موقع مفيد : الجمعية اللبنانية الميميائية
الميمياء أو علم الميمات : نظرية تطورية في تفسير الثقافة
تشكّل الأفكار أساس الثقافة الإنسانيّة. تظهر هذه الأفكار وكأنها قادرة على الحياة بمعزل عمن يطلقها أو يتلقاها أو يضعها في التداول. فالثقافة تتطوّر وتختلف مضامينها وأدواتها ومنتجاتها من عصر إلى آخر. فهي العنصر الأساسي الذي يميّز الجنس البشري، على الرغم من وجود أشكال أولية لها عند الحيوانات. كيف انبثقت الثقافة البشرية وكيف استطاعت أن تحافظ على استمراريتها رغم التنوّع الكبير الذي نشهده في المجتمعات المتعددة؟ تحاول النظرية الميميائية الإجابة عن هذا السؤال من خلال تحديد الوحدات الثقافية أي الميمات، ومن خلال البحث في الآليات التي تحكم هذا التطوّر، أي البحث في كيفية انتشار الميمات وتطوّرها، وذلك من وجهة نظر تطوّرية. من المعتاد إقتصار تطبيق نظريّة التطوّر على الميدان البيولوجيّ، وذلك بالاعتماد على نظريّة داروين ولكن في الربع الأخير من القرن العشرين، وسّع بعض العلماء، ومنهم ريشارد داوكينز، المجال الذي تتناوله نظريّة التطوّر لتطال ظواهر أخرى تتعدّى الميدان البيولوجيّ. يتحقّق التطوّر في كلّ ميدان تنطبق عليه خصائص التناسخ والتنوّع والإنتخاب. وتتمّ عملية التطوّر، عندما تتكاثر الكائنات الحّية وتنقل خصائصها إلى ذريتها، بينما تكون البيئة المحيطة غير قادرة على تحمّل وجودها بمجملها، وذلك لعدم كفاية الموارد الضروريّة لبقائها على الحياة. فالكائنات التي تبقى على قيد الحياة، هي تلك التي تتمتّع بخصائص تجعلها أكثر صُلوحية (fittest) وأكثر تلاؤماً مع هذه البيئة المحيطة. فتندثر الكائنات الأقل صُلوحية، وتبقى الكائنات التي تمّ انتخابها. هذه العمليّة التطوّريّة لا تجري في الميدان البيولوجيّ فحسب، بل في في كلّ ميدان تتوفّر فيه هذه العناصر الأساسيّة الثلاث، بما في ذلك الثقافة. إنّ عدم حصر التطوّر بالميدان البيولوجيّ، فتح المجال واسعاً أمام النظريّات التطوّرية التي تتناول تفسير الثقافة، ومنها النظريّة الميميائيّة. تفترض هذه النظريّة أنّ وحدات الانتخاب الثقافيّ أي الميمات، تشترك بكثير من خصائصها مع الجينات. فما الذي تقدّمه هذه الفرضيّة من إسهام جديد في فهم التطوّر الثقافي، وما الذي يميّزها عن النظريّات التطوّريّة الأخرى التي تتناول هذا الموضوع؟ تتطوّر الثقافة، وفقاً لداوكينز، كما تتطوّر البيولوجيا. ولكن كيف يمكن اعتبار هاتين الطريقتين مماثلتين؟ إلى أي مدى يمكن تطبيق المفاهيم المستعارة من الجينياء على الميمياء، أي مفاهيم مثل مفهوم الحامل (véhicule) أو (vecteur) ومفهوم النمط الفيني ومفهوم الفيروس ومفهوم البديلة (allèle)؟ أين نجد الميمات وما الذي يقابل الدنا (DNA) في المماثلة الميميائيّة؟
اقترح داوكينز لفظة ميمة للمرة الأولى في كتاب "الجينة الأنانية"، أسوة بالجينات التي تشكّل وحدات انتخابية بيولوجية واعتبر داوكينز أن الميمات هي وحدات الانتخاب الثقافيّ، وأن الثقافة خاضعة بالتالي للتطوّر.
تحاول النظرية الميميائية تفسير سبب انتشار بعض العناصر الثقافية على حساب بعضها الآخر. ترتكز هذه النظرية إلى مبدأ الانتخاب الطبيعي (sélection naturelle) الذي أطلقه داروين وطوّره علماء النظرية الداروينية الجديدة (néodarwinisme)، وإلى مبادئ نظرية الجينياء بعد اكتشاف مفهوم المتناسخ وقوانين التناسخ (réplication) والتضاعف (duplication). كما انها تستفيد من مفاهيم الكيمياء الجزيئية. تُعتبر الميمات أي الوحدات الثقافية مماثلة للجينات أي الوحدات الوراثية، بمعنى أنها تتكاثر وتتنقل من جيل إلى جيل. كما أنها تتعرّض عبر انتقالها هذا، للتغيّر والتحوّل وبالتالي للتطوّر. تتمّ عملية التطوّر نتيجة لتمتُّع بعض العناصر الثقافية بسِمات، تؤمن لها حظاً أوفراً في الانتشار والتكاثر من حظ العناصر الأخرى، وذلك مماثلة بتطوّر الأنواع. وفقاً للفرضية الميميائية يتشكّل التطوّر الثقافيّ، على غرار المبادئ ذاتها التي يرتكز إليها التطوّر البيولوجيّ. أي المبادئ الأساسية التي تؤدّي إلى التنوّع والانتخاب. فتُعتبَر الميمات بالتالي متناسخات (réplicateurs) ، تخضع لهذه المبادئ كونها وحدات إعلاميّة ثقافيّة، كما تعتبر الجينات متناسخات، لكونها وحدات إعلامية بيولوجية (unité d’information biologique). تُعرَّف الميمة بالتالي على أنها نمط (pattern) معلومات تحمله ذاكرة فرد ما، قادر على التناسخ في ذاكرة فرد آخر. يتضمّن هذا النمط أي شيء يمكن تعلّمه أو تذكّره، كالأفكار والمعرفة والعادات والمعتقدات والمهارات والصور، إلخ... و يعرّف الميميائيون الميمياء على أنها العلم النظري والتطبيقي الذي يدرس تناسُخ الميمات، وانتشارها وتطوّرها وتأثيرها على السلوك .
شروط نجاح المتناسخ
حدّد داوكينز ثلاث خصائص لنجاح أي متناسخ في الإنتشار:
1. الأمانة في النسخ
النسخة الأكثر أمانة بالنسبة إلى النسخة الأصليّة هي تلك التي تحافظ على خصائص هذه النسخة بعد دورات عدة من النسخ. فبعد صُنع نسخة أولى عن الأصل، ثم نسخة ثانية، فثالثة، فأكثر، يُصبح من الصعب التعرّف على خصائص النسخة الأصلية. الأمانة في النسخ، وإن كانت غير تامة، شرط من شروط نجاح أي متناسخ أكان جينة أم ميمة.
