أثارت رواية عزازيل ــــــ الحائزة على جائزة البوكر للرواية العربية عام 2009ــــــــ ضجةَ كبيرة ًفي الوطن العربي ،سواء كان ذلك من خلال الندوات والنقاشات التي دارت حولها أو عبر الصحف المتنوعة ومواقع الانترنت التي عجت بالمقالات التي تتناولها أو الفضائيات العديدة التي بثت لقاءات خاصة مع يوسف زيدان مؤلف الرواية ، ولم تحظَ رواية عربية في السنوات الأخيرة من الشهرة والشيوع كما حظيت به عزازيل .
وإذا تطرقنا للدراسات السابقة التي تناولتْ هذا العمل الروائي فإننا سنجد كماً هائلاً من المقالات التي تحدثت عن هذه الرواية ؛ إذ كُتب عنها أكثر من ثلاثمائة مقال في الصحف العربية ومواقع الانترنت لكن جل هذه المقالات لم تكن دراسات نقدية حقيقية كاملة سلطت الأضواء على مظاهر الإبداع والجمال اللذين تمتعت بهما عزازيل ، بل كانت مقالات بسيطة يظهر خلالها انفعال الكاتب إما إعجاباً بها أو تهجماً عليها ، فمن أُعجب بها تحدث في مقالاته عن انجذابه لقراءة الرواية مثلما فعل د. يحيى الجمل في مقال نشره بعنوان : ( الشيطان.. عزازيل ) إذ عبر عن إعجابه الشديد بهذا العمل بعبارات مثل : " من أراد أن يقرأ رواية من القص الممتع مثل ما عرفناه عادة فليول نظره وجهة أخرى" أو عبارته التي طُبعت على الصفحة الخلفية للرواية " ما أظن أنني تمتعت بعمل من هذا القبيل .. ما أروع هذا العمل ! " (وهناك مقالات أخرى تحدثت عن بطلها هيبا وعلاقته باوكتافيا وهيباتيا ومرتا.
أما من وقف في مقالاته موقفاً مدافعاً عن الرواية أمام خصومها كالموقف الذي اتخذه د. جابر عصفور في مقاله : ( ثقافة مريضة ) الذي تحدث من خلاله عن الضجة الكبيرة التي حدثت بين زيدان ورجال الكنيسة ورأى أن " «عزازيل» رواية في آخر الأمر، لحمتها التخييل وسداها المجاز، تستمد قيمتها من مبناها الفني، وليس من رسالة لاهوتية أو عقائدية تريد توصيلها على نحو مباشر، أو تعمل على إشاعتها حتى على نحو غير مباشر، فإن الجدل الاعتقادي الصاخب حول الرواية نسي طبيعتها التخيلية ومضى في محاكمتها كما لو كانت كتاباً في التاريخ أو العقائد. "( وهناك مقالات تناولت البناء الفني فيها بإيجاز مثل مقالات د. صلاح فضل التي جاءت تحت عنوان: ( يوسف زيدان ووسوسة عزازيل 1 ـ 2 )( وهناك العشرات من المقالات التي عبرت عن استقبال عزازيل في الصحافة والندوات الثقافية .
و من تهجم عليها فقد رماها بالإلحاد والإباحية وتدمير المسيحية حسب قول الأنبا بيشوى ـ مطران وسكرتير المجمع المقدس ـ الذي رأى أن زيدان حاول أن يأخذ فيها منحى المؤلف دان براون في روايته " شيفرة دافنشي"(5) وقد ألف أيضا كتاباً أطلق عليه (الرد على البهتان في رواية يوسف زيدان ) ، وهناك كتاب أخر اتهم الرواية وشن هجوماً عليها وهو (شفرة زيدان فك رموز رواية عزازيل ) لصاحبه عادل جرجس سعد وكتاب بعنوان ( تيس عزازيل في مكة ) هاجم فيه مؤلفه الذي أطلق على نفسه (الأب يوتا ) يوسف زيدان وروايته والإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم . وألف القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير ـ كاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد ـ كتاباً حمل اسم : ( رواية عزازيل جهل بالتاريخ أم تزوير للتاريخ ؟ ) وهناك دراسة أخرى أعدها عماد تومس بعنوان : (عزازيل زيدان بين التزييف والحقيقة ) .
وإذا أجملنا النظر حول جميع الدراسات والمقالات السابقة نرى أنها اتخذت منحيين ؛ الأول يتميز بالإيجاز يدرس الرواية من خارجها ويرصد الموجة التي أثيرت حولها أو يتحدث عن شغفه بتلك الرواية ، أما الثاني فيتسم بالتهجم والرد على ما جاء في رواية زيدان من أمور تتعلق بالديانة المسيحية ،وكان على رأس هذا المنحى رجال الكنيسة القبطية . ولعل هذا ما دفع زيدان إلى المطالبة بأن يكون تدخل رجال الدين في أمور الدين فقط وإلا صار من حق الناقد الأدبي أن يتدخل في المسائل الدينية ، وأضاف بأن روايته " عزازيل " لا ينبغي النظر إليها من زاوية غير زاوية الإبداع الفني " .
