‏إظهار الرسائل ذات التسميات السداسي الخامس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السداسي الخامس. إظهار كافة الرسائل

السبت، 22 يونيو 2013

هوية المجتمع ....بين العالمية و العولمة


يوميات مغاربية : 2013/05/31
مع خديجة والأستاذ شكذالي مصطفى
استاذ علم النفس لاجتماعي

مفهوم الهوية بين الثابت و المتحول ...هل لها توصيف محدد أم تتداخل فيها تعريفات متعددة ؟

ما هي محددات الهوية الإجتماعية و الثقافية في مجتمعنا ؟ و هل طالها  ثمة تصدع في جدرانيها ؟

و ما هي آليات الحفاظ على الانتماء ، على الهوية و على روح  الأصالة  ؟

و ما هي الإكراهات المفروضة  على هويتنا  الثقافية و الاجتماعية ؟  ننتظر كل الآراء و الرؤى لنناقشها  على الهواء مباشرة من 10 و النصف إلى 11 و النصف ..

  اسـتـمـع إلـى الـحـلـقـة

الثلاثاء، 11 يونيو 2013

مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي




 
مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي
هل يصلح أداة منهجية لدراسة تاريخ مملكة نبتة- مروى؟
إطار نظري لتحليل التاريخ الاجتماعي الاقتصادي لمملكة نبتة - مروى
 أسامة عبدالرحمن النور


قبل البدء في دراسة أسلوب الإنتاج السائد في مملكة نبتة مروى، وقبل حسم مسألة مدى الاستفادة الممكنة من المفاهيم التجريدية التى تم طرحها من قبل المفكرين الأوربيين، واستخدامها أداة تحليلية في دراسة خصائص التطور الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع في السودان القديم، لا بدَّ من الإشادة بالمجهودات الهائلة التى قام بها لفيف من الباحثين العرب وغير العرب لمناقشة التعميمات السوسيولوجية الخاصة بتطور المجتمعات الشرقية والأفريقية عموماً. مجمل تلك الأبحاث والمجهودات القيمة شكلت قاعدة اتكأت عليها هذه الدراسة النظرية المدخلية علها تسهم إلى حد ما في طرح قاعدة منهجية تصلح أداة للنفاذ إلى إشكالية خصائص التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي لمملكة نبتة مروى. 


يبدو لنا أن العديد من الباحثين المعاصرين من العرب وغير العرب اتبعوا نهجاً نقول بأنه سعى إلى استنباط عناصر من آراء المفكرين الأوربيين بدءاً من أرسطو مروراً بآراء كل من بيرنيه، وهارنجتون، وميكافيلى، ومونتسكيه، انتهاء بآراء آدم سميث، وهيجل، وكارل ماركس. ويلاحظ أن هؤلاء الباحثين أخذوا في تطبيق ما استنبطوه من عناصر على المعطيات التاريخية مفترضين أن ذلك إنما يوازى التحليل النظري غض النظر عن مدى صلاحية أو عدم صلاحية الصيغ التى اعتمدوا عليها. نتج عن مثل هذا الشكل من المعالجات وضع أصبحت معه العديد من الأبحاث التى تعرضت للمجتمعات الشرقية والأفريقية فاقدة لقاعدة نظرية دقيقة.

بصورة عامة نقول بأن المناقشات الدائرة حالياً حول أساليب الإنتاج التى سادت في التركيبات الاجتماعية في الشرق وأفريقيا قديماً ولازالت العديد من سماتها باقية، تميزت ببعض نقاط الضعف التى لا بدَّ لنا من الإشارة إليها إن كان في نيتنا تجنب الوقوع في الأخطاء النظرية. لدى دراسة أية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية هناك مسألة تطرح نفسها، ابتداء، ومن غير الممكن السير قدماً في المهمة قبل التوقف عندها ملياً، ألا وهى مسألة المفاهيم والتعريفات. فبدون هذه الخطوة المبدئية التى من شأنها تعريف المفهوم وتوضيح حدوده، قد يجد الباحث نفسه وهو يلاحق ما هو بعيد عن موضوع دراسته، أو ينساق وراء جوانب ثانوية. على أن المشكلة التى تواجه الباحث عندما يحاول أن يستهل دراسته بتعريف المفاهيم وتوضيحها، هي أنه لا يستطيع التوصل إلى تعريف مرضٍٍ قبل أن يكون قد قطع شوطاً واسعاً في تقصى مفاهيمه. لأن التعريف الذى لا يأتي نتيجة الدراسة المتأنية والمعمقة، سوف يعكس أهواء الباحث ومواقفه المسبقة وإسقاطاته الخاصة، عوضاً عن أن يكون مرشداً موضوعياً له. من هنا، فان الباحث يجد نفسه أمام مأزق فعلى يتعلق بالمنهج. ذلك أن التعريف المسبق أمر ضروري لأجل توضيح مجال البحث وتحديده، ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن يشبع مفاهيمه التى يعكف عليها بحثاً وتحليلاً.

من هنا فاننا نرى أن دراسة المفاهيم يجب أن تسير على مرحلتين. تهدف الأولى إلى التوصل إلى تعريف دقيق للمفهوم انطلاقا من تعريف مبدئي عام وفضفاض، من شأنه حصر مجهود الباحث وتركيزه ضمن قطاع عام أو مفهوم أشمل يحتوى المفهوم الأصغر الذى هو يصدده. أما المرحلة الثانية فتعود إلى نقطة البداية مزودة بتعريف واضح ودقيق للمفهوم، وتُقبل عليه مجدداً وقد صار محدداً ومميزاً عن بقية المفاهيم المشابهة له أو المتداخلة معه.

لدى بذل محاولة طرح تأطير نظري لدراسة أي مجتمع لا بدَّ وأن تكون البداية هي تناول مفهومين أساسيين : التركيبة الاجتماعية social formation، وأسلوب الإنتاج mode of production . هنا لا بدَّ من أن نقول بأن الباحث الفرنسي لوى ألتوسير قد أسهم إسهاماً رائداً في البحث الجاري باتجاه التطوير الملموس لمفهوم التركيبة الاجتماعية عاداً إياها بمثابة "الممارسة الاجتماعية"، التى توجد ككل مركب يشتمل على عدة عناصر: الممارسة الاقتصادية، والممارسة السياسية، والممارسة الأيديولوجية، والممارسة النظرية (1). مجمل هذه العناصر في وحدتها هو ما يمكن تسميته " بالممارسة الاجتماعية ". وبغض النظر عن خصائص كل عنصر من تلك العناصر فان لكل واحد منها بنيته الخاصة غير المتبدلة التى يتم في إطارها تحول المادة الخام الحاسمة إلى منتج محدد، تحول يتأثر بالضرورة بالعمل الذى يستخدم وسائل للإنتاج محددة، بالتالي فان ما يسمى بالممارسة الاقتصادية تتطلب تحويل المواد الخام الطبيعية إلى "منتجات اجتماعية" وذلك عبر الاستخدام الممن هج والمنتظم لوسائل العمل الإنساني [وسائل الإنتاج]، أما ما يسمى بالممارسة السياسية فتوجد في شكل تحول يصيب العلاقات الاجتماعية السائدة خالقاً علاقات جديدة، في حين توجد الممارسة الأيديولوجية في شكل التحول الذى يصيب العلاقات المعيشة "للذات" تجاه العالم عبر وسائل الصراع الأيديولوجي، وتوجد الممارسة الأخيرة، النظرية، في شكل تحول المفاهيم القائمة في إطار المعالجات الأيديولوجية إلى معرفة عملية عبر وسيلة العمل التجريدي الذى يتحرك في مجال المفاهيم التى تقوم بتحديد المجال الذى تطرح فيه إشكالية العلم. ويرى ألتوسير أنه في إطار وحدة هذه الممارسات تظل الممارسة الاقتصادية بمثابة القوة الحاسمة في التركيبة الاجتماعية في نهاية المطاف، وتظل هي بالتحديد التى تشكل بنية العلاقات الداخلية لمختلف العناصر الأخرى. رأى ألتوسير الأخير هذا سنعود لمناقشته في وقت لاحق.

أما مفهوم أسلوب الإنتاج فيمكن تعريفه عبر تناول الممارسة الاقتصادية تحديداً. تحتوى هذه الممارسة الاقتصادية في مستواها الأساسي أي الإنتاج عموماً- على عناصر محددة: المنتج ووسائل إنتاجه وموضوع العمل. إلا أنه في ذات الوقت يوجد العامل غير المنتج الذى يقوم بالاستحواذ على العمل الفائض. ولتحقيق عملية الإنتاج وإنجازها لا بدَّ بالضرورة من التحام كل تلك العناصر. وتتم عملية الالتحام هذه عبر شكلين للعلاقات. الشكل الذى تتم به عملية الالتحام هو ما يميز المراحل المختلفة التى اصطلح على تسميتها بأساليب الإنتاج. إن فائض العمل القائم في عمليات العمل والناتج عن كون الإنتاج قد تعدى حدود المتطلبات البسيطة لإعادة إنتاج ضرورات العمل المستخدم، يعطى هذا الفائض منتوجاً فائضاً خاضعاً لأشكال الانتزاع المتعددة في المراحل المختلفة، أشكال الانتزاع تلك هي نتاج لعلاقات الإنتاج المحددة والتي تنشئ، بمجرد تأسيسها، نظاماً متفاوتاً لحيازة الملكيَّة والسيطرة على وسائل الإنتاج بالنسبة للعامل المنتج وللعامل غير المنتج. وتؤسس علاقات الإنتاج شكلاً سائداً لانتزاع فائض العمل في أسلوب الإنتاج المعنى، وتكون لانتزاع فائض العمل هذا الأولوية على عمليات الإنتاج طالما أنه يقوم بتشكيل الأخيرة.

بالتالي فان أسلوب الإنتاج المعين يوجد كوحدة خاصة مزدوجة لعدة عناصر ويؤلف نوعاً من التركيبة الخاصة لعلاقات الإنتاج، ولأشكال العمل، ويتم تشكله انطلاقا من علاقات الإنتاج السائدة. الأمر كذلك فانه من "الإنتاج عموماً، ومن ظواهره المشتركة" يكون ممكناً، كما يشير إلى ذلك ألتوسير، الانطلاق لتحديد "الإنتاج بخاصة"، أى الإنتاج في مرحلة معينة، كما يصبح من الممكن الانطلاق لتحديد أسلوب الإنتاج المحدد.

