"ليس ثمة سلطة تعلو فوق سلطة العقل، ولا حجة تسمو على حجته". هذه هي نقطة انطلاق فرويد الجذرية في التصدي لمشكلة الدين وعلاقته بالحضارة ومستقبله على ضوء المستتبعات الفلسفية لنظرية التحليل النفسي. وليس من قبيل الصدفة أن يكون مستقبل وهم-مثله مثل قلق في الحضارة، وموسى والتوحيد-قد ظلّ حتى اليوم بلا ترجمة. فمهما تكن مؤلفات فرويد الأخرى جريئة وخطرة على الايديولوجيا السائدة، فمن الممكن احتواؤها وامتصاصها بحجة أنها علمية. أمّا مؤلفاته الفلسفية فخطرها غير قابل للاحتواء، ولهذا بقي الوجه الجذري والعلماني-لا العلمي فحسب-لفرويد مجهولاً لدى القراء عندنا، كما في كل مكان آخر من العالم.
مقتطفات من الكتاب
آخر ثلاثة كتب كتبها فرويد قبل أن يقضي نحبه وهي " مستقبل وهم " " 1927" و " قلق في الحضارة " " 1929 " و " موسى والتوحيد " " 1939 " ظلت أسيرة الظل لا تجد في أوساط الفكر الأكاديمي وتالجامعي العربي من يجرؤ على الاقدام على ترجمتها ونشرها بالرغم من أن سائر مؤلفات فرويد وجدت طريقها الى المكتبة العربية في وقت مبكر نسبيا وليس عسيرا أن ندرك سر ذلك الاحجام اذا أدركنا أن الكتب الثلاثة المشار اليها اتخذت من الدين وصلته بالحضارة ومصائره في المستقبل موضوعا مركزيا لها واذا أخذنا أيضا بعين الاعتبار أن منطلق فرويد في تناوله لمشكلة الدين سلطة العقل ولا حجة تسمو على حجته " .
والحق أن نظرية التحليل النفسي بمجملها قوبلت في البداية لاقتحامها عالم الجنس المحرم بعداء شديد آنا وبتحفظ وتشكيك آنا آخر من قبل " كلاب حراسة " الأيديولجيا الرجعية والمحافظة في أوروبا أولا ثم في العالم ولكن نجاح التحليل النفسي في أن يفرض نفسه كعلم أوجد الضرورة وأتاح المجال في آن واحد لاحتواء الفرويدية ولجمها ومن ثم دمجها في جسم الايديولوجيا السائدة ومما ساعد في النجاح النسبي لعملية الأقلمة أو تقليم الأظافر هذه الموقف السلبي أو المتحفظ الذي وقفه الفكر اليساري بوجه عام من المساهمة الفرويدية .
لكن مصائر " مستقبل وهم " و " قلق في الحضارة " و " موسى والتوحيد " كانت مختلفة فقد لبثت هذه المؤلفات الثلاثة مهملة منفية شبه مجهولة لدى المولعين بالكتابات التحليلية النفسية ومفصولة – كطفيلي مقيت – عن جسم النظرية الفرويدية .
وهكذا أمكن بعد تدجين الفرويدية من وجهة النظر العلمية أن يبقى الوجه الجذري والعلماني لفرويد مجهولا أو محجوبا وراء ستار .
ولعل فرويد نفسه ليس بريئا من كل مسؤولية عن حكم النفي أو التجاهل الذي صدر بحق آخر مؤلفات حياته .
فقد أقدم هو نفسه على كتابتها متهيبا متحفظا فجاء عرضه للأمور كثير التعاريج والتضاريس في محاولة منه لعدم استفزاز المشاعر ولكن من حق فرويد علينا أن نضيف أنه ما كان يخشى على نفسه بقدر ما كان يخشى على قضية التحليل النفسي بوصفه علما وليدا ليس له من صلابة العود ما يؤهله لمواجهة التحديات الكبيرة .
وقد أعرب فرويد في " مستقبل وهم " بالذات عن مخاوفه الشديدة من أن يتأذى مستقبل التحليل النفسي بشظايا معركة الدين أو رذاذها ثم كرر الاعراب عن نفس المخاوف في آخر سنين حياته وهو يكتب مقدمة القسم الأخير من " موسى والتوحيد " ومهما يكن من أمر فان كثرة التعاريج في كتابات فرويد من الدين تقتضي من قارئه تأنيا فلا يضيق ذرعا بما قد يلاحظه فيها من تكرار أو حتى من لف ودوران .
حين يكون المرء قد عاش طويلا في جو ثقافة بعينها وحين يكون قد بذل قصارى جهده في أحيان كثيرة ليكتشف أصولها وطرق تطورها لا بد أن يحس ذات يوم باغراء يدعوه الى أن يدير ناظريه في الاتجاه المعاكس ويتساءل بينه وبين نفسه عما سيكونه المصير اللاحق لهذه الثقافة والتحولات التي لا مفر من أن تنتابها .
لكنه سرعان ما يكتشف أن ثمة عوامل عدة تنتقص من قيمة مثل هذا البحث وفي طليعة هذه العوامل قلة عدد الأشخاص الذين تتوفر فيهم رؤية شمولية للنشاط الانساني في شتى مجالاته .
فمعظم الناس وجدوا أنفسهم مكرهين على الاكتفاء بواحد من تلك المجالات أو بحفنة ضئيلة منها ولكما كانت معلوماتنا عن الماضي والحاضر أقل داخل حكمنا على المستقبل المزيد من الريب والشكوك .
بيانات الكتاب
تأليف : سيجموند فرويد
الترجمة : جورج طرابيشي
الناشر : دار الطليعة
عدد الصفحات : 40 صفحة
الحجم : 1 ميجا بايت