"... إن أحياء باريس الفقيرة مجمع للناس غريبي الأطوار – إنهم قوم سقطوا في مهاو للحياة، منعزلة، شبه مجنونة، وتخلوا عن محاولة أن يكونوا عاديين أو معقولين. لقد حررهم البؤس من المقاييس المألوفة للسلوك، تماما مثلما يحرر المال الناس من العمل".
***
"... أنت، في اقترابك من البؤس، تكتشف أمرا يعدل أمورا أخرى. أنت تكتشف الضجر والتعقيدات الدنيئة، وبدايات الجوع، لكنك تكتشف أيضا صفة الثواب العظيم في البؤس، حقيقة أنه يلغي المستقبل. ويصح إلى حد معين أنك كلما قل مالك قل قلقك. حين يكون لديك مائة فرنك في هذا العالم تتعرض لألف فكرة وفكرة، لكن حين يكون لديك ثلاثة فرنكات فقط فأنت غير مبال، إذ أن الفرنكات الثلاثة سوف تطعمك حتى غد، وليس بمقدورك أن تفكر أبعد من ذلك. أنت ضجر، لكنك لست بخائف".
***
"... قال لي بوريس بطريقة غامضة:
"أخبرني يا صديقي، ألديك آراء سياسية؟"
قلت: "لا".
"ولا أنا. كل شخص هو وطني طبعا، لكن مع ذلك – ألم يقل موسى شيئا حول الانتفاع من المصريين. أنت، باعتبارك إنجليزيا، كنت قرأت الكتاب المقدس. ما أعنيه هو، هل تعترض على كسب المال من الشيوعيين؟"
"لا، بالطبع لا".
"حسنا، يبدو أن في باريس جمعية روسية سرية قد تفعل شيئا لنا. إنهم شيوعيون. والواقع أنهم عملاء للبلاشفة. إنهم يعملون باعتبارهم جمعية صداقة، تتصل بالمنفيين الروس، وتحاول أن تجعلهم بلاشفة. صديقي انضم إلى جمعيتهم، وهو يعتقد أنهم سيساعدوننا لو ذهبنا إليهم".
"لكن ماذا بمقدورهم أن يفعلوا لنا؟ وفي كل الأحوال، لن يساعدوني أنا، فأنا لست روسيا".
"ها هي ذي النقطة بالضبط. يبدون أنهم مراسلون لصحيفة موسكوفية، ويريدون مقالات عن السياسة البريطانية. لو ذهبنا إليهم فربما كلفوك بكتابة مقالات".
"أنا؟ لكني لا أعرف شيئا عن السياسة".
"خراء! ولا هُم. من تراه يعرف في السياسة؟ الأمر سهل. كل ما عليك أن تفعله هو أن تستنسخ المقال من الصحف الإنجليزية. أليست هناك "ديلي ميل" في باريس؟ انسخ مقالاتك منها".
"لكن الديلي ميل صحيفة محافظة. وهم يكرهون الشيوعيين".
"حسنا، قل عكس ما تقوله الديلي ميل، ولن تخطيء آنذاك. علينا ألا نفرط بهذه الفرصة، يا صديقي. فقد تعني مئات الفرنكات".
***
"... هذا هو الجانب الحسن في العمل الفندقي. في الفندق يتم تسيير ماكنة هائلة معقدة بعدد من المستخدمين غير كاف، لأن كل شخص له عمل محدد يعمله بإتقان. لكن هناك نقطة ضعف، ذلك لأن العمل الذي يؤديه المستخدمون ليس بالضرورة العمل الذي يدفع الزبون لقاءه. الزبون يدفع للخدمة الجيدة كما يراها. المستخدم يُدفّع له من أجل العمل كما يراه – وهذا يعني، كقاعدة، تقليد الخدمات الجيدة. والنتيجة، أن الفنادق مع أنها في دقتها كالمعجزة، أسوأ من المنازل الخاصة، في الأمور الأساسية.
