصدر من مصر بعنوان "ناس من دبلن"، أما الترجمة الأخرى صدرت طبعتها الأولى عام 2000 من دار الحوار بسوريا للمترجم السوري أسامة منزلجي بعنوان "أهالي دبلن". 

"دبلنيون" تعتبر أقل كتب جويس – الرئيسية –  صعوبة في القراءة، تلك الصعوبة التي كانت تزداد مع كل كتاب: "صورة الفنان في شبابه"، "يوليسيس"، "يقظة فينيجان". لكن مع ذلك لا تخلو من تحديات تواجه المترجمين بشكل خاص، فهنا أيضا يستخدم جويس تعبيرات إنجليزية غير شائعة وكلمات أيرلندية دارجة، حتى أنه يستخدم كلمات ربما لا يكون لها معنى على الإطلاق: "Derevaun Seraun" في قصة إيفيلين، هذا يحيّر القراء الإنجليز نفسهم، الروائي الأيرلندي جون بوين اعترف في مقدمة حديثة للمجموعة أنه يعود للقاموس من آن لآخر ليتأكد من هذه الكلمة أو تلك. بهذه الطريقة فقراءة الترجمة بالطبع تُفقد الكثير من متعة الأصل، ولكن هذا لا ينفي اجتهاد المترجمين العربيين.

الترجمة العربية الأولى لـ"دبلنيون" كانت تنزع للتبسيط بقدر الإمكان، معتمدة على لغة هذه الفترة التي تبدو قديمة بالنسبة لنا نحن القراء المعاصرين، ولكن هذا التبسيط كان يستهدف إلى التقديم بشكل ما، تقديم جويس إلى العربية، كما لمّح مرسي سعد الدين في مقدمته للقصص. ولكن هذا التبسيط ربما هو الذي جعل المترجمة تُسقط بعض قصص المجموعة ولا تُضّمنها في الترجمة العربية، اكتفت عبد العزيز بـ 12 قصة من الـ 15، ولكن لم يبدو هذا الاختيار ذو معنى مفهوم بالنسبة لي، فالقصص التي أسقطتها المترجمة: "المغازلان"، "النُزل"، "قضية مؤلمة" لم تكن الأطول أو الأصعب.

التبسيط رغم أنه لم يكن مؤذيا في معظم الأحيان إلا أنه أدى أحيانا أخرى لمشكلات واضحة، في قصة "لقاء" يسأل الرجل العجوز الطفلين إن كانا قرآ لورد ليتون، ماهوني لا يظهر أنه يعلم لورد ليتون، أما الطفل السارد يخشى، وفقا للمترجمة، أن يكون الرجل قد فهم شيئا ما من ذلك، بالرجوع للأصل نجد أن هذا الشيء هو أنه خشى أن يعتقده الرجل غبيا مثل ماهوني.

أسامة منزلجي في ترجمته الحديثة كان واعيا بشكل أكبر بصعوبة ترجمة جويس، أضاف مثله مثل عدد من النسخ الإنجليزية للمجموعة هوامش تشرح الكلمات الصعبة مع كل قصة.  أسامة منزلجي كان يستخدم أحيانا العامية ليكافيء عامية جويس، كاستخدامه لفظ "تخين" مقابل تعبير جويس “Fatty Funk”. ولكن بينما كانت تنزع عنايات عبد العزيز إلى التبسيط، كان أسامة منزلجي ينزع إلى الإخلاص، حتى لو لم تكن اللغة سلسة مثل الترجمة الأولى، أو حتى لو اضطر أن ينقل التعبيرات الإنجليزية والفرنسية التي يستخدمها جويس كما هي وبالحروف اللاتينية: "Parole d’honneur"، "barmbracks".

ينقل منزلجي التعبيرات أحيانا بشكل حرفي، أو يوازي ترجمته بأصل المصطلح الإنجليزي، ولكن لم تسلم الترجمة من أخطاء في التحرير مثل الجملة التي خرج بها جيمس دافي من قراءته لنيتشه في قصة "قضية مؤلمة": "الحب بين رجل ورجل مستحيل لأنه لا يجب أن تقوم بينهما علاقة جنسية، والصداقة بين رجل وامرأة مستحيلة لأنه يجب أن تقوم بينهما علاقة جنسية". لتتحول إلى: ""الحب بين رجل وامرأة مستحيل لأنه لا يجب أن تقوم بينهما علاقة جنسية..." هذا الذي يفسد تماما إيحاء الجملة.