إذن طالما أن أسلوب الإنتاج يوجد كتركيب مزدوج لعدة عناصر، وطالما أن هذا التركيب هو الذى سيحتم أياً من الممارسات (الاقتصادية، أو السياسية، أو الأيديولوجية، أو النظرية) فانه يشكل العامل الحاسم في إطار الممارسة الاجتماعية، ولذا فانه ولدى دراسة النظم الاقتصادية للمجتمعات السابقة لنشوء الرأسمالية، لا بدَّ بكل بساطة من تحديد الأشكال التى يتم فيها التحام تلك الممارسات، كما لا بدَّ من تحديد طبيعة تلك العناصر المزدوجة، طالما أن أي أسلوب للإنتاج إنما يوجد كبنية سائدة، كوحدة لأشكال للعمل مختلفة في ظل سيادة أسلوب معين لانتزاع العمل الفائض الذى تحتمه سيادة علاقات إنتاجية محددة؛ بمعنى آخر فانه من خلال وحدة العناصر المزدوجة المختلفة في أسلوب الإنتاج تسود العلاقات التى يتم في إطارها انتزاع العمل الفائض، تلك العلاقات التى من خلالها تتشكل عمليات الإنتاج. يعنى ذلك أنه لا يمكن لتحليل أي أسلوب للإنتاج الانطلاق من مجرد التعرف على العناصر ووحدتها في عملية الإنتاج، أي من مجرد تقسيم العمل (2)، ذلك لأن إنجاز عملية انتزاع العمل الفائض لا يتم عبر عملية الإنتاج بالتحديد طالما أن عملية الإنتاج تعتمد في حد ذاتها على عملية انتزاع العمل الفائض وتتشكل من خلالها، بالتالي فان علاقات الإنتاج السائدة، العلاقات القائمة بين المنتج وغير المنتج، والتي تشكل الأساس المبدئي لتحليل خاصة أي أسلوب للإنتاج، ستظل غائبة بمجرد اختزال التحليل على مستوى عملية الإنتاج فحسب.

لقد وقع العديد من الباحثين في مسائل المجتمعات الشرقية والأفريقية في هذه الهوة، الأمر الذى أدى بهم إلى تعميم استخدام مفهوم أسلوب معين للإنتاج إلى درجة يفقد معها خاصته المميزة نهائياً، أو للدرجة التى يتم معها الخلط بين العلاقات الإنتاجية وعلاقات الاستحواذ، مثال ذلك التعريف الذى يطرحه شريف الدشونى لما يسمى بأسلوب الإنتاج الآسيوي الذى أشار إليه كارل ماركس في عمله "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي". يقول الدشونى أنه "بشكل عام وفي كثير من التجاوز يمكن للإنسان وصف هذه المجتمعات ذات النمط الآسيوي للإنتاج بأنها مجتمعات وسطية تتدرج من مجتمع لا طبقي (أولى) ومجتمع طبقي. العلاقات الطبقية والملكية الفردية لم تتبلور بوضوح بعد، فعلى الرغم من وجود ظاهرة العمل العبودي (في قصور الملوك والأمراء) لا يمكن وصف المجتمع بشكل عام على أنه يعتمد على مثل هذا الشكل للعمل، لا يمثل هذا النوع من العمل العلاقات الأساسية لأن المجتمع العبودي يحتاج إلى مستوى أعلى من الإنتاج والتجارة وجمع الثروة" (3). ولاشك أن مثل هذا التعريف يتنافى كلياً وخصائص أسلوب الإنتاج الشرقي المميزة طالما أنه يهمل مفهوم الدور الأساسي للري والأعمال الكبرى الأخرى وغياب الملكية الخاصة للأرض في تأسيس هذا الأسلوب.

أما الباحث شينو فانه يذهب أبعد من الدشونى ويقول بأن "نمط الإنتاج الآسيوي مقولة ينبغي تحديدها بالنسبة للإنتاج ذاته، وينبغي أن تعبر عن العلاقات الاجتماعية المخلوقة تلبية لاحتياجات الإنتاج، "قانونه الأساسي" لا يمكن أن يظهر لا على مستوى تقنيات الإنتاج، ولا على مستوى المقتضيات الجغرافية (الري وجفاف المناخ)، ولا على مستوى أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي (الأرستقراطية القبلية والبيروقراطية)، وإنما على مستوى الإنتاج نفسه... إن نمط الإنتاج هو شكل خاص نوعى من أشكال استغلال الطبيعة والإنسان معاً، ويتطلب نمط الإنتاج في آن واحد تنظيماً تقنياً للعمل، وشكلاً للتعاون، وتنظيماً اجتماعياً للعمل، وشكلاً من أشكال الإكراه الاجتماعي، وإذا نسقنا الملاحظات التى أبديت بهذا الخصوص وجدنا أن أسلوب الإنتاج الآسيوي يتميز بالجمع بين النشاط الجماعي للمشتركات القروية وبين التدخل الاقتصادي لسلطة دولة تستغل تلك الجماعات وتحكمها في آن واحد ". وطرح شينو سؤالاً عما إذا كانت هذه الفكرة الخاصة "بالقيادة الاقتصادية العليا" تنطوي على وظائف أخرى "من قبيل ذلك مراقبة الدورات الزراعية، وصيانة الطرق ومراقبة أمنها، والحماية العسكرية للقرى ضد غارات البدو أو جيوش الغزاة الأجانب، وتتولى الدولة المسئولية المباشرة عن بعض قطاعات الإنتاج الصناعي التى تنمى طاقات المشاعات القروية، على سبيل المثال في مجال المناجم والتعدين"(4).

لا شك أنه بتوسيع مفهوم أسلوب الإنتاج الآسيوي بهذه الصورة فان الدشونى وشينو يجردان المفهوم من محتواه الفعلي أداة تحليلية، مثل هذه المحاولات لا تعنى شيئاً في الواقع سوى تبسيط تجريدي للسمات المميزة لأسلوب الإنتاج الشرقي واختزالها فقط في ما يميز أول بادرة لظهور الدولة والطبقات الحاكمة في مجتمع لازال يقوم في الأساس على قاعدة المشترك القروي. ولا شك في إمكانية إثبات حقيقة أنه في كل حالة توجد الإتاوة التى تدفعها المشتركات القروية لمواجهة التكاليف التى تتطلبها المهام المرتبطة بالمصلحة العامة، بما في ذلك المصلحة ذات الطابع المخيالي الديني أو السحري، وبالتدريج تبدأ الأرستقراطية القبلية في الاستحواذ على تلك الإتاوات، وتتعايش لفترة انتقالية محددة "ديمقراطية" تقوم على قاعدة المشترك القروي مع حكومة ذات طابع استبدادي متزايد في القمة.

بمجرد أن يتم تثبيت الاتجاه الخاطئ الذى يبسط أسلوب الإنتاج الشرقي ويختزله في مجرد مفهوم يعبر عن واقع دمج المشترك القروي مع سلطة مركزية مستغلة (بالكسر) فان الدشونى وشينو لا يجدان صعوبة في اكتشاف ما يسمى بنمط الإنتاج الآسيوي في أفريقيا في مرحلة ما قبل الاستعمار الأوربي، وفي أمريكا ما قبل كولومبوس، بل حتى في أوروبا الأبيضية المتوسطية (الثقافة الموكينية الكريتية)، لكننا نجد أنه بعد اكتمال عملية التبسيط تلك نكون قد فقدنا كل ما هو آسيوي، أو كل ما هو "شرقي" بالتحديد في مثل هذه المقولة الشمولية الموسعة. وفي اعتقادي أن مثل هذا الخلط يبرز كنتيجة لعدم إدراك العلاقات الإنتاجية والتقسيم الاجتماعي للعمل، وهو ما يشكل الأساس الفعلي للبنية الطبقية نفسها.

هذه هي الهاوية الأولى التى لا بدَّ من تجاوزها لدى تحليل أساليب الإنتاج السابقة للرأسمالية في الشرق وفي أفريقيا إذا ما أردنا تجنب وهم التعرف ببساطة على وحدة العناصر النظرية القائمة في عملية الإنتاج. بعد ذلك يصبح الواجب المطروح أكثر صعوبة طالما أنه يتوجب الكشف عن علاقات الإنتاج التى تسمح بانتزاع العمل الفائض من المنتجين المباشرين في أسلوب الإنتاج المدروس، هذه العلاقة لا بدَّ من تركيبها ليس عبر دراسة عملية الإنتاج، وإنما بالبدء في تحليل مجمل عملية إعادة إنتاج النظام الاقتصادي في علاقته بالتركيبة الاجتماعية نفسها. هذه هي المهمة التى تواجه البحث الحالي الذى يسعى إلى تحليل أسلوب الإنتاج الذى ساد في التركيبات الاجتماعية في مملكة نبتة ومروى. لا بدَّ لنا من دراسة الإنتاج في صلته بالأوجه الأخرى التداول والتوزيع الخ. وفي تركيبه التفصيلي مع المستويات الأخرى. فقط بعد هذا يصبح يمكننا طرح مسألة وجود علاقات الإنتاج المحددة التى تحتم نظام الإنتاج وتساعده في إعادة إنتاج نفسه، والتي تعطى أساساً للانقسام الاجتماعي للعمل الذى تنشأ على قاعدته البنية الطبقية.

إذن ففي كل الحالات لا بدَّ لبحثنا أن ينطلق مبدئياً من تناول البنية الاقتصادية كنظام وأن يدرس التركيب التفصيلي لهذه البنية في إطار التركيبة الاجتماعية، وأن يستخدم المفاهيم التجريدية الأساسية للمنهجية العملية بدلاً من تطبيقها ببساطة على عمليات الإنتاج المختلفة. فأسلوب الإنتاج لا بدَّ وأن يتم تحليله بوصفه بيئة تسود فيها علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج، بحسبانه بنية تفرض فيها علاقات الإنتاج تطوراً محدداً لقوى الإنتاج. والحال كذلك فانه بدلاً من إنشاء صرح التحليل انطلاقا من الإصرار عل وجود التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، يكون من الأجدى البدء بتحليل النماذج المحددة للتطور والتي تفرضها علاقات إنتاج محددة على القوى الإنتاجية في أساليب الإنتاج المختلفة. هذه النقطة بالتحديد ذات أهمية قصوى لدى تحليل التركيبات الاجتماعية في الشرق وأفريقيا طالما أنه يصبح ممكناً البدء في تحليل تلك الأشكال الاجتماعية فقط في حالة دينامية أسلوب الإنتاج السائد وكيف يمكن للتركيب التفصيلي لتلك الديناميات في التركيبة الاجتماعية أن يُثبَت إمكانية بروز عناصر أسلوب جديد للإنتاج.