2. الخصوبة
كلما علا معدّل النَسْخ، كلما انتشر المتناسخ. كثرة عدد النُسَخ هي شرط من شروط التناسخ، فكلّ نسخة تصبح بدورها قالباً قابلاً للنسخ. وبتضاعُف عدد النسخ يتضاعف عدد القوالب التي يتمّ النسخ عنها.
3. طول العمر
كلما عاشت المتناسخات مدّة أطول، كلما تعزّزت حظوظها في النسخ وتضاعَف تناسُخها. لا يمكن صنع نسخة عن رسم إذا حُفرت خطوطه على الرمل، فإنه يُمْحَى قبل أن يتسنّى لأي كان أن ينسخه على الورق، أو أن يصوّره فوتوغرافياً .
تتلّخص فكرة داوكينز في أن التطوّر الداروينيّ لا يقتصر فقط على العالَم البيولوجيّ، بل يتعداه إلى عوالم أخرى. لذلك، كان من الضروري الرجوع إلى تطوّر نظريّة التطوّر، وإلى أنواع الانتخاب الفاعل في هذا التطوّر قبل البدء بتناول نظريّة الميمياء وتطوّر الثقافة وكيفيّة انبثاقها عن النظريّة التطوّريّة.
II- مفهوم الإنتخاب مفهوم أساسيّ في نظريّة التطوّر
تخضع الوحدات الإعلاميّة التي تنتقل بالوراثة من جيل إلى جيل، أكانت جينة أم ميمة، إلى عمليّة انتخاب، تساهم في تنوّع الأنماط الفينيّة والأنماط الفيميّة phémotype. الأنماط التي تظهر ملاءمة أفضل مع البيئة المحيطة هي التي تبقى على قيد الحياة.
III- أنواع الانتخاب في التطوّر البيولوجي:
لم يتفق العلماء التطوّريون على اعتبار الإنتخاب الطبيعي، نموذجاً أساسياً وحيداً للآليات الفاعلة في التطوّر البيولوجيّ، بل اقترحوا نماذج آليات عدّة وهي:
1. الانتخاب الفردي: (Sélection de l’individu)
وهو أبسط أنواع الانتخاب أي أن كلّ فرد يصارع من أجل بقائه ومن أجل تكاثره.
2. الانتخاب الطبيعي: (Sélection naturelle)
بسبب الصراع الدائم للبقاء على الحياة، يتمتّع كل فرد من جنس ما، بميزة معيّنة، تمكّنه من الاستفادة أكثر من غيره من الموارد الموجودة في البيئة المحيطة، وتزيد حظّه في البقاء والتكاثر ونقل ميزته هذه إلى ذرّيته. بينما تندثر الأفراد التي لا تمتلك هذه الميزة. فينتج عن ذلك انتخاب طبيعيّ للكائنات العضويّة، التي تتمتع بصُلوحية قصوى، تلائم شروط البقاء على الحياة في بيئة معينة. في كتابه "ذرية الإنسان"، أضاف داروين لاحقاً، مقولة أن البشر معرّضون لعمليّة تطوّرية على غرار الحيوانات الأخرى، كما أشار إلى أن الخاصيّة الذهنيّة التي يتمتّع بها البشر وتميّزهم عن غيرهم من الحيوانات، يمكن تفسيرها في يوم من الأيام، على أساس مفهوم الانتخاب الطبيعيّ، الذي يمكن اعتماده أيضاً في تفسير السلوك البشريّ الإجتماعيّ والأخلاقيّ.
3. إنتخاب القرابة (Sélection de parentèle)
أي الصراع من أجل بقاء الأقرباء وليس بقاء الفرد. فمن منظور الجينة الأنانيّة وهي المقولة التي نادى بها داوكينز، لا يهمّ من يحمل هذه الجينة، طالما أن الهدف هو انتشارها. من ينشرها بشكل أفضل هو الذي يتمّ انتخابه. إن الانتخاب القرابيّ يشكّل نموذجاً مهماً في تفسير السلوك الجماعيّ للنحل والنمل. واستُخدِم هذا المفهوم لتفسير الشعور العائليّ والمحسوبيّات.
ساهم علم الإجتماع البيولوجي في تفسير السلوك الغيريّ، أو التضحية من أجل الغير (altruisme)، عند الحيوانات. فالغيريّة عند النحل مثلاً، شكّل معضلة بالنسبة لداروين.
هاملتون (Hamilton) هو الذي وضع الأسس الرياضيّة لما يسمى بـ"انتخاب القرابة". واعتبر أن الفرد الذي يتخلّى عن حظوظه الشخصيّة في التكاثر، يقوم بذلك لمصلحة فرد قريب له (أخ، ابن عم، ابن أخ، ابن اخت...) يشترك معه بنسبة أكبر من الجينات ممّا لو تكاثر هو.
4. انتخاب الجماعة (Sélection du groupe)
في منتصف القرن العشرين، أصبح لمسألة السلوك الإجتماعيّ عند الحيوانات أهمّية كبرى إثْرَ نشر كتاب ادوارد ولسون (Edward Wilson)"علم الإجتماع البيولوجيّ" . اقترح ولسون فهماً للمجتمعات الحيوانيّة والإنسانيّة على ضوء النظريّة الداروينيّة، فبرزت مفارقة أساسيّة تتعلّق بصمود السلوك الغيريّ أمام مبدأ الإنتخاب الطبيعيّ.
مع العالم دافيد سلوان ولسون ( David Sloan Wilson) أُعِيد الاعتبار لانتخاب الجماعة وقد استخدمه في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية، كما استخدمه هاورد بلوم (Haword Bloom) لتفسير ظاهرة العنف بين الجماعات المختلفة. فانتخاب الجماعة ليس سوى توسيع للإنتخاب القرابيّ ليشمل الجماعة بأسرها. يفسّر علماء الاجتماع البيولوجيّ بواسطة هذا النموذج التزاوج الداخليّ (endogame)، والتعاون بين أفراد الجماعة، ومساعدة بعضهم البعض والسلوك الغيريّ.
5. الانتخاب المتبادل (Sélection réciproque)
يفسّر هذا النموذج التعاون بين أفراد الجماعةً، فيتمّ تبادل المصالح في ما بينهم. فالكلاب البريّة، على سبيل المثال، تستفيد من الصيد المشترك أكثر مما تستفيد من الصيد الفرديّ، شرط أن تتوافق على المشاركة في تقاسم الفريسة في ما بعد. ولا شكّ أنّ الأفراد المتعاونين يعزّزون بشكل متبادل احتمال بقاء كلّ منهم على قيد الحياة. لكن ما يعارض هذا النموذج هو ما يسمَّى "المحتالون"، أي من يستفيد من المكاسب المشتركة ويتراجع عندما يحين دوره في التضحيّة. يفسّر نموذج الإنتخاب المتبادل تكاثر البكتيريّات والفيروسات، التي تعيش في الجسم، فمنها المضرّ الذي يسبِّب الأمراض، ومنها غير المضرّ، الذي يساهم في المحافظة على الجسم الذي تعيش فيه، في علاقة تكافل (symbiose).