أمير زكي
مايو 2012


الأحد، 28 أغسطس 2011

الأدباء الكبار بين المدونات وفيسبوك وتويتر


فى مقالها بالجارديان تميل شارلوت هيجينز لفكرة استخدام جيمس جويس لتويتر – إن كان معاصرا لنا بالطبع، محيلة إلى وجهة نظر كاتب سيرته الذاتية جوردون بوكر الذى أشار إلى أن جويس كان مولعا بالتقنيات الحديثة، كمثل ولعه بالسينما وتقنياتها، والتليفون حتى أنه قال عنه إنه لو عاصر ظهور الموبايل لما تركه.

أفكر بالتالى فى الأدباء الكبار – تحديدا بعض الأدباء الذين تهتم بهم هذه المدونة – وهل لو عاصروا وسائط الإنترنت الاجتماعية كانوا سيستخدمونها؟

أعتقد أن أوسكار وايلد كان سيهتم بشكل كبير بالفيسبوك وتويتر، ورغم احتقاره البين للمجتمع حوله الذى سيظهر فى ستاتوساته وتويتاته على الموقعين، إلا إنه سيمتلك عددا كبير من الأصدقاء على الفيسبوك والفولوورز على تويتر. سيستخدم وايلد الموقعين لوضع تعليقاته القصيرة اللاذعة التى ستتحول لمقالات وحوارات لمسرحياته فيما بعد، أو أحيانا سيستخدم الاقتباسات المنتقاة من مقالاته ومسرحياته الفعلية، وايلد المولع بنفسه سيختار بعناية الصورة الشخصية التى سيضعها فى بروفايله على الفيسبوك، التى ستظهر ملامحه الجميلة وشعره الناعم وربما قامته الجذابة. يقول أليكس روس فى المقال الذى كتبه عن أوسكار وايلد فى النيويوركر أن لورد هنرى، أحد الشخصيات الثلاث الرئيسية فى رواية صورة دوريان جراى، لو كان معاصرا لنا لكان يقضى وقتا طويلا على الإنترنت، لورد هنرى صاحب الأفكار السامة التى تظل بالنسبة له مجرد أفكار لا ينفذها فى الواقع، كما يقول عنه بازيل هالوارد "أنت لا تقول شيئا أخلاقيا، ولا تقوم بشىء خاطئ"، تاركا هذه المهمة لتلميذه دوريان جراى، كان سيقضى الوقت الآن على الفيسبوك وتويتر محللا نفسيات مستخدمى الموقعين. ولكن لورد هنرى الذى "يعتقد الناس أنه (وايلد)" كما يقول وايلد، ربما لا يتورط فى شرور العالم مثلما سيفعل أوسكار، فالوقت الطويل الذى سيقضيه وايلد على الإنترنت لن يمنعه من المشاركة الاجتماعية على أرض الواقع. وربما صورته وجاذبيته التى سيحاول تقديمهما بعناية على الفيسبوك سيساعدانه على صنع دائرة أصدقاء حميمة يمكنها أن ترضى ميوله الجنسية بشكل يسير وآمن.

فرناندو بيسوا لن يكون مولعا جدا بالفيسبوك وتويتر، ربما سيكون لديه حساب على الفيسبوك ولكن لن يتجاوز عدد أصدقاءه العشرات، نفوره من مظهره سيجعله يتحفظ على وضع صورة شخصية له، الأرجح أنه سيحتفظ بالصورة الباهتة التى يضعها الفيسبوك لمن يتكاسلون عن وضع صورة شخصية، ولن يضيف الكثير من المعلومات عن نفسه، أو يشارك فى تزويد حائطه بشكل مستمر مما سيجعله غير مثير للاهتمام لمستخدمى الفيسبوك. ولكن ولع بيسوا الأساسى سيكون بالمدونات، أعتقد أنه سيهتم بها سريعا ومن وقت مبكر، مجموعة من المدونات – أربعة أو أكثر – ستظهر وتؤثر فى الأوساط الأدبية، تتنوع من حيث كونها تحمل نثرا أو شعرا أو مقالات أو ترجمات أو حتى آراء سياسية وفلسفية، هذه المدونات ستُقدَم للجمهور على أنها نتاج شخصيات مختلفة ذات خلفيات تاريخية متنوعة تمثل كل ما يمكن أن تمثله الإنسانية فى عصرنا، ولكن هذه الشخصيات لن يكون لها أى أثر واقعى، ولن يعرف أحد أن فرناندو بيسوا هو القائم على هذه المدونات.