إن مسألة الانتقال من أسلوب إنتاجي إلى آخر تتم كالتحام لعمليات مختلفة: دينامية أسلوب الإنتاج السائد سابقاً، وتركيب العناصر الخاصة بالأسلوب الوليد، والتركيب التفصيلي لأساليب الإنتاج الأخرى في التركيبة الاجتماعية لضمان تأسيس الأسلوب الجديد وإعادة إنتاجه. فقط عبر تحليل العلاقة المتبادلة بين تلك العمليات في مرحلة الانتقال يصبح من الممكن تحديد خطة لدراسة التطور التاريخى الثقافي للمجتمعات الشرقية والأفريقية القديمة طالما أن تلك العمليات هي التى تعنى بالتحديد في نهاية المطاف بنية تلك المجتمعات ونزعتها التطورية.

أسلوب الإنتاج الآسيوي وديناميته

بعد كل هذا ننتقل الآن إلى طرح الأسس لتركيب مفهوم بنية وإعادة إنتاج أسلوب الإنتاج الذى ساد في التركيبات الاجتماعية الشرقية القديمة وديناميته. نبدأ تناولنا للمسألة بإعطاء وصف شامل للخصائص الأساسية للتركيبة الاجتماعية التى يسود فيها باعتقادنا أسلوب نمط إنتاج آسيوي، ويعتمد تناولي على الحجم الهائل من المعطيات الآثارية  والابيجرافية والاثنوغرافية التى تراكمت بكميات لا حدود لها، والتي تلقى ضوءاً على مختلف جوانب الحياة في المجتمعات الشرقية والأفريقية القديمة.

في إطار التركيبات الاجتماعية الشرقية والأفريقية القديمة ينظم الإنتاج في عمليات العمل على قاعدة المشترك القروي، وتتكون وحدة الإنتاج من أفراد العائلة الواحدة أو تركيب لعدة عوائل، وتكون تلك المشتركات محدودة مبدئياً في إطار إنتاج المواد الخاصة باستهلاكها الذاتي، أما فيما يتعلق بتنظيم الإنتاج في تقسيم العمل فانه، في الغالب، ما يكون شبيهاً إلى حد ما للوصف الذى أعطاه هيجل لنظام المشتركات القروية في الهند " فيما يتعلق بالملكية الخاصة فان للبراهمة ميزة كبرى هي أنهم يدفعون ضرائب ويحصل الأمير على نصف دخل أرض الآخرين والنصف الباقي عليه أن يكفي تكاليف الزراعة ومئونة العاملين فيها. والمشكلة البالغة الأهمية هي ما إذا كانت الأرض الزراعية في الهند تُعتبر ملكاً للزراع أو ملكاً لمن يسمى بمالك المزرعة...ويقسم الدخل الذى يدخل لأية قرية كله قسمين أحدهما يخصص للأمير (الراجا) والقسم الآخر للمزارع. كما أن هناك أنصبة متناسبة تتوزع على عمدة المكان، والقاضي، ومراقب الماء، والبراهمي الذى يشرف على شئون العبادة، والمنجم (الذى هو كذلك أحد أفراد البراهمة وهو يعلن عن أيام السعد وأيام النحس)، والحداد، والنجار، والخزاف، والرجل الذى يجمع الملابس لغسلها، والحلاق، والطبيب، والراقصات من الفتيات، والموسيقى، والشاعر. وهذا الترتيب ثابت لا يتغير، ولا يخضع لمشيئة أحد. ولهذا فان جميع الثورات السياسية تمر على الهندي بلا مبالاة لأن مصيره لا يتغير "(5).

كما أنه يمكن أن يشبه الوصف الذى أعطاه شايانوف "للاقتصاد الطبيعي" الذى كان قائماً في روسيا في القرن التاسع عشر "كل وحدة عائلية بعد أن تقوم بمبادلة بضائعها مع الوحدات العائلية الأخرى، بل وقد تكون المبادلة مع المشتركات القروية المجاورة، فانها تسلم القيمة التى تشكل "المنتوج الاقتصادي الإجمالي" للوحدة، ومن ثم يتم اقتطاع جزء للمنصرفات الماديَّة الضروريَّة للعام من هذه القيمة ويتبقى بالتالي للعائلة الجزء من القيمة الذى أنتجته لاستعمالها الذاتي خلال العام، ثم تصبح هذه القيمة القاعدة التى يتم انطلاقا منها الإنتاج للعام المقبل"(6). النقطة الهامة هنا هى أن "دخل" الوحدة العائلية له محتماته الذاتية: حجم العائلة وتركيبها، وإنتاجية القوة العاملة في العائلة. هذا العنصر المحتم الأخير  الذى يشكل أهمية قصوى بالنسبة لتخطيط إيراد العائلة، له أيضاً أسبابه الخاصة حسب رأى شايانوف "إن درجة الاستغلال الذاتي تُحدد عبر توازن معين بين احتياج العائلة للاكتفاء الذاتي من جانب، وحجم الكد والعناء الضروري للعمل نفسه من الجانب الآخر، كل وحدة نقدية لمنتوج عمل العائلة المتزايد يمكن النظر إليها من منطلقين: أولاً من حيث أهميتها للاستهلاك من أجل إشباع احتياجات العائلة، وثانياً من حيث حجم الكد والعناء المبذول لاكتسابها"(7). ومن الواضح أنه بازدياد المنتوج المكتسب عبر العمل المضني فان أهمية التقدير الذاتي لكل وحدة نقدية جديدة مكتسبة للاستهلاك تقل، لكن الكد والعناء المبذول لاكتسابها والذي سيتطلب قدراً متصاعداً من الاستغلال سيرتفع، طالما لم يتم التوازن بين العنصرين، بمعنى طالما ظل الكد والعناء في العمل يقدر ذاتياً باعتباره أقل أهمية من الاحتياجات التى بذل العمل من أجل تغطيتها، فان العائلة تمتلك صلاحية الاستمرار في نشاطها الاقتصادي بدون عمل مدفوع الأجر. "بمجرد الوصول إلى هذا التوازن فان منصرفات العمل اللاحق تصبح أكثر صعوبة للفلاح أو الحرفي"(8).

ينحصر موضوع الإنتاج في الوحدة العائلية بالتالي في الوصول إلى نقطة التوازن هذه حيث يصبح من الممكن تغطية احتياجات العائلة، وحيث لا يُقيَّم حجم الكد والعناء كمجهود يتجاوز الحدود بالمقارنة مع النجاح في تحقيق تلك الاحتياجات وتلبيتها، وبمجرد الوصول إلى هذه النقطة فان الإنتاج اللاحق يصبح، حسب شايانوف، بدون هدف.

هذا وتقوم العائلة باستغلال الشروط الطبيعية (في شكل تركيبها الذاتي، أي النسبة المتبدلة دوماً للمنتجين بالنسبة للمستهلكين خلال الأجيال المتعاقبة)، والتبادل وما إلى ذلك لتحقيق التوازن، وهو ما يعنى أن النزعة إلى زيادة الإيراد، عبر مراكمة رأس المال واستغلال أراضى زراعية جديدة، تظل محدودة بتركيب قوة العمل في العائلة، وبحجم الكد والعناء المبذول في العمل بالنسبة لاحتياجات المستهلكين، إذا أصبح من الممكن التوصل إلى نقطة التوازن الذاتي عبر استغلال قوة عمل العائلة فلا داعي ولا حاجة بكل بساطة إلى زيادة حجم الكد والعناء بزراعة أراضى جديدة، أو العمل على تحسين الإنتاجية باستخدام الدخل المتوفر لشراء أدوات أكثر فاعلية، أما إذا تعذر تحقيق التوازن، على سبيل المثال عندما يعمل الزوجان لإعالة أطفالهما الصغار غير المنتجين، فان الخطوات المذكورة يمكن إتباعها لفترة مؤقتة لتهجر من جديد بمجرد الوصول إلى التوازن، بالتالي فان لاستخدام جزء من الدخل لشراء أدوات جديدة أو لزراعة أراضٍٍ إضافية يصبح مقبولاً بالنسبة للوحدة العائلية فقط في حالة إمكانية تحقيق توازن جديد في فترة وجيزة وبمنصرفات عمل أقل كداً وعناءً، ويعود بإشباع أكبر لاستهلاك العائلة، وبمجرد التوصل إلى تلك النقطة يمكن الاستغناء عن تلك الخطوات.

إذا صحت فرضيتنا بشأن سيادة مثل هذا الشكل من التنظيم الاقتصادي في مجتمعات الشرق القديم فانه يجوز القول بأن عملية العمل التى سادت في تلك المجتمعات تميزت بوجود نزعة دائمة لإعادة إنتاج الشروط الضرورية للمتطلبات الاستهلاكية للعائلة، ويشكل هذا بالتالي موضوع الإنتاج. لكن يبرز هنا سؤال بخصوص النشاطات اللا-زراعية في هذا النوع من تقسيم العمل. تعتمد الحرف الصناعية الصغيرة التى وجدت على احتياجات هذا الإنتاج أو على المتطلبات المباشرة للمشترك القروي. يبدو عمل الحرفي في أسلوب الإنتاج في مجتمعات الشرق القديم وكأنما هو محدود على الفترات التى لا يكون فيها كل وقت العمل مستخدماً في عملية الإنتاج الزراعي. في هذا النشاط الحرفي، كما هو الحال في الإنتاج الزراعي، يُنظم المشترك القروي بالشكل الذى يكفل إنتاج القيم الاستعمالية للاستهلاك المباشر. ومع تطور أسلوب الإنتاج الشرقي القديم يظل هذا التنظيم قائم لكنه يُستكمل بالإكثار من إنتاج البضائع من أجل التبادل (القيمة التبادلية) إما مع المشتركات الأخرى والدولة، أو عبر الدولة مع التركيبات الاجتماعية الأخرى. بهذا يبدو أنه وبتطور أسلوب الإنتاج الشرقي القديم تبدأ عملية تجاوز"المطلقية" الزراعية والحرفيَّة الأصيلة للمشتركات القروية، هذا ما يمكن ملاحظته على سبيل المثال في بابل حمورابى حيث أنه وتحت احتكار الدولة تتم عملية إنتاج المحاصيل الزراعية وتنظيمها ومبادلتها مع الدول المجاورة، وفي إطار التبادل الداخلي بين المشتركات القروية. هذه العملية الخاصة بدعم إنتاج القيم التبادلية لإنتاج القيم الاستهلاكيَّة يتبعها عموماً في الشرق القديم التحول إلى الاقتصاد النقدي، واستيراد الدولة للبضائع من قبل مؤسساتها الخاصة ولتنظيم وسائل الإنتاج أو لاحتياجاتها الأيديولوجية. هذا التحول بالذات هو الذى فسر تفسيراً خطئاً من جانب ماكس فيبر باعتباره تحولاً نحو نظام رأسمالية الدولة في المجتمعات الشرقية القديمة (9).