6. الانتخاب الجنسي (Sélection sexuelle)
يتعلق هذا الانتخاب باختيار الشريك الجنسيّ الأفضل. يفسّر هذا النموذج تطوّر بعض السِمَات عند أنواع الطيور الذكور كالطاووس مثلاً، التي تتمتّع بريش ملوّن وتنشد الألحان المؤثرة، لجذب الطيور الإناث.
يشكّل التطوّر البيولوجيّ وآليات الإنتخاب الفاعلة فيه، خلفية للفرضيّة الميميائيّة التي تحاول الاستفادة من النظريّة الداروينيّة، ومن تطبيق مفهوم الانتخاب بشكل عام في تفسير التطوّر الثقافيّ. فكما قال داوكينز، تُعْتَبَر النظرية التطوّريّة نظريّة واسعة، لا تقتصر على تطوّر الجينات، بل يمكن تطبيقها في كلّ ميدان تتوافر فيه شروط التطوّر. يبقى الموضوع الأهمّ في هذه النظرية بقاء المتناسخات على الحياة، أياً كانت هذه المتناسخات، إذ يؤدي تنوّع المتناسخات في ظل ظروف معيّنة، إلى شكل من أشكال التطوّر، وتكون آلية التطوّر فاعلة عندما تتوفّر شروط حدوثه، مهما كان الوسيط الذي ترتكز إليه، فعملية الإنتخاب تتمّ على صعيد المتناسخات، أياً كانت طبيعة هذه المتناسخات.
افترض داوكينز وجود متناسخات ثقافيّة فضلاً عن المتناسخات الجينيّة. هذه المتناسخات الثقافية هي الميمات. عرّف داوكينز الميمة على أنها "وحدة توريث ثقافيّ"، مماثلة للجينة، أي لوحدة التوريث البيولوجيّ، وبالتالي فالميمة يتمّ انتخابها طبيعيّاً، وفقاً لمدى فائدة نتائجها الفينيّة (effects phénotypiques) على بقائها على الحياة، وعلى تناسخها في المحيط الثقافيّ. نذكر أمثلة على الميمات منها: الأفكار وفواتح الكلام والألحان والموضة والمهارات. وكما في الجينات تتمثّل شروط نجاح الميمات في طول العمر والخصوبة وحدوث التناسُخ. تشكّل الخصوبة العنصر الأهمّ بالنسبة للنُسَخ الفردية. أما عنصر المنافسة الضروريّ لحصول انتخاب ميمة ما، فمنوط بمحدوديّة قدرة انتباه الدماغ. من أجل أن تسيطر ميمة معيّنة، عليها أن تجذب انتباه الدماغ وتُحيده عن الميمات الأخرى. يتعلّق نجاح هذه العملية ببنية الدماغ، وبثبات الميمة، وبدخولها إلى المحيط الثقافيّ أو الحوض الميميّ. وذلك يعني أن الميمات المتكيّفة مع بعضها البعض، والتي تشكّل مركّبات ميميّة (mèmeplex) تكون أكثر ثباتاً، تطوّرياً. يتمّ انتخاب هذه الميمات القادرة على استغلال المحيط الثقافيّ على حساب الميمات الاخرى التي لا تتمتّع بهذه القدرة، والتي لا تستطيع أن تخترق مجموعات الميمات المتعاونة للدخول إلى المحيط الثقافيّ. لا ريب أنّ التعاون يؤمن حماية للميمات، في وجه اجتياح الميمات الفرديّة. لكن نجاح الميمات، في جذب انتباه الدماغ، لا يقتصر على التعاون والتوافق، بل يتعداهما إلى معايير أخرى. فقد شدّد داوكينز على أن نجاح الميمات لا يتعلّق بالميزات التي تؤمنها للأنماط الجينيّة التي تُنتج الأدمغة التي تسكُنها هذه الميمات فحسب، بل يتعلّق أيضاً بالميزات التي تكون نافعة للميمات بحدّ ذاتها. ففي الصراع على جذب انتباه الدماغ، يحتّم على الميمات أن تكون "أفضل" من منافساتها. وذلك لا يتعلّق بالضرورة بنجاح الأنماط الجينيّة التي يحملها الأفراد الذين تسكُن أذهانهم هذه الميمات. قد تتلاقى مصالح الجينات ومصالح الميمات، وقد تكون في حالة تنافُس. فالميمة كما الجينة تؤمن نجاح انتشارها بالتفويض أيضاً (by proxy)، وذلك عبر تأثيراتها الظاهرة، أي تأثيراتها الفينيّة وتأثيراتها الفيميّة (phenotypic and phemotypic effects). فالميمة كما الجينة هي وحدة "إعلامية" وتأثيراتها الفيميّة هي النتائج الخارجيّة الظاهرة للوحدة الإعلاميّة هذه. الكلمات والمهارات والموسيقى هي التجسّدات الظاهريّة والمرئيّة والمسموعة للميمات الموجودة في الدماغ. تنتقل هذه التجّسدات الظاهريّة بين الأفراد عبر الحواس، تاركة في الدماغ نسخة عن الوحدة الإعلاميّة أي عن الميمة، وليس ضرورياً أن تكون هذه النسخة مطابقة للنسخة الأصليّة. فمن خلال الحواس، ومن خلال إدراك تجسّدات الميمة في أنماط فيميّة، تنتقل الميمة من دماغ إلى دماغ آخر. وكما أن التأثيرات الفينية تتّخذ شكلَين: من جهة صُنْع الجهاز الخلويّ الذي يقوم بتناسخ الجينة، ومن جهة أخرى التفاعل مع العالم الخارجي الذي يحدّد قدرتها على البقاء، كذلك تتّخذ التأثيرات الفيميّة للميمة شكلَين: السماح لصاحب الميمة بالتواصل والتمتّع بمهارات التقليد من أجل تناسُخ الميمات، والتفاعل مع العالم الخارجيّ من خلال السلوك والتصرّف الذي يؤثّر بدوره، على حظوظ بقاء الميمة على قيد الحياة.
نشير هنا إلى أن "التطوّر الميميائيّ"، وبالرغم من تماثله مع التطوّر الجينيائيّ، غير تابع له. فالميمياء تتّخذ من الجينياء نموذجاً لها، لكن الميمياء والجينياء يشكّلان مثالين لتطوّر المتناسخات الخاضعة لظروف ولشروط تنافس خاصة بكل منها.