نجيب محفوظ سيتابع وسائط الإنترنت بحرص واهتمام، ولكنه سيتحفظ على عمل حساب له بالفيسبوك أو التويتر، رغم أن عددا من أصدقائه ومريديه سيقترح عليه ذلك، بل أن بعضهم سيصنع باسمه حسابات ويحاولون تسليمها له. محفوظ سيرفض كل ذلك، وسيكتفى بعمل مدونة إلكترونية (غير جذابة) تكتفى بإعادة نشر مقالاته التى تنشر فى الصحف، ويضع عليها قصصه القصيرة التى يكتبها كاستراحات من كتابة الروايات، المدونة من وجهة نظره سيكون هدفها التواجد والوصول للقراء الشباب. ولكن بعد وقت لا بأس به سيفاجأ الوسط الأدبى برواية لمحفوظ تدور أحداثها عن شخصيات تتعامل بشكل مباشر مع وسائط الإنترنت كالفيسبوك وتويتر، سيندهش الجميع من طابع الرواية ولغتها القريبة من لغة الشباب. سيتحفظ البعض ويقول إن محفوظ يتحرك فى عالم ليس خبيرا به، أو أن الرواية كانت تحتاج شابا متعايشا مع هذه الأوساط ليكتبها وتكون أفضل، ولكن فى النهاية ورغم كل الانتقادات ستثير الرواية الإعجاب مثلما ستثير الدهشة.

صمويل بيكيت شخصيته تنفر من الاجتماعيات بصفة عامة، وجل كتاباته تدور حول الفشل فى التواصل بين الناس، وربما تجعله مواقع التواصل الاجتماعى أكثر يقينا من هذه الفكرة. أما فكرة أن يكون لديه حساب على تويتر أو الفيسبوك أو حتى مدونة فسوف يقابلها بصمت وسخرية داخلية. ولكن فى وقت ما سيقنعه أكاديمى ومعجب أمريكى بأن يتعاون معه فى إنشاء موقع مختص بكتابات بيكيت والدراسات التى أجريت حولها. سيتعاون بيكيت مع الأمريكى بحرص فى البداية، ولكن فى لحظة ما سيقنعه الأمريكى بأن يضع نصوصه التى لا تصنف كأشكال تقليدية - كقصة أو قصيدة أو مسرحية - على مدونة ملحقة بالموقع، هذا الذى سيفعله بيكيت، لتُجمع هذه النصوص وتُصنف فى أعماله الكاملة – إلى جانب النصوص الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية – على أنها نصوص الإنترنت. ولكن بعد وفاته سيكشف الأكاديمى الأمريكى أن بيكيت تأثر بشكل كبير بوسائط الإنترنت وإن كان هذا لا يبدو للقارئ غير المتعمق، مبينا أن الحوارات التى تتكون من جمل قصيرة لا تفضى إلى شئ التى تتميز بها أعماله المسرحية الأخيرة هى أشبه بالحوارات التى يتبادلها مستخدمو التويتر.

أمير زكى
أغسطس 2011

الأحد، 26 يونيو 2011

ملاحظات على قصة (زعبلاوى) لنجيب محفوظ



***

"اقتنعت أخيرا بأن عليٌ أن أجد الشيخ زعبلاوي ."

نحن نبدأ من وسط حدث، نبدأ من احتياج الراوى لشيخ يدعى زعبلاوى، لا وقت لتضييعه فى مقدمات، هذه سمة عند محفوظ فى قصصه، لدينا فكرة نريد أن (نقصها)، لا فرصة لمقدمات، لا فرصة لنفس طويل فى الوصف، هذا لا يعنى ضعف فى الوصف، سنرى أنه سيستخدمه حينما يحتاجه، ولكن فقط حينما يحتاجه.