خذ النظافة مثلا. في فندق س، أن يدخل المرء في أقسام الخدمة، يجد القذارة مقززة. وفي الكافتيريا، حيث نعمل، أوساخ متراكمة منذ عام في الزوايا المظلمة، وسلة الخبز ملأى بالصراصير. اقترحت على ماريو مرة قتلها. قال هادئا: "لماذا نقتل الحيوانات المسكينة؟". وقد ضحك الآخرون لأني أردت غسل يدي قبل أن ألمس الزبدة. غير أننا كنا نظيفين حين نرى النظافة جزءا من العمل. نحن ننظف الموائد، ونلمع النحاس بانتظام لأن لدينا أوامر بذلك، لكن ليس لدينا اوامر بأن نكون نظيفين حقا، وعلى أي حال، ليس لدينا الوقت لذلك.
كنا ببساطة، ننفذ واجباتنا، ولأن واجبنا الأول هو الدقة، فإننا نوفر الوقت فنكون قذرين.
القذارة أسوأ في المطبخ، لست أقول كلاما، بل أذكر حقيقة حين أقول إن الطاهي الفرنسي سوف يبصق في الحساء إن لم يكن سيشربه هو. إنه فنان، لكن فنه ليس النظافة. إنه قذر إلى حد معين، لأنه فنان. ولكي يبدو الطعام ممتازا ينبغي أن يعامل معاملة قذرة. حين يؤتي إلى الطاهي بشريحة لحم كي يتفحصها. فإنه لا يستخدم الشوكة. يتناول الشريحة بأصابعه ويبسطها على الصحن، ثم يمرر إبهامه حول الصحن ويلعقه ليتذوق الصلصة، يمرره ثانية ويلعقه من جديد، ثم يتراجع إلى الوراء، ويتأمل قطعة اللحم، مثل ما يتأمل فنان صورة، بعدها يضغط القطعة في موضعها بحب، مستعملا أصابعه السمينة الوردية، وكل إصبع منها لُعِق مائة مرة، ذلك الصباح. وعندما يرضى عن الأمر، يتناول قطعة قماش، ويمسح آثارة أصابعه عن الصحن، ويسلمه إلى النادل. والنادل، بالطبع، يغمس أصابعه في الصلصة، أصابعه المقرفة المدهنة التي يفرُق بها على الدوام شعره ذا البرليانتين. وعلى كل من يدفع أكثر من عشرة فرنكات، مثلا، لصحن لحم في باريس، أن يتأكد أن صحنه نالته الأصابع على هذا النحو. في المطاعم الرخيصة جدا يختلف الأمر، حيث لا يتعرض الطعام لمثل هذا، بل يؤخذ من المقلاة بالشوكة ويوضع في الصحن رأسا، بدون استعمال اليد، ويمكن القول إنك إن دفعت لطعامك أكثر، أكلت معه عرقا وبصاقا أكثر.
القذارة شائعة في الفنادق والمطاعم، لأن الطعام الصالح يضحَّى به من أجل الدقة والأناقة. إن مستخدم الفندق أكثر انشغالا بتجهيز الطعام من أن يتذكر أن الطعام مقصود به أن يؤكل. الوجبة، هي، ببساطة، "طلب" له، مثل أن الإنسان الذي يموت من السرطان هو "حالة" عند الطبيب. أحد الزبائن يطلب، على سبيل المثال، خبزا محمصا. وعلى شخص ما، أرهقه العمل، في قبو عميق تحت الأرض، أن يجهزه. كيف يستطيع هذا الشخص أن يتوقف ويفكر قائلا لنفسه "هذا الخبز المحمص سوف يؤكل – يجب أن أجعله صالحا للأكل"؟ كل ما يعرفه أن هذا الخبز يجب أن يبدو جيدا، وأن يهيأ في ثلاث دقائق. قطرات عرق كبيرة تنحدر من جبهته على الخبز. لماذا يهتم؟ ثم يسقط الخبز على النشارة الوسخة بأرضية المكان. لماذا يهتم بتجهيز قطعة أخرى؟ الأسرع أن يمسح النشارة عن القطعة. في الطريق إلى الأعلى يسقط الخبز ثانية، والزبدة تنقلب. مسحة أخرى هي كل ما يحتاجه الأمر. وهكذا، مع كل شيء. الطعام الوحيد في فندق س، الذي يهيأ بنظافة هو طعام الموظفين، وصاحب الفندق. والقول الشائع هو: "فتش عن صاحب الفندق"، أما عن الزبائن فهو "ليس شيئا". في كل مكان من أقسام الخدمة تعشعش القذارة – عِرق سري للقذارة يتغلغل في الفندق العظيم، مثل الأمعاء في جسم الإنسان".