I. المصطلحات الميميائيّة المستعارة من الجينياء لتفسير الثقافة تطوريا :
• الميمة mème :
هي وحدة "إعلاميّة" (unité d’information) تتناسخ في أذهان البشر. لا يشكّل كل نموذج من فكرة أو من معلومة ميمةً إلا حين يكون قادراً على حثّ الآخرين على نسخه وتكراره. إن المعرفة المنقولة بمجملها هي ميميائيّة في نظر الميميائيين.
• الميتاميمة أو الميمة مافوقية (métamème): هي كلّ ميمة تتناول الميمة كموضوع. مفهوم الميمة، هو أيضاً ميمة.
• الميمياء (memetics) أو (mémétique): هي دراسة الميمات وآثارها الاجتماعيّة.
• الميمي (memetic): كلّ ما هو متعلّق بالميمات.
• النمط الميميّ (mémotype) : هو محتوى الميمة المعلوماتيّ المتميّز عن تجسّده الظاهر. تطلق هذه التسمية أيضاً على فئة من الميمات المتشابهة.
• النمط الفيمي (phémotype):
هو التعبير الاجتماعي الثقافي لنمط ميمي ما، ويسمّى أيضاً النمط الجيمي (gémotype)، يقابله في البيولوجيا جسم الكائن العضويّ الذي هو التعبير الفيزيائيّ (phénotype) للنمط الجينيّ. يُستخدم مصطلح النمط الاجتماعيّ (sociotype) أيضاً كمرادف للنمط الفيميّ. وهكذا يعتبر بعض الميميائيين أن الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة البروتستانتيّة تشكّلان نمطين ظاهريين فيمييّن للتوراة، التي هي بمثابة نمط ميميّ واحد. من المصطلحات المرادفة أيضاً مصطلح الفينوميمة (phénomème).
• المسافة الميمية (distance mémétique)
وهي المسافة التي تفصل بين الأنماط الميميّة التي يشكّل مجموعها الثقافة. إذا تناولنا اللغات مثلاً، فمن المعروف عند علماء الألسنيّة المقارنة (linguistique comparée) أن اللغات تتزاوج في ما بينها وتطرأ عليها التعديلات وبالتالي تتطوّر. فالإيطاليّة والإسبانيّة والبرتغاليّة، تحدّرت جميعها من اللاتينيّة، واللغات الألمانيّة والسويديّة والنروجيّة والإنكليزيّة، تحدّرت من أصل جرمانيّ. والأسلاف تعود بدورها إلى سلف واحد أبعد في القِدَم. فالمجموعتان السابقتان تتحدّران من لغة أوروبيّة واحدة. من خلال مقارنة اللغات ببعضها البعض، يمكن ملاحظة أوجه الشَبَه والاختلاف، وبالتالي تعيين درجات القرابة بينها وتعيين المسافة التي تفصلها. إذا قارننا على سبيل التبسيط أسماء الأعداد الثلاثة الأولى في اللغات الإيطاليّة والفرنسيّة والإلمانيّة:
إيطالي: uno due tre
فرنسي: un deux trois
إلماني: eins zwei drei
يتبيّن لنا أن أوجه الشَبَه بين الإيطاليّة والإفرنسيّة تفوق تلك الناشئة بين كلّ منهما واللغة الألمانيّة. لذلك نستطيع أن نستنتج أن المسافة بين اللغتين الإيطاليّة والإفرنسيّة أقرب من تلك التي تفصل بين كلّ منهما وبين الإلمانيّة.
الشكل رقم 15
• المركّب الميميّ (mème-complex) أو (mèmeplex):
وهو مجموعة من الميمات المتعاونة التي تطوّرت معاً من خلال علاقة تكافليّة (symbiotique). وتُعْتّبَر المعتقدات الدينيّة والمعتقدات السياسيّة، والحركات الاجتماعيّة، والأساليب الفنيّة، والعادات والتقاليد، والرسائل المتسلسة، والأطر المفاهيميّة، واللغات، كلّها مركّبات ميميّة.
• الذات الميميّة (selfplex):
هي وفقاً لسوزان بلاكمور ودانيال دينيت مجموعة مركّبات ميميّة تشكّل الذات (le Je) أو الوعي (conscience).
• ميمة المناعة (immuno-meme):
وتسمّى أيضاً اللقاح (vaccine) وهي ميتاميمة تؤمن مناعة او مقاومة لميمة واحدة أو لتركيب ميميّ ما. من ميمات المناعة، نذكر الإيمان والطاعة والشكّ والتسامح والأنساق والعقائد. تتضمّن المركّبات الميميّة التالية ميمات مناعة وتشكّل حماية للفرد من الميمات المنافسة: فالموقف المحافظ (conservatisme) يظهر مقاومة لكل أنواع الميمات الجديدة. والأرثوذوكسية (orthodoxie) تأخذ بالرفض الآلي لكل الميمات الجديدة. والأصولية تعتمد نموذجاً ميميّاً واحداً يرفض الميمات الأخرى بمجملها. والعبثيّة أو العدميّة (nihilisme) تنبذ كلّ النماذج المطروحة الجديدة والقديمة. والموقف الياباني يقوم (Japanisme) على دمج النماذج الجديدة بالنماذج القديمة. أما الموقف العلمي فيتولّى التمحيص بين الميمات الصادقة والميمات الكاذبة.
• المحبط للمناعة (immuno-depressant) :
وهو أي شيء يخفِّض المناعة الميميائيّة. من المحبطات للمناعة: السفر، والإرباك، والإنهاك الفيزيائيّ والعاطفيّ، والتقلقل والخوف، والصدمات العاطفيّة، وفقدان المسكن أو الأحبة، والصدمات الثقافيّة، والضغط النفسيّ الناتج عن الأنعزال، والاوضاع الاجتماعيّة غير المألوفة، وتعاطي المخدرات أو بعض العقاقير، والوحدة وجنون العَظَمة والتعرّض المتكرّر للميمات ذاتها واحترام الفكر النقديّ.
• الميمة السامّة (exo-toxic):
هو تركيب ميميّ ضارّ بغيره من الميمات. يشجّع على تدمير الأشخاص الآخرين لا سيّما أولئك الذين يحملون ميمات منافسة.
• الرقابة (censorship):
هي المحاولة لقطع الطريق على انتشار مركّب ميميّ ما، بإلغاء حامليه. وهي شبيهة برشّ المبيدات، تقتل عشوائيّاً الجراثيم المفيدة والمضرّة. يستحيل على المراقبة أن تقضي على كلّ مركّب ميمي مضرّ، وقد تعزّز المركّب الميميّ الأكثر إضراراً وتقتل المركّب الميميّ الأكثر اعتدالاً.
