‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مميزة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مميزة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 22 نوفمبر 2014

سلمى لاغروف وكثير من الإلهام في رائعة «نيلز العجيب» / مقال + الحلقات كاملة


سلمى لاغروف وكثير من الإلهام في رائعة «نيلز العجيب»



تمثال نيلز العجيب


قال الكاتب والروائي الفرنسي ميشيل تورنيه في حوار صحفي نشر أخيرًا إن من أهم الأعمال التي أثرت به وجعلته يغوص في باب السحر الذي دخل في إبداعه هو: «كتاب الروائية السويدية سلمى لاغرولوف، رحلة نيلز هولغرسون الرائعة عبر السويد، وهو كتاب جغرافيا وضعته للأولاد ونالت عليه في العام 1909 جائزة «نوبل» والشهرة العالمية».

وأضاف «كنت في الرابعة عشرة حين قرأته، بهرني مناخه السحري، فلطالما أحببت السحر وقصصه، إنما ليس أي قصص، بل السحر الذكي الذي يضيء درب القارئ، لذا لم تستهوني قط قصة سندريللا واليقطينة التي تحوِّلها الجنية الطيبة إلى عربة ملكية، بل أحببت رحلة نيلز الرائعة».

لاغرولوف هي أول امرأة تحصل على جائزة «نوبل»، ثم اختيرت العام 1914 ضمن فريق الأكاديمية السويدية الجهة المعنية بمنح جائزة «نوبل» للآداب، وما جاء على لسان تورنيه من شهادة بحق رائدة من رواد الأدب الكلاسيكي ليس من المبالغة في شيء ، فقوة النص وسلاسته التي تتوافر في أعمال الروائية الشهيرة سلمى لاغرولوف Selma Lagerlöf ساحرة إلى أبعد الحدود، وهذا ربما سر نجاحها في أدب الأطفال حسب ما ذكر في موقع «إيلاف» .





مشهد من الرسوم المتحركة نيلز.

الجمعة، 7 نوفمبر 2014

قصيدة الهايكو.. آخر صيحة لشعرائنا العرب / نقد / حميد عقبي


قصيدة الهايكو.. آخر صيحة لشعرائنا العرب



قصيدة الهايكو اليابانية تستهوي الشباب العربي لمغامرات الدهشة

كيف يفهمونها وهل تتناسب مع الثقافة العربية؟

استطلاع: حميد عقبي ـ باريس
لفت نظري نشاط بعض الشباب العرب عبر فضاء “الفيسبوك”.. تدور النقاشات بعدد من المجوعات أهمها: شعر الهايكو / الهايكو (سوريا) /عشاق الهايكو/ النادي العربي للهايكو، وعدد آخر من المجموعات والمنتديات تُبحرُ بنصوص يكتُبها شباب وشابات يتحدثون عن الزهور والطبيعة، عن الطيور والفراشات.. يُحلقون بجمال الفصول الأربعة، يسبحون بخيالهم مع البحر والنهر، يتسلقون بحلمهم الجبال والهضاب، يتمرغون بأرواحهم يفترشون العشب الأخضر والشواطىء.. يدفعونك لتجربة مغامرة جمالية خطرة.. كل هذا جعلني شخصياً أنتسب لبعض المجموعات، وأركب معهم هذا الموج اللذيذ لعلنا هنا نكتشفُ بعض هذا السحر الشعري.
طرحنا بعض الأسئلة عن مفهوم قصيدة الهايكو: ماذا يجد فيها هؤلاء الشباب؟ وهل باعتقادهم تلائم الثقافة العربية؟
الهايكو قصيدة اللحظة تجد فيها كل شئ.. لكنك تجد روحك أولا 
محمود الرجبي، شاعر وقاص من الأردن له بعض المنشورات الشعرية والقصصية ويُدير مجموعة النادي العربي للهايكو، يرى أن الهايكو قصيدة اللحظة ثم يشرح ذلك قائلاً:
الهايكو قصيدة اللحظة.. التقاط المشهد الذي لا ينتبه إليه العابرون.. وعندما يقرؤون نصك تصيبهم الدهشة ويقولون “يا الله كيف لم ننتبه لهذا؟!”.. الهايكو أشبه بالتوقيعة والأبيجراما.. تجد فيه كل شيء ولكنك تجد فيه روحك أولا!


أخشى أن تنتقل عدوى الهايكو إلى العرب فنستبدل الطائرة بالرّخ والدبابة بالحصان والصاروخ بالسهم
الاطلاع على القصائد بمختلف اللغات التي أتقنها.. وقراءة الدراسات والأبحاث على قلتها في الهايكو.. وخلفيتي القديمة والحديثة في كتابة الفلسفة والشعر والقصة.. يقول الشاعر خيري منصور:
الشعراء الغربيون في أوروبا وأمريكا زاوجوا بين الطبيعة والمدينة، وإن كان الانحياز أوضح إلى المدينة وهي عالمهم اليومي ومجالهم الحيوي، لكن ما نخشاه أن تنتقل عدوى الهايكو إلى العرب، فتخرج القصيدة من الطبيعة والمدينة معا لتعود إلى الصحراء، وتصبح مفرداتها كسائر مفردات المعجم الشعري الذي يستبدل الطائرة بالرّخ والدبابة بالحصان والصاروخ بالسهم، ونكتفي بمثال واحد في هذا السياق حين خاطب شاعر عراقي زعيما سياسيا سافر إلى لندن وقال له “أنختها بلندن”، بحيث حذف الفارق نهائيا بين الناقة والطائرة.

