هي قصة جميلة تؤكد أن الزمان كان غير الزمان، وأن ملاحقة الناس حينها للحب كانت في الوقت نفسه ملاحقة للعمر الذي يتناقص باطراد؛ بلا عُقد ولا أمراض اجتماعية.
تحكي السيدة رنا قباني بنفسها تلك الحكاية على صفحات جريدة القدس العربي؛ فتعرفنا أن الأمر بدأ بالصدفة، عندما جاء درويش إلى الولايات المتحدة الأميركية بتأشيرة دخول لمدة يوم واحد فقط؛ من أجل حضور جلسة في الأمم المتحدة خاصة بمناقشة القضية الفلسطينية، وكان من المستحيل أن يحصل درويش على تأشيرة دخول عادية لأميركا في هذا الوقت؛ نظراً لسجله الشيوعي؛ فمكنته هذه الفيزا غير الاعتيادية من اللحاق بقراءة شعرية كان مدعواً لها من قبل جامعة جورج تاون؛ في هذه اللحظة كانت هناك فتاة مصرية واقعة في غرام شاب فلسطيني من يافا؛ تلح على صديقتها رنا قباني أن تأتي معها للقراءة؛ فوافقت رنا على مضض؛ لأنها مرتبطة بحضور دروس الرواية الفيكتورية؛ على أن تجلس في الصفوف الأخيرة وتنسحب بهدوء بعد قليل؛ فرنا لم ترد أن تخذل صديقتها الهائمة في الغرام كما تقول.
وبالفعل جلست رنا في آخر صف إلى أن جاء كلوفيس مقصود وشدها من ذراعها؛ ليجلسها في الصف الأول أمام محمود درويش بالضبط، الذي أخذ يحدق ويدقق في تلك الفتاة البوهيمية البيضاء، وما إن وصل لقدميها حتى ضحكت؛ فضحك هو أيضاً، واعتدل في جلسته استعداداً لبداية قراءته الشعرية.
تكمل رنا الحوار الذي دار بينهما؛ فتقول: حينها، قمت لأذهب الى ما تبقى من محاضرتي، فوجدت حاتم حسيني، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، يناديني باسمي لأعود، لأن محمود كان قد نزل عن المنصة ماشيا باتجاهي، تاركاً وراءه المعجبين الذين أرادوا توقيعه على كتبه.
«أنا مضطر لمغادرة واشنطن في الصباح الباكر لأعود إلى بيروت، فهل تريدين مني أن آتي بأي شيء لعمك نزار؟».
شكرته وابتسمت وقلت: «نعم، أوصيك بإيصال هاتين القبلتين لخدي عمي الحبيب» ثم قبلت محمود بعفوية على وجنتيه. فاحمر وجهه خجلاً. سألني هل يمكنك مرافقتنا إلى العشاء؟ فقلت: «لا، لأن أهلي بانتظاري في البيت».
فرد: «اسمحي لي بسؤالك على انفراد للحظة». ابتعدنا عن الجمع لمدة خمس دقائق، فقال مباشرة: «هل تقبلين الزواج مني؟» أجبت بنعم، أقبل الزواج منك، فقال: «علينا إذاً أن نتزوج فوراً، لنذهب إلى باريس، وننتظر فتح مطار مدينة بيروت حيث أسكن».
أخرج من سترته ورقة بيضاء وبقلمه «الباركر» قسمها نصفين، ووضع اسمينا في أعلى كل قسم، وقال لي اكتبي ما تحبين في الحياة تحت اسمك، وأنا سأكتب في خانتي ما أحب. طلبت منه أن يبدأ. فكتب ما يلي: «عصا الراعي، غروب الشمس في الجليل، القطط، الحذاء الإيطالي الناعم الملمس، الأزعر موتزارت، الغتيار الإسباني، قصص تشيكوف، قيلولة بعد الغداء، صدف البحر، سمك السلطان إبراهيم المقلي».
ثم أعطاني الورقة، فكتبت: «الفل المطبق، الورد الشامي الجوري، رائحة زهر الياسمين عند المساء، صوت الآذان في حي الشاغور، الأوركيد البري، المحيط الهندي والبراكين التي تحيط به، شجر الموز والمطر الاستوائي، القطط، ثم القطط، ثم القطط».
حينها، ذهبنا إلى جامع واشنطن وكان قد وصل إليه بعض الأصدقاء وأهلي، فسألني محمود: «ما هو مهرك؟».
قلت «مهري هو الحرية، فلا أريد منك سوى عصمتي بيدي».
لا أظن أنه فهم ما معنى العصمة، فقبل مباشرة، وزوجنا الشيخ، وبدأنا رحلتنا الأولى معاً، التي دامت تسعة أشهر.