• الحساسيّة الميميّة (meme-allergy):
هي شكل من أشكال عدم التسامح مع الميمات المنافسة. تجعل الفرد يقوم بردة فعل عنيفة، عندما يتعرّض لمثير ميميّ معيّن، أو لميمة تسبّب له حساسيّة ما. فالمركّبات الميميّة المسمِّة غالباً ما تؤدّي إلى حساسيّات ميميّة. نذكر من بين الميمات المثيرة للحساسيّة الخوف من الناس، ومعاداة الشيوعيّة الجنونيّ، والخوف من أفلام الجنس. ومن ردّات الفعل على الميمات المثيرة للحساسيّة نذكر الرقابة والصراع الكلاميّ والعنف الجسديّ.
• الميمات المتكافلة (co-meme):
هي الميمات التي تطوّرت بالتكافل في ما بينها، لتشكّل ميمات مركّبة متعاضدة، تسمّى أيضاً (symmeme).
• الميمات الراقدة (dormant):
عادة ما تكون هذه الميمات بدون حامل بشريّ. الهيروغليفيّة القديمة هي من أمثلة الميمات الراقدة أو الميمات "الميّتة" التي بقيت مخفية في النصوص، آلاف السنين، إلى أن اكتشف علماء الآثار الفرنسيين سنة 1799 حجر الرشيد واستطاع شامبليون (Champollion)، بعد ثلاثة وعشرين سنة، ترجمة هذه اللغة. فأصبحت من جديد ميمة حيّة، قادرة على الانتشار. إنّ بعض الميمات لا ينام أبداً ويبقى موجوداً بالرغم من التحوّلات التي يتعرّض لها.
• الفَلَك الذهنيّ (idéosphère) و (noosphère):
وهو مجموعة الميمات التي تشكّل المركّبات الميميّة ومجموع الميمات الفرديّة، التي تتشكّل منها مملكة الأفكار في ثقافة ما، وهي التنوّع الميميّ العام، المتاح في ثقافة ما، أمام الفرد المنتمي إلى هذه الثقافة. إنّ تعلّم اللغات والسفر يشكّلان أسلوبين من أساليب توسّع الحوض الميميّ المتاح للفرد.
• المضيف أو العائل (Host):
وهو الفرد الذي يحمل ميمة ما ويستضيفها في ذهنه. ولا يعني ذلك بالضرورة أنه سوف يساهم في تناسُخها.
• الوسيط أو الناقل (vecteur) أو (vehicule):
هو المجسّد للميمة والوسيط الذي تنتقل عبره. قد يكون كائناً عضويّاً أو أيضاً نتاج نشاط انسانيّ (artfact) فيسمّى عندئذ الناقل الاصطناعيّ (aritificial vehicule).
• العدوى (contagion) :
هي عملية نجاح تكويد (coding) ميمة ما في ذاكرة شخص معيّن. فالعدوى تكون إما فاعلة أو غير فاعلة. لا يشعر المصاب بالعدوى غير الفاعلة بأي ميل يدفعه لنقل الميمة إلى أشخاص آخرين. أما العدوى الفاعلة فإنها تجعل مضيف الميمة يسعى إلى نقلها للآخرين. لا يعتبر الشخص الذي يتعرّض لميمة ما، ولا يتذكّرها، مصاباً بها. ولكنه يُعتبر حاملاً لها، وربما ينقلها بشكل لاواعٍ عبر السلوك أو زلات اللسان. يستخدم بعض العلماء الميميائيين مصطلح العدوى الميميائيّة كمرادف لمصطلح تبنّي الميمة، ولا يفرّقون بين حامل الميمة والمؤمن بها. على أي حال، غالباً ما تنتقل الميمات عبر حامليها، وليس بالضرورة عبر المؤمنين بها، فالأغاني والطرفات لا تحتاج إلى إيمان الفرد بها كي ينقلها.
• الإنجراف الميمي (memetic drift) أو(dérive mémétique):
هو عبارة عن الاخطاء الحاصلة في التناسُخ الميميّ بشكل عشوائيّ. وهومعدل التعديل الميميّ المؤدّي الى التطوّر الميمي. النصوص المكتوبة تقلّل من معدل الإنجراف الميميّ.
• الميميائيّ (memeticist): وهو العالم بالميمياء أو مدرّس الميمياء.
• المهندس الميميائيّ (memetic engineer):
وهو شخص يخطّط للميمات ويبدعها بشكل واعٍ، وذلك عبر تجميعه وتوليفه لميمات عدّة، بهدف إجراء تعديل في سلوك الآخرين. إنّ كتّاب البيانات السياسيّة ومبدعي الإعلانات التجاريّة هم نماذج من المهندسين الميميائيين.
• الميمبوت أو الرجل الميميّ الآليّ (membot):
هو الشخص الذي قضى حياته بأكملها من أجل نشر ميمة ما، بشكل آلي.
• الأميوم memoid :
هو الشخص الذي تمتلكه الميمات وتتحكم بسلوكه بشكل أعمى وقد تودي بحياته.
II- مصطلحات إضافيّة تستخدم في الميمياء وتتعلّق بآليات الإنتشار والتناسُخ
• الإستراتيجيّة (Strategy):
وهي "برنامج من الأفعال يترتّب عليه التوصّل إلى تحقيق أهداف محدّدة" . وبالإعتماد على المصطلحات التي تمّ ذكرُها، تُماثِل الاستراتيجية التي تتّبعها الميمياء تلك التي تتّخذها الجينياء. إن الاستراتيجية التطوّرية، جينيائية كانت أو ميميّائية، تعني الخطوات المتلاحقة التي تؤدّي إلى حلول لمسائل معيّنة. فمن منظور الميمياء، تتألّف الاستراتيجية من التعليمات التي تصدر عن المركّبات الميميّة للقيام بأفعال محدّدة، لتحقيق أهداف معيّنة. أما من منظور الجينياء فهي تتألف من التعليمات التي تصدر عن المركّبات الجينيّة التي تشكّل النمط الجينيّ. هذه التعليمات العامة هي التي تشكّل الخوارزميّات التطوّريّة (algorithmes évolutionnaires) التي تشتمل على الخوارزميّات الجينيائيّة والخوارزميّات الميميائيّة. قد يطرأ التعديل أثناء إجراء هذه الخطوات، وذلك بسبب عمليّات التنافس والانتخاب، مما يؤدّي إلى وجود تنوّعات ناتجة عن هذا التعديل، إما بعمليّة إلغاء أو بعمليّة إدراج أو بعمليّة إبدال.
• استراتيجية التناسخ الميميائيّ (replication strategy):
وهي برنامج التعلميات الذي يشجّع المضيف على نشر الميمة، وبالتالي على تناسُخها وانتقالها إلى مضيف آخر، من أجل تحقيق أهداف معيّنة.