الهايكو هو الأكثر ملاءمة لعالم عربي أصبح فيه الانقلاب على الحكومات أسرع من تشكيلها
يضيف الشاعر محمد الأسعد، وهو يؤطر لمفهوم قصيدة الهايكو العربية:
الهايكو اليابانية شكل من أشكال هذه اللحظة الجمالية. شكل دال على فلسفة رؤيا معينة يندرج في سبعة عشر مقطعا تتوزع على ثلاثة سطور: خمسة مقاطع، سبعة مقاطع، خمسة مقاطع. ومدة ترتيلها لا تتجاوز مدّة النفس الواحد. ولكن لا ضرورة تتطلب ابتكار نمط مواز لهذا الشكل الياباني في العربية. فوحدة الوزن العربية هي التفعيلة لا المقطع. كما أن إعطاء اللحظة الجمالية طابعا مميزا يعاكس تنميط الأشكال وينسجم مع جعل الشكل مفتوحا، مع الحفاظ على شكل أقصر يجسد لحظة الحدس المباشر.
هنا في هذه القصائد يمكن الإحساس بنوعين من الإيقاع: الإيقاع الخارجي المعتاد في الشعر العربي (المتحرك والساكن)، والإيقاع الداخلي المعتمد على تدفق الصور، والذي يتبع نظام الجملة الموسيقية الحرة. في الإيقاع الخارجي ابتعاد عن نمط شعر التفعيلة، ومزج تفاعيل من بحور مختلفة في الهايكو الواحدة. قد يبدأ السطر، وليس البيت، بتفعيلة الرجز، تتلوها تفعيلة الرمل، ثم يبدأ سطر بتفعيلة الخبب.. وهكذا. المعيار هنا هو الإحساس بالتدفق الداخلي. مثلا قد تبدأ القصيدة بإيقاع بطيء تقوده تفعيلة الكامل، وقد تنتهي بتفعيلة الخبب للإيحاء بالتسارع.
صحيح أن المزج كان أسلوبا اتبعه بعض النظّامين في الثلاثينات، إلا أنه كان مزجا محكوما بالموت لأنه اعتمد مزج البحور لا التفاعيل ولا دقائق الأوتاد والأسباب. فكان مزجا خارجيا بين قوالب لا مزجا داخليا بين عناصر. مزج العناصر هو كيمياء اللغة لا مزج القوالب. وهذا هو ما يميز القصيدة القصيرة الحرة هنا حين تعتمد مزج العناصر. إنه أكثر جدة، فهو يخرج على نظام الشطرين ونظام التفعيلة المكرورة رغم عللها وزحافاتها.
وعليه أعتقد أن الهايكو مناسب جدا لثقافتنا العربية إن خرجنا من نطاق الاستسهال والتجارب غير الناضجة، فالهايكو هو الأكثر ملاءمة لقصائد الومضة في عصر السرعة المدهشة في العالم العربي الذي أصبح فيه الإنقلاب على الحكومات أسرع من تشكيلها.

يمكن توظيف اللغة العربيّة في كتابة هايكو عربي متميز عما يُكتَب في بقية اللغات
ثمة وجهة نظر أخرى لدى سامر زكريا، طبيب أسنان مولع بهذا النوع الشعري ويدير مجموعة الهايكو (سوريا)، هو يعتقد أن الهايكو فن عظيم ببعد روحي.
يقول سامر: أجرّب كتابة الهايكو منذ عام ٢٠٠٣، وقد تعرفتُ إليه عبر الترجمات العربية القليلة المتوفرة، ثم وسّعتُ قراءتي إلى الإنجليزية.
أعتبر أن الهايكو فنّ عظيم يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببوذيّة زنّ، ويساعدنا على الانتباه إلى اللحظات الحاضرة التي تبدو عاديّة لكنها خارقة في واقع الأمر إذا ما أوليناها انتباهنا التام، وهيَ لا زمنيّة.
أوائل العام الماضي (٢٠١٣) قررتُ الاستفادة من المزايا الهائلة لمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) في الانتشار، فأسّستُ مجموعة الهايكو سوريا هادفاً إلى التأسيس لهايكو عربي جدّي حقيقي عبر التفاعل بين الناشرين والتعلُّم والتعليم، ووسط مجموعة من الأصدقاء ممن باتوا يحترفون كتابة الهايكو، وأرى أن الأمر نجح نجاهاً باهراً لم أكن أتوقعه في زمن قصير، وما زالت التجربة قيد التطور المستمر.
من خلال تجربتنا في المجموعة التي يبلغ عدد أعضائها نحو خمسة آلاف عضو، ويمتد عمرها إلى أكثر من عام ونصف، وهي مجموعة تفاعلية تشاركية تقوم على التعلم والتعليم ويتشارك فيها الأعضاء الأقل خبرة المناقشات والتحليلات والتعليقات باستمرار مع المحترفين، يمكن أن نستنتج بعض الخلاصات بما يخص تأثير الثقافة واللغة والحضارة والبيئة العربية على الهايكو: لاحظنا أنه يمكن الحفاظ تماماً على رُوح الهايكو الأصيلة في الهايكو العربي.
يمكن توظيف ما تتمتع به اللغة العربيّة من قدرة كبيرة على التعبير في كتابة هايكو عربي ذي خصوصية لُغوية تميزه عما يُكتَب في بقية اللغات مثلاً: بعض أعضاء المجموعة هم من منطقة الأهواز، ويتقنون اللغة الفارسية والعربية، ويشاركون بكثير من الترجمات عن الفارسية وقد أكدوا أن اللغة العربية أقدر على التعبير من الفارسية.
يُكتَب الهايكو الياباني كما هوَ معلوم بمقاطع صوتية موزونة (٥/٧/٥) ولا يمكن الحفاظ على هذا الإيقاع والوزن في اللغة العربيّة.
لاحظنا تأثير اللغة والبيئة والثقافة العربيّة على الهايكو العربي، واستطعنا في الوقت ذاته أن نميّز بين الهايكو العربي وضروب الإبداع الشعري العربي الأخرى، من ومضة وشذرة وقصة قصيرة جداً.