***
"... حدث الأمر، عندما كنت في شدة. أنتم تعرفون ذلك، وكيف هو ملعون أن يقع رجل مهذب في ورطة كهذه. النقود لم تصل من البيت، وقد رهنت كل شيء، ولم يعد أمامي إلا العمل، وهو ما لن أفعله. كنت أعيش آنذاك مع فتاة – كان اسمها إيفون – وهي فتاة ضخمة فلاحة نصف بلهاء، مثل آزايا، ذات شعر أصفر، وساقين سمينيتن. لم نأكل نحن الإثنان شيئا، لثلاثة أيام. يا إلهي! أي عذابّ! كانت الفتاة تقطع الحجرة، جيئة وذهابا، ويداها على بطنها، عاوية مثل كلب، خشية الموت جوعا. كان الأمر رهيبا.
لكن الذكي لا يعرف المستحيل. طرحت على نفسي السؤال: ما أسهل طريقة للحصول على المال بدون عمل؟ وفورا جاء الجواب: للحصول بطريقة أسهل، على المال، يجب أن يكون المرء امرأة. أليس لكل امرأة ما تبيع؟ وبينما كنت أتأمل في ما يمكن أن أفعله لو كنت امرأة، خطرت لي فكرة. تذكرت مستشفيات الولادة الحكومية – أنتم تعرفون مستشفيات الولادة الحكومية؟ إنها أماكن تعطى فيها المرأة الحامل وجبات مجانية، بدون أسئلة تُسأل. وذلك تشجيعا للإنجاب. بمقدور أي امرأة الذهاب إلى هناك وطلب وجبة. وسوف تتلقاها فورا.
فكرت: يا إلهي! آه لو كنت امرأة! إذا لأكلت في أحد هذه الأماكن يوميا. ترى، من يستطيع الجزم بأن هذه المرأة حامل أو غير حامل، بدون فحص؟
التفتُّ إلى إيفون، وقلت لها، أوقفي هذا العواء الذي لا يطاق. لديّ فكرة للحصول على الطعام.
قالت: كيف؟
قلت: بسيطة. اذهبي إلى مستشفى الولادة الحكومي، أخبريهم أنك حامل، واطلبي طعاما.
امتعضت إيفون، وصاحت: لكن، يا إلهي! أنا لست حاملا!
قلت: من يهتم؟ سهل ان نتدبر الأمر. ماذا تحتاجين أكثر من مخدة... مخدتين في حال الضرورة؟ الفكرة إلهام سماوي، يا عزيزتي، لا تضيعيها.
حسنا، أقنعتها في النهاية، فاستعرنا مخدة، وأكملت استعدادها، وصحبتها إلى مستشفى الولادة. استقبلوها بأذرع مفتوحة، وأعطوها حساء ملفوف، ويخنة بقر، وبطاطا مهروسة، وخبزا وجبنا وبيرة، وكل أنواع النصائح عن طفلها. التهمت إيفون الطعام حتى كاد جلدها ينفجر، ودبرت أن تخبيء لي في جيوبها خبزا وجبنا. وصرت آخذها إلى هناك كل يوم حتى جاءت نقودي. لقد أنقذنا ذكائي.
استمر كل شيء جيدا، حتى العام المقبل. كنت مع إيفون ثانية، وفي أحد الأيام كنا نتمشى في بوليفار بور رويال، قرب الثكنات. فجأة فغرت إيفون فاها، واحمرت وابيضت واحمرت.
صاحت: "يا إلهي! أنظر إلى تلك القادمة! إنها الممرضة المسؤولة عن مستشفى الولادة. لقد حل بي الخراب!".
قلت: "أسرعي! اركضي!".
لكن بعد فوات الأوان... فلقد عرفتنا الممرضة، إيفون، وجاءت إلينا مباشرة، وهي تبتسم. كانت امرأة ضخمة، سمينة، مع نظارة ذهب، وخدين محمرين كالتفاح. إنها امرأة، ذات طبيعة أمومية متدخلة.
قالت بصوت رقيق: "آمل في أن تكوني بحالة جيدة، يا صغيرتي؟ وطفلك؟ أليس جيدا أيضا؟ أكان ولدا كما أردت؟"
أخذت إيفون ترتجف بشدة، حتى اضطررت أن أمسك بذراعها. أخيرا قالت: "لا".
