العالم القروي والتنمية
مقاربة أنثربولوجية
تبدو المفارقة كبيرة سواء بالنسبة للساكنة أم بالنسبة لمؤرخ العالم القروي المغربي، ساحلا وسهولا وجبالا وواحات، لقد كانت الأمور في الماضي القريب تسير على أحسن حال وكان الفعل الاجتماعي يشتغل بدقة تكاد تشبه عقارب الساعة، بل ويمكن أن نتحدث عن ازدهار ما بداية القرن الماضي(De Segozac, Mission au Maroc, 1905 ( أما حالة هذا العالم الآن فهي لا تسