‏إظهار الرسائل ذات التسميات فجر العلم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فجر العلم. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 25 يوليو 2014

فجر العلم (مقاطع) - تاريخ العلم جورج سارتون

فجر العلم (مقاطع)

البومرانج- أستراليا
Boomerang


مقاطع من الفصل الأول (فجر العلم)
من كتاب: تاريخ العلم
جورج سارتون
ترجمة: محمد خلف الله، وآخرين.
الطبعة العربية الأولى: 1957
القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013





لي Li
الصين

ولكي نوضح المهارة الخارقة بين الأقوام البدائيين سنكتفي بعرض الأمثلة الثلاثة التالية، وهي مأخوذة من ثلاثة أجزاء من الكرة الأرضية، بعيد بعضها عن بعض: المثال الأول: "البومرانج" الاسترالية المعروفة جدًا إلى درجة لا تتسع لمناقشتها، وهي سلاح للرمي محدب تحديبًا ماهرًا، فإذا رمي انطلق في منحنيات عجيبة حتى يرتد إلى راميه إذا شاء. والمثال الثاني "التبتي" الذي يستخدمه أهل أمريكا الجنبوبية، وهو آلة أسطوانية مضفورة مرنة تصنع من لحاء نخل "الجاسيتارا" وتستخدم في استخراج العصارة من أشجار "الكاسافا"، وطريقة استخدامها أن تضغط هذه الآلة الاسطوانية بواسطة حجر أو غيره، فيشتد الضغط على الكاسافا حتى تتدفق عصارتها، وهذا الاختراع عجيب في بساطته وكفاية نفعه، ولكن الأعجب من هذا أن الهنود الأمريكيين استطاعوا أن يكتشفوا القيمة الغذائية "للكاسافا"، فالعصارة تحتوي مادة سامة قاتلة (حامض الأيدروسيانيك)، ومن الواجب التخلص منها بالطبخ، وإلا كانت سمًا قاتلا بدل أن تكون غذاء. فكيف كشف الهنود الكنز الذي لا تمكن الإفادة منه إلا بعد إزالة السم المفسد له؟ والمثال الثالث هو وعاء اسمه "لي" فهو وعاء للطبخ ذو ثلاث قوائم كان يستعمل في الصين في أزمنة ما قبل التاريخ، وشكلت أرجله على هيئة ضروع البقر، بحيث يمكن طبخ أنواع من الطعام في كل مرجل على نار واحدة تحترق في الوسط.  


التبتي وفقًا للكتاب، أو الماتابي matapi وفقًا للانترنت.. يستخدم في استخراج العصارة السامة من الكاسافا
*** *** *** 

والرغبة في الاستطلاع من أعمق الخصائص البشرية، بل ربما هي أقدم من الجنس البشري نفسه، وهي على أية حال الباعث الأول إلى المعرفة العلمية منذ القديم كما هي حتى العصر الحاضر. و إذا قيل إن الحاجة أم الاختراع والتقدم الصناعي، فإن الرغبة في الاستطلاع أم العلم. وربما لم تختلف بواعث رجال العلم البدائيين (مع الفارق بينهم وبين الفنيين والدينيين البدائيين) اختلافًا كبيرًا عن بواعث علمائنا المعاصرين، [...] من الإنكار الذاتي الدائم، والاستطلاع الجريء، والمخاطرة، وهكذا إلى الطموح الشخصي، والزهو الزائف، والنفخة الكاذبة، والحسد.

ولولا ما كان لبعض الإنكار الذاتي والجرأة، وما كان يسميه أعداؤه المتأخرون طيشًا وعدم تقوى، لولا ما لذلك كله من فضل الإلهام والتوجيه منذ البداية لكان تقدم العلم أبطأ كثيرًا عما كان، [...]

وربما كان العالم من أجل العلم في الماضي كالحاضر، كما هو الشأن في الفنان من أجل الفن – رجلا غريبًا منطويًا على نفسه، بل الراجح أن جيرانه من العمليين ضحكوا من شرود عقله. ولم يكن هو بالطبع أكثر شرودًا عقليًا منهم، لكن عقولهم هم تركزت نحو مصالح مختلفة عن أهدافه، فهو – مستغرقًا في تأملاته وبواعثه- أقل ظهورًا للعيان، وحياته غموض وألغاز. وربما تطلع هذا العالم بعض الأحيان إلى شيء من الثناء والتقدير، وربما كشف لنفسه أن مثل هذا الثناء لا غناء فيه، وأن الخير له ألا يطمع فيه. وإذا كان هذا العالم البدائي ذا أنانية وغيره، فربما أملت عليه بدائيته أن يحتفظ لنفسه وأسرته بما يتأتى له من فكرة جديدة في صنع شص أحسن، أو فأس أكثر نفعًا، أومواد أصلح لصنع هذا أو ذاك. وفي معظم الحالات يكون هذا العالم أو المخترع ميالا إلى الصمت، ولذا كان نمو العلم دائمًا مشوبًا بعوامل سيكولوجية واجتماعية. 

ولذا لم يكن تطور الاختراع البدائي مكتوبًا سريًا فحسب، بل بالضرورة مخالفًا للعادات والتقاليد المألوفة جانحًا إلى هدمها. ذلك أن كل اختراع، مهما وضح من نفعه فيما بعد، (ولا يمكن أن يتضح نفعه قبل استعماله) يؤدي إلى اضطراب، وبقدر ما فيه من قيمة باطنة بقدر ما ينجم عنه من اضراب. وفي عصور ما قبل التاريخ – كما في عصرنا الحاضر- كانت مصالح مقررة ثابتة ذات سلطان، وإن لم تتصف بالأوصاف الحاضرة كلها، ولعلها كان أقل جلبة منها. بعبارة أخرى كان في الماضي كالحاضر جمود قوى عائق عن التقدم، بسبب العادة والرضا بالكائن الموجود، مع الحذر والازدراء من كل جديد أو غريب. غير أن هذا الجمود لم يكن عقبة بل ضرورة- مثله مثل "طارة" الاتزان في الآلات المتحركة أو أداة وقف الحركة (الفرملة)- مهمتها الترصين والتبرير في غزو الإنسان للمجهول. والواقع أن مقاومة الإنسان للآلات الجديدة والأفكار المستحدثة أدى إلى مصلحة ومنفعة، لأن الأشياء الجديدة يجب أن تخبر خبرًا تامًا قبل اتخاذها للاستعمال. وكل أداة اتخذها الإنسان للاستعمال كانت ثمرة لخطوات طويلة من المحاولة والخطأ، ونتيجة لجدل طويل بين المخترعين، أي بين المجددين والمصلحين من ناحية، والمحافظين من ناحية أخرى، وطبيعي أن تكون الطائفة الثانية أكثر عددًا، على حين تكون الطائفة الأولى أكثر حماسة وأقوى دفعًا.



مقتبس من مدونة برد.كل الحقوق محفوظة 2014.