النقطة الهامة التى لا بدَّ من التعرض لها هنا هي أنه بالرغم من أن عملية إنتاج القيم التبادلية تشكل نزعة عامة في إطار أسلوب الإنتاج الشرقي القديم، فانها تظل نزعة محدودة في الأطر المرسومة من قبل الدولة نفسها. فرضيتنا هذه تحتم علينا تحليل مسألة تدخل الدولة الشرقية القديمة في العملية الإنتاجية. فكما كان الحال في كافة أساليب الإنتاج التى سبقت نشوء النظام الرأسمالي، فان الدولة في الشرق القديم استحوذت على العمل الفائض للمشتركات القروية عادة في شكل ريع عيني، وهو ما تطلب بالضرورة استخدام العمل بدرجة أعلى وأبعد مما هو مطلوب لتغطية احتياجات الاستهلاك والتبادل المحلى. على كل فان ما يميز أسلوب الإنتاج في الشرق القديم عن الأساليب الإنتاجية الأخرى هو أن الدولة في الشرق القديم قامت بدور هام دوماً في إعادة إنتاج الشروط المسبقة للإنتاج نفسه، وبهذا الشكل، كما سنوضح، فان الدور الذى تقوم به الدولة في عملية الإنتاج يسهم في إعادة إنتاج أسلوب الإنتاج الشرقي القديم نفسه.
  

دور الدولة في المجتمعات ذات النمط الآسيوي

 تقوم الدولة في أسلوب الإنتاج الذى ساد في التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي بوظيفة اقتصادية هامة للغاية وذلك بفعل تدخلها في الاقتصاد القروي سواء عبر تنظيم وقت العمل الفائض للعمل الجماعي القروي الموجه لتشييد منشئات الري المختلفة والضرورية لعملية الإنتاج الزراعي للقرى، أو عبر التوزيع الموسمي لأراضى تلك القرى لمواجهة المتطلبات الديموغرافية المتبدلة للقرى المختلفة، أو عبر تنظيم سبل تخزين المنتوج لتغطية الاحتياجات في السنوات العجاف، أو عبر تنظيم الدورة الزراعية للمحاصيل، أو عبر إنتاج المواد الخام للإنتاج الزراعي وتوزيعها (المناجم والتعدين)، وبالتالي فان الدولة تقوم بدور واضح وهام في عملية الإنتاج، وبهذا فانها تسهم إسهاماً مباشراً وبفاعلية في عملية الإنتاج ذاتها، وكنتيجة فان إعادة إنتاج الإنتاج والاستهلاك القروي تتم عبر المشاركة المباشرة للدولة من خلال وظيفتها التنظيمية.

وتقوم الدولة في التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي بانتزاع العمل الفائض من المشتركات القروية في شكل عمل جماعي منجز كوسيلة للإنتاج. وبالإضافة فانها تنتزع أيضاً فائضاً في شكل ضريبة تُدفع لها. علاقة الإنتاج التى تحكم انتزاع العمل الفائض في التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي هي العلاقة القائمة بين القرية والدولة، هذه العلاقة الإنتاجية، كما سنوضح، هي التى تشكل عمليات العمل الفاعلة في تقسيم العمل في القرى. إن انتزاع الدولة للعمل الفائض، ودورها الوظيفي التنظيمي في عملية الإنتاج يتم التعبير عنه من خلال "ملكية" محددة أيديولوجياً للمنطقة التى يتم فيها الإنتاج، ومن خلال السيطرة اللاحقة عليها، في كل حالة فان الدولة تمتلك الأرض وتسيطر عليها، والدولة هي التى يتم تحديدها أيديولوجياً بوصفها المالك الأوحد لكل الأراضي (10). بالتالي فان الدولة تمتلك الحق في تحجيم أي تطور للملكية الفردية للأرض، وكنتيجة فهي تمتلك حق حظر استثمار تراكمات رأس المال المستخرج إما من التجارة أو من الانتفاع من الأملاك. هكذا نكون قد أبرزنا عدداً من المظاهر التى ميزت أسلوب الإنتاج الآسيوي، وننتقل الآن إلى تلمس تنظيم الدولة في التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي.

عموماً يمكن الإشارة إلى ثلاثة فروع رئيسة لتنظيم الدولة في النمط الآسيوي للإنتاج:
1- تنظيم عسكري مكون من جيش ضخم يجند من القرى للدفاع عن الدولة ضد الدول المنافسة.
2- تنظيم إداري يحكم الأقاليم ويشرف على مسئولية التجنيد، والتوظيف، وتدريب الموظفين، وجمع الضرائب ومالية الدولة، والاحتفالات، وتحقيق العدالة.
3- تنظيم الأعمال العامة، وإدارة الصناعة التابعة للدولة، وتنظيم التجارة الداخلية والخارجية.          

فلتكن النقطة الثانية بداية لتناولنا لتنظيم الدولة: من يمتلك السلطة في إطار التنظيم الإداري؟ إذا أخذنا المعطيات المتوفرة لنا عن مصر الفرعونية أو كوش أو الجزيرة الفراتية أو جنوب الجزيرة العربية أو فارس أو الهند أو الصين فاننا نجد أن سلطة الدولة تنتقل حسب النظم القرابية، بالتالي تعتمد على ملك فردى قوى يكون حكمه شرعياً عبر الميلاد والنسب والتقاليد، والجهاز الفعلي للدولة، بغض النظر عن شكل الإدارة المركزية أو اللامركزية، يمكن تقسيمه إلى إدارات تخضع لسيطرة سلك كامل من الموظفين الذين يقومون بأداء الوظائف الطقوسية والإدارية والدينية والفكرية وغيرها، ولكن على قمة هذا الجهاز يوجد الملك وأفراد عائلته وأقاربه. إن الأيديولوجيات التى يعبر من خلالها عن السلطة السياسية للملك، والمفهوم العام للعلاقة بين الملك والدولة من جانب، والمشتركات القروية من جانب آخر في التركيبات الاجتماعية المميزة لأفريقيا والشرق القديم، تنطوي على عناصر تتواتر بصورة متكررة. سنحاول هنا إعطاء تلخيص مقتضب لنتائج الكم الهائل من الأبحاث التى كتبت حول الموضوع من خلال التركيز على النموذج السومري.
 http://arkamani.net/ar/index.php/2013-01-12-20-38-06/2013-02-16-20-56-48/2013-02-16-21-11-28

الثلاثاء، 19 فبراير 2013

مساهمة في دراسة الجهوية الموسعة بمقاربة سوسيولوجي



مساهمة في دراسة الجهوية الموسعة  بمقاربة سوسيولوجي



رشيد لزرق
تعتبر الجهوية في الوقت الحالي من القضايا التي باتت تحضى باهتمام ومتابعة متزايدة على المستوى الوطني، ويأتي هذا الاهتمام في خضم تجربة اكتسبها النظام اللامركزي بايجابياتها وسلبياتها، حيث وصلت كل القوى السياسية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والهيئات التمثيلية وطنيا الى كون إقرار جهوية موسعة من شأنه التأسيس لمرحلة تنموية جديدة بتفكير ومناهج جديدة ، و ضمن هذا السياق بات المغرب مطالبا بتحقيق إصلاح جهوي فعلي يستجيب لتطلعات المجتمع المدني والسياسي بمختلف أطيافه و مكوناته.

حيث و صل كل المهتمين، لكون الجهوية كما هي معتمدة بصيغها وأساليبها الحالية وإمكانياتها، فالدولة اقتنعت بحتمية الاقلاع عن عدم التمركز وجعل أدوات القرار قريبة من المعنيين وإصلاح اللامركزية، وهنا يمكن طرح إشكاليتن قبل الدخول في تحديد الجهوية الموسعة كاصلاح شامل للمركزية الجهوية، هاتين الاشكاليتين، هما إشكالية تحديد مفهوم الجهوية. بمختلف أبعادها و جوانبها قصد امتلاك رؤية شمولية و من خلال تتبعنا للعديد من الكتابات وجدنا أن هناك تجاهلا للمقاربة الاجتماعية الامر الذي نحاول من خلال دراستنا هاته تداركه قصد إغناء النقاش الدائر بخصوص الجهوية الموسعة.



مقاربة سوسيولوجية لمسألة الجهوية بالمغرب


ان مسأت تدبير الشأن العام في كل مجتمع لا يمكن فهمها بمعزل على المقترب السوسيولوجي ووفق هذا الاتجاه ،يعد تدبير الشأن العام مسألة سوسيوثقافية بالأساس، فهي بذلك وثيقة الارتباط بمنظومة القيم والرموز والأعراف والعادات والتقاليد والقوانين السائدة في مجتمع محدد.

و من خلال تتبع المعطيات التاريخية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات الثالثية، عموما و المجتمعات العربية على و جه الخصوص، يتبين لنا أن هذه المجتمعات شهدت أشكالا متنوعة من التنظيم و الهيكلة والتوجيه لمسألة تدبير دواليبها الاجتماعية المختلفة.

هذه الأشكال عرفت حدودا متباينة من حيث نمط و مستوى التنظيم و الفعالية و المشاركة، و في ضبط العلاقات المجتمعية بهياكل الدولة السياسية المتحكمة في السلطة و في تدبير الشأن العام، و هذا التباين يرتبط بالمنظومة الثقافية و الهياكل الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية القائمة في المجتمع.

و المغرب كمنطلق لهذه الدراسة يعد مجتمعا في طريقه للنمو يستحيل فهمه من دون استحضار المفاهيم الثلاثة التالية:

1- الجماعة: Commune/Collectivité

2- القبيلة: Tribue.

3- المخزن: Makhzen.



إن هذه المفاهيم الثلاثة تعد مفاتيحا اساسية لا غنى عنها في تحليل و استيعاب  و فهم طبيعة النظام الاجتماعي والثقافي و السياسي المغربي المعاصر.