ننتقل الآن ونعرف أن الراوى عرف عن زعبلاوى:
-
فى طفولته
-
عن طريق أغنية(1)
-
وتأكد من أبيه

الطفولة عند محفوظ هى مرحلة أسطورية، نتلقى فيها معارف شبحية قد نتمرد عليها ولكننا لا نستطيع أن نتحرر منها بالكامل، نذكر هنا طفولة كمال عبد الجواد فى الثلاثية، ولكن نذكر بشكل أبرز طفولة جعفر الراوى فى قلب الليل. يضيف إلى هذا أنه عرف زعبلاوى، الذى سنكتشف رمزيته سريعا، عن طريق أغنية، هل هذا يضيف بعد غير يقينى لهذه المعرفة؟، أم أنه يحاول إثبات أهمية الفن فى المعرفة؟، هذا الذى سيتأكد مع منتصف القصة؟ ثم الأب، نحن نتلقى معارفنا من آباءنا، وأبرز ما نتلقاه هو معرفة شخص مثل زعبلاوى، الأب هو فى النهاية مصدر يقين الابن/ الراوى بأهمية زعبلاوى، يقول الأب: "إنه ولي صادق من أولياء الله، وشيال الهموم والمتاعب، ولولاه لمت غما"، وبعد سطرين يقول الراوى "وجرت الأيام فصادفتني أدواء كثيرة، وكنت أجد لكل داء دواءه بلا عناء وبنفقات في حدود الامكان، حتي أصابني الداء الذي لا دواء له عند أحد، وسدت في وجهي السبل وطوقني اليأس، فخطر ببالي ما سمعته علي عهد طفولتي، وتساءلت لم لا أبحث عن الشيخ زعبلاوي؟!.." هنا نحن نتأكد ماذا يقصد محفوظ من زعبلاوى، هنا يتكشف لنا الرمز بكل بساطة، هل تزعجنا تلك السهولة؟، ربما، ولكن جمال القصة ينفى عنا هذا، زعبلاوى – وربما هذا هو رأيى – يمثل المطلق، الإله الغائب، هو نفسه جودو عند صمويل بيكيت، وهو أيضا سيد الرحيمى عند محفوظ نفسه فى (الطريق).

وأيضا مثل (الطريق) تكون لدى الشخصية الرئيسية مهمة بحث عن الشخص الذى سيحقق له نوع من السلام، فتبدأ شخصيتنا فى البحث، يبدأ عند "الشيخ قمر بخان جعفر، وهو شيخ من رجال الدين المشتغلين بالمحاماة الشرعية". إذن فأول ما يمكن أن يتوجه إليه الشخص فى بحثه عن المطلق هو رجل الدين، هذا هو ما يفعله أى شخص مقتنع بالدين، ولكن المشاهد الممهدة لمقابلة رجل الدين تجعلنا نتوقع جميعا ما الذى يستطيع أن يقدمه لنا مثل هذا الشخص: فهو يقيم فى جاردن سيتى، فى عمارة بالغرفة التجارية، حجرته تخرج منها للتو سيدة حسناء، والرجل "يرتدي البدلة العصرية ويدخن السيجار".
لذلك نحن نتوقع رده على الراوى حينما يسأله عن زعبلاوى:
"
كان ذلك في الزمان الاول، وما أكاد أذكره اليوم."
فلم يعد الإله من اهتمامات رجل الدين، ولن تجد عنده إجابة على أسئلتك. وعندما أحاله إلى محل سكن زعبلاوى القديم بربع البرجاوى بالأزهر سيتلقى صدمة، فالربع "قد تآكل من القدم حتي لم يبق منه إلا واجهة أثرية وحوش استعمل رغم الحراسة الاسمية مزبلة". هذا غير أن "البعض سخر منه بلا حيطة ونعتوه بالدجل". ووصف زعبلاوى بالدجل سيتكرر عندما يقابل الشيخ جاد الملحن.