وقام د. يوسف زيدان بإنشاء موقع الكتروني خاص برواية عزازيل على الشبكة العنكبوتية الدولية( الانترنت ) اشتمل على فصول مختارة من رواية عزازيل وقسم خاص بالكتب والدراسات والمقالات التي تشيد بالرواية وتلك التي تذمها ، وزاوية أخرى للحوارات الصحفية التي عُقدت حول الرواية . ونظراً للمقالات الكثيرة التي لا يتسع ذكرها في هذا المقام ، سأقوم بذكر موجز لبعض عناوين المقالات والدراسات الهامة التي تناولت الرواية كما أوردها د. زيدان في موقع رواية عزازيل ،(1) وهي على النحو الآتي :
1ـ ثقافة مريضة د. جابر عصفور
2ـ يوسف زيدان ووسوسة عزازيل . د. صلاح فضل
3ـ الشيطان .. عزازيل . د . يحيى الجمل
4ـ ظاهرة عزازيل د. إبراهيم السعافين
7ـ عزازيل زيدان بين التزييف والحقيقة . عماد تومس
8ـ )في روايته الأخيرة "عزازيل" د.خالد عزب
.يوسف زيدان يقتحم قدس الأقداس )
10ـ عزازيل : التاريخ المجهول للإسكندرية الوثنية . سلوى بكر
11ـ عزازيل يوسف زيدان . ثروت الخرباوي
12ـ رواية عزازيل للدكتور يوسف زيدان . ريمون جورجي
13ـ عزازيل بين النقد الأدبي ومحاكم التفتيش. رمزي زقلمة
14ـ عزازيل..عمل أدبي وليست كتاباً في العقيدة المسيحية . حلمي النمنم
15ـ هيبا هباتيا وعزازيل . نادين البدير
16ـ في احوال عزازيل أقاويل . حسام أبو أصبع
17 ـ هل كان هيبا مثقفاً أم راهباً . علي أحمد الديري
هذا وتحتوي بعض المقالات والدراسات التي تناولت الرواية اللَبس وعدم الدقة في نقل المعلومات ، ففي مقال نشره الكاتب السوري ريمون جورجي في موقع ديوان العرب بتاريخ 19 / 11 / 2008 بعنوان :(رواية عزازيل للدكتور يوسف زيدان) ذكر فيه أن الرواية "فيها 31 فصلاً ( رقاً ) ولكل رق عنوان والرق الأخير هو قانون الإيمان المسيحي" (2) والحقيقة أن الرواية تتكون من 30 فصلاً أو رقاً وليس 31 كما ذكر جورجي في مقاله ، ويظهر ذلك جلياً في مقدمة المترجم التي وضعها زيدان إذ يذكر على لسان المترجم الوهمي ما يدلل على عدد الرقوق الثلاثين ، إذ يقول : " والرواية في جملتها تقع في ثلاثين رقاً ، مكتوبة على الوجهين بقلم سرياني سميك "(3) ويبدو أن جورجي قد اطلع على الرواية في طبعاتها الأولى التي احتوت على هذا الخطأ في عدد الرقوق ( فصول الرواية ) وبعد عودتي لهذه الطبعة الأولى اكتشفتُ ذلك الخطأ الواقع بين الرق السادس والعشرين( وقوع المحظور ) والرق الثامن والعشرين( المرزبة ) إذ لا نجد في الطبعة الأولى ـ التي صدرت عن دار الشروق عام 2008 ـ الرق السابع والعشرين الذي يحمل في الرواية المرتبة ترتيباً صحيحاً الصادرة عام 2009عنوان ( المرزبة ) الذي وضع خطأًعنواناً للرق الثامن والعشرين وهذا أدى إلى زيادة باب آخر هو الباب الواحد والثلاثين.
وهناك قضية أخرى في نفس المقال السابق تُظهر أن الكاتب ريمون جورجي قد انطلت عليه حيلة يوسف زيدان التي تتمثل بمقدمة المترجم الموضوعة قصداً لإيهام القارئ ، إذ يقول جورجي في بداية مقاله : " عزازيل رواية تتحدث عن ترجمة مخطوطات قام بها مترجم وهمي لمجموعة لفائف مكتوبة باللغة السريانية، دفنت ضمن صندوق خشبي محكم الإغلاق كُتبت في القرن الخامس الميلادي وعُثر عليها بحالة جيدة ونادرة في منطقة الخرائب الأثرية حول محيط قلعة القديس سمعان العمودي قرب حلب/سوريا "(1)
وفي موضع آخر أيضاً يقول : " ومما لا ريب فيه بأن تنظيم حلب لهذه الندوتين هو لأسباب ثقافية كثيرة، منها أنها المنطقة التي تم اكتشاف اللفائف والمخطوطات المدفونة بقربها وأن لغة اللفائف المكتشفة كانت سريانية أي لغة سوريا القديمة، تلك اللفائف التي كتبها الراهب المصري هيبا، وتم العثور عليها ومن ثم ترجمتها بعد أن أوصى مترجمها بعدم نشرها إلا بعد وفاته لما فيها من حقائق مذهلة."(2)
وفي مقال آخر بعنوان ( عزازيل ) نُشر في صحيفة الرأي الأردنية بتاريخ 8 / 7 / 2008 جاء فيه أن:
" الرواية تبدأ من إحدى المخطوطات التي يعثر عليها المنقبون الأثريون في مدينة حلب السورية والتي تحمل أوراقها متن الرواية والتي تحكي عن الفتى هيبا المصري المتمسك بالديانة الفرعونية والذي يدخل في الصراع مع المسيحية الرومانية "(3) وهذه العبارات الركيكة والمعلومات المضطربة التي تبين عدم اطلاع صاحبها على الرواية بعمق ودقة ، إذ احتوت على خطأ فادح حول بطل الرواية هيبا الذي لم يكن متمسكاً بالديانة الفرعونية كما نص هذا المقال بل كان راهباً مسيحياً .
وفي تقرير بعنوان : (حفاوة نقدية برواية "عزازيل" في حلب ) الذي نُشر في صحيفة الوفد بتاريخ : 3/ 5/ 2008 وتحدث عن الندوة التي عقدتها جمعية العاديات بمدينة حلب السورية لمناقشة د. يوسف زيدان حول رواية عزازيل .حيث قدم الندوة رئيس الجمعية محمد قجة وناقشها في حضور حشد من المثقفين والأدباء
د. سعد الدين كليب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة حلب ود. شهلا العجيلي أستاذة النقد، والأنبا يوحنا غوريغوريس رئيس مطرانية السريان . وتحت عنوان صغير في التقرير ( ما هو عزازيل ؟ ) تحدث د. سعد الدين كليب عن عزازيل ودلالاته وفلسفة زيدان في الرواية والوثنية والمسيحية وأخيراً عن الأنوثة في الرواية التي رأى فيها أنها وثنية ؛ إذ يقول : " والأنوثة في الرواية وثنية ؛ فكل النساء في الرواية وثنيات : هيباتيا ، أوكتافيا ، مرتا ، فهل يرى يوسف زيدان أن الأنوثة وثنية ؟ وأن الذكورة ترتبط بالعنف بالضرورة ؟ " (4)
والصحيح أن الأنوثة في الرواية لم تقتصر على الوثنية إذ لا يوجد نساء وثنيات إلا أوكتافيا وهيباتيا ، أما مرتا فقد كانت فتاة مسيحية تنشد الترانيم في الكنيسة وكذلك أم بطل الرواية ، هيبا كانت مسيحية تخلت عن زوجها لأنه وثني . وهذا ما قاله د. زيدان في حوار أجراه معه ريمون جورجي ونشره في موقع ديوان العرب بتاريخ : 22/ 11 / 2008 . وذلك حين سأله جورجي :" هل يمكن الاستنتاج من الرواية أن الإيمان لا يطيق الإناث الجميلات، فكل جميلات الرواية كن وثنيات ما عدا أم هيبا المتدينة والتي شاركت في قتل زوجها ؟" ،(5) حيث أجاب. زيدان بقوله : " هذا غير صحيح، فإن المحبوبة الثانية للبطل، مرتا، كانت امرأة مسيحية بديعة. وزوجة عمه الطيبة كانت مسيحية، ولا توجد (وثنيات) في الرواية غير أوكتافيا وهيباتيا .. ومسألة الوثنية هذه، تُطرح في الرواية على نحو مختلف عن معناها المعتاد المبتذل."(6)
وتحت عنوان : (يوسف زيدان: لهذه الأسباب لا أعترف بوجود تابوهات في الأدب! ) نشرت مجلة روز اليوسف بتاريخ : 21 / 4/ 2009 تقريراً كتبته رانيا هلال تحدثت فيه عن ندوة أقامتها دار " نون " للنشر والتوزيع بالتعاون مع المركز الدولي للتنمية الثقافية احتفاءً برواية عزازيل وصاحبها بعد أن حصل على جائزة البوكر .