شكلت هذه  الأطر و الهياكل الاجتماعية التنظيمية، اطرا فاعلة و مندمجة في محيطها السوسيوثقافي العام، بشكل متفاعل و متكامل وفق شروط وحدود معينة مع غيرها من المؤسسات الاجتماعية كالزاوية و المسجد و الاسرة...

إن تدخل الاستعمار تحت شعار " الرسالة الحضارية و التحديثية"  ضرب البنى الاجتماعية و استطاع بالفعل تحطيم العديد من المقومات التي كانت تتوفر عليها من بنيات اقتصادية و اجتماعية و سياسية ... فارضا نماذج و بدائل غريبة و في نفس الوقت احتفظ بالأطر و الهياكل التقليدية المتآكلة،  و المتواجدة خارج التاريخ في منظور الفكر الاستعماري، مما يخدم مصالحه المعلنة و الظمنية مبررا ذلك ، بهدف إخراج المجتمعات المتخلفة من تاخرها التاريخي و العلمي و الثقافي إلى عالم التقدم و النماء و الحداثة التي وصلت لها المجتمعات الاوروربية.

لقد تم طرح الدولة الوطنية في المجتمعات الثالثية و العربية كبديل وطني و تاريخي و سياسي للاستعمار ، و استطاعت بفعل تحمس الشعوب لخوض صراعات مع القوى المستعمرة و الحصول على الاستقلال السياسي.

غير أن عقود الاستقلال الشكلي أظهر تخبطا و عجزا في احتواء التمايزات و الاختلافات و المشكلات مما أدخلها في وضع هجين ما بين التقليد من جهة ، و مقومات حداثة مشوهة من جهة أخرى.

هكذا حاول كل مجتمع من المجتمعات الثالثية ادارة تنميته و مشكلاته بشكل ظل مرتهنا بشروطها  ثقافة وطبيعة تركيبته الاجتماعية والسياسية، وإمكاناته المادية والبشرية، وأيضا بنمط علاقاته وتوجهاته سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. هذا مع العلم بأن القاسم المشترك الذي يظل حاضرا بين هذه المجتمعات هو اندراجها في إطار أوضاع التخلف والتهميش التي ترتبط بشروطها ومقوماتها الذاتية، كما ترتبط بالسياسات والسيناريوهات الدولية لتقسيم النفوذ.

و من بين الحلول المقدمة لاخراج هذه الدول من تخلفها الشامل و المعقد الى فضاء الحداثة و التنمية تم طرح الجهوية Régionalisme كسياسة تدبيرية و تشاركية و عقلانية وديمقراطية ولامركزية لإدارة الشأن العام؛

و من تم باتت العديد من المفاهيم و مكونات الجهةوالجهوية والجماعات المحلية، والتنمية الجهوية… قضايا تثير تساؤلات حول انشغالات فكرية و اجتماعية و سياسية بشكل متعدد الابعاد ؛على اعتبار "الجهوية" كسياسة وتوجهات، وكبناء تنظيمي، ليست بمثابة هيكلة مستقرة أو هامدة وإنما هي سيرورة ديناميكية من التنظيم والبناء وتفاعل للمصالح والرهانات والتفاعلات… وطنيا وجهويا بل وحتى دوليا ، ولذا فإن الجهوية تظل، بفعل هذه الدينامية الحية، متفاعلة مع شروطها التاريخية، وبالتالي تظل مسألة فرعية ضمن ما يعرف بـ"المسألةالاجتماعية:Question Sociale" في مدلولها السوسيولوجي الشمولي.

الجهوية كوسيلة للتدبير الديمقراطي للتعدد و الاختلاف في اطار الدولة الوطنية


ان الجهوية : آلية تدبير لتعزيز لامركزية صنع القرار وتصريف مقتضياته، ولدمقرطة تسيير وتنظيم وهيكلة اختلافات دواليب ومجالات ومكونات ومؤسسات المجتمع، هي مفهوم حديث التبلور، وإن كانت له سوابق تاريخية أصبحت، في مجتمع العقلنة والتنظيم والمأسسة، تقليدية متجاوزة.



و عليه فإن مفهوم الجهوية من المفاهيم التي باتت تتردد بشدة في الآونة الأخيرة لدى مختلف الفاعلين السياسيين بالمغرب الأمر الذي يقتضي منا استيعابه عبر وضعه في سياقه التاريخي لمعرفة ضروف إفرازه و السياقات التي طبق فيها هذا المفهوم ويقتضي منا تأطيره تاريخيا لمعرفة سياق إفرازه و السياقات المغايرة التي طبقت. هذه أهم عوائق وعواقب هذا النقل أو التوظيف، وما يطرحه كل ذلك من تفكير في شروط وآفاق وبدائل التجاوز. وهكذا يمكن أن نذكر، فيما يخص السياق الغربي تحديدا، بالملاحظات الآتية:

ظهور الجهوية.
ظهر مفهوم الجهوية في إطار المجتمعات الغربية كنتيجة للتحولات التي التي شهدتها على مختلف الميادين معرفية وسياسية وتكنولوجية واجتماعية وحضارية متعددة مست كافة المجالات والأصعدة. أفرزت تأسيس "دولة وطنية: Etat National"



شكل ميلاد الدولة الوطنية تتويجا للحركة التي قادتها البرجوازية بفصائلها المختلفة، و التي كانت بمثابة بديل اجتماعي و سياسي للنظام القائم.

انشغلت الدولة الوطنية في خلال القرن الثامن عشر بسبل التحكم في الدولة عبر اقامة سلطة مركزية لتحقيق مشروعها الاجتماعي من أجل تطبيق مشروعها الاجتماعي و السياسي و الفكري، من دون أن يلغي البعد الديمقراطي

و عرفت هذه الفترة تسارعا في التحولات و التغير على المستوى الاجتماعي ،كان من نتائجه ظهور مجموعة من القضايا و المشاكل و الحاجيات التي لم تكن إبان عصر الاقطاع مما ولد فكرة الجهوية من أجل تدبير تمايز المجتمع، بفعل تعقد مؤسساته و بنياته و علاقاته، و الأنماط المعرفية و القيمية ...فباتت الحاجة للتخصص الوظيفي مضبوطا ، يشتغل في إطاره من داخل حدود و أهداف ووظائف مرسومة من طرف المركز و فق معايير و مقتضيات هذا التخصص من اجل أن يصبح القطاع ، أو الجهة أو المؤسسة المعنية أكثر ايجابية و مردودية ،

فظهرت الحاجة لتقسيم العمل الاجتماعي.

هذا التطور المجتمعي انعكس على مفاهيم الديمقراطية بشكل أفقي و عمودي. و نقصد بالتطور الأفقي ،التطور الحاصل بين جهات و مناطق مجالات المجتمع ،أما عموديا : فبين الأفراد و الطبقات و مختلف الشرائح الاجتماعية من حيث المصالح و الأدوار التي يلعبونها داخل المجتمع الأمر الذي انعكس على تطور مفاهيم الديمقراطية و مبادئ تكافؤ الفرص بشكل أفقي، بين الجهات و مجالات الاجتماعية، و عموديا.

اذن يمكن اعتبار مفهوم الجهوية في الغرب جاء نتيجة سياق تطور الفكر الديمقراطي ،حيث برزت الجهوية  باعتبارها مكونا أساسيا للمجتمع من أجل ممارسة الإختلاف و التمايز في حاجيات  وأولويات و اهتمامات كل جهة. و بالتالي فالجهوية كانت بمثابة أسلوب ديمقراطي للتعبير عن مطالب و خصوصيات هذا الاختلاف من أجل مواكبة التحولات الاجتماعية و البشرية .

إن الجهوية في الغرب و في السياق الذي أفرزها عملت على بلورة التنظيم العقلاني للمجتمع: "Organisation Rationnelle"، يقوم على استراتيجية بناء تنظيم المؤسسات و المجالات الاجتماعية  على اساس عقلاني بإسناد المهام و الوظائف والمسؤوليات للمؤسسات و الأفراد و الجهات على أساس الكفاءات و الخبرات الاجتماعية لا على أساس عقلاني بعيد كل البعد من المقاربات الحالية التي باتت تعتمد الجهوية على أساس تدبير اختلاف الهويات ، مما جعل من الجهوية نقلة نوعية في المجتمع الحديث على مستوى الفكر و الممارسة الاجتماعية، مما فسح المجال لبروز مفهوم التخطيط للتنمية Planification على مختلف الميادين سواء كانت وطنية أو جهوية وفق للحاجات و الامكانيات من أجل تكريس التدبير الكفيل بتفعيل القدرات .

شكل هذا الاتجاه تدعيما لسيرورة الديمقراطية القرار في إطار التخطيط العقلاني المتكامل بشكل منظم ،تشارك فيه كل الأطراف و الفعاليات و مكونات المجتمع. و بذلك برزت الجهوية كمحاولة من أجل ايجاد صيغة توفيقية بين كل من  المجتمع المدني بفعالياته و مؤسساته و الدولة  كاطار ممثل للمجتمع العام و الحامل لمشروع كلي و شرعي لتنظيم العلاقات و التفاعلات الاجتماعية لكل مكونات المجتمع.



الجهوية و اهدافها.


الجهوية كنمط للتعبير عن تصور مجتمع لحاجاته و مشاكله من أجل بناء استراتيجية تمكنه من تدبير أموره و التحكم فيها تفترض أن تدرجه ضمن تخطيط شمولي متكامل ينظم كل الجهات من أجل استثمار الموارد البشرية و الرفع و إغناء التعدد الثقافي و الرفع من المستوى الاقتصادي و الصحي  و فق أهداف و خلفيات واضحة، بشكل يمكن كل الجهات من التدبير العقلاني الذي يقوم عليها تنظيم هذه المجتمعات  و ذهبت بعض المجتمعات المتقدمة بعيدا في هذا التدعيم الى الحد الذي يمكن كل جهة او مؤسسة و لكل فرد لبناء مشاريع خاصة للتعبير عن المتطلبات و الإهتمامات و الخصائص المميزة لكل عنصر من أجل تحقيق مجموعة الاهداف التالية:

المقاربة التشاركية في تدبير الشأن العام.


في زمن العولمة، تزايدت سرعة حراك المجتمعات، مما فرض التحول في ما كان يعرف بالتخطيط المركزي الخاضع لتوجهات المركز، و باتت هناك حاجة ماسة لإعتماد مقاربة تقوم على إشراك كل أطراف المجتمع هذا التوجه، بات يسمى  بالتخطيط التشاركي Planification Participative، من أجل بلورة تصور شمولي متكامل يوفق بين  التوجهات الكبرى للمجتمع و الجهة.



دمقراطة صنع القرار Démocratisation de la prise de Décision.


إن المقاربة التشاركية كهدف لا يمكن أن ترسخ من دون تحقيق ديمقراطة في اتخاد القرارات، بحيث لكي يكون أي قرار ديمقراطي ، و جب أن تشارك فيه كل الأطراف المستهدفة منه، لا

لا أن يحتكر من قبل جهة واحدة.



و فق هذا المنطلق لم يعد يكتفي بالنظر للقرار في ضرورة احترامه  الآليات الديمقراطية الشكلية في اتخاده و تطبيقه بل وجب تتبعه من أجل تحقيق المبتغى و لن يتحقق ذلك الى بإشراك الافراد المستهدفين منه من أجل ضمان نجاعته و تحقيق الغاية من ورائه.

و لضمان هذه الديمقراطة، يتعين وضع سياسة جهوية تقوم على إتاحة الفرصة لبروز الخصوصيات التقافية من أجل التعبير عن ذاتها و استغلال الشئ الذي يوفر الاستغلال الامثل للامكانيات والطاقات بشرية والمادية، وفق ما تريد كل جهة بلوغه ضمن منظور تنموي شامل ينظم الاختلافات و يؤسس لمسيرة تنموية اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية عامة .

و فق هذا المنطلق يتم توفير الادوات التشريعية التي تمكن من آليات التدبير الرشيد، فحينما نخطط على مستوى الجهة ضمن التوجهات الكبرى، نوفر إمكانيات التركيز على مجالات أو قطاعات أو معالجة مشكلات جهوية الشيء الذي مكن من اقتصاد الجهد و المال و تجاوز الحلول التعميمية للقرات المركزية و التي تكون النتيجة بعدها غير دقيقة.





الجهوية في المغرب السياق و العوائق


السياق التاريخي التي اعتمدت فيه الجهوية بالمغرب


يذهب العديد من الباحثين للخلط بين الجهوية كأسلوب حديث لتدبير الشأن العام ،و بين الوضعية التي عاشها المغرب ما قبل الاستعمار و التي كان مقسما الى قبائل و عشائر تكرس الاختلاف في الممارسات بين القبائل و الجهات والأعراف والإثنيات داخل المجتمع، وذلك بسبب المسار المتعتر الذي عرفته الجهوية في المغرب و الذي أدى إلى التعاطي معها وفق المقاربة الأمنية ،بدل المقاربة التنموية مما جعل العديدين ينظرون إلى مفهوم الجهوية بمنظور قدحي Péjoratif ، لا يرى في السياسات الجهوية في المغرب أي تدبير عقلاني للإختلاف والتعدد داخل الوحدة الوطنية الشاملة كما هو منتظر.

إن ضعف الأداء و الحصيلة السياسية الجهوية يمكن ارجاعها الى كون مغرب ما بعد الاستقلال ،ظل مشغول باستكمال وحدته ،و ضمان تماسك كل مكوناته، مما جعله يتمسك بالتدبير المركزي الشيء الذي فوت عليه الفرصة لإعطاء الاهتمام للجهة من عناية وتأطير،

و ظلت النزعة المركزية هي المهيمنة بشكل عام في التوجهات الكبرى للسياسات العامة و في كل المخططات التنموية المعتمد من طرف المركز.

غير أن ظهور حراك اجتماعي جعل العديد من فئات المجتمع تعبر عن مطالب ثقافية و تنموية احتضنها القوى التقدمية الشيء الذي أسس إلى حوار بين هاته القوى و المركز أسفر عن تأسيس التناوب التوافقي و الذي أسس لتطور في المسار الديمقراطي بالمغرب المعاصر

و التي كانت من مطالبها ضرورة إقامة دستور يقوم على اساس دمقرطة الحياة السياسية و الذي جعل من الجهوية في صميم هذه المطالب مما دفع بمركز القرار على المستوى المركزي الى مراجعة السياسات التخطيطية المتبعة و بنائها على اساس عقلاني، تراعي الخصوصيات الثقافية لمكونات الجهوية للمجتمع.



عوائق السياسة الجهوية بالمغرب


الجهوية: كآلية تدبيرية وعقلانية حديثة قد انخرطت في إطار المجتمعات المتقدمة ضمن فلسفة تنموية واجتماعية واقتصادية وسياسة محددة، واضحة الأهداف والمقاصد، وقائمة على قيم ومعايير منسجمة مع مطالب وخصوصيات السياق السوسيوثقافي الذي تنتمي إليه.

هذا الأمر يجرنا للتساؤل حول مدى نجاعة السياسة الجهوية في المغرب؟

الجهوية  كاسلوب للتدبير الحكيم من أجل تحقيق التنمية و نمط فكري يروم دعم الديمقراطية المحلية، من أجل تكريسها في المغرب ، يلزم بداية توفير مجموعة من الشروط المسطرية ، التنظيمية ، البشرية الضرورية، والمناخ السياسي والثقافي والاجتماعي المناسب. أي مجمل المقومات الكفيلة بنقلها من الخطاب إلى الفعل، وتحويلها من مبادئ وقيم وأهداف وترتيبات إدارية واقتصادية ومسطرية… إلى "ثقافة ممارسة"، أي إلى "سلوك ديمقراطي وعملي متنفذ" قائم على استلهام الشروط، والمقومات التي تقوم عليها.



و في هذا المجال يمكن القول: أن المغرب منذ انخراطه المباشر في سياسة "الجهوية"، بذل

جهودا كبيرة لدعم هذه السياسة، على المستوى التشريعي والمسطري، منذ 1971 إلى 1976، إلى التقسيم الجهوي الجديد سنة 1996، هذه الجهوذ لم تحقق النتائج المتوخاة منها ،لكون الجهوية وجب صياغتها في ظل فلسفة اقتصادية و اجتماعية و سياسية و اضحة عبر رؤية شمولية متكاملة للتنظيم المجتمعي من حيث التخطيط و البرمجة. الشيء الذي أفرز العديد من العوائق و المتمثلة في كون أغلب النخب الجهوية المتواجدة حاليا ليس لها النضج والوعي  الإجتماعي و السياسي والوطني المسؤول المكرس  للمصالح الوطنية العليا.

الأمر الذي يولد صعوبة لديها في استيعاب المفاهيم و النماذج العقلانية  للتدبير و التنظيم، و بالتالي يصبح تعاملها مع هاته المفاهيم كشعارات لا كمبادئ، حيث أظهر التطبيق العملي فجوة بين التنظيم الجهوي كتنظيم حداثي عصري ،و بين المضامين التي لازالت ذات طابع تقليدي من حيث البنيات و التنظيمات الجهوية.

الأمر الذي أدى إلى عدم استفادة بعض الجهات والأقاليم و فك عزلتها ، وذلك بفعل خضوع هذه التجارب للعديد من المراهنات والصراعات وتنازع المصالح مما يؤشر على كون مجتمعنا لازال لم يقطع نهائيا مع العقلية القبلية.

إن التقسيم الجهوي الحالي عند تحديد مكوناته و حدوده و مراكز الجهات، انعكس على عدم استفادة العديد من المدن والقرى والمناطق ،إذ كان يفترض أن تستفيد منه في مجال الخدمات الصحية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وذلك نظرا لافتقادها لكثير من الشروط والإمكانات والمؤهلات… ، و بظهور المصالح الفئوية، مما أعاق تحقيق تحول نوعي في المجتمع من حيث الفكر و الممارسة. الأمر الذي بات يستدعي القطع مع الوضع القديم والإنتقال إلى وضع جديد يعتمد على سياسة معقلنة للبحث العلمي ،يصبح ضرورة علمية ومجتمعية حاسمة لتدعيم وتأطير وترشيد ممارسة الجماعات المحلية. غير أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار أعم وأشمل، أي على مستوى سياسة وطنية شمولية.



تصور حول الجهوية الموسعة بالمغرب


إن الجهوية كأسلوب حداثي عقلاني للتدبير و صنع القرار هي مسألة تقع في صلب المسالة الديمقراطية  تقتضي دعم المشاركة السياسية و إشراك كل الأطراف و الفعاليات المعنية بصنع القرار في إطار توجهات كبرى لمشروع مجتمعي متكامل قائم على الوفاق و التشارك و التعامل الديمقراطي و الإعتماد المتبادل بين الأفراد و المؤسسات و الجماعات و الجهات المتعددة في المجتمع، تقتضي إصلاح سياسي و دستوري و تجاوز التعثر الديمقراطي الذي أظهرته الإنتخابات الأخيرة و التي كشفت عن هوة تفصل المواطن المغربي عن المجتمع السياسي، بالانكباب على معالجة أزمة الثقة هاته و التي تشكل عقبة في تطور المسار الديمقراطي بالاعتراف بكون المسلسل الديمقراطي الذي دشنه المغرب في التناوب التوافقي ،و الذي ابتدأ بدستور 1996 قد وصل الى مرحلة تفرض إحياء جديد لمضامينه و أشكاله، و كل تأخر في الإصلاح يؤدي إلى تنامي الهياكل الموازية التي تفرغ العمل المؤسساتي من محتواه، لهذا فالمرحلة المقبلة تقتضي إصلاحا سياسيا و دستوريا  يضع حدا لهذه المعيقات البنيوية،

فمشروع الجهوية الموسعة يشكل فرصة لطرح أفق سياسي للإصلاح المؤسساتي بروية شمولية هذا المبتغي يفرض تحقيق شروطه المتمثلة بالأساس في ضرورة مراجعة الوثيقة الدستورية المؤطرة لعمل المؤسسات بشكل يروم لتحقيق تجانس و توازن السلط قصد التوفيق بين مستلزمات الشرعية الديمقراطية و الناجعة التدبيرين و البناء المعقلن و المتوازن عبر إحياء المشروع الديمقراطي لإزالة العوائق بين المواطن و المجتمع السياسي في اتجاه يستند الى قيم المواطنة و مكانة الدولة في المجتمع.