إنه الهايكو .. وإنه لسحر عظيم يشفي من مس جنون السطحية
أبو الفوارس عبد العزيز، شاعر من المغرب، يجيبنا على الأسئلة بالتفصيل وإليكم شهادته:
جوابي هو: ولأن الهايكو كهايكو كان منذ البدء “شعر شعبي” لدى اليابانيين خصوصا، دون الحديث عن مصدره الأصلي الذي لا يجهله الملمون بهذا الجنس الأدبي، ودون الخوض في تفاصيل أكثر كما “يليق بالكتابة الهايكوية أن تكون”، بإمكان من يريد الاطلاع على هذا الإبداع السامق في بعده الفلسفي للطبيعة ومعها الإنسان البحث عن الكتابات التي تتطرق له بأدق تعريفاته وتجلياته وتطوراته من العامي إلى الخاص، ارتأيت أن أخوض هذه التجربة من منطلق ليس التقليد وليس من باب المغامرة، بل من منطلق البرهنة على أن كل ما هو إبداع إنساني راق لا يتطلب لغة أكاديمية محضة، بل يتطلب فكرا إنسانيا فطنا يتقن القبض على مشهدية الأشياء بعين العقل وبعين البصيرة، لترسمه العين كعين لمن لا يبصرون من الطبيعة سوى السطح، ولا يتفكرون في شيء مما حولهم من جمال مطروح على طرقات الإنسان المفكر والمتدبر لكل ما يحيط بعالمه، ومهما كان شكله أو لونه أو جنسه سواء ملموسا كان أو غير ملموس ماديا أو معنويا، فلسفيا أو فيزيائيا، واقعيا أو غير واقعي، حالما أو غير حالم، ممكنا أو غير ممكن، سيقول الكثير تماما كالومضة أو كالشذرة، سأقول هو لا يرى بعين اللغة المجردة بل بعقل الفكرة المجردة من كل المفاهيم العادية في ذهن الإنسان، بل هو شيء فوق العقل بكثير من دهشة الصورة الفكرية لماهية الأشياء في كل عقل راجح يملكه قارئ فريد متفرد، ليدرك تسربات مياه المعنى الباطنية منها خصوصا ليروي عطشه، أما السطحية فلها كُتابها وهم كثر ولا شك، وإن كان الهايكو من تجلياته “الشك” في الأشياء وحقيقة دورها، إنه الهايكو وإنه لسحر عظيم يشفي من مس جنون السطحية.
هذا جوابي عن سؤالكم الأول، وباختصار شديد لم أرد الخوض في تفاصيل عديدة تجعل جوابي يخرج عن رغبتكم في اختصار الإجابة لفتح الباب أمام الأسلئة التالية من تحقيقكم القيم ومن بينها أيضا سؤالكم الثاني: ماذا تجدون فيه؟
سؤال لسهولته هو سؤال صعب صعوبة كتابة الهايكو كشعر غير عادي، وكرؤية عميقة للعالم وللأشياء حولنا.. شخصيا ما أجد في الهايكو هو ما أجده في إنسانيتي وإنسانية الآخر الذي تصوره كتاباتي وكتاباته، والتي تأخذ من الطبيعة رسائل مشفرة نمررها لبعضنا البعض، سواء كان هذا الإنسان واقعا أو متخيلا، بمعنى آخر إن ما أجده في الهايكو هو مغامرة البحث عن الذات اللامادية في عالم مادي، إلى حد يجعلنا نفقد معه إنسانيتنا الطبيعية فننظر للعيش بإنسانية مصطنعة حد قتل الإنسان الطبيعي مع طبيعته، وهي مصدر أهم مكونات شعر الهايكو.
فيما يخص سؤالكم الثالث، والمتعلق بمدى خلفيتنا الثقافية لهذا النوع، أقول بأن لكل كاتب أو شاعر هايكو بالتحديد خلفية ثقافية معينة لا يمكن رصدها في منطقة معينة ما، أو لغة ما، بالنسبة لي أنا أكتب بدون خلفية ثقافية محددة، أنا أكتب الهايكو من منطلق خلفية ثقافية إنسانية كونية، وليس من منطلق خلفية ثقافية عربية مثلا بحكم أني أكتب الهايكو بلغة عربية، هذه الخلفية التي يكتب بها العديد من شعراء الهايكو العرب، الذين يتبنى الغالبية منهم ثقافة عربية رهينة اللحظة وليس رهينة المستقبل، وأقصد بالمستقبل هنا هو مستقبل الهايكو العربي بعيدا عن تبعيته لثقافة ما، عربية أو غير عربية كانت، كأن يكون له تبعية للثقافة اليابانية منشأ هذا الإبداع الإنساني الراقي في كل تجلياته وغاياته الفلسفية الكبرى.. شخصيا أومن بأن الخلفية الثقافية ليست إيدولوجيا كي نتأخذها كدرع واق يحمينا من التأثر بباقي الخلفيات الثقافية العالمية الأخرى التي هي أيضا تهم بشعر الهايكو، فلو كان شاعر الهايكو الياباني كتب من خلفية ثقافية يابانية على سبيل المثال لما وصلنا من الهايكو كإبداع وكثقافة عالمية شيء.
سؤالكم الرابع، أخي حميد، مشاكس ولعل الدليل على هذه المشاكسة هو السؤال نفسه: هل الهايكو يلائم الثقافة العربية وما مستقبله؟
إن قرأتم إجابتي عن سؤالكم الثالث ستجدون بعضا من الإجابة عن سؤالكم هذا، ورغم هذا لابد من القول بأن الهايكو هو ثقافة عالمية، وإذا إعتبرنا الهايكو كثقافة عالمية لابد من اعتبار الثقافة العربية هي ضمن هذا المكون الثقافي العالمي، وإلا كانت الثقافة العربية خارج هذا التصنيف، أي أن الثقافة العربية لا تلائم الهايكو بما أن الهايكو كما قلت هو ثقافة عالمية كونية، قد تختلف عقلية كتابة هذا “السحر” لكن لا تختلف ثقافة كتابته، فالطبيعة هي الطبيعة، والأرض هي الأرض، والإنسان هو الإنسان الكاتب لهذا الجمال، والمتلقي له أيضا.. شخصيا أجد أن الثقافة العربية هي الأنسب لتطور وتقدم شعر الهايكو العالمي ككل، لما تتوفر عليه من غنى لغوي أولا، ومن غنى شعري وفكري ثانيا، ومن غنى طبيعي مختلف، وهذا الغنى الطبيعي هو أساس إن شئنا القول هو ما يجعل الثقافة العربية أو البيئة العربية الأنسب ملاءمة مع الثقافة والفكر العربي “الحالم بجمال العالم” منذ عرف الإنسان العربي مصطلح الشعر، ومنذ تعاطى معه كفكر وكتاريخ حافظ على هويته الثقافية، إن مستقبل الهايكو داخل الثقافة العربية رهين بمسقبل هذه الثقافة العربية أولا، وهنا أقول إن كل ثقافة لا تعرف تطورا ولا تعرف تعايشا مع أي ثقافة أخرى هي رهينة موت ثقافي لشعب أو لشعوب تلك الثقافة.