"آه، إذا هي بنت؟"
لكن إيفون البلهاء، فقدت رشدها كاملا، وقالت من جديد: "لا".
أجفلت الممرضة، وهتفت: "كيف؟ لا ولد، ولا بنت! كيف يحدث هذا؟".
تصوروا هذه اللحظة أيها السادة والسيدات. كانت لحظة خطرة. صار لون إيفون مثل الشمندر، وأوشكت أن تنفجر باكية. ثانية واحدة فقط لتعترف بكل شيء. السماء وحدها تعلم ما كان سيحدث. أما أنا فقد احتفظت برباطة جأشي، وتقدمت لأنقذ الوضع.
قلت بهدوء: "كانا توأمين".
هتفت الممرضة: "توأمان!". وسُرَّت سرورا بالغا، وربتت على كتفي إيفون، وقبلتها من كلا خديها، أمام الناس.
"نعم، توأمان..."".
***
"مهما كانت قيمة آرائي في حياة غاسل صحون باريسي، فإني أريد أن أبينها. حين يفكر المرء بها، يجد من الغريب، أن آلاف الناس من مدينة حديثة عظيمة، عليهم أن يمضوا ساعات يقظتهم في غسل الصحون داخل جحور ساخنة. السؤال الذي أقدمه هو: لماذا تستمر هذه الحياة – ما غايتها، ومن يريد استمرارها، ولماذا؟ أنا لا أتخذ الموقف المتمرد الكسول. بل أحاول أن أتفكر في الأهمية الاجتماعية لحياة غاسل الصحون. أعتقد، بدءا، بالقول إن غاسل الصحون هو أحد عبيد العالم الحديث، لا حاجة إلى التوجع كثيرا عليه، إذ أن حالته أفضل من عمال يدويين عديدين، غير أنه يظل بلا حرية أكثر مما لو كان يشترى ويباع. عمله ذليل وبلا فن. والأجور التي يتقاضاها لا تتيح له أكثر من البقاء حيا. عطتله الوحيدة هي الطرد. إنه محروم من الزواج، فإن تزوج كان على زوجته أن تعمل أيضا. وباستثناء ضربة حظ سعيدة، لا منجاة له من هذه الحياة، إلا في السجن. في هذه اللحظة، هناك في باريس أناس ذوو شهادات جامعية يغسلون الصحون مقابل عشر فرنكات أو خمسة عشر فرنكا في اليوم. ليس بالمقدور القول إن هذا بسبب كسلهم، فالعاطل لا يمكن أن يصير غاسل صحون. غير أن الرتابة أطبقت عليهم، حتى غدا التفكير مستحيلا. ولو فكر غاسلو الصحون قليلا لشكلوا نقابة، منذ أمد بعيد، وأضربوا عن العمل، مطالبين بمعاملة فضلى. لكنهم لا يفكرون، لأنهم لا يملكون هذا الترف، فقد حولتهم حياتهم إلى عبيد.
السؤال هو، لماذا تستمر هذه العبودية؟ يتفق الناس على أن لكل عمل غاية سليمة. يرون شخصا سواهم يؤدي عملا غير مقبول، فيظنون أنهم حلوا الإشكال بالقول إن العمل ضروري. استخراج الفحم، على سبيل المثال، عمل شاق، لكنه ضروري – يجب أن يكون لدينا فحم. العمل في المجاري غير لطيف، لكن يجب أن يعمل شخص ما في المجاري. والأمر مماثل في عمل غاسل صحون. يجب أن يأكل أناس في المطاعم، ولهذا يجب على أناس آخرين أن يغسلوا الصحون لثمانين ساعة في الأسبوع. إنه عمل حضارة، ولهذا لا يخضع للمساءلة. هذه النقطة ينبغي التفكير فيها.
هل عمل الغاسل ضروري للحضارة؟
لدينا شعور بأنه يجب أن يكون عملا "شريفا"، لأنه شاق، وكريه، ولأننا جعلنا من العمل اليدوي نوعا من الصنم. نشاهد رجلا يقطع شجرة، فنقول إنه يسد حاجة اجتماعية، لمجرد أنه استعمل عضلاته، ولا يخطر ببالنا أنه قطع شجرة جميلة، فقط ليهييء مكانا لتمثال شنيع. أظن الأمر ينطبق على غاسل الصحون. إنه يكسب خبزه بعرق جبينه، لكنه لا يستتبع ذلك أنه كان يؤدي عملا نافعا. ربما كان يديم ترفا هو في الغالب ليس ترفا".