إن مشروع الجهوية الموسعة الذي طرحه الملك في يناير 2010 يمكن اعتباره منطلقا لخلق دينامية جديدة من أجل إصلاح عميق من أجل تحديث هياكل الدولة .  لتكون مؤهلة لإقامة نظام لامركزي ديمقراطي يستحظر البعد المتعلق بقضية الوحدة الترابية و يهدف في الوقت نفسه الى إحداث تحول في الحياة السياسية يجعل الديمقراطية المحلية عنصرا معبئا للطاقات و منتجا للنخب، و يجعل التدابير الترابية مكونا أساسيا لرؤية تنموية حديثة تروم بناء جهوية موسعة ديمقراطية تأخد بالحسبان التنوع البشري و الثقافي في إطار هوية وطنية قوية و متجددة مما يسمح بانبثاق انتماء جهوي قوي يستنهض كل الطاقات الحية. هذه الروية تفرض تحسين القدرات المؤسسية للدولة عبر اصلاح أنظمة اللامركزية، اللاتركيز ونمط تدبير المالية العمومية. هذا الاصلاح و وجب أن يرافقه إصلاح النظام المؤسسي للجهة و نظام الاقتراع و إصلاح قانون الأحزاب. و فق رؤية جديدة للجهة توائم الواقع المغربي و تتفادى إنتاج نفس الأنماط التقليدية القائمة على محددات إثنية أو جغرافية ،بنهج مقاربة تعتبر نظام الجهة شكلا متطورا و فق سيرورة تاريخية ،هذا المبتغي يمر بتحقيق مقاربة واقعية و متطلعة نحو المستقبل. عبر الإنكباب على إعادة تحديد الجهات و توزيع خريطة الإختصاص و سياسة الموارد ،و تعديل نمط الاقتراع في الجهة.



  التقسيم الترابي للجهات.
ان التقسيم الترابي للجهات وجب أن يرتبط بنقاش موسع، قائم على اختيار عقلاني، يضع قواعد موضوعية لتحديد خريطة جهوية جديدة تحافظ على وحدة الدولة و وحدة التراب و تحقيق المشاركة، الفعالية في التطبيق.

اللامركزية:  في مختلف مجالات التدبير و صنع القرار، و هي مسألة تقع في صلب المسألة الديمقراطية بشكل عام.
المشاركة: إشراك كل الأطراف و الفعاليات المعنية في تسير الشأن العام في إطار توجهات كبرى لمشروع مجتمعي متكامل قائم على التوافق و المشاركة و التعامل الديمقراطي، و الاعتماد المتبادل بين الأفراد و المؤسسات و الجماعات و الجهات المتعددة في المجتمع.
الفعالية: اعتماد كافة الوسائل التواصلية و التقنيات الحديثة و أساليب البرمجة و التخطيط مما يسهل عمليات الدفع بوتيرة التنمية و مواكبة التطورات المتسارعة، باعتماد سياسة رشيدة للبحث العلمي و لتكوين و تأهيل العنصر البشري، من خلال بلورة سياسة تدبيرية ذاتية منسجمة مع حاجاتها و مستقلة عن أي تبعية.


توزيع الاختصاصات بين المركز و المحيط.
إن الجهوية هي تراكم ينبغي تحقيقه بشكل تدريجي، من لدن مختلف الفاعلين بروح توافقية، يضع مشروع الجهوية برؤية شمولية تروم الإصلاح ، بداية- إصلاح هياكل و تنظيمات الدولة في اتجاه تكون فيه اللامركزية الجهوية محركا و محفزا لإعادة تموقع الدولة على المستوى الترابي؛ تكون فيه اللامركزية  و اللاتركيز على المستوى الجهوي ركيزتين لتوازن مؤسساتي يخضع لنظام تحديد المسؤوليات السياسية بشكل واضح بين مختلف الفاعلين، مركزيا و محليا.

الوالي: يكون فيه ممثلا للدولة و منسقا للسياسات القطاعية الجهوية و مسؤولا أمام الحكومة في شخص الوزير الأول  الذي يتقدم له بالتقارير السنوية  المصادق عليها من طرف مجلس الجهة.
مجلس الجهة: يكون المسؤول عن وضع مخططات  لإعداد التراب ، وللتنمية الاجتماعية و الاقتصادية للجهة و يكون رئيسه آمرا بالصرف.


إصلاح القانون الانتخابي للجهة.
ضرورة توفير الشروط المناسبة لإقامة مجالس جهوية على أسس ديمقراطية سليمة تجعلها منتخبة بشكل عقلاني و ديمقراطي يمنحها تمثيلية للمجتمع ذات مصداقية مقبولة سياسيا و اجتماعيا، الأمر الذي يجعلها ممثلة  لحاجيات و تطلعات و مصالح المواطنين. و مدرسة اجتماعية و سياسية لتكوين المواطنين و لتأسيس ثقافة سياسية جديدة قائمة على قيم العقلانية و الديمقراطية و الحوار و متعارضة مع قيم الانغلاق و الشوفينية أو القبيلة الضيقة.

هذا الإصلاح يقتضي إعادة تحديد وظائف الجهة و علاقتها بالجماعات المنتخبة على صعيد الجهة لضمان تناسقها و انسجامها يحول دون تضارب الأهداف و المشاريع عبر توفير مجمل المقومات الأساسية المدعمة لهذا البناء و التي تضمن للجهة المعنية إمكانية الإفادة و الاستفادة في اطار سياسة الاعتماد المتبادل الذي يجب أن تكون الموجه الأساسي للسياسات التنموية جهويا ووطنيا ؛ وبكل ما تتطلبه هذه الجهة من شراكة partenariat تكاملية بين مختلف الجهات و المؤسسات و القطاعات و الفرقاء المعنيين على المستوى الجهوي أو على المستوى الوطني العام.

و من أجل ضمان حد أدنى من استقرار و فعالية  مجلس الجهة وجب أن يتم انتخاب أعضائه و فق نمط اللائحة على دورتين مما يسمح للفاعلين الجهوين من ربط أو توفيق تحالفاتهم على أساس تقارب البرنامج و تفادي ظاهرة استعمال الأموال و عدم الانسجام في التدبير على المستوى الجهوي.

الاثنين، 11 فبراير 2013

المغرب بلد المائة ألف ولي

لمغرب بلد 100 الف ولي

قصة الأولياء الصالحين وتاريخهم من الأمور التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال.ويحتل الأولياء مكانة سامية لدى عموم المغاربة نظرا لما يتصل بهؤلاء من مكرمات وخصال وقيم . وقد شكل ضريح الولي أو المزار أو كومة الحجر فضاء لانتعاش كثير من المعتقدات والممارسات .
 ومن أجل إضاءة جوانب من حياة هؤلاء الفاعلين الدينيين ، كان قد أصدرالباحث والصحفي محمد جنبوبي الطبعة الأولى من كتاب "الأولياء في المغرب : الظاهرة بين التجليات والجذور التاريخية والسوسيوثقافية : حياة وسير بعض مشاهير أولياء المغرب".ومنذ سنة صدرت له الطبعة الثانية  ضمن منشورات "كنال أوجوردوي ".ويأخذ الكتاب أهميته من كونه أول كتاب جامع للظاهرة رغم غياب عناصر توضيحية كالخرائط والصور .

يقول صاحب الكتاب :"في المغرب لايشكل مرأى ضريح أو مزار شيئا غير عاد أو مثير للانتباه ، فحيثما ولى المرء وجهه إلا ويصادفه قبَّةٌ  أو "كركورا" أو "حوش مزارة""(ص 8) .والحقيقة أن وجود قبور لأولياء حقيقيين أو خياليين هو ظاهرة تندرج ضمن معتقدات شعبية  تعود إلى ما قبل الفتح الإسلامي للمغرب . ويتصل هذا المعتقد بأهمية "الوسيط" في معتقدات المغاربة ، وتصور أناسها أن ثمة قوى " فوق حسية "  تخضع  الوجود لإرادتها . ومزارات الأولياء ، كما يقول محمد جنبوبي ، قد تكون مثالاً للتعايش " على مستوى  اللاشعور الثقافي والجمعي بين آلهة ومعتقدات ما قبل الإسلام وبين مقدس الدين الجديد"(ص 9)، ذلك " أن شواهد  الآلهة  القديمة  ومواقع المعابد منذ العصر الوثني " قد تحولت إلى " مزارات وأضرحة  بعد دخول الإسلام "( ن.ص). ومن هنا يستمد موضوع الكتاب أهميته . فالمغرب هو بلد 100.000 ولي (ص10) الذين خلفوا  جملة من المناقب والكتابات المتداولة في محيط الولي أو في المغرب كله (ص11). والولي هو إنسان مميز لكونه قادرا على قهر نفسه والقسوة على جسده  حد لا يطاق ولا يحتمل (ص13).

 وتشكل الزوايا التي شكلها  متصوفة العهد المريني مظهرا دينيا واجتماعيا زاحم فضاءات المساجد إلى الحد الذي دفع بعض سلاطين المغرب إلى محاربتها والتقليص من عددها لكونها كانت مدار استقطاب شعبية  . ومع انتشار المذهب الوهابي بالمغرب على عهد محمد بن عبد الله والمولى سليمان تعرضت الزوايا لحروب إبادة حقيقية .
 
لم يعرف المغرب ظاهرة الزوايا ، بشكل ملفت، إلا في القرن 5 هـ، "حيث انتقل اسمها من "دار الكرامة" إلى " دار الضيافة" ثم اسمها المعروف حاليا"(ص15). وسيزاحم عدد الزوايا والأضرحة عدد المساجد ، خاصة ما بين القرن 10هـ (ق 16 م) ، والقرن 11هـ (ق17م). واختلط فيها الصالحون وغير ذلك ؛ غير أن الزوايا  لعبت دورا كبيرا في الجهاد خاصة حينما تكالبت على المغرب الدول الاستعمارية الأجنبية (صص15  ، 16  ، 17) .

 ويتكون كتاب محمد جنبوبي من مقدمة وثلاثة مداخل تحت عناوين : المغرب بلد المائة ألف ولي – كرامات الأولياء- نماذج من كرامات الأولياء . أما الجزءالأكبر من الكتاب فقد خصَّهُ صاحبه  لحياة بعض مشاهير أولياء المغرب .
 