وقد احتوى هذا التقرير على مغالطات وقعت فيها رانيا هلال حين نقلت ما قاله د. زيدان حول روايته وظهر ذلك فيما أعدته عما تحدث عنه يوسف زيدان " وأوضحَ أن اختياره عزازيل اسماً للرواية ، يمثل الإحساس الداخلي أو العقل الباطن ،الذي كان يظهر في مخيلة بطل الرواية هيباتيا طوال أحداث الرواية "(1)
فهناك عدم دقة في نقل قول د. يوسف زيدان فهيبا هو بطل الرواية وليست هيباتيا الفيلسوفة. و هناك موضع آخر في التقرير هو قول زيدان : " وأتذكر هنا كلمة للسيد المسيح في الإنجيل وهو يقول كونوا كالحمام وهذا يفسر مشهد نزول الحمام في الكنيسة ، وهو الذي أزعج هيباتيا كثيراً "(2) إذ نلحظ أن هناك تكراراً للخطأ يتمثل في حشد اسم هيباتيا.
وفي نظري إن الأمر قد اختلط على الكاتبة رانيا هلال ؛ فخلطت بين هيبا وهيباتيا . والحقيقة الأخرى تتجلى في أن الذي انزعج من الحمام هو فيرسي الأفنوم وليس هيبا أو هيباتيا ـ حسب تقرير رانيا هلال ـ ، وأدللُ على ذلك بما ورد في الرق التاسع عشر صفحة 264ـ 165 حيث يظهر في الكلام الذي جاء على لسان هيبا :
" كنت هانئاً بجلستي عند السور ، وبالحمام المحيط ، ساعة جاء الفيرسى من بعيد يتدحرج في مشيته كالعادة .جلس بجواري ، وراح يلتقط من قطع الحجارة ، ما يرجم به الحمام ليطرده بعيداً عن موضعنا . سألته عما يفعل ، فقال حانقاً إن الحمام يملأ أرجاء الدير زبلاً ، ويزعج النائمين فجراً بصوت ذكوره التي تزوم بلا انقطاع. نظرتُ إليه نظرة المشكك في صدق ما يقول ، فأضاف وكأنه يذيع سراً ، أن الحمام يثير الشهوات ، ويبعث على ارتكاب الخطيئة ، وأن على الناس ألا ينظروا غليه ما داموا أتقياء ! " (3)
وخلاصة القول : من خلال العرض الذي قمت به للدراسات السابقة وجدتُ أن الرواية تعرضت للظلم نقدياً ، فقد قُرأت قراءة دينية أكثر منها أدبية ، ونظر إليها رجال الكنيسة على أنها نص عقائدي أكثر منه نص أدبي إبداعي ينبغي قراءته بمعزل عن الدين والقيود الصارمة التي تحيط بهذا العمل الراقي . إذ لم توفِ أي قراءة نقدية للرواية حقها ولم تتناولها بدراسة مستفيضة ، اللهم اليسير من المقالات الأدبية التي كانت شذرات هنا وهناك . و لا نُغفل الأخطاء الفادحة التي احتوت عليها هذه المقالات ، كعدم الدقة في رصد شخصيات الرواية وبنائها الفني وأفكارها .
العنوان والنص الموازي
عنوان الرواية :
أول ما يقابل القارئ في رواية زيدان هو عنوانها الرئيس " عزازيل " ويقرأ أيضاً على غلاف الرواية اسم المؤلف وكلمة ( رواية ) التي تحدد نوع هذا الكتاب ودار النشر وعبارات أخرى مثل : ( حائز على الجائزة العالمية للرواية العربية) و ( الطبعة الأصلية ) .
ولعل عنوان الرواية هو أهم العناصر المشكلة للنص المحيط ، أو كما أسماه الناقد الفرنسي جيرار جنيت بالعتبات "فهو عتبة مهمة نلج من خلالها إلى عالم النص ، كما أنه نص في حد ذاته ، لأنه رسالة يبثها المرسل (الكاتب) ليستقبلها المرسل إليه (القارئ) ، فالعنوان ينتصب مرسلة لغوية كاملة تتميز باستقلال وظيفي في إنتاجيتها الدلالية بما يمنحها نصيتها الذاتية و فرادتها ، بالنظر إلى أن العنوان ليس مجرد فضلة لغوية للعمل الأدبي ، ومن هنا سيكون تحليل عنوان عمل ما مختلفا منهجيا عن تحليل عمله ، وقد يكون العنوان "كلمة ، ومركبا وصفيا ، و مركبا إضافيا ، كما يكون جملة فعلية أو اسمية و أيضا قد يكون أكثر من جملة .
ونحن نقف على عتبات هذه الرواية(عنوانها) انطلاقا ، وهو مفتاح الدخول إليها نتساءل : ما هو عزازيل ? وما صلته بالرواية ؟ و ماذا قصد زيدان بعزازيل ؟
عند رجوعي لقاموس الكتاب المقدس وجدتُ معانى عديدة لكلمة عزازيل أكثرها يندرج تحت دلالات الشيطان والأرواح الشريرة" أو الجن في الصحاري والبراري أو ملاك ساقط " (1) فعزازيل كما رأى أكثر الباحثين الاسم العبري القديم للشيطان ،إبليس الذي يعد شخصية رئيسية في الرواية ويبدو ذلك جلياً في كلام هيبا عن عزازيل الذي يظهر في مواضع كثيرة في الرواية : " وما أنا يا إلهي إلا ريشة في مهب ريح ، يمسكها أصبع ضعيف ينوي أن يغمسها في الدواة ليخط كل ما وقع معي ، وكل ما جرى ويجري مع أعتى العصاة عزازيل وعبدك الضعيف ، ومرتا ... " (2) أو في عبارات مثل : " خدعه عزازيل اللعين بوسوسته ، فأخطأ آدم وعُوقب بالطرد من الجنة ، بحكم قُدوسية الرب الإله."(3) ولعزازيل هذا صلة متينة بالرواية وأحداثها ؛ فهو الذي دعا هيبا لتدوين الرقوق ، وبسببه يقاتلُ الناس بعضهم باسم الدين ، كصراع الوثنيين والمسيحيين وانقسام الكنائس المسيحية ، وهو من جعل هيبا يتيه في غوايته مع اوكتافيا ومرتا ، فهو شر في شر ، يسري داخل الإنسان سريانَ الدم في الوريد . نلحظ ذلك على لسان هيبا حين يقول : " ما الذي يريده عزازيل مني ، ولماذا يدفعني لكتابة ما كان وما هو كائن ؟ لا بد أن له غرضاً شريراً ، موافقاً لطبيعته لقد احتال عليَّ حتى أغواني بحكاية ما جرى ما أوكتافيا من فحش وخطية ، فتدنست روحي وتكدرت. " (4) .