فشخصيا عرفت الهايكو منذ بدأت التعرف على الشعر ككل، سواء كان شعرا عربيا قديما أو شعرا عربيا عالميا حديثا، بحيث كنت أنقب في كل قصيدة قرأتها عن بيت أو مقطع شعري يجعلنا نخطف منه صورة أو صورا عديدة تسافر بك إلى عالم متخيل آخر، أو جملة أو عبارة هي كل القصيدة، بل هي كل المعنى، ورويدا بدأت أميل إلى البحث عن شئ مختلف فيما أقرأه من كتابات شعرية، أو حتى كتابات فلسفية عند نيشته مثلا، كنت أبحث عن بريق يضرب في رمشة عين ويبقى ضوءًا إلى الأبد في الذاكرة، وفي المضي قدما في زقاق كوني يقودني إلى عالم غير هذا العالم.. إن الهايكو حقق لي هذه الرؤية الحالمة، حقق لي الدهشة، باختصار شديد إن الهايكو جعل العالم بين كفيّ ككاتب له بالدرجة الأولى وكمتلقٍ له بدرجة ثانية، عالم غير هذا العالم المليء بالحرب وبالدم وبالموت، إن الهايكو هو باب العالم الخفي وعلى من يملك مفتاح إنسانيته اكتشافه.
الهايكو العربي بات يأخذ مكانته بقوَّة بعد أن تبنَّته أسماء لامعة على صفحات التواصل الاجتماعي
ومن ليبيا نورد حديثا مختصرا للشاعر جمعة الفاخوري، يدير مجموعة الهايكو (ليبيا)، يقول فيه: الهايكو قصيدةٌ ضوئيَّةٌ مختزلةٌ تمتح من أعماق الشاعرِ، لذلك تأتي محفوفة بالدهشة، مزنرة بالفتنة والإثارة.
تكثيفها وصغر حجمها، وعمقها ودلالتها العميقة، تمنحها مكانةً ومحبَّةً عاليتين هما تمامًا كمحبَّة ومكانة صغار الأبناءِ لدى والديهما.
ماذا تجدون فيه؟ مدى خلفيتكم الثقافية لهذا النوع؟
أجد فيها لذة عناق الجديد والمختلف، فهي تمنحني دهشة مختلفة، ولذة اكتشافٍ استثنائيَّةً.
أنا على اطلاع جيِّد على الهايكو الياباني، أصل هذا الفن الشعريِّ المدهش، ومن ثمَّ توسَّعت معرفتي بالهايكو العالمي من خلال الترجمات، ومن خلال متابعتي المستمرَّة للهايكو العربي الذي بات يأخذ مكانته بقوَّة، بعد أن تبنَّته أسماء عربيَّة لامعة سطعت على صفحات التواصل الاجتماعي أو من خلال الصحف والمجلات العربيَّة.
هل الهايكو يلائم الثقافة العربية ما مستقبله؟
لا يمكنني القول إلاَّ بأنه يلائمها، فهو فنٌّ إنسانيٌّ عابرٌ للثقافاتِ، مقتحمٌ للأعماق، يخاطب الوجدان في أي مكانٍ، وخصوصيَّة الهايكو لا تكمن في كونه يخاطب المتلقِّي الياباني فحسب، لا.. لكن لأنه يمكنه مناوشة وجدانات الناسِ في أي مكانٍ وزمانٍ، واستفزاز ذائقة المتلقِّي في أي بلدٍ كان. أنا بدأت الهايكو (العربي) كما أسميه مبكَّرًا؛ منذ نعومة أقلامي، وإن كان دون وعيٍّ كاملٍ بماهيَّة الهايكو، فأصدرت سنة 2004 ديواني (حدث في مثل هذا القلب) وهي قصائد برقيَّة تتاخم حدودَ الهايكو شكلاً على الأقل، ثمَّ تعمَّق فهمي به، وأنجزت الآن منه أربعة مخطوطات أجهِّزها للنشر.
نغترف من لغتنا وتراثنا وتقاليدنا الأصيلة علنا نصل إلى مستوى عالمي في هذا النوع الياباني الراقي والرقيق
كنا نتمنى أن نلتقي بشاعرات، وبعد جهد وتعب بالتواصل والاتصال، كان من حسن الحظ أن استجابت لنا الشاعرة لميس حسون، ماجستير في الأدب الإنجليزي ـ الجامعة اللبنانية.
تقول لميس: أثناء دراستي الجامعية في الأدب الإنجليزي، ومن خلال مادة الشعر تحديدا، تعرّفت على الهايكو كضرب من الشعر الياباني له خصائصه وشروطه. فقصيدة الهايكو ومضة سريعة لمقطع أو تفصيلٍ من المشهد الكبير، يشحذ المخيلة؛ إنها التقاطة، قد تبدو ساكنة أحيانا، لكنها تمور بتيار داخلي عميق من الحياة والحركة: ومضة، يجتمع فيها نقيضان يكمل بعضهما بعضاً، أعني عنصري السكون والحركة، يتداخلان وينسجمان معاً لرسم حركة الأشياء التي تمثل ملامح صورة الحياة الكبرى.
حين كتبتُ لم أكن أقصد شكلاً معيّناً لنصّي، فالنّص يشكّل ذاته. أكتب الومضة والشذرة وقصيدة النثر منذ سنوات، لكن منذ فترة قريبة استهوتني قصيدة الهايكو. وبعد قراءة مكثفّة لقصائد هايكو باللغتين الإنجليزية والفرنسيّة، ولهايكوات باللغة العربية، مترجمة أو لشعراء عرب جربوا في هذا المجال؛ وبعد دراسة معمّقة لشعر الهايكو ومميزاته، انتبهت إلى أن بعض نصوصي أقرب إلى الهايكو منها إلى الومضة الشعريّة. ففي نصّي أحاول قول كل شئ في عدد من الكلمات تاركةً للمتلقي مساحة أكبر ليعيد كتابة النص. اليوم، أكتب الهايكو لا كتقليد للهايكو الياباني، إنما كمحاولة لجعلها قصيدة هايكو عربيّة، تحافظ على مواصفات القصيدة اليابانيّة إنما تغترف من اللغة العربيّة الغنيّة والجميلة، ومن تراثنا وتقاليدنا الأصيلة، علنا نصل جميعا إلى مستوى عالمي باللغة العربية، في هذا النوع الأدبي الياباني الراقي والرقيق والدقيق.
في الأخير نترك للقارئ بعض النماذج لأصحاب هذه الشهادات آملين الإبحار لفضاء وعمق هذا الفن المدهش.

