رواية «الحمار الذهبي»: مرآة الضمير الأمازيغي
سعيد بلغربي / القدس العربي
المسوخ وقيم العقل الأمازيغي
تنبيه : افضل ترجمة لها هي هذه وهي لعمار جلاصي عن اللاتينية مباشرة .
عندما كتب أفولاي المادوري (125 ـ 180م) رائعته «الحمار الذهبي» أو «المسوخ» كأول وثيقة أدبية مكتوبة عرفتها البشرية؛ لم يكن الرجل يدري أنه قدم للإنسانية باقة فكرية رائعة، وشكل بتقمصاته ثورة جديدة في بناء قيم العقل الأمازيغي.
لا يمكن أن نستوعب اليوم ونحن نقرأ «الحمار الذهبي» ونتخيل أننا ننظر بعين الإمعان إلى وجوه الجماهير من المتلقين في زمن الرواية خلال سنوات القرن الثاني الميلادي؛ وقد لا نجد على محياهم أي تصرف أو أي رد فعل غريب يوحي بمدى عجائبية القصة ذاتها، التي أعتبرت بمثابة جزء من منظومة أدبية تضم قصصا ومسرحيات وأشعارا كانت حينها نوادر عادية تشبه ما نشاهده اليوم من أفلام وما نقرأه من روايات وقصص الأدب الواقعي.
إذ أنه ومن المفروض «في تلك المجتمعات، أن تعبر الأسطورة عن الحقيقة المطلقة، لأنها تروي تاريخا مقدسا، وتكشف عن وحي يتجاوز حدود البشر، حصل في الزمان الكبير، في زمان البدايات المقدس»(الياد: 22).. حيث يبدو أبوليوس في الرواية منخرطا في طقوس دينية، من خلال حديثه عن إشكالياتٍ قديمة ترجع حينها إلى عدة عقود، فإشاراته المتكررة إلى طقوس تمجد عبادة الإلهة «إيزيس»، خير دليل على التربة الفكرية والأسطورية التي ترعرع فيها الكاتب.
المسوخ والتحولات والسحر ومحاورة الكائنات الغريبة، وتقبل كل ما تقوله الآلهة المتقمصة للأشكال البشرية والحيوانية من أخبار وأوامر.. كلها كانت أمورا في بدايتها مقبولة بشكل طبيعي وبديهي، كم من حمار حقيقي كان يرى فيه هؤلاء الأشخاص وبكل صدق أنه لسيوس جاءهم متنكرا ليتجسس على حياتهم الخاصة، وكم من حمار كان ضحية لنهاية بائسة نتيجة لهذا التفكير البدائي الساذج؛ الذي ما انفك المجتمع يتحرر منه عبر عقود من الزمن، حتى أمست بعض رواسبه موجودة ومحفوظة إلى اليوم، في سلوكيات المجتمع الأمازيغي، في شكل ظواهر وأنماط مختلفة أغلبها مرتبط بسنن الطقوس ومناسك العبادات الروحية.
إن ظاهرة التقمصات في رواية «الحمار الذهبي» توحي بوجود خلل ما في طبيعة الشخصية المحورية لأبوليوس التي جعلت منه ذاتا تائهة انتقلت في لحظة غباء من طبيعتها الإنسانية إلى أخرى حيوانية، ليدرك عبر خطأ فني في طريقة استخدام دهن عوض آخر مفهوم الحياة والمجتمع من منظور وزاوية خاصة.
فأصبحت تيمة المسخ والخوارق العجيبة والسحر، المحاور الأساسية والرئيسة للرواية، ونلمس بكل وضوح تأثيراتها عبر الزمن، في جل الإنتاجات الأدبية والحكائية على امتداد جغرافية شمال أفريقيا، بحيث أن الموروث الأدبي الشعبي المتداول اليوم في هذه الربوع يستمد طاقته الحكائية بالدرجة الأولى من هذه الرواية الأسطورية (كأنموذج: بقرة اليتامى أو تافوناست إيوجيلن، ساندريلا أو مارغيغظا، عيشة قنديشة)… كنصوص أدبية غارقة في دوامة من الألغاز والأمور الغرائبية، إذ ساهمت بشكل كبير في التأثير على طريقة وطبيعة التفكير لدى شعوب الحوض المتوسطي.
«المسوخ» مرآة الضمير الأمازيغي
تسابقت الأقلام منذ القديم في تناول رواية أبوليوس بالتأمل والدراسة، في إطارات ومدارس تاريخية وقراءات نقدية وأدبية متنوعة، إلاّ أن الرواية وحسب المهتمين ظلت من بين أهم وأغرب وأعقد القصص الإنسانية إطلاقا، وأكثرها انتشارا واقتباسا وترجمة، وذلك على الرغم مما شابها من خلل ونقص وزيادة في الحكي والنقل والنسخ، يقول بصددها ش. أ جوليـان: «ولا تزال المناقشات متواصلة لمعرفة ما إذا كان أبوليوس ألف كتابه باليونانية أو لا؟
وهل كان لحمار لوسيـان والمسوخ مصدر مشترك.. أم هل أن المرجع الأصلي هو قصة لوسيـان المطولة يكون «الحمار» ملخصا لها. ومهما يكن فان رواية أبوليوس المتنوعة الطبيعية المحشوة بدقائق العادات التي تتابع فيها أحاديث الفسق والتقوى هي من الكتب اللاتينية القليلة التي لا تزال تقرأ من دون ملل».