وأوضح زيدان في لقاءاته وحواراته العديدة ، أن كلمة عزازيل وإن كانت في العبرية تشير إلى الشيطان
" إلا أن الهدف الحقيقي وراء لرواية هو التأكيد على إعادة بناء الأشياء و المفاهيم التي استقرت في أذهان الأشياء بشكل خاطئ "(5) فهو كما يرى زيدان صدى لما في داخل الإنسان وعقله الباطن الذي يدور فيه صراع الأفكار ، صراع يقوم على ثنائيات : الإنسان وذاته / الخير و الشر/ الإيمان و الكفر .
عزازيل هو الباطن والوساوس التي تعتري الإنسان . أو كما يقول عزازيل نفسه في الرواية مخاطباً هيبا : " نعم يا هيبا ، عزازيل الذي يأتيك منك وفيك "(6) أو ما يظهر في صفحة 100 من الرواية " يا هيبا قلت لك مرارا أني لا أجيء ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. أنا آت إليك منك، وبك، وفيك. إني انبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو اقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا أحمل أوزارك وأوهامك".(7) ويضيف هيبا قائلاً : "في أصل عزازيل، آراء وأقاويل. بعضها مذكور في الكتب القديمة، وبعضها منقول عن ديانات الشرق. لا تؤمن كل الديانات بوجوده، ولم يعرفه قدماء المصريين العرفاء 00 ويقال أن مولده في وهم الناس.. عزازيلُ نقيضُ الله المألوه.. هو أذن نقيض الإله الذي عرفناه، وعرفناه بالخير المحض. ولأن لكل شيء نقيضا، أفردنا للشر المحض كيانا مناقضا لما أفردناه أولاً، وسميناه عزازيل وأسماء أخرى كثيرة ".
الإهداء :
تأتي صفحة الإهداء بعد صفحة الغلاف ، ونص هذه الإهداء هو :
" إهداء خاص جداً
إلى آية ..
تلك يا ابنتي ، آيتي ، التي لم تجعل للعالمين ! "
ولا أدري إن كان للدكتور يوسف زيدان ابنة اسمها آية حقاً أم لا والتي أهداها هذه الرواية إهداءً خاصاً جداً فهل كان هذا الإهداء حيلة فنية من تلك الحيل التي بنى الكاتب روايته عليها ؟
يتناص الإهداء تناصاً عكسيا مع الآية القرآنية الكريمة : ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1) أنستطيع القول بأن هناك صلة بين الرواية ـ التي تتحدث عن حياة راهب مسيحي يجول في فكره هواجس حول عقائد الديانة المسيحية لا سيما طبيعة يسوع وتجسده ، وأمه مريم ـ وبين هذه الآية الكريمة ؟ تتحدث الآية عن مريم وابنها عليهما السلام وكونهما معجزة للناس أجمعين ، ولكن "العالمين " اختلفوا في شأنهما كما يظهر في الرواية وتنازعوا حول طبيعتهما . فلم يُجعلا آية للعالمين ؛ بسبب ظلم البشر لبعضهم البعض باسم الدين كما يظهر ذلك في أحداث الرواية ؛ حين شب الصراع بين نسطور أسقف الكنيسة القسطنطينية وكيرلس أسقف الكنيسة المرقسية في الإسكندرية بسب اختلاف اعتقادي لدى كل منهما بطبيعة الأقانيم المقدسة المتمثلة بيسوع وأمه مريم ، وإنكار نسطور بأن المسيح اله وهذا ما أدى لعزله ونفيه .
أم قصد زيدان بآيته تلك "بنات أفكار المبدعين التي لم تجعل آية للعالمين بسبب القهر الفكري للمجتمعات الظلامية "(2) والرقابة على أي إبداع فني ، كما حصل معه تماماً من هجوم رجال الدين عليه بعد نشره هذه الرواية ؟
الحديث الشريف :
يصدر المؤلف روايته بعد صفحة الإهداء بحديث نبوي شريف : " لكل امرئ شيطانه، حتى أنا، غير أن الله أعانني عليه فأسلم "
( حديث شريف ، رواه الإمام البخاري بلفظ قريب )
يتضح للقارىء بسهولة أن هذا التصدير لم يكن عبثاً ، ولم يختر الكاتب هذا الحديث الشريف اعتباطياً ، بل هناك صلة وثيقة بين الحديث وموضوع الرواية ، فعزازيل هو الشيطان الذي يوسوس لهيبا ويزين له المحرمات ، ويدفعه في أتون الحيرة والقلق والاضطراب ، وهيبا هنا هو معادل موضوعي لكل إنسان أيا كان .
لوحة الغلاف والصور
تُعد لوحة الغلاف مخطوطة قبطية أو بردية محفوظة بمتحف فيينا كما بين المؤلف في ملحق الصور
وهي تصور الأسقف القبطي ثيوفليس يقف وتحت رجليه أجزاء من معبد الإله الوثني سيرابيون أو سيرابيس الذي كان أكبر معابد الإسكندرية الوثنية .
حيث يأمر هذا الأسقف ـ كما تُظهر ذلك المخطوطة أو لوحة الغلاف ـ عوام المسحيين بهدم معبد السرابيون الكبير وتخريبه ، وهذا مرتبط بأحداث الرواية ، فنذكر هنا حديث اوكتافيا لهيبا حين سألها عن أستاذة الزمان هيباتيا ، إذ تقول: " إنها تلقي دروسها بالمسرح الذي بقلب المدينة ، أبوها ثيون كان يلقي دروسه في المعبد الكبير السيرابيون الذي كان يقف شامخاً عند الحي المصري ، جنوبي المدينة ، لكن المسيحيين خربوه وهدموه على رؤوس من فيه أيام ثيوفيلوس ".
أما الصور ، فكما يقول المترجم الوهمي ، الذي ابتدعه المؤلف ـ : " ثم ألحقتُ بالرواية بعض الصور المرتبطة بأحداثها " (3) فقد وُضعت هذه الصور في آخر الرواية عكس أكثر الروايات العربية ، حيث ترافق الصور أحداث الرواية وترد في ثناياها وليس في آخرها كما في عزازيل . وقد ألحق المؤلف هذه الصور ليزيد أيهام القارئ ويشوقه ، كما فعل في بدايتها ( مقدمة المترجم ) .