محمود الرجبي
أصعد إلى جبال رم
الزهورُ الصغيرةُ تنحني خائفةْ
قدمي تدوسها فتنزف رائحةْ !!

لميس حسون
أغصانُ الدّاليِة
تُظلّلُ رُكامَ منزِلِنا
يا للوفاء!

بتلاتٌ ملوّنة
على شجيرةِ الجوريّ العَقيم
ما أحنّ العّاصفة!

سامر زكريّا
شاطئٌ رَمليّ
كُلُّ ما أبنيه
يهدِمُهُ الماء

جمعة الفاخوري
“تُمَرْجِحُ أُرْجُوحَتَهُ الْخَاوِيَةَ..
فَتَمْلُؤُهَا الدُّمُوعُ..
وَالِدَةُ الصَّغِيرِ الْفَقِيدِ!

أبو الفوارس عبد العزيز
ما من نجوم مضيئة،
مروحية سوداء،
لحر الغرفة


مقتبس من موقع كتب . كل الحقوق محفوظة . 2014

السبت، 25 أكتوبر 2014

وجها لوجه : هاني نديم / رشيد بوجدرة . حوار ادبي .


ملاحظة : اعتبر ان هذا اعم واشمل واهم محاورة جرت مع الاديب الجزائري بوجدرة رشيد . كل حقوق المقال محفوظة للكاتب . نقلناها هنا مقتبسين مع ذكر المصدر حسب الحق الابداعي العام المشاع . 