إن أسلوب السرد عند أبوليوس يتميز بخصائص معينة، نستطيع من خلالها أن نقف عند جزء مهم من أسرار ترصد طرق التفكير عند الكاتب في علاقته بالمجتمع الذي عاش فيه، بحيث استثمر فيها بشكل واسع وواضح أحاسيسه وانفعالاته وتأويلاته، لواقع يبدو أنه يرتكز أساسا على «قيم الشر»، ضمن منظومة تتعلق بالداء الاجتماعي وما يوازيه من سلوكيات تتمثل في الغدر والعنف والعهر والسحر، وصراع يكون فيه الإنسان في مواجهة الاستغلال الاجتماعي الفاحش والمصير المجهول.
وفي شريط حكائي متنوع حشا وشحن كتابه بمرويات هامشية وفرعية، بأسلوب المذكرات والمخاطرات وأدب الطريق في إطار السخرية الباسمة واستثمار رائع لقدرته البلاغية ﻓﻲ ﺒﻨﺎﺀ الأﺤﺩاﺙ ﺍﻟﻐﺭﺍﺌﺒية بأسلوب التشويق والإثارة، التي تضعنا أمام شخوص متحولة تروي رحلتها مع المجتمع، وتغوص في العوالم الإنسانية بجوانبها الأكثر غموضاً، وكما هو الشأن في الرواية التقليدية، فإن كتاب «المسوخ» هو كتاب «تعليمي» يحدد لنفسه هدف «الكشف عن العالم» وأسراره. ويمزج فيه أبوليوس بين الأحداث الوهمية والحقيقة المستمدة من الواقع اليومي ومن تصوير أخلاق عصره» (السبعي: 95).
إن كانت الرواية تعج بأسماء ومصطلحات ومسميات معقدة وأحداث ومواضيع غير واضحة وعادات غريبة لا يستطيع الباحثون اليوم فهم كنهها؛ فإن هذا يعود أصلا إلى وجود فجوة عميقة في الذاكرة التاريخية لشمال أفريقيا، التي مازلت مجهولة المعالم، اكتشاف حقيقتها سيساهم بشكل أو بآخر في حل العديد من الشفرات التاريخية الغامضة التي يتميز بها بالخصوص الأدب المتوسطي القديم، من أجل وضع حد للتخمينات والتأويلات المغرضة التي لا تفيد في شيء.
أبوليوس خادم روما المخلص
لا نستطيع أن نبرئ أبوليوس من تهم العمالة لروما وأسيادها، روما التي خدمها فكريا إلى جانب ثلة من المفكرين الأمازيغ؛ الذين بواسطتهم نمني أنفسنا اليوم في أننا أهدينا للثقافة اللاتينية شخصيات أدبية من ذهب. هذا الارتماء في أحضان روما الدافئة هو الذي يفسر الأحداث الواردة في رواية أبوليوس التي كان يوجهها بشكل يخدم أفكار روما ورغباتها. أفكار وأحداث خاضعة للفكر السائد حينها، وقد تكون صيغها المتتالية خاضعة هي نفسها لظرفية الزمان والمكان ولرغبة الأفراد وإمكانياتهم وأهوائهم ومطامعهم.
كل المؤشرات التاريخية تدفعنا إلى التأكيد على أن الواقع العام في شمال أفريقيا الرومانية في زمن أبوليوس تأسست منظومته السياسية والثقافية على الرأي المنفرد، فأينما وجد فكر أسطوري فإنه كان ثمة ديكتاتور يسكت العقول المنتجة.
الذات المبدعة فطريا تختار لطرق إبداعها ألوانا جديدة للتعبير داخل الحصار، من هنا ولدت أسطورة «الحمار الذهبي»؛ داخل هذا النسق الذي لا يتحمل الآراء المعارضة، فأفولاي لم يكن يستطيع التعبير بكل حرية لو لم يتقمص شخصية الحمار ويلبس غباءه ويتكلم بلسانه ويلبي غرائزه.
على الرغم من بعض الغموض الناجم عن طبيعتها الغرائبية فإنه لا يمكن أن ننفي عنها قيمتها التاريخية العظيمة، فهي تختزن في طياتها صوت الضمير الأمازيغي، كما أنها تمكنت وبشكل كبير من تسجيل ورصد طرق التفكير حينها؛ ونقلت إلينا تلك الحضارة بجل تفاصيلها الدقيقة المرتكزة على توثيق تاريخ الأحاسيس والرغبات، التي لا يمكن تأريخها إلا في إطار نص أدبي في حجم وقامة رواية «الحمار الذهبي».
كاتب أمازيغي ـ المغرب
سعيد بلغربي