"... ما الحاجة الفعلية إلى الفنادق الضخمة والمطاعم الفاخرة؟ المفترض فيها أن تقدم ترفا، لكنها في الواقع تقدم محاكاة رخيصة للترف. يكاد الجميع يكرهون الفنادق. ثمت فنادق أفضل من سواها، لكن من المستحيل الحصول على وجبة جيدة في مطعم، بالسعر نفسه، أفضل مما يجدها في منزل خاص. لا شك في أنه يجب وجود المطاعم، لكن لا حاجة إلى أن تستعبد مئات الناس. عمل الفنادق ليس في الأمور الجوهرية، وإنما في الأمور المزيفة المفترض فيها أن تقدم ترفا، والأناقة، كما تسمى، تعني أن يعمل المستخدمون أكثر ويدفع الزبائن أكثر، ولا أحد يستفيد إلا المالك، الذي سيشتري لنفسه دارة في دوفيل. الفندق "الأنيق" هو، أساسا، مكان يكدح فيه مائة إنسان كالشياطين، حتى يدفع مائتا شخص مبالغ كبيرة لأشياء لا يريدونها حقا. لو انتهت السخافة من الفنادق والمطاعم وجرى العمل بكفاءة بسيطة، فإن غاسلي الصحون سوف يعملون بين ست ساعات وثماني ساعات في اليوم، بدلا من عشر أو خمس عشرة.
لنفترض حصول اتفاق على أن عمل غاسل الصحون غير ذي فائدة، في قليل أو كثير. آنذاك يأتي السؤال: لم يراد منه أن يظل يعمل؟ أحاول أن أذهب إلى ما وراء القضية الاقتصادية المباشرة، وأفكر... ترى أي سرور يناله شخص ما حين يفكر بأناس يظلون يغسلون الصحون طوال الحياة؟ فلا شك في أن نفرا – من المرتاحين جدا – يجدون سرورا في مثل هذه الأفكار. قال ماركوس كاتو، على العبد أن يعمل إن لم يكن نائما. لا يهم إن كان عمله يسد حاجة أم لا. المهم أن يعمل، لأن العمل ذاته جيد – للعبيد في الأقل. هذا الشعور لا يزال حيا، وقد راكم جبالا من الكدح غير المفيد.
أعتقد أن غريزة تخليد عمل غير نافع تعني، في العمق، الخوف من العامة. فالعامة (هكذا تمضي الفكرة) هم حيوانات وضيعة إلى حد أنهم يكونون خطرين لو أتيح لهم وقت الفراغ، والأكثر مدعاة للأمان أن يظلوا منشغلين إلى حد يمنعهم من التفكير. والغنى، الذي قد يكون صادق الثقافة، لو سئل عن تحسين العمل، فسوف يقول عادة، كالآتي:
"نحن نعرف أن البؤس غير مفرح. والواقع أن البؤس ما دام بعيدا عنا، فإننا نتسلح بفكرة أنه غير مفرح. لكن لا تتوقع منا أن نفعل أي شيء بصدده. نحن آسفون لطبقاتكم الدنيا، مثل ما نحن آسفون لقطة جرباء، غير أننا سنقاتل كالمردة ضد أي تحسين لظرفكم. نحن نشعر أنكم مأمونون أكثر وأنتم في حالكم هذا. إن الواقع الراهن يناسبنا، ولسنا مستعدين لمخاطرة تحريركم، حتى بساعة إضافية في اليوم. هكذا، يا إخوتي الأعزاء، إن كان عليكم أن تعرقوا لدفع رحلاتنا إلى إيطاليا، فلتعرقوا، ولتحل عليكم اللعنة"
هذا، بخاصة، هو موقف الناس الأذكياء المهذبين، وبالإمكان قراءة جوهر الموقف في مائة مقال. قليل جدا من الناس المثقفين يكسبون أقل من أربعمائة باوند مثلا في العام، ومن الطبيعي أنهم يقفون في صف الأغنياء لأنهم يتصورون ان أي حرية يُتنازل عنها للفقراء هي تهديد لحريتهم. ولأن الرجل المثقف يرى اليوتوبيا الماركسية البغيضة بديلا من هذا، فهو يفضل الإبقاء على الأمور كما هي. قد لا يود كثيرا أصحابه الأغنياء، لكنه يفترض أن أشد صحابه ابتذالا هو أقل عداء لمسراته، وللناس الذين هم على شاكلته، من الفقير، وأن الخير في أن يقف بجانبهم. هذا الخوف المفترض من العامة الخطرين هو الذي يجعل معظم المثقفين قوما محافظين في آرائهم.