خاص بموقع كسرة

كنت متردداً جداً حيال حوار هذا الاسم، إذ إنني في الحقيقة لا أعرف مشاعري نحوه حتى هذه اللحظة، هل أحبه أم أكرهه، هل قرأته جيداً أم اكتفيت بروايته الغريبة العجيبة «الإنكار» التي شكلت لديّ صدمة أخلاقية ومأزقاً إنسانياً، فقرأت ما بعدها رفع عتب معرفي!؛ لا أعرف، ما أنا متيقنٌ منه أن رشيد بوجدرة مختلف ومتفرد وصادم. وتلك مفاتيح لا يستغني عنها الإبداع أينما مشى…

تُرجمت أعماله إلى 42 لغة، بيعت مليون نسخة من روايته «ألفٌ وعام من الحنين» و500 ألف نسخة من رواية «الحلزون العنيد» ويفتخر بأنه الروائي الوحيد الذي يتعيش من كتابته رغم أنه في الوقت ذاته يشكو من إهمال الفرنسيين لأعماله و«إنكارهم» لمنتجه.

في الحافلة التي كانت تقلّنا إلى معرض الكتاب حييّته بالأمازيغية تودداً فأجابني بالعربية وبلهجة حاسمة صادمة مردفاً: أنت لست أمازيغياً لماذا تحييني بالأمازيغية؟، قلت له أنت لست فرنسياً وتكتب بالفرنسية!، وأردفت: أتودد لكم أستاذنا علّني أعرفك أكثر (رفقة الحافلة حافلة)! اخترعت هذا المثل فضاً للاشتباك والتوجس الدائم المرافق لبوجدرة. ابتسم وقال لي لقد تحاورنا ذات يوم يا نديم، ماذا تريد أن تعرف أكثر؟ قلت له دون تردد: أريد أن أعرف هل أحبك أم أكرهك!، لم يبتسم ولم يقطب.. اكتفى بالنظر إلى الطريق بملامح تشبهه!

ولد بوجدرة عام 1941، في مدينة عين البيضاء في الجزائر. تخرّج في المدرسة الصادقية في تونس. ثم في جامعة السوربون قسم الفلسفة، حاز على جوائز عدة ويحاضر حول العالم في كبرى الجامعات.

قلت له: تشكك في كل شيء، تحب التاريخ العربي وتقول عنه في الوقت نفسه إنه «نوستالجي»، كما تبحث عن دور الشيوعيين في تحرير الجزائر، أوليست تلك أيضاً نوستالجيا؟ فأجاب: أشكّك حقاً في كل شيء وأتهكم من كل شيء، حتى أتبين مطارح هشاشته، البحث المنهجي حتى هو بحث مشكوك بأمره، ولكن ما الضير؟ علينا أن نعمل وننجز ما نراه ونفكر فيه، تاريخنا في الجزائر موغل في الغموض، لكنني مملوء بالحنين، فكما هو معلوم، بحثت في ألف ليلة وليلة بقراءة حنين منهجية وركزت على كره المرأة ودونيتها في هذا الخطاب، وهكذا أفعل مع البحوث التاريخية وإن تضمنها عملي الروائي.

على مدى 50 عاماً كتب رشيد بوجدة أكثر من 30 عملاً في كل مجالات الكتابة من قصة وشعر ورواية ومسرح وبحوث، كنت قد قرأت «الحلزون العنيد» و«ألفٌ وعام من الحنين» و«الإنكار» قبل الحافلة، وقرأت بعد الحافلة «تيميمون» و«شجر الصبار» روايته التي تفسر برود الفرنسيين تجاهه بقراءته للثورة الجزائرية وضرورتها الحتمية ضد الاحتلال الفرنسي رغم أنها تحتفي بمن شاركوا بالثورة الجزائرية من أجانب وتتحدث عن إيفيتون اليهودي الذي أُعدم بسبب ثورة الجزائر.

يقول: هذه الرواية واقعية، وشخوصها موجودة فعلاً، أحب هذه البلاد كثيراً، بل وأعشقها عشقاً صوفياً، وأريدها أن تتقدم وتذهب إلى الأمام، أتعلم؟ أنا مهووس بنظافة المدن الجزائرية، مددنا أصبحت مهترئة ووسخة وقذرة!!.

قلت له: كتبت بالفرنسية ثم تركتها وكتبت بالعربية، ثم «تُبتَ» عنها حسب تصريح لك، وها أنت اليوم تكتب بالعربية من جديد، ما السبب؟ أجاب: أنا عربي التكوين والهوى وإن كتبت بالفرنسية وعشت هناك، حتى وإن اسمي «بوجدرة» أي: «أبو الجذور» فكيف أتنكر للعربية والكتابة بها؟! الأمر يتعلق بالرؤية اللغوية والبرمجة الذهنية، ثمة مساحات لا تصل إليها اللغة الفرنسية، والعكس صحيح، أكتب مثلما أفكر وحسب.

قلت له: أتعلم أنت، الحوار الصحافي يشبه تعرية المرأة الخجول..هل ما زلت شيوعياً، ألم يسقط وهمها في العالم؟

أجاب بغضب: الحوار الصحافي يعري الطرفين معاً بالمناسبة!، هذا سؤال لك مكرر وكأنه لم تقنعك إجابتي عليه سابقاً، إن ربط الشيوعية بالاتحاد السوفيتي خطأ شنيع يمارسه الصحافيون غالباً! أما اليساريون فهم ببساطة.. يساريون.