يتوجه الراوى لشيخ الحارة، رمزيته تتكشف حينما يسأله: "حتى أنت لا تستطيع أن تجده؟" فيجيب: "حتى أنا، إنه رجل يحيّر (العقل)".، على أية حال فالعقل/ شيخ الحارة يقول له إنه "حي لم يمت، ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق، ربما صادفته وأنت خارج من هنا علي غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثا عنه دون جدوى". وبغض النظر عن مدى اقتناعنا بإمكانية أن يقول لنا العقل مثل هذا الكلام، فشيخ الحارة كلامه يدل على الطبيعة المتهربة لزعبلاوى، يذكرنى هذا بحديث الفيلسوف الألمانى هايدجر عن الوجود/ الحقيقة، كشيء يتهرب منا، والذى نستطيع التقاطه -  وغالبا ما يحدث هذا عن طريق الفن - هو لحظة التهرب تلك.

ربما لا نزال نسير مع هايدجر، فالفنان الشيخ جاد الملحن المعروف والذى يذكرنى مشهده هنا بحلم لمحفوظ عن زكريا أحمد فى (أحلام فترة النقاهة) هو أكثر شخص سيقربه من الشيخ زعبلاوى بأن يخبره عن حانة النجمة التى يسهر فيها صديقه ونس الدمنهورى. حديث الشيخ جاد ثم تردد اسم (ونس) يعطينا أبعادا صوفية  واضحة من البداية لكن تزداد كثافة هنا، فالشيخ يقول إن العذاب فى البحث عن زعبلاوى هو نوع من العلاج، ثم يغنى (أدر ذكر من أهوى ولو بملامى فإن أحاديث الحبيب مدامى). مشهد الحانة قد يوحى باستمرار هذا البعد الصوفى، بتذكر رمزية الخمر فى كل الأدب الصوفى، ومن الممكن أن يكون بالنسبة لنا صدمة أخرى من حيث أننا لن نلتقى زعبلاوى إلا فى حانة.

فى النهاية فالراوى لا يلتقى بزعبلاوى إلا عندما يسكر، وهنا يطول نفس محفوظ قليلا فى الوصف لأنه بحاجة إليه، كل هذه الفقرة :
"
ودار بي كل شيء ونسيت ما جئت من أجله، أقبل عليّ الرجل مصغيا ولكني رأيته محض مساحات لونية لا معنى لها، وهكذا كل شيء بدا. ومر وقت لم أدره حتى مال رأسي إلى مسند الكرسي وغبت في نوم عميق، وفي أثناء نومي حلمت حلما جميلا لم أحلم بمثله من قبل. حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها تنتشر في جنباتها الاشجار بوفرة سخية فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلل أغصانها المتعانقة ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم.. وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ، وليس في الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة، ونشوة طرب يضج بها الكون."
هذا له دلالة، فهذه الفقرة هى التى يتحقق فيها لقاء الراوى بزعبلاوى، فلا بد من أن تكون متميزة نسبيا عن كل سياق القصة.

يتأكد الراوى مع نهاية القصة من وجود زعبلاوى، ولكن وجوده لا معنى له لأنه غير قادر على لقاءه بالشكل الذى يرضيه، هل يستمر فى البحث؟، هل يكف عن المحاولة فـ "كم من متعبين في هذه الحياة لا يعرفونه أو يعتبرونه خرافة من الخرافات". لا نعرف إجابة لهذا السؤال، فمحفوظ ينهى القصة وموقف الراوى مساو لموقفه فى بدايتها، وربما كان الشخص الحقيقى الذى يملك الإجابة الآن هو القارئ.

قصة (زعبلاوى)
نجيب محفوظ
مجموعة (دنيا الله)
-----------------------
(1) "الدنيا مالها يا زعبلاوى شقلبوا حالها وخلوها ماوى" هذا ما ذكره محفوظ فى القصة. ولكن أشار إلىّ د. أحمد الخميسى أن المقطع ضمن أغنية قديمة ومعروفة، ووجدت أنها أغنية (القلل القناوى)، تأليف بديع خيرى وألحان سيد درويش، يقال فى الأغنية: "الدنيا مالها يا زعبلاوى.. شقلبوا حالها وين المداوى". أفترض أن مقطع (الدنيا مالها يا زعبلاوى) كان ترتيلة شعبية شائعة واستخدمها بديع وسيد فى الأغنية.