وهذه الصور لأماكن متعددة : مقل بقايا منزل هيبا في بلاده الأولى وما بقي من أرضية منزل التاجر الصقلي وبقايا المسرح الذي استمع فيه هيبا لهيباتيا والخرائب الأثرية الواقعة شمال غرب حلب ( حيث وُجدت الرقوق ) والمطل الغربي للدير ( السماوي ) وأطلال الدير كما تبدو اليوم . وهناك صور لأشخاص كالصورة التي قد تكون للسيد الصقلي ، المرسومة على تابوته ( من مجموعة : وجوه الفيوم ) وصورة لهيباتيا ، العالمة الجميلة القتيلة ( من خيال الرسامين ) وأخرى للأسقف ثيوفليس يدعو فيها لهدم السرابيون ( بردية محفوظة بمتحف
فيينا ) و صور للصخور البيضاوية ، التي اعتقدوا أنها نزلت مع النيل من السماء . وكل هذه الصور مرتبطة بشخوص الرواية وأماكنها أوردها المؤلف ليوهم القارئ بأن هذه الرواية حقيقية وجدت في رقوق .
بناء الرواية
تعد ( عزازيل ) رواية تاريخية فلسفية كما أطلق عليها مؤلفها ، صدرت عام 2008عن دار الشروق في القاهرة في 380 صفحة.وهي الرواية الثانية له بعد روايته ظل الأفعى . وتدور أحدث الرواية في القرن الرابع الميلادي في صعيد مصر والإسكندرية والقدس وحلب ، من خلال رحلة الراهب هيبا الذي يعاصر أحداثاً دموية في تاريخ الكنيسة القبطية ، ويتعرض بطل الرواية ( هيبا ) لأكثر من اختبار صعب أمام نساء فاتنات كأوكتافيا ومرتا، وثم أمام الشيطان ( عزازيل ) الذي تُسمى الرواية باسمه ، وهيبا في الرواية هو الإنسان الحائر المفكر الذي يبحث عن الحقيقة أينما كانت. وتظهر في الرواية صراعات متعددة : الإنسان والشيطان، المسيحية والوثنية ، الكنيسة الأنطاكية و الكنيسة المرقسية ، والذكورة والأنوثة .
وقد بنى زيدان روايته بناءً متقناً ومشوقاً ، إذ حاول أن يوحي للقارئ منذ الوهلة الأولى بأنها قصة حقيقية وجدت مكتوبة في لفائف جلدية أثرية مكتوبة باللغة السريانية ، فيبدأ بمقدمة تُوهم القارئ بأن ما يقرؤه هو مخطوطات حقيقية، فيقول المترجم الوهمي : "يضم هذا الكتاب الذي أوصيت بنشره بعد وفاتي ترجمة أمينة قدر المستطاع لمجموعة من اللفائف (الرقوق ) التي اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية...وقد وصلتنا هذه الرقوق بما عليها من كتابات سريانية قديمة في حالة جيدة مع أنها كتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي- وهناك حواش وتعليقات مكتوبة على أطراف الرقوق باللغة العربية، تمت كتابتها في حدود القرن الخامس الهجري تقريبا، كتبها فيما يبدو لي راهب عربي من أتباع كنيسة الرها التي اتخذت النسطورية مذهبا لها، وقد أوردت بعض هذه الحواشي في ترجمتي ولم أورد بعضها الآخر لخطورتها البالغة".(1)
وقد انطلت هذه الحيلة على الكثير من القُراء والمتخصصين ولم يسلم من فخ زيدان الذي وضعه إلا القلة من القراء النابهين ، ولعل السبب الذي جعل القراء يصدقون تلك المقدمة هو تخصص د. زيدان في مجال التراث والمخطوطات و باعه الطويل في هذا المجال ، فقد وضع القارئ في جو التنقيبات الأثرية ودلل على ذلك بعبارات : مثل " يرجح أن السر في سلامة هذه اللفائف ، هو وجود الجلود
( الرقوق ) التي كتبت عليها الكلمات ، بحبر فاحم من أجود الأحبار التي استعملت في ذاك الزمان البعيد ... وكان الأب كازاري يظن أن الصندوق الخشبي المحلى بالزخارف النحاسية الدقيقة ، لم يفتح طيلة القرون الماضية ". ولا ننسى هنا ما أورده المؤلف من صور توثيقية ليدلل على صحة هذه الرقوق.
وقد تحدث د. صلاح فضل عن هذه الحيلة في مقال بعنوان:( يوسف زيدان ووسوسة عزازيل ) نشره في صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ : 13 / 4 / 2009، جاء فيه أن الكاتب أحسن " بأكثر مما أتيح لغيره في توظيف خبرته بالرقوق والمخطوطات, فأوهم القارئ أن روايته عبارة عن خبيئة أثرية وجدت في صندوق محكم وترجمت من السريانية إلي العربية, وعليها تعليقات وحواش في زمن لاحق, وهذه حيلة مألوفة في الإبداع الروائي منذ سرفانتس الإسباني الذي زعم أن دون كيخوته ليست سوي مخطوط قديم لعربي موريسكي من الأندلس, حتي أمبرتو إيكو المبدع والناقد الإيطالي المعاصر في رائعته الذائعة اسم الوردة ، وكم كنت أعجب عندما أري هذه الحيلة قد انطلت علي بعض قراء عزازيل فظنوا أن هناك راهبا حقيقيا اسمه هيبا وأن هذه الرقائق من المخطوطات التي يقوم عليها يوسف زيدان في مكتبة الإسكندرية, وساورهم الشك في مدى صحتها ودرجة مصداقيتها ".
أو كما وصفتها د. شهلا العجيلي ـ أستاذة النقد في جامعة حلب ـ خلال مشاركتها في ندوة عقدتها جمعية العاديات لمناقشة الرواية بحضور مؤلفها، التي أشارات إلى أن" العلاقة بين القارئ والمبدع في رواية عزازيل تشبه لعبة الاستغماية ، حيث تمتاز الرواية على مستوى البنية العامة بدهاليز ومساحات خضراء وخبايا وأسطح قريبة من السماء ، وعلى مستوى المفردات والفن الروائي استطاع يوسف زيدان أن يبلغ أقصى درجات الإيهام حيث وضع ما أسماه مقدمة المترجم ، فقدم لنا روايته على أنها رقوق قديمة كتبها الراهب المصري ( هيبا ) باللغة السريانية ، وهذه كلها دروب إيهام استطاع يوسف زيدان من خلالها أن يقدم عملاً روائياً ممتعاً للقارئ ".
وقد برر زيدان اختياره لهذا القالب الذي أسهم كثيراً في اللبس ورأى أنه من صميم حرية المبدع ، وأنه حرص على إظهار جنس الكتاب بكتابة كلمة ( رواية ) على الغلاف . وفي ندوة عقدها نادي القصة في القاهرة أزال زيدان علامات الاستفهام التي ارتسمت في أذهان بعض الحضور البسطاء من تعاملوا مع النص بسطحية ، فشغلهم السؤال : هل ( عزازيل ) ترجمة لنص قبطي أم هي محض خيال ؟ فقال إنه سعيد جداً بأن روايته نجحت في أن تحقق أعلى سقف من الإيهام مما يؤكد نجاح مهمته كمبدع " .