• استراتيجيّة العدوى (infection strategy):
وهي كل استراتيجيّة تشجّع إصابة مضيف ما بعدوى ميمة معينة. تشجّع الطرفات على سبيل المثال العدوى لأنها مضحكة، والألحان لأنها تثير الأحاسيس، والأقوال المأثورة لأنها تلخّص وتكرّر الميمة باستمرار. من استراتيجيات العدوى الاعتيادية "الخوف من الموت" و"الحسّ الجماعيّ".
• استراتيجيّة العدوى بتقليد ميمة ما عبر التنكّر البيئيّ (mimicry) :
وهي استراتيجة عدوى تحاول من خلالها ميمة ما أن تقلّد سِمات ميمة أخرى ناجحة. مثل النظريّات التي تتشبه بالعلم.
تتضمّن استراتيجيات التناسخ الميميّ عدة آليات تختلف باختلاف الأهداف التي يراد تحقيقها:
• التسامح (tolerance):
وهي ميتا ميمة أي ميمة موضوعها الميمات وتعتمد على مقاومة عدة أنواع من الميمات دون إظهار حساسيّة ميميّة تجاهها. ففي شكله الأصفى، يخوّل التسامح مضيفه التعرّض المتواصل للميمات المنافسة لميماته، دون أن يظهر إصابة فعالة بالعدوى، أو ردة فعل على ميمة لا يتبنّاها. التسامح هي ميمة مشتركة بين عدة نماذج ميميّة وعلى الأخص الليبراليّة والديمقراطيّة. فبدون التسامح، تصبح النماذج الميميّة مسمّة للميمات الأخرى، وتسبّب حساسيّات ميميّة عند مضيفيها. وبما أن النماذج الميميّة تتنافس على حيّز محدود، فإن التسامح لا يشكّل بالضرورة ميزة حسنة بالنسبة إلى الميمات، ولكنها بتطوّرها المتشارك مع غيرها من الميمات تستطيع أن تبقى على قيد الحياة، مثلما يحدث مع الكائنات الحيّة المتعاضدة في الأنساق البيئيّة البيولوجية.
• التهديد والوعيد (threat):
وهو جزء من المركّب الميميّ يدفع إلى نسخ الميمة بشكل ملحّ، وإلا تعرّض لعقوبات محتملة. فقدان حبيب أو خسارة مالية هو من هذا النوع. وفي الدين، على سبيل المثال، الترهيب بعذاب الجحيم هو أيضاً من ميمات الترهيب.
• الطعم (Bait):
وهو جزء من المركّب الميميّ الذي يَعِد حامله باستفادة ما نتيجة لنسخه. ففي بعض الديانات يكون "الخلاص" هو الفخ أو الثواب لنسخ المركّب الميمي. من أمثلة الأفخاخ الميميّة "النعيم الأبديّ" والأمان والإزدهار والحريّة ... فالفخ هو المنفعة الموعودة التي تجعل المركّب الميمي جذاباً للمضفين الجُدُد المحتملين.
• غسل الدماغ (indoctrination) :
من أجل غرز مركّب ميميّ ما، لا بدّ من تعريض الفرد لهذا المركّب وبالتالي لا بدّ من التكرار المتواصل لهذا المركّب. وتشكّل الطقوس الدينية والوعظ والإرشاد والأغاني والتراتيل وحلف القَسَم أمثلة نمطيّة لغسل الدماغ.
• الضريبة (taxation)
وهي الطلب من المضيف المساهمة في بذل وقته وطاقته وأمواله لِنشر المركّب الميمي.
• العبادة (cult):
وهي نمط مركّب ميمي اجتماعيّ مؤلف من أفراد يتصرّفون بشكل آلي مبرمج. يتضمّن هذا المركّب الميميّ العناصر التالية: العزل الذاتي لجماعة الأفراد الذين يحملون هذا النمط، أو على الأقل للأعضاء الجُدُد المنتمين إليه، وغسل الدماغ بتكرار التعرّض لهذا المركّب الميمي، والثني عن ممارسة الوظائف الجينيائية، كالتبتّل والتعقيم الجنسي والتقليل من أهمية إنشاء عائلة. كل ذلك للتفرّغ للتبشير بالمركّب الميمي والتشجيع على نسخه، أو للترويج لعبادة قائد الجماعة. من الأمثلة على ذلك، ما حصل في جونز تاون (Jonestown) في غويانا (Guyana)، حيث انتحر جماعياً 913 عضواً من تنظيم ديني يعرف بـ"هيكل الشعب" (The people’s Temple). وذلك بأمر من رئيسهم الكاهن جيم جونز (Jim Jones).
تعريف الميمة
أطلق ريتشارد داوكينز لفظة "الميمة" في كتابه "الجينة الأنانيّة" (The Selfish Gene) وفصّلها في كتابه اللاحق "النمط الفيني الموسّع" (The Extended Phenotype). فالميمة هي "وحدة نقل ثقافي" (unité de transmission culturelle) بالإضافة إلى كونها وحدة "إعلامية" (unité d’information)
I- تعريفات عامة
تعدّدت تعريفات الميمة عند المنظّرين الذين تبنّوا هذه النظريّة. ويمكن القول أن الميمة هي:
• فكرة في ذهن شخص ما.
• جزء من سلوك متكرّر.
• معلومة متضمّنة في المصنوعات (artefacts).
• نمط معلوماتيّ محمول في ذاكرة فرد ما، يمكن نسخه في ذاكرة فرد آخر.
• سلوك أو "تصرّفات" أوأفكار منسوخة بالتقليد من شخص إلى شخص آخر.
• فكرة أو سلوك أو أسلوب أو عادة، تنتشر من شخص إلى شخص آخر داخل ثقافة ما.
• فكرة مُعْدية تُشْبِه الفيروس وتنتقل من ذهن إلى ذهن، تعمل مثل الجينات والفيروسات، أي أنها تنتشر من خلال شبكات الاتصال أو من خلال الاتصال المباشر بين الأفراد.
بتعبير آخر، الميمة هي فكرة يحملها شخص مؤيّد أو مضيف لها (host)، تسعى جاهدة للانتقال إلى شخص آخر أو إلى مجموعة من الأشخاص، بمعزل عن إرادة حاملها.
لا يزال تعريف الميمة غامضاً. قد أعطى الميميائيون تعريفات عدّة للميمة، منها مكمّلة لبعضها البعض، ومنها متناقضة في ما بينها. سنورد في الفقرة اللاحقة سلسلة من التعريفات استقيناها من الأبحاث العلمية التي تناولت هذه النظرية، تسمح لنا بالتآلف مع هذا المفهوم.
II- تعريفات الميمة كما نجدها عند المنظّرين الميميائيين
نجد التعريفات التالية عند داوكينز:
• الميمة هي متناسخ وهي وحدة انتقال ثقافي وهي وحدة تقليد في كتاب الجينة الأنانية .
• الميمة هي وحدة معلومات تقيم في الدماغ في كتاب "النمط الظاهري الموسّع" (Extented phenotype) .