الخوف من العامة خوف خرافي. مستند إلى فكرة وجود فرق غامض أساسي بين الأغنياء والفقراء، كأنهما من رِسّين مختلفين، كالسود والبيض. وفي الحقيقية لا يوجد مثل هذا الفرق. إن جمهرة الأغنياء والفقراء يتمايزون بدخولهم وليس بأي شيء آخر. والمليونير العادي هو غاسل الصحون العادي مرتديا بدلة جديدة. بَدِّل المواقع، واقلب الأشياء: مَن القاضي؟ من اللص؟ كل من اختلط مع الفقراء على قدم المساوة يعرف هذا جيدا. لكن المشكلة أن الناس المثقفين المهذبين أنفسهم، المتوقع منهم أن يحملوا آراء ليبرالية، لا يختلطون بالفقراء... يتصور المثقف قطيعا من أشباه البشر، ينتظرون يوم حرية فقط، كي ينهبوا بيته، ويحرقوا كتبه، ويجعلوه يشتغل في إصلاح ماكنة، أو تنظيف مراحيض. ويفكر: "ليأت أي شيء، ليأت الظلم، فلا ينطلق العامة". وهو لا يرى، ما دام الفرق غير قائم بين جمهرة الفقراء والأغنياء، أن لا موضع لإطلاق العامة. إن العامة هم مُطلقون الآن، فعلا، وهم – في صورة الأغنياء – يستعملون سلطتهم لإقامة آلات الضجر، مثل الفنادق "الأنيقة". باختصار أقول إن غاسل السحون عبد، عبد مُضاع، يؤدي عملا غبيا ليست له ضرورة تقريبا، وهو محتجز في العمل، إلى ما لا نهاية، بسبب شعور غامض حول أنه سيكون خطرا لو أُطلق سراحه. والمثقفون الذين يجب أن يقفوا إلى جانبه، مذعنون، ذلك لأنهم لا يعرفون عنه شيئا، وبالنتيجة يخشونه. أقول هذا عن غاسل الصحون لأني كنت أدرس حالته هو، التي تنطبق تماما على المئات من الأعمال، وأنماط العمال. هذه هي آرائي في الحقائق الأساسية لحياة غاسل الصحون، قدمتها بدون رجوع إلى القضايا الاقتصادية المباشرة، وربما كانت آراء عادية. إنني أقدمها، نماذج للأفكار التي تخطر ببال المرء حين يعمل في فندق".
***
"... الوَسَخ يحترم الأشخاص احتراما عظيما، إنه لا يقترب منك حين ترتدي ثيابا جيدة، لكن ما أن تذهب لياقتك، حتى يندفع إليك من مختلف الجهات".
***
"... يجدر بي أن أقول شيئا عن الوضع الاجتماعي للمتسولين، فحين يتعرف عليهم المرء، ويجد أنهم بشر عاديون، يصدمه الموقف الغريب الذي يتخذه المجتمع إزاءهم. ويبدو أن الناس يشعرون بان ثمت اختلافا جوهريا بين المتسولين والناس "العاملين". إنهم رِسّ منفصل – منبوذون، مثل المجرمين والبغايا. العمال "يعملون"، والمتسولون لا "يعملون"، إنهم كائنات طفيلية بطبعيتهم. والمتعارف عليه أن المتسول لا "يكسب" رزقه، مثلما "يكسب" بنّاء القرميد أو الناقد الأدبي، رزقه. المتسول زائدة اجتماعية، نتحمله لأننا نعيش في عصر إنسانيّ، لكنه خسيس في جوهره.