للحظةٍ كنت سأسأله ما إن كان يحبني أم يكرهني، ولكني تراجعت حينما استذكرت سابق إجابته لي عن كرهه الشديد لأبيه وهو أولى بالحب مني!

بوجدرة يصف علاقته بأبيه بأنها علاقة مرضية غير سوية، وأنه اُغتصب من إحدى زوجات أبيه!! الأمر الذي عقّد الأمور جداً بينه وبين أبيه ودفع العلاقة إلى مكان اللاعودة.

يفضح بوجدرة عن أنه اغتُصِب من عدة نساء في البيت منهن زوجة أبيه وأخته في أكثر من حوار له مشيراً إلى أنه لا يستخدم تلك الحقائق المؤلمة للإثارة بل للاستدلال واصفاً إياها بالعقاقير، التي جاءت بقالب شعري غير جارح!.

قادني ذلك لسؤاله عن رأيه «الجارح» بنجيب محفوظ الذي يراه بسيطاً وسردياً أكثر من اللازم ولا يهتم في كتاباته بأوجاع ومعاناة الشعوب العربية، وعن مستغانمي التي يقول إن رواياتها تشبه المقالات الصحفية وإنها لم تفعل شيئاً سوى إضافة شيء من الايروتيك السيء عليها. وإن ياسمينة خضرا مجرد كاتب قصص بوليسية عادية فأجاب: على الأدب أن يكون عالمياً شاملاً لا ضيق الأفق وفردياً، على الروائي أن يهضم كل أنواع الفنون والعلوم قبل أن يوصف بأنه روائي.

الحقيقة أن بوجدرة مثير للغضب والدهشة معاً فإن كان لا يعترف بروائي مثل ماركيز ويصفه بأنه صحافي أكثر منه روائياً ويصرح باغتصابه من قبل أهل بيته، ويعتبر مصر «بلا أدب» بلا رواية ولا شعر، بل لديها قصص «زوينة» ويرى أن العرب ما يزالون لا يقرؤون إلا ما لا يشغل بالهم، وأن الفرنسيين كفروا بنعمة بوجدرة عليهم، وأنني في هذا الحوار صحافي أكثر مني مهموماً بالثقافة. وعليه أنهيت هذا الحوار بسؤاله: هل ذهبت إلى صيد الغزلان في الجزائر كما فعلت أنا؟!