• الميمة هي "فيروس ذهني" .
بينما تُعرِّف سوزان بلاكمور (Blackmore Susan) الميمة على أنها:
• ما ينتقل بواسطة التقليد. يتضمّن التقليد أي نوع من النسخ، نسخ الأفكار ونسخ السلوك الذي يقوم به شخص عن شخص آخر.
• السلوك أو التصرّفات، والأفكار المنسوخة بالتقليد من شخص لشخص آخر .
وعند بلوتكن (Plotkin) هي:
• وحدة وراثة ثقافية مماثلة للجينة (unit of cultural inheritance) .
• ما ينتقل بين الأفراد عند جماعة إجتماعية ما، يعادل الجينات.
• الوحدات الثقافية الأساسية التي تتشارك بها جماعة إجتماعية (Essential units of a social group's common cultural currency) وهي تصوّرات المعرفة الذهنيّة الداخليّة التي تولِّد إثر تفاعلها مع البيئة، سلوكاً خارجياً ومصنوعات artefacts.
• كينونات ثقافية، موروثة مع تعديلات (Cultural entities, descent with modification).
أما دانيال دينيت (Daniel Dennett) في كتابه "فكرة داروين الخطرة" (L’idée dangerureuse de Darwin) فيعتبرها:
• تعليمات (instructions) تنتقل ثقافياً.
• متناسخاً ثقافيّاً مماثلاً للجينة (réplicateur culturel).
• وحدة تطوّر ثقافيّ (unité d’évolution culturelle).
• وحدات متمايزة بالإمكان تذكّرها (unités distinctes mémorables).
نجد تعريفات أخرى عند عدد من الميميائيين:
• وحدة معلومات في ذهن ما، يؤثّر وجودها فيه على سلوك الأفراد، فتصنع نسخاً عنها وتُبعث في ذهن أفراد آخرين، في كتاب برودي (Brodie) "فيروس الذهن" (Virus of the Mind) .
• تصوّرات ذهنية في مقالة غابورا (Gabora) "أصل وتطوّر الثقافة والإبداع" وفي كتاب "الميمات الأنانية" (The Selfish Memes) لكايت ديستن (Kate Distin).
• وحدة معلومات ثقافيّة إجتماعيّة قابلة للتحوّل عبر عملية الإنتخاب الطبيعيّ، أكان الإنتخاب يتعلق بصفات إيجابية أم سلبية في مقالة ولكينز (Wilkins).
• أفكار مُعْدية نشطة في كتاب لينش (Lynch) عدوى الذهن (Thought Contagion) .
بينما يُعتبر التعريف الذي يعطيه أونجر، مغايراً تماماً. الميمة من منظوره هي:
• الميمة العصبونية (neuromeme) وهي تشكيل محدّد من تشكيلات شبكة الاتصال العصبونية، ساكن في الدماغ قادر على نسخ ذاته في تشكيل آخر من هذه الشبكة .
كما دخل تعريف الميمة إلى "معجم أوكسفورد للغة الإنكليزية" وهي:
• عنصر ثقافيّ يوَّرَث بطريقة لا جينيائية كالتقليد.
أما على شبكة الأنترنت فالتعريفات كثيرة، نجدها في المقالات وفي الكشافات (Glossary) الإلكترونيّة ومنها:
• الميمات هي أفكار والأفكار متناسخات. أي هي كل فكرة أو نظريّة أو موقف أو مهارة تنتقل من شخص إلى آخر، عبر السلوك ولا تنتقل عبر الجينات. يمكن اعتبار الميمة في علم النفس مقابلة للجينة في البيولوجيا .
• بعض أنواع الوقائع (facts) التي تتصرّف مثلما تتصرّف الكائنات العضويّة، أي أنها تعيش وتموت. التقنيّات والمعتقدات الدينيّة هي أمثلة عن هذه الوقائع .
• الميمة هي وحدة "إعلاميّة" تتناسخ عبر الأدمغة وعبر مخازن جامدة للمعلومات كالكتب والحواسيب، لتنتقل إلى أدمغة أخرى ومخازن أخرى.
أما دان سبربر (Dan Sperber)، الذي ينظر إلى الثقافة من منظور علم الأوبئة ومن منظور العلوم الإدراكيّة، فإنه يتحدّث عن:
• تصوّر ذهنيّ ، تنتج عنه نُسَخ عدّة، منها ما يُعرف بالتصوّرات الذهنيّة الخاصة ومنها ما يسمّى التصورات الذهنيّة العامة.
اقترح سبربر في كتابه عدوى الأفكار (La contagion des idées) مشروع منهج سببي (causal) ينتمي إلى المذهب الطبيعيّ (naturalisme) في تفسير الظواهر الثقافيّة والاجتماعيّة. أي إرجاع القوى السببيّة (pouvoirs causaux) إلى كينونات بالإمكان تحديد شكل وجودها الماديّ (mode d’existence matériel). سوف نتناول مدى تقارب اقتراحه مع الفرضية الميميائيّة في الفصل المخصّص لدراسة النظريات التطوّريّة المنافسة للنظريّة الميميائيّة.
III - تعريف الميمة وفقاً للميادين العلميّة المطبّقة فيها كما طرحها ريشارد برودي (Richard Brodie) في كتابه "فيروس الذهن" :
1. تعريف الميمة من وجهة نظر العالِم البيولوجي: "الميمة هي الوحدة الأساسية للنقل الثقافي او للتقليد".
تتألف الثقافة، وفقاً لهذا التعريف، من وحدات تتنافس في ما بينها. فهي بمثابة ذرّات ثقافيّة مماثلة للجينات. وتكون الميمات الرابحة نتيجة هذه المنافسة، أي تلك التي استطاعت أن تغزو أكبر عدد من الأذهان، مسؤولةً عن الأنشطة والإبداعات التي تشكّل الثقافة، لكونها تؤثّر على السلوك. يختزل تعريف الميمة من وجهة نظر العالِم البيولوجي الثقافة بأجزاء محدّدة ، مما يسمح له بالنظر في كيفية تفاعلها مع بعضها البعض وتطوّرها. لكن هذا التعريف لا يوضّح سبب انتشار بعض الميمات، واندثار بعضها الآخر.
2. تعريف الميمة من وجهة نظر علماء النفس التطوّري.
التعريف الذي يعطيه عالِم النفس بلوتكن للميمة هو:
"الميمة هي وحدة الوراثة الثقافية مماثلة للجينة. إنها التصّور الذهني الداخلي للمعرفة" .