لكن لو دقق المرء النظر فلن يجد فرقا "جوهريا" بين معيشة المتسول ومعيشة عدد لا يحصى من الناس المحترمين. المتسولون لا يعملون، كما يقال، لكن، ما "العمل"، إذا؟ العامل غير المهاري يعمل ملوحا برفش، المحاسب يعمل بإضافة أرقام. المتسول يعمل بوقوفه خارج الأبواب في كل تقلبات الطقس، ويصاب بالدوالي والتهاب القصبات المزمن... إلخ. التسول حرفة، شأنها شأن أي حرفة أخرى، عديمة النفع، بالطبع – لكن ثمت الكثير من الحرف المحترمة عديمة النفع. والمتسول باعتباره نمطا اجتماعيا، تمكن مقارنته بالعديد من الآخرين. وإنه لنزيه، صادق، مقارنة بمعظم بائعي الأدوية، وأفضل ذهنا إذا قارنّاه بمالك صحيفة من صحف الأحد، وأكثر ودا من وكيل إيجار – ويمكن القول باختصار إنه من الطفيليات، لكن الطفيليات غير الضارة. ونادرا ما يأخذ من المجتمع أكثر من كفاف العيش. أما ما يبرره حسب أفكارنا الأخلاقية، فإنه يدفع ثمنه، مرارا ومرارا، بمعاناته. وأنا لا أظن في المتسول شيئا يجعله مختلف المرتبة عن الآخرين، أو يعطي معظم الرجال العصريين حق احتقاره.
ثم يأتي السؤال: لماذا يُحتقر المتسولون؟ - ذلك لأنهم محتقرون على نحو شامل. أعتقد أن لهذا سببا بسيطا، هو أنهم أخفقوا في كسب حياة لائقة عمليا، لا يهتم أحد إن كان العمل نافعا أم غير نافع، منتجا أم طفيليا، الأمر المطلوب الوحيد أن يكون العمل مربحا. في كل الكلام الحديث عن القدرة، والكفاءة، والخدمة الاجتماعية، وما إلى ذلك، أهناك معنى آخر غير "اكسب مالا، اكسبه بطريقة مشروعة، واكسب منه الكثير"؟
لقد صار المال اختبار الفضيلة الأكبر. في هذا الاختبار يفشل المتسولون، ولهذا يُحتقرون. ولو أمكن كسب عشرة باونات أسبوعيا من التسول، لصار التسول مهنة محترمة، على الفور. إذا نظرنا إلى المتسول نظرة واقعية، فلسوف نجده ببساطة، رجل أعمال، ومثل رجال الأعمال الآخرين يكسب رزقه، بالطريقة التي يعتمدها. وهو لم يبع شرفه أكثر مما فعل معظم الناس. لقد أخطأ، فقد في اختياره مهنة يستحيل معها أن يصير غنيا".
***
"... كلمات السباب تتغير أيضا – أو أنها تخضع للموضة. مثلا، كانت الطبقة العاملة في لندن قبل عشرين عامل تستعمل كلمة bloody. الآن تركوها تماما، مع أن الروائيين لا يزالون يستعملونها. ولا أحد من مواليد لندن (دع ذوي الأصول الأسكتلندية أو الأيرلندية) يقول الآن bloody إلا إذا كان حاصلا على تعليم. الواقع ان الكلمة ارتقت في السلم الاجتماعي ولم تعد كلمة سباب لدى الطبقة العاملة".
***
"أريد أن أبين بضع ملحوظات عامة عن المتشردين. عندما يفكر المرء، بالأمر، يجد أن المتشردين نتيج غريب يستحق التأمل. غريب أن قبيل رجال، يُعدّون بعشرات الآلاف، يطوفون في أرجاء إنجلترا، من أقصاها إلى أقصاها، مثل يهود تائهين. لكن القضية، وهي تستحق التفكير بشكل واضح، لا يمكن البدء بتأملها إلا بعد التخلص من أهواء معينة. هذه الأهواء نابعة من فكرة أن كل متشرد، هو وغد، كحقيقة واقعة. علمونا في الطفولة أن المتشردين أوغاد، وهكذا وُجد في أذهاننا نمط من الوغد المثال، الوغد الأنموذجي – مخلوق كريه، بل خطِر، يفضل الموت على العمل أو الاغتسال، ولا يريد سوى أن يتسول، ويشرب، ويسطو على أقنان الدجاج. هذا المتشرد – الوحش، ليس أكثر حقيقية في الحياة من الصيني الشرير في قصص المجلات، لكن من الصعوبة البالغة التخلص من النمط هذا. إن كلمة "متشرد" ذاتها، تثير تخيله (أي الفرد). وما يعتقده يشوش الأسئلة الحقيقية المتصلة بالتشرد.