لكن مع كل ذلك ، فمن يقرأ الرواية ومقدمة المترجم بتدبر وعمق يدرك أنها ليست إلا عملاً فنياً نسجه المؤلف من خياله فهو ذكر جنس هذا الكتاب على صفحة الغلاف بذكره كلمة ( رواية ) ، ونستطيع الاستنتاج بأن شخصية البطل هيبا لم تكن حقيقية ، ويظهر ذلك من خلال متن ( مقدمة المترجم ) حين يقول : " وقد اجتهدت في التعرف إلى أية معلومة عن المؤلف الأصلي ، الراهب هيبا المصري ، ... فلم أجد له أي خبر في المصادر التاريخية القديمة . ومن ثم ، فقد خلت المراجع الحديثة من أي ذكر له . فكأنه لم يوجد أصلاً ، أو هو موجود فقط في هذه ( السيرة ) التي بين أيدينا" .
وقد جاء الهيكل الرئيس للرواية في ثلاثين فصلاً أو ( رقاً ) كما أطلق عليها المترجم الوهمي ـ الذي ابتدعه المؤلف ليضفي صبغة حقيقية ـ على هذه الرواية ، فنجد المترجم يقول : " والرواية في جملتها تقع في ثلاثين رقاً ، مكتوبة على الوجهين بقلم سرياني سميك ... وقد جعلت فصول هذه ( الرواية ) على عدد الرقوق التي هي متفاوتة الحجم ؛ بطبيعة الحال . وقد أعطيتُ للرقوق عناوين من عندي ، تسهيلاً لقارئ هذه الترجمة التي ينشر فيها هذا النص النادر لأول مرة ".
وتسير الرواية التي تشكلت من ثلاثين فصلاً أو رقاً ، وسأذكر هنا هذه الرقوق وعناوينها على النحو التالي :
الرق الأول : بدء التدوين
الرق الثاني : بيت الرب
الرق الثالث : عاصمة الملح والقسوة
الرق الرابع : غوايات أوكتافيا
الرق الخامس: غوايات أوكتافيا
الرق السادس: النقطة الفاصلة
الرق السابع : الرق الناقص
الرق الثامن : الخلوة بين الصخور
الرق التاسع : شقيقة يسوع
الرق العاشر: التيه
الرق الحادي عشر : بقية ما جرى في أورشليم
الرق الثاني عشر : الارتحال إلى الدير
الرق الثالث عشر : الدير السماوي
الرق الرابع عشر : شموس الباطن
الرق الخامس عشر : فِرسي الأقنوم
الرق السادس عشر : وثبة الماضي
الرق السابع عشر : الحبلى بالإله
الرق الثامن عشر : عند حواف سرمدة
الرق التاسع عشر : السيدة
الرق العشرون : القلق المجاور
الرق الحادي والعشرون : القافلة
الرق الثاني والعشرون : كمون الإعصار
الرق الثالث والعشرون : هبوب الإعصار
الرق الرابع والعشرون : أفق العشق
الرق الخامس والعشرون : الحنين
الرق السادس والعشرون : وقوع المحظور
الرق السابع والعشرون : المرزبة
الرق الثامن والعشرون : الحضور
الرق التاسع والعشرون : الفقد
الرق الثلاثون : قانون الإيمان
وهذه الرقوق ( الفصول ) لا تمضي متسلسلة في الأعم الأغلب ، فهناك تقديم وتأخير بينها أو ما يسمى بالحبكة المفككة ، نلحظ ذلك عند حديثه في الفصل / الرق الثاني ( بيت الرب ) عن أورشليم وما حصل معه هناك من أحداث وشخوص قابلهم كنسطور وغيره ، وبعد نهاية هذا الفصل الثاني يتوقف حديثه عن أورشليم وينتقل للحديث عما جرى معه في الإسكندرية في ثمانية فصول (من الفصل/ الرق الثالث إلى الفصل / الرق العاشر ) ثم يعود بعد ذلك للحديث عما جرى معه في أورشليم مرة أخرى ، ويظهر ذلك في الرق الحادي عشر ( بقية ما جرى في أورشليم ) وهناك تداخل بين الرق الأول ( بدء التدوين ) والرق الثلاثين ( قانون الإيمان ) وهناك رق آخر ناقص هو الرق السابع .
طريقة العرض في الرواية :
يجري سرد أحداث الرواية على لسان الراهب ( هيبا ) ، مستخدماً ضمير الأنا أو ما يُعرف بالترجمة الذاتية ، كما يظهر في مقدمة المترجم : " في ذلك الصندوق الخشبي ، محكم الإغلاق ، الذي أودع فيه الراهب المصري الأصل هيبا ما دونه من سيرة عجيبة وتأريخ غير مقصود لوقائع حياته القلقة ، وتقلبات زمانه المضطرب " (1) وباتخاذه ضمير الأنا يكشف هيبا عن غربته وغواياته وهواجسه وقلقه تجاه الأحداث التي عاصرها والأشخاص الذين قابلهم ، ونلحظ هذا في الرق / الفصل الأول من الرواية ، حين يقول : " باسم الإله المتعالي ، أبدأ كتابة ما كان وما هو كائن من سيرتي ، واصفاً ما يجري من حولي وما يضطرم في داخلي من أهوال ".(2) فهيبا يكتب سيرته بناءً على طلب عزازيل الذي يدعوه لذلك ويلح عليه " ارحمني يا رحيم ، فإنني مشفق ، ولكنني مضطر. فأنت تعلم، في سماواتك البعيدة، كيف يحوطني إلحاح عدوي وعدوك اللعين عزازيل الذي لا يكف عن مطالبتي بتدوين كل ما رأيته في حياتي.. وما قيمة حياتي أصلاً، حتى أدون ما رأيته فيها ؟ ". (3)
" أمضيتُ يومين بالمكتبة، أحاور عزازيل حتى أقنعته بأمور، وأقنعني بأمور كنت متردداً فيها.. كان مما أقنعني به وصادف هوى في نفسي أن أختلي بصومعتي هذه أربعين يوماً، أدوّن خلالها ما رأيته في حياتي منذ هروبي من قرية أبي، حتى رحيلي عن هنا" .
الشخوص في الرواية :
جميع الشخوص في الرواية حقيقية عدا شخصية هيبا ، حيث شدد زيدان على أن " كل الوقائع والشخصيات الواردة في الرواية باستثناء البطل هي وقائع فعلية وشخصيات حقيقية ".
وتتعدد الشخوص في الرواية وتقسم إلى قسمين : رئيسة وثانوية . وهيبا هو الشخصية الرئيسة التي تمتد على طول أحداث الراوية حين تسرد عن ذاتها وعن غيرها ، هيبا الراهب الطبيب الغريب،خرج من بلدته نجع حمادى في صعيد مصر بحثاً عن الحقيقة والمعرفة وتعلماً للطب ،مضطرب إيمانه متزعزع ؛ففي حين أنه راهب يجب عليه محاربة الشيطان / عزازيل، لكنه يضعف أمامه وأمام غوايات النساء وشهواتهن.