يعتمد هذا التعريف أيضاً على مماثلة الميمة بالجينة. فكما تُنتج الجينات تنوّع الأشكال الخارجيّة أو الأنماط الفينيّة، مثل لون العيون ولون الشعر وفئة الدم، كذلك تؤثر الميمات الموجودة في الذهن على السلوك وتجسّده. يُشبِّه عالِم النفس التطوّريّ الذهن بالحاسوب، فالميمات هي الـ"سوفتوير" (software)، والدماغ هو الـ"هاردوير" (hardware). تبعاً لهذا التعريف، لا تعيش الميمات في منتوجات الثقافة، وإنما تعيش في الدماغ. وتتنافس هذه الميمات في الدماغ نفسه وليس خارجه. وفقاً لهذا التعريف، تؤدّي الميمات دوراً محدّداً في السلوك البشريّ مماثلاً للدور الذي تلعبه الجينات في الجسم. فالجينات هي وحدات المعلومات الداخليّة المخفية التي تتجسّد في الكائن، والميمات هي وحدات التصوّرات الذهنية الداخليّة التي تتجسّد في سلوك خارجيّ. لذلك أستعان علماء النفس التطوّري بالنظرية الميميائية لتحديد أسباب الأمراض النفسية ومعالجتها .
3. تعريف الميمة من وجهة نظر العالِم الإدراكي
يقترح تعريف الميمة من وجهة نظر العالمِ الإدراكي استبعاد البشر من الصورة تماماً ومعالجة الميمات بشكل تجريدي. ونذكر على سبيل المثال التعريف الإدراكي للميمة الذي حدّده الفيلسوف دانيل دينيت :
"الميمة هي فكرة، نوع من الفكرة المعقّدة التي تتشكل بذاتها في وحدة متمايزة يمكن تذكّرها. إنها تنتشر بواسطة حوامل أو وسائط تشكّل تجسّدات الميمة الماديّة الفيزيائيّة"....لا تَنقُل الشاحنة ذات العجلات الحبوب أو الحمولة من مكان إلى مكان آخر فحسب، بل أنها تنقل أيضاً فكرة العجلات المبهرة من ذهن إلى ذهن آخر".
يتناول هذا التعريف العالَم انطلاقاً من وجهة نظر الميمات. شدّد دينيت على عبارة "تتشكّل بذاتها". لا شكّ في أن الأفكار تفتقر إلى الذات، وهذا التعريف ليس سوى نموذج علمي. يحثّنا دينيت، من خلال استخدام عبارة "بذاتها"، على النظر إلى الميمات من منظور مصلحتها في الإنتشار. فهو يحثنا على التأمل في ميمة ما وما تتعرّض له: إنها تنتشر وتتعدّل، تولد وتموت. فكما في التعريف من منظور علم النفس التطوّري، يعتبر العالِم الإدراكيّ أن الميمات تنتمي إلى "سوفتوير" الذهن، وتولّد نتائج ملموسة في العالَم الفيزيائي، تحمل بذور انتشارها. فتعريف الميمة من وجهة نظر العالِم الإدراكي يسمح له بملاحقة ميمة معينة والنظر في التأثيرات التي تنتجها في سلوك البشر.
4. تعريف عملي للميمة:
إقترح برودي تعريفاً للميمة يلخّص التعريفات السابقة. فهو يتضمّن التعريف البيولوجي في مماثلة الميمة بالجينة، ولا يتجاهل كون الميمات تصوّرات ذهنية داخلية، كما هو الحال في تعريف علماء النفس التطّوري، ولا يستبعد أن تكون الميمات أفكاراً مشابهة للسوفتوير أي أنها برمجة داخلية خاصة بالذهن الإنسانيّ تؤثر على العالم الخارجيّ، كما هو الحال في التعريف الإدراكيّ. ينتج عن كلّ ذلك تعريف كان داوكينز قد تبناه في كتابه "النمط الفينيّ الموسّع":
"الميمة هي وحدة معلومات مخزنة في ذهن ما يؤثر وجودها في هذا الذهن على الأحداث وتصنع بالتالي عدداً أكبر من النسخ عن ذاتها في أذهان أخرى" .
لكن هذا التعريف الذي يعتبره برودي تعريفاً عملياً للميمة، لم يتبناه كلّ منظري الميمياء، وما زالوا حتى اليوم يبحثون عن تعريف أدقّ، كلٌّ من وجهة نظر الميدان العلمي الذي ينتمي إليه، مما يضفي صفة الغموض على هذا المفهوم. فبالرغم من اعتماد لفظة "ميمة" في العلوم الاجتماعية التطوّرية وفي فلسفة الذهن، يشكّل الالتباس الذي يعتري مفهوم هذه اللفظة خطراً على بقاء نظرية الميمياء على الحياة.
لم يتّفق المفكرون والعلماء الميميائيون حتى اليوم على ماهية الميمة رغم اتفاقهم الأوّلي على أنها الوحدة التي تفسّر الظواهر الثقافية . بالرغم من أن هذا المفهوم يناهز الثلاثين سنة من العمر، فهو لا يزال يفتقد إلى تعريف واضح. لا بدّ من وجود مشكلة ما، مع مفهوم الميمة الحالي، الذي يجعل نظريّة الميمياء تتخبّط في مستنقع، وتتعرّض للنقد المستمرّ على لٍسان العلماء في العلوم الإجتماعية. فالميمات إن وُجدت، لا بدّ أن يكون لها أثر في العالم المحيط. ومتى تمّ توضيح مفهوم الميمة، أصبح بالإمكان رؤية أثرها بشكل أفضل.
يتبيّن لنا مما سبق أن اتجاهين يرتسمان في تعريف الميمة: يرتكز أولهما إلى السلوك، فتعتبر الميمة موجودة في العالم الخارجيّ، وثانيهما يرتكز إلى الذهن فتُعتبر الميمة تشكيلاً عصبونياً وتصوّراً ذهنياَ. فالإتجاه الأول ينطلق من المادة إلى الذهن، والاتجاه الثاني ينطلق من الذهن إلى المادة. تتوزّع تعريفات الميمة في كل من هذين الإتجاهين على مستويين: مستوى الفرد حامل الميمة ومستوى الجماعة التي تتشارك في ميمة معينة. يمكن تلخيص هذه التعريفات بالجدول التالي:
مستوى الأفراد مستوى الجماعة
الميمة بمثابة فكرة مجردة الميمة بمثابة: تعليمة، خيار، قاعدة سلوك، خوارزمية الميمة بمثابة: رمز، عقيدة، أيديولوجيا، قيمة، رابط جماعي
الميمة بمثابة شيء محسوس الميمة بمثابة: ترسيمة تشابك عصبوني، كهربائي كيميائي الميمة بمثابة لغة، تنظيم، خاصية ثقافية، اتفاق، سيرورة، ترسيمة وظيفية
المراجع العربية:
منى عبود، الميمياء نظرية تطورية في تفسير الثقافة، بيروت، دار بيسان 2008
عادل فاخوري، أفكر إذن أنا كمبيوتر، بيروت: الشركة العربية للتوزيع والنشر، 2010