السبت، 13 سبتمبر 2014

أدبُ سُوء النِيّة

أدبُ سُوء النِيّة

عبدالدائم السلامي
نزعم أن لا أحد منّا يشكّ في أن زمننا العربيّ زمن منحرِفٌ وفوضوي ومثير للسخرية والبكاء معا؛ فالحاكم فيه يحشد أعوانه لينفخوا في صورته ويضخّموا من حاله وأفعاله ليبدو كما لو أنه من فئة المرسَلين الذين يوحى إليهم، والمعارضون يتاجرون بشعوب قلقة لا تحلم إلا بالهجرة أو بالانتحار بعدما اكتشفت أنها مثّلت دور الكومبارس في مسرحية هزلية تسمّى «الثورة»، وفقهاء التلفزيون يحتكرون معرفة الله ويستولون على مفاتيح جنته، والقتل بيننا عنيف وبالتكبير، وكتائبُ موظَّفي الإبداع الذين قيل فيهم: «احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ» (لوقا 46/20)، يكيدون كيدَهم لإفراغ المشهد الثقافي من كلّ كاتب مجروح بوعيه الحادّ ليجلسوا على رِقاب الكتابة بكل ما لديهم من ثقل الإسفاف والتهافت.
في هكذا زمن مات فيه صدق العلاقة بين الأنا والهُوَ، وبين الدولة والمواطن، وبين الثورة والثائر، وبين العاشق والمعشوق، وبين الفكرة وصاحبها، وبين الجسد وروحه، ما يزال الكاتب العربيّ ممتلئا بحُسن نواياه؛ فتراه يثق في الماضي ويعتزّ به ويُجمِّل فيه سوءاته، ويصدّق أوهام الحاضر ويمجّد وقائعه ويعلّق عليه أحلامه، ويطمئنّ إلى أنظمة استعاراتنا وكناياتنا التي حفلت بها مدوّنات أدبية ضعيفة السند فلا يصنع للناس من معنى إلا وهو منقوع في إدام القدامة الفاسد.
والظاهر للعيان أنّ هذه الحال قد زادت من ضمور حضور الكاتب العربي في الواقع والتأثير فيه حتى باتت صورته عند الناس تحيل إلى كونه شاهدا ضعيفَ الحُجّة على وقائع أيام آهلة بالآلام، وبات نصّه سريع الأفول ومنذورا للنسيان، بل بات هو في متصوَّر العامّة إنسانا مفعولا به «لا يحكّ ولا يصكّ» مثله مثل المغفَّلين.
نحن لا نشكّ في أن الكاتب، ونعني به ذاك الذي لا ينطبق عليه توصيف إنجيل لوقا المذكور سابقا، كائن خيِّرٌ، قد ندب نفسه لأمر خدمة الناس والدفاع عنهم وحفزهم لأن يكتشفوا الجمال في كلّ شيء من أشياء الأرض وأشياء التخييل. ولكنْ أن يكون الكاتب خيِّرًا لا يعني أن يصدّق أو يصادق كلّ شيء وأن يكون خارج تاريخه وتابعا لحركة الواقع، وإنما واجبه الحضاريّ يحتّم عليه أن يتجهّز بسوء النيّة في التعامل مع كلّ مفردة من مفردات معيشه الثقافي والاجتماعي والسياسي حتى يقدر على تبيّن مضمَراتها ومناوراتها: فلا يثق في ذائقة القارئ لأنها منفعلة وغير مستقرّة ومرهونٌ فعلها التقبُّلي بالطارئ من فلسفات الصورة الحديثة وآليات تصنيع الرموز، ولا يثق في الجمهور الاجتماعي لأنه وجدانيّ وسريع البكاءِ وترضيه حبّة حلوى، ولا يثق في الخطاب السياسي لأنه مرقون خارج جغرافيته. ولا يعني عدم الثقة أن يبلغ الكاتب حال البارانويا في تعاطيه مع واقعه (هناك من القراء مَن سيضحك لهذه الكلمة) وإنما ألاّ يقبل صورة الواقع في إعلانات الإشهار، وأن يتسلّح بحَدْسٍ كانطيّ وقّادٍ يكون سبيلا إلى إذكاء روحِ عدم الاطمئنان إلى الواقع وإلى نصّه أيضا، والعمل على انتهاك المألوف فيهما، وإلى الجرأة في الكشف عن كلّ الأمراض التي تنخر جسم مجموعته الاجتماعية وجسم أحلامهم دون تضليل. لأنّنا نرى في الكتابة المطمئنّة في ظلّ أنظمة سيّئة النيّة جرما ثقافيّا يرتكبه الكاتب في حقّ قرّائه.
ذلك أن تاريخ سوء نيّة الأنظمة مع الكتّاب يشي بكون أغلبها أنظمة تعرف جيدا مدى تأثير المكتوبِ في المتلقّي، فلا تتعاطى مع نصّ الكاتب إلا بارتياب وحذر شديديْن خشيةَ ما قد تُمثّله الكتابة من خطورة في توجيه الرأي العامّ وجهات لا ترتضيها هي. تفعل ذلك بفضل يقينها البوليسيّ بأن الكتابة فعل قادر على الغوص في أعماق الوقائع الحياتية وتعرية تفاصيلِها، والتعبير عن قضايا المضطهَدين بما يتوفّر عليه أصحابها من تقنيات تعرية المسكوت عنه والوقوف على هشاشته، وإبطال زيف قداساته، وكشف مغالطاته. ولذلك تراها تعمل على استمالة الكاتب إليها حينا، وتهجره حينا آخر، فإذا لم يركب مراكبَها وانضوى تحت إبطيْها، عزلته، ومنعته من تنفّس هواء الدنيا.
لقد ظلّ الخطاب السلطوي العربي الحديث، سواء أكان سياسيا أم قِيَميا أم ثقافيا، يُجيّش طاقاته لتدجين الكاتب وإسكات صوته وتحويله من كائن ذي وظائف تنويرية وتحرّرية له روح المعارضة والرفض إلى وسيلة من وسائل التهريج التي تتقصّد إمتاع السائد وتعزيز سلطانه. ولعلّ في هذا ما جعل وظيفة أغلب كُتّابنا لا تزيد عن كونهم «يسوقون الناس جميعا ويصيحون بهم بالولاء للدولة» على حدّ عبارة الشاعر إدوارد سولتر أوين.
لذلك نميل إلى القول إن حُسن النيّة لا يصلح في الأدب، فالكتابة حسنة النيّة لا تقدر على الانتصار لحق قارئها في الحياة، ولا لحقّه في الموت الطبيعيّ. الكتابة سيّئة النيّة هي التي تقف ضدّ هيمنة السلطة بجميع هيئاتها المادية والرمزية، وهي التي تقدر على رفع الحُجب عن أذهان القرّاء وتفتح لهم كوّة لينظروا منها إلى الممكن ممّا لم يتحقّق في دنياهم وإلى الذي لم يُقَل ممّا تمنّوا قولَه. وهي إلى ذلك فضاء يُنجز فيه النص قَصاصا تخييليا لأعوان الظُّلم، ويردّهم إلى طبيعتهم الأولى، فإذا الواحد منهم طينٌ فاسدٌ وآسنٌ ومخالِفٌ لما ترسَّب عنه في وجدان الناس من صورة تنزع دائما إلى تأكيد أنه كائن نوراني وطاهر لا يوجد لسلطانه الماديّ والرمزيّ حدّ، وهو المنقذ للمواطنين من الضلال السياسي والاجتماعي، وبذلك هو جدير بالوطن وبالجلوس فيه على أكتاف المواطنين بعيدا عن كلّ ما يهدّده من أحلامهم في تحقّق قِيَم الخير والعدل والكرامة الإنسانية.
سوء النيّة في الأدب يُخرج الكاتب من حيز المفعولية والخضوع الأعمى لاستعلائية الواقع وخطاباته، ويملأ كيانه الفكري بطاقة ناقدة لكلّ ما يُرى أو يستحضره الخيال الجمعيّ، ومن ثمة يكون وفقا لتوصيف إدوارد سعيد «اللامنتمي أو الهاوي الذي يعكّر صفوَ الحالة الراهنة».
كاتب تونسي
عبدالدائم السلامي
القدس العربي