وهناك شخصيات رئيسة أخرى لها حضور فاعل في الرواية أهمها عزازيل ونسطور وكيرلس ،
وعزازيل / الشيطان، رمز الشر مراوغ يزين المحرمات ، يدعو هيبا لكتابة سيرته وهواجسه ، وهو كما قال المؤلف : " الإحساس الداخلي أو العقل الباطني ".(6) استخدمه زيدان بمهارة ليبعثر كوامن الإنسان أو دواخل النفس البشرية التي قد لا يبوح بها إلا لنفسه في لحظات التأمل والقلق العميق، ويظهر ذلك من الحوار الذي يدور بينه وبين هيبا : " أنا لا وجود لي ، مستقلاً عنك . أنا يا هيبا أنت ، ولا أكون إلا فيك "(7) " يا هيبا قلت لك مرارا أني لا أجيء ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. أنا آت إليك منك، وبك، وفيك. أني انبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو اقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا أحمل أوزارك وأوهامك"
أما نسطور: فهو رجل دين طيب يتبع أسقف إنطاكية تيودور، يتعرف عليه هيبا في أورشليم ،يشب بينه وبين أسقف كنيسة الإسكندرية صراع حول ألوهية المسيح مما يجعله عرضة للاتهام بالهرطقة ، يصدر عليه مجمع أفسوس الديني أمراً بالعزل والنفي لآرائه .
والشخصية الرئيسة الأخرى هو كيرلس أسقف الإسكندرية : قاس ، همجي ،يمارس باسم الدين العنف والقتل ،يحرض عوام المسيحيين على قتل هيباتيا الفيلسوفة ، ويصب اللعنات على نسطور ، وبسببه يهرب هيبا من الإسكندرية ويكرهها ، ويظل ذكره عقدة لهيبا طوال حياته .
وهناك شخصيات ثانوية كثيرة في الرواية ، تساهم في أحداث الرواية ن ويكون لبعضها الأثر الكبير على حياة هيبا ، وهذه الشخصيات هي : اوكتافيا : امرأة وثنية جميلة ناقمة على المسيحيين وتسخر من عقيدتهم وكتابهم المقدس الذي ترى فيه مجرد خرافات ، تعمل خادمة للتاجر الصقلي ، يلتقي بها هيبا على شاطئ البحر ، وتخبر هيبا أنه حبيبها التي كانت تنتظره ، وتصحبه معها إلى منزل التاجر الصقلي ، وهناك يقع هيبا في أول غواية له ، تغويه فيمارس معها الشهوات المحرمة ، لكان سرعان ما تطرد هيبا بكل غضب وعنفوان عندما يعترف لها برهبانيته المسيحية ، وتقتل أثناء دفاعها عن أستاذتها هيباتيا.
هيباتيا : فيلسوفة جميلة عالمة رياضات يطلق عليها الناس أستاذة الزمان ابنة العالم ( ثيون ) الذي كان يلقي دروسه في معبد السيرابيون ، يُعجب بها هيبا ويلتقيها في المسرح الكبير الذي كانت تلقي محضراتها فيه ، يحرض كيرلس الرهبان والناس عليها بدعوى أنها كافرة مهرطقة ، فيمسكون بها ويسحلون جلدها ويقرح جلدها ،تستنجد بهيبا لكنه لا يحرك ساكنا ، وتحاول اوكتافيا حمايتها لكن عبثاً تحاول وينتهي الأمر بمقتلهما ( اوكتافيا وهيباتيا ) ندم هيبا أشد الندم لأنه لم ينقذها ، ويسمي نفسه بنصف اسمها الأول ( هيبا ) ويخرج من الإسكندرية احتجاجاً على جريمة قتل هيباتيا البشعة .
فيرسي الأقنوم : راهب طيب ذكي يكره الأنثى ويرى أنها سبب الخطيئة والغواية ، يلتقي به هيبا في الدير السماوي فيصبح أقرب الناس إليه .
مرتا : فتاة جميلة فاتنة ، منشدة ترانيم في الكنائس ، تأتي إلى الدير مع جدتها وتقرر البقاء فيه ، يدربها هيبا على الإنشاد جريئة اعترفت لهيبا بحبها له ، وتقلبُ حياته رأساً على عقب ، يكرر معها هيبا ما فعله مع اوكتافيا ولكنه بعد أن يصاب بالحمى تتركه وترحل إلى حلب .
وهناك شخصيات ثانوية أخرى ذات حضور قليل في الرواية ، وهي شخصيات ( الأسقف تيودور ، والد هيبا وأمه وعمه ، التاجر الصقلي ، الأسقف ثيوفليس ، ربولا الشاعر ، رئيس الدير السماوي ، جدة مرتا...)
ومعظم شخصيات الرواية نامية ( دائرية ) ، فهيبا يبدأ حياته راهباً ثم يتعلم الطب ويمر بأحداث كثيرة تؤثر في تشكيل شخصيته ، حتى أنه أحد الأحيان يفكر بترك الرهبنة ، ويقرر في نهاية الأمر أن يرحل عن الدير ، ليقوم بما اتفق عليه مع عزازيل .
ونسطور يكون قساً تابعاً لأسقف تيودور ، ولكنه سرعان ما يحصل على مرتبة كنسية أعلى حين يصبح أسقف القسطنطينية ثم يُعزل وينفى ويحكم عليه بالهرطقة .
وهناك شخصية ثابتة ( مسطحة ) واحدة هي شخصية كيرلس أسقف الإسكندرية الذي يبقى على طباعه المتمثلة بممارسته للعنف الديني ، ومحاربته كل من يخالفه في الاعتقاد أو الرأي .
عنصر الزمن :
صدرت الطبعة الأولى من رواية عزازيل ( زمن النشر ) عام 2008 ، ولم يذكر زيدان متى انتهى من كتابتها وحين النظر إلى الزمن الروائي نرى أن الروية تدور أحداثها في القرن الرابع الميلادي ، ثمة تلاعب بالزمن ، فهو لا يسير بطريقة تقليدية منتظمة ومتعاقبة ،وثمة استرجاعات واستباقات، وانتقالات سلسة بين الرقوق، وحكاية محبوكة بعناية، تفيد من النبوءات والرؤى والأحلام والكوابيس، فالسارد يبدأ الرواية بلحظة التدوين التي تلي الأحداث التي يتم تدوينها: "سأبدأ من الحاضر من اللحظة الحالية، من جلستي هذه في صومعتي التي لا يزيد عرضها ولا طولها عن مترين" (1)، حيث يكون في دير في أنطاكية، فيلجأ إلى الاسترجاع الزمني، فيصف وصوله إلى القدس، بعد مروره بالمواضع التي عاش فيها تلاميذ السيد المسيح، ثم يستذكر ما حدث معه في الإسكندرية، دون أن ينسى تقديم سرد لغوي يغوي بمتابعة القراءة، ففي نهاية الرق الثاني يقول: "كلما تذكرت الإسكندرية امتلأ فراشي شوكاً ملحياً"(1) ، ليفتح السرد في الرق الثالث، والرقوق التالية على ما حدث معه في الإسكندرية "عاصمة الملح والقسوة".