لنتناول سؤالا أساسيا حول التشرد: لماذا يوجد المتشردون. شيء غريب أن يعرف قلة من الناس ما يجعل المتشرد على الطريق. ونتيجة الاعتقاد بالمتشرد-الوحش، تُقترح أسباب عجيبة للظاهرة. يقال إن المتشردين يتشردون كي يتجنبوا العمل، ويتسولوا بسهولة، ويغتنموا فرصا للجريمة، وأخيرا – كسبب أقل احتمالا – لأنهم يحبون التشرد. بل لقد قرأت في كتاب عن علم الإجرام أن المتشرد رجعي، عودة إلى مرحلة البدو الرحل في تاريخ البشرية. بينما السبب الواضح تماما للتشرد ماثل جدا أمام الوجه. بالطبع، ليس المتشرد رجعي – بالإمكان القول أيد إن التاجر الجوال رجعي. المتشرد يتشرد، لا بسبب أنه يحب التشرد، وإنما للسبب نفسه الذي جعل السيارة تلتزم اليسار. لأن ثمت قانونا يلزمها بذلك. إن شخصا بلا موارد، إن لم تساعده الإبرشية، فلن يجد العون إلا في بيوت أبناء السبيل، ولأن هذه البيوت لا تؤويه إلا ليلة واحدة، يظل أوتوماتيكيا يتحرك. هو متشرد لأن عليه، حسب القانون السائد، إما أن يتشرد أو يجوع. لكن الناس نشأوا على الاعتقاد بالمتشرد – الوحش ولهذا يفضلون التفكير بوجوب وجود دافع شرير للتشرد.
والحق أن جانبا جد ضئيل من فكرة المتشرد – الوحش، سيصمد للتدقيق. خذ الفكرة الشائعة حول أن المتشردين أشخاص خطرون. بمعزل عن التجربة، يمكن القول بدءا إن قليلا جدا من المتشردين خطرون، لأنهم لو كانوا خطرين لتم التعامل معهم بموجب ذلك. إن بيتا لأبناء السبيل يؤوي غالبا، مائة متشرد، في الليلة الواحدة، ويتولى أمر هؤلاء المائة، جهاز من ثلاثة أشخاص، بوابين، في الغالب. لا تمكن السيطرة بثلاثة رجال غير مسلحين على مائة شخص وحشي. والواقع أن المرء حين يرى كم يتعرض المتشردون للمضايقة من جانب موظفي الورشات، يجد أن هؤلاء المتشردين هم من أكثر الناس مسالمة وخضوعا، إلى حد لا يمكن تصوره. او خذ الفكرة أن كل المتشردين سكيرون – وهي فكرة مضحكة في ظاهرها. لا شك في أن متشردين كثارا سوف يشربون لو أتيحت لهم الفرصة. في هذه الأيام، يبلغ سعر الباينت مما يدعى بيرة في إنجلترا سبعة بنسات. وكي تسكر على البيرة يجب أن تدفع نصف كراون، والرجل الذي يستطيع التصرف بنصف كراون، غالبا، يست متشردا بأي حال. فكرة أن المتشردين طفيليات اجتماعية وقحة، ليست بلا أساس إطلاقا، لكنها تنطبق على نسبة مئوية قليلة من الحالات. إن التطفل الشرير، المتعمد، كالذي يُقرأ في كتب جاك لندن عن التشرد الأمريكي، ليس في طبيعة الشخصية الإنجليزية. فالإنجليز رِسّ مثقل الضمير بإحساس قوي بخطيئة البؤس. ولا يمكن تخيل أن يختار الإنجليزي العادي، عامدا، التحول إلى طفيلي، وهذه الشخصية الوطنية لا تتغير بالضرورة لأن رجلا صار عاطلا عن العمل. والحق أننا لو تذكرنا أن المتشرد هو مجرد إنجليزي عاطل عن العمل، أُرغم قانونيا على العيش متصعلكا، لاختفى المتشرد – الوحش. أنا لا أقول إن معظم المتشردين هم شخصيات مثالية، بل أقول فقط إنهم بشر عاديون. وإن كانوا أسوأ من الآخرين فإن هذا نتيجة لا سبب لطريقتهم في الحياة".
جورج أوريل
ت: سعدي يوسف