الزمن والرواية .. عند ساراماجو وميسو وفوكنر
محمود حسني
يعد القالب الزمني الذي تدور فيه أحداث العمل الروائي من أهم عناصر البناء الأدبي. فيمكن تخيل السير الزمني للأحداث على هيئة خط مستقيم، أو دائري أو أشكال أخرى. ولكن ليس في مقدورك التخلي عن الزمن في السرد لأن ساعتها لن نستطيع أن نطلق على العمل الأدبي مصطلح "رواية".
فالزمن جزء من الطبيعة الأبدية للرواية، فطالما وُجِد أشخاص بينهم علاقات وأحداث تدور بينهم ومواقف تحتويهم فإن هذا يعني أن هناك زمناً ما تتحرك على قضبانه مسارات الأحداث. إن كيفية استخدام الزمن بأفضل شكل ممكن لخدمة العمل الروائي يظل حتى الآن إشكالية تواجه السواد الأعظم من الأدباء. ودائما ما كان الابتكار في استخدام الزمن له أثر كبير في بنية الرواية. فالأهم دائما بالنسبة للكاتب عندما يفكر في استخدام قالب زمني بعينه هو كيف يمكن أن يخدم هذا الأسلوب طبيعة الرواية التي يكتبها.
فنجد أن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو في رواية له بعنوان "العمى" يتّبِع خطا زمنيا شبه مستقيم، شبه يومي تقريبا، تنتقل فيه الأحداث من اليوم إلى الغد ومن الغد إلى بعد الغد وهكذا دون أن يعود إلى ذكريات في الماضي إلا نادرا، وإن عاد فتكون على هيئة لفتة سريعة وليس حدثا يحكيه باستفاضة قد يُوقِف من أجله مسارات الأحداث الآنية، فلا أهمية لما كان قبل أن تبدأ حيوات الشخصيات ببداية الرواية، حيث ما يجب أن يظل عالقا في ذهن القارئ بعد انتهاء الرواية هو ما تركته الاحداث اليومية وأثرها في شخوص العمل الروائي.
قد يكون هذا الأسلوب الأكثر كلاسيكية بين الأساليب الزمنية في الرواية. ولكن عملاً مثل العمى كان بحاجة لهذا القالب الزمني التقليدي كي يتمكن من احتواء موضوع شديد التعقيد، متعدد المستويات النفسية بالإضافة لأسلوب سرد ومحادثات تنتقل بين الشخصيات والمواقف بشكل قد يمثل إرباكا للقارئ مع الشعور بغموض بعض التفاصيل وضبابيتها. كان ساراماجو بحاجة لقالب زمني كلاسيكي كي تتمكن عناصر عمله المجنونة والمثيرة من الإنصهار والتشكل على هيئة بناء روائي ملئ بالإبداع والعبقرية.
أما الروائي الفرنسي غيوم ميسو نجده في رواية له بعنوان "وبعد" قد استخدم الزمن على هيئة حلقات دائرية متشابكة تتقاطع فيها ذكريات الشخصيات مع حاضرهم. فنجده يحكي موقف يحدث لإحدى شخوص العمل ثم يتوقف عن الحكي ويترك الشخصية تجتر جزء من ذكرياتها وماضيها الذي يقف أمام عينيها وهي في قلب الحدث. هذه الطريقة في الحكي تسهم بشكل كبير في جعل القارئ يفهم ماضي الشخصية.
ومن ثم يمكنه تفهم دوافع تصرفها وقراراتها على نحو معين في حاضرها، كما أن هذه الطريقة تسهم في تجنب الكثير من الإسهاب والإطالة في الحديث عن تفاصيل الماضي غير الهامة، حيث استخدام الزمن على هيئة هذه الحلقات تجعل الذكريات ذات فائدة واضحة وغرض مفهوم وليست مجرد استرسال لا داعي له. كما أن هذا القالب الزمني يناسب رواية مثل "وبعد" حيث تتشابك علاقات الشخصيات وتتعقد تفاعلاتها مع بعضها البعض ويكون للماضي أثر كبير على أحداث الحاضر ومسارات أحداثه.
ظلت الأساليب التي ذكرتها لاستخدام الزمن في الرواية سائدة لوقت طويل حتى أتى الروائي الأمريكي ويليام فوكنر في روايته "الصخب والعنف" ليرفض ما اعتاده الآخرون، ويضفي طابعه الخاص على البناء الزمني للرواية. قد يجد القارئ أن هناك شيئاً من الرتابة أو الاعتيادية في مواضيع روايات فوكنر خاصة في الصخب والعنف، فالحكاية في حد ذاتها ليست مختلفة أو فيها ما هو جديد كما في العمى مثلا. كما أنه من السهل أن تلاحظ محدودية البيئة المكانية. ولكن يبقى الزمن العنصر الأكثر إثارة في روايته، حيث فيه يكمن الأختلاف والإبداع الخاص بفوكنر.
يكتب ويليام فوكنر الصخب والعنف بدون بناء زمني متتابع سواء على هيئة حلقات أو خطوط مستقيمة. بل الزمن في روايته ومضات كضوء النجوم المتناثرة في السماء الشاسعة. تبدو ومضات فوكنر الزمنية للوهلة الأولى متشتتة ومتقاطعة بشكل عشوائي لا علاقة لها ببعضها البعض، حيث يستمر في هذه الطريقة المرهقة للقارئ والانتحارية بالنسبة للكاتب من بداية العمل حتى نهايته. فليس هناك تتابع سردي بالمعنى المعتاد، والحكي يتمركز حول تقاطعات زمنية لمواقف مختلفة تحدث في بيئات زمنية/ مكانية متعددة.
ينتقل فوكنر بين حكاياته دون أن يوضح أو يقول أي شئ للقارئ، حيث يكتفي بانتهاء جملة في حدث ما حتى ينتقل لجملة أخرى في حدث آخر دون الإنتظار لانتهاء الحدث المنتقل منه. وقد تكون هذه الطريقة في السرد صعبة على القارئ ومربكة خاصة إن كانت الحكاية كما قلنا تقليدية ليس فيها ما هو جديد، ولكنها من الناحية الإبداعية تعد طفرة، حيث أعطى فوكنر الروائيين من بعده بدائل مختلفة لكي يستخدموا قوالب زمنية متعددة في أعمالهم الروائية.
مقتبس عن المدونة الرسمية لمحمود حسني كل الحقوق محفوظة 2014.