عنصر المكان :
تميزت الرواية برحابة المكان وحضوره الطاغي ، وهو يشغل حيزاً كبيراً فيها ، أمكنة عزازيل كثيرة ومتنوعة ومختلفة بداية من نجع حمادى و أخميم مروراً بدمنهور والإسكندرية ودمياط وسيناء وأورشليم وحلب و إنطاكية وانتهاء بافسوس . وضعتْ هذه الأمكنة بصمة واضحة في حياة هيبا الذهنية والنفسية تفاعل معها أحب الإقامة في الأماكن الصغيرة كالدير السماوي قرب حلب والمكتبة والكنائس الصغرى ،ونقم على الأماكن الكبيرة كالمدن التي كانت مفزعة موحشة ، تذكره بأحداث حزينة ومأساوية ، فحين يقترح عليه نسطور الذهاب معه إلى إنطاكية يخاطبه قائلاً : " إنطاكية يا أبت مدينة كبيرة وصاخبة . وما عدت قادراً على العيش في مثلها". (2) وبالنظر إلى صورة هذه الأمكنة الكبيرة ( المدن ) في ذهن هيبا ، نجدها مقترنة بالغربة والوحشة والخوف، فالإسكندرية مدينة القسوة والملح والوحشية والعنف والقتل يخرج منها هارباً وتبقى ذكرياتها الحزينة ماثلة في وعيه طوال حياته ، كما يرد ذلك في الرواية على لسان هيبا ، إذ يقول : " خفق قلبي وارتجفت ، الإسكندرية ثانية ! الأمر إذن جلل وخطير ، وكفيل بتبديد الابتسامات التي كانت قبلها بقليل تُزين الوجوه".(3) " كلما تذكرت الإسكندرية امتلأ فراشي شوكاً ملحياً ".(4)
" كانت الذكريات التي أثارها سؤال نسطور عن مقتل هيباتيا قد هدًّت أركاني طيلة ليلتي السابقة، وأعادتني إلى الزمن السكندري الذي افر دوماً من ذكراه".(5)
وأورشليم بالرغم من كونها مقدسة ( بيت الرب ) إلا أنه يشعر بغربة تجاهها " دخلتُ أورشليم من طريق السامرة وقت الظهيرة، فتملكتني مشاعر الغربة التي تعصف بي في المدن الكبرى ".(6) ويقرر أن يرحل عنها بعد أن يتركها نسطور الذي بدد وحدة هيبا أثناء وجوده في أورشليم.
أما إنطاكية فقد كان يشعر بقلق عند الحديث عنها نظراً للصورة النمطية للمدن الكبيرة في ذهنه ، ولم يوافق على العرض الذي قدمه نسطور المتمثل في ارتحال هيبا إليها ، لكنه عندما زارها لأول مرة وجدها أفضل حالاً من الإسكندرية ، يقول هيبا : " إنطاكية أكبر من أورشليم وأصغر من الإسكندرية أهلها حسبما يبدو من ملامحهم، طيبون و وجوههم أكثر إشراقاً ومودة من وجوه الإسنكدرانيين، وأقل حزناً ويبوسة من وجوه أهل مصر ". (7)
ولا يزال في صراع حاد مع الأماكن حتى بلاده الأولى التي فيها مسقط رأسه وأهله مسكونة بالرعب : "الحمار يحنُّ إلى الأصل، ويبتهج بالرجوع إلى الموطن، وأنا ترعبني فكرة الرجوع إلى بلادي، ولو في مهمة قصيرة" ص. (8)
ولكن الأمكنة الصغيرة كالدير السماوي والمكتبة والصومعة وعناصر الطبيعة كانت أحب إلى نفس هيبا المنهكة التي تجد في هذه الأماكن مهرباً لها من الغربة والقسوة والرعب والصخب : " ورحت أتوهّم بعدما أغمضت عيني أنني صرت والشجرة كياناً واحداً، أحسست بروحي تنسحب من ضلوعي، فتتخلَّل جذعَ الشجرة، ثمَّ تغوص في جذورها العميقة، وتتوغّل في قلب فروعها العالية. كان كياني يتمايل مع أوراقها، ويتساقط بعضي مع سقوط الأوراق من أغصانها".(9).
والدير السماوي القريب من حلب كان في بداية الأمر هادئاً وديعاً : " كانت أيامي الأولى في الدير هادئة ، هانئة . أمضيت أوقاتي في القراءة والعبادة ، فسكنت روحي ".(10) لكنه عندما يتعرف على مرتا فيه ويبدأ غوايته الثانية معها و تتركه وترحل ، وبعد عزل نسطور يضيق به هذا الدير بما رحب ويقرر تركه بعد أن يدون حكايته ويدفنها في الدير .
عنصر اللغة :
لعل أهم ما يميز عزازيل لغتها العربية الفصيحة المتينة والطابع الشعري المرهف العذب الذي يغلب عليها ، يظهر ذلك جلياً في كل الرواية ، وخاصة ابتهالات هيبا وتهجداته وترانيمه : " باسمك أيها المتعالي عن الاسم ، المتقدس عن الرسم والقيد والوسم ، اخلي ذاتي لذاتك ، كي يشرق بهاؤك الأزلي على مرآتك ... "(1) ولا يخفى على القارئ ما تتسم به هذه اللغة الفلسفية في مواضع كثيرة في الرواية : "ولعل البدايات ... ما هي إلا محض أوهام نعتقدها. فالبداية والنهاية، إنما تكونان فقط في الخط المستقيم .ولا خطوط مستقيمة في إلا في أوهامنا . أما في الحياة وفي الكون كله ، فكل شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ ، ويتداخل مع ما به اتصل "(2)
واستخدم يوسف زيدان في ( عزازيل) مستوى لغوياً واحداً يسود فيها من بدايتها إلى نهايتها ، فكأنه أدخل لغة شخوصه في مياه نهر ليثي على حد تعبير ميخائيل باختين ؛ فنحن أمام شخصيات مختلفة الثقافة والطبقة والوعي ، فهناك الراهب الكنسي ، والشاعر ، والفيلسوف ، والغلام ، والخادمة والمرأة العجوز والرجل الفقير والفتاة الصغيرة المنشدة ، والعامل والفلاح ، ولكن حين نمعن النظر في لغة الجميع فإننا نجدها واحدة ، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة هذه الرواية التي تستقي من التاريخ وحيها ، فتغلب عليها لغة الملاحم
الحقوق الفكرية
نشرت في موقع عرب 48 .