وفي ما يلي لائحة بأسماء بعضهم الحقيقية والواقعية :

 
اسم الشهرة
إسم الولي
طير الجبال
إبراهيم المغاري
سيدي بلعباس( مول العباسية)
أو العباس السبتي
سيدي بنعاشر
ابن عاشر
مولاي بوشعيب
أو شعيب أيوب السارية
مولاي بوعزة
أبو يعزى يلنور
سيدي بليوط
أو الليوث
مول الصبيان(الوازيس)
سيدي مومن
مول لحنش(بحي سيدي مومن)
سيدي مومن
مول المدينة القديمة
سيدي فاتح
سيدي عبد الرحمن مول لمجمر(الجمار)
عبد الرحمن بن الجيلالي
احماد اوموسى
حماد أوموسى
ضوان الجنوي
أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي
لالة عيشة /عائشة الإدريسية/عائشة أم بن عسكر.
عائشة أم ابن عسكر
طائر جبالة
عبد السلام بن مشيش
سيدي عبد الله بن حسون
عبد الله بن حسون
مولاي بوسلهام
أبو سعيد عثمان المصري المكنى بأبي سلهامة
لالة تاجة
لالة تاجة
لالة عيشة البحرية
عائشة البغدادية
مولاي يوسف بن علي
أبو يعقوب يوسف بن علي
الشيخ الجزولي
محمد الجزولي
مولاي عبد الله
أبو عبد الله امغار

http://atmanimiloud.blogspirit.com/archive/2005/11/25/eaf841a1430494e95d88668b462cbe0c.html

الجمعة، 8 فبراير 2013

العالم القروي و التنمية مقاربة انتروبولوجية/بن محمد قسطاني

العالم القروي والتنمية

مقاربة أنثربولوجية



تبدو المفارقة كبيرة سواء بالنسبة للساكنة أم بالنسبة لمؤرخ العالم القروي المغربي، ساحلا وسهولا وجبالا وواحات، لقد كانت الأمور في الماضي القريب تسير على أحسن حال وكان الفعل الاجتماعي يشتغل بدقة تكاد تشبه عقارب الساعة، بل ويمكن أن نتحدث عن ازدهار ما بداية القرن الماضي(De Segozac, Mission au Maroc, 1905 ( أما حالة هذا العالم الآن فهي لا تسر العدو قبل الحبيب بتعبير الساكنة نفسها، وكأن الآلة الاجتماعية تعطلت ولم تعد عناصرها تعمل بما فيه الكفاية، إنه الجفاف بالنسبة للواحات، بل وحتى بالنسبة لبعض المناطق الساحلية والجبال حتى، تقول الساكنة والمسئولون وكذلك الأطروحة التقنوية.

أما بالنسبة للتقرير السوسيولوجي والأنثربولوجي فهو ينظر من زاوية أخرى أكثر شمولية، زاوية القدرات الذهنية والإمكانات الثقافية والمعرفية التي لم تعد مؤهلة للتفكير والفعل في الأشياء الاجتماعية القروية، وليس الأمر سياسات فاشلة ولا منافسة السوق الرأسمالية فحسب، بل يرتبط الأمر هنا بشكل مركزي بأنا لم تسعف ولم تهيأ بما فيه الكفاية كي تحافظ على مقومات ذاتها وتنفتح على قبول القيم الجديدة مع إدماجها في مقولاتها القاعدية.

ذلك هو الرهان بالنسبة للملاحظة الأنثربولوجية، إذ المجتمع لا يعتبر مجتمعا إلا إذا حقق نسبة مقبولة من التوافق والانسجام سواء مع الذات أو مع الآخر والعالم. لقد استطاع المجتمع المغربي التقليدي أن يبني ذلك الانسجام المشكل للهوية عبر تجارب التاريخ، لكن الصدمة الكولونيالية جعلته يفقد توازنه سواء على مستوى تدبير الأشياء أو على مستوى إنتاج الأفكار وتصريفها.

نحن الآن أمام تجمعين بشريين لا يجمعهما جامع، تجمع قديم، ولا أقول تقليدي لأنه لم يعد كذلك، وأخر جديد، ولا أقول حداثي لأنه لم يعد بعد كذلك، بل واستضمر كل واحد الازدواجية تلك في ذاتيته، تلك الازدواجية الغير المتصالحة بين قيم المساواة والتسامح من جهة وقيم السوق والربح والمنافسة من جهة ثانية، وبين إبداع أشكال جديدة تنظيمية للشغل والحفاظ على القاع الإنساني الكافي من جهة ثالثة.

 أما السياسات والاختيارات فقد تجلى فشلها خصوصا في كون المدرسة والمؤسسات البيداغوجية الأخرى لم تستطع أن تقوم بأي مجهود في هذا الاتجاه، بل على عكس ذلك لم تعمل سوى على إنتاج خريجين لم يعودوا بأناهم الأصلية، خريجين إما متنكرين بشكل مطلق للماضي وقيمه أو على عكس ذلك ماضويين بشكل لا يمكن به فهم ما يجري في العالم حولهم.

إن العودة الذاتية إلى الجذور من أجل الإحساس والتفكير في تربة الميلاد" التربة المعروفة أفضل" ليس تمرينا بلا جدوى وبلا حجاج علمي( Patrick Watier, Le savoir sociologique, 2000). تعلمنا سوسيولوجيا اليومي والأنثربولوجيا التأويلية الأهمية الإبستمولوجية للعودة إلى الأنا الجمعي من أجل وضع الإصبع على كيفية اشتغاال الأفعال الاجتماعية أو عدم اشتغالها حتى، كما هو الأمر هنا لسوء الحظ(Raymond Boudon, Effets pervers et ordre social,1977).

هي مقاربة تريد الاقتراب من الوقائع، ليس كوقائع، وإنما كتصورات وتمثلات وإدراكات الوقائع(Patrick Watier, La sociologie et les représentations de l'activité sociale, 1996) ، إن الذاتية الحذرة تريد تجاوز البحث في الأسباب " الميتافيزيقية" كما تريد تجاوز التحريات حول المسؤوليات الجنائية من أجل بناء حقل معرفي انطلاقا من السؤال كيف وليس من السؤال لماذا، ذلك السؤال العقيم في العلوم الإنسانية.

يرتبط الأمر هنا بالتفكير في الإجابة عن سؤال مركزي هو كيف كانت الأمور تشتغل في الماضي وفق نظام مؤسس و متوافق عليه وكيف لم تعد كذلك اليوم؟ من الذي جعل الناس يبتعدون عن أشيائهم اليومية؟

إن ما يعاني منه القرويون اليوم أكثر من الفصام، إنه حصر نفسي- ثقافي مس مستوى الآليات الفكرية والتنظيمية على حد سواء

..(Kostani, (l'Oasis de Gheris et le protectorat, mécanismes de changement et formes de résistance, thèse de Doctorat en sociologie rurale, 2000).

 صحيح أنه لا يوجد مجتمع راكد على الشكل المطلق، (Le nomade, l'oasis et la ville, Actes de Tours, 1989 -Mohamed Mehdi et autre, Mutations sociales et réorganisation des espaces steppiques, 2002)  لكن بعض الظواهر والمؤشرات مثل تخشب السلوكات وتصلبها وانغلاقها ونزوعها نحو الأصولية بجميع أنواعها أصبحت جد مؤرقة، وهي مظاهر سوسيولوجية تستحق أن تبرز وأن توصف بما فيه الكفاية من أجل البحث عن علاج ما ليس بعيدا عن الذات وقيمها، بل في ثناياها ذاتها. إن القبيلة لم تكن تنظيما منغلقا في يوم من الأيام، بل كانت تنظيما فاعلا وعضويا يستطيع بمرونة كبيرة أن يدمج الغريب وأن يمتص المتناقضات ويدبرها وأن ينفتح باستمرار على الآخر، وخلق من أجل ذلك آليات ذكية ونظمها بشكل ملفت حتى للملاحظين الغربيين. ولم تعد القبيلة رمز البلى والتقليد بمعناه السلبي إلا عندما أصبحت دالا بدون مدلول وبطاقة إدارية وخزان ذكريات وموضع تعويضات نفسية تصل حدود البؤس أحيانا.

إن المشاكل الإثنية في الواحات، تلك المشاكل التي لا تدع الناس يخرجون من فقرهم باسم بقايا قيم مهترئة لم تستطع الساكنة تجاوزها من أجل قيم أكثر قوة وجدوى، تلك القيم التي لم تعد سوى تعويضات وكهوف يلتجأ إليها لإخفاء هشاشة أسلحة الذات الدفاعية أمام أسلحة الآخر الفتاكة، أسلحة المدني حتى، حيث دونية مركبة لا مثيل لها، دونية التخلف والتبعية بحكم الانتماء إلى بلد متخلف ومتعب تاريخيا ودونية أكثر خطورة وهي دونية تسليم المصير للآخرين الذين يأتون في المناسبات، يتقنون لعبة فرق تسد واللعب على أوتار الذكريات الأليمة وتوجيهها نحو الجار ومن ثمة نحو الأنا، وبذلك تصبح الساكنة بضاعة انتخابية رخيصة تهب حنكها لتجار الرأي وعرابي الثروة السياسية التي لا زالت لسوء الحظ سوقا رائجة في بلدنا ، ذلك السوق الذي يمكن اعتباره مرة أخرى مؤشرا على تعب المؤهلات الذهنية التقليدية وعدم إنتاج بدائل يستطاع بها مسايرة الحاضر.

لا يمكن للعالم القروي أن ينمي نفسه قبل التصالح معها،  ذلك التصالح الذي يجب اعتباره البوابة الرئيسية للتنمية البشرية المندمجة نفسها، حيث يمكن للعادات والأعراف والثقافة المحلية أن تكون رافعة التنمية انطلاقا من العودة إلى الذات والفرح بمقوماتها دون انكار أو تضخيم لها بعيدا عن كل أشكال الأصوليات إسلاموية كانت أم عروبوية أم أمازغوية، إذ كل المذهبيات المتطرفة ليست سوى ردود أفعال وتشنجات انفعالية نفسية لا يمكن أن تسمح للذات أن تتحرر نحو الفعل المنتج.

 انطلاقا من كل ما سبق يمكن أن نقترح أربعة مستويات يمكن أن توضع كأرضيات للتفكير:

1-                           المستوى التقني بين المعرفة العلمية العالمة والمهارات التقليدية( الماء، تقنيات الري، الصناعة التقليدية، أنظمة الشغل...)

2-                           المعرفة وآليات تمريرها( المعرفة القبلية التقليدية، المدارس القرآنية، المدرسة العصرية، ما قبل التمدرس، تمدرس الفتاة القروية، محو الأمية...)

3-                           تنظيم المجال والمجتمع(الأشكال التقليدية للتنظيم، العرف، المجتمع المدني، انفجار السكن التقليدي، الأشكال الحديثة لبناء المجال، العقار، حدود الجماعات، الطرق، تدبير الخلاف...)

4-                           القيم وتوجهات الناس، هل هي نحو التقليد أم نحو الحداثة، نحو العرف أم نحو القوانين الدولتية، التوجه نحو الغنى أم الفقر، نحو الكسل أم الشغل، الهجرة...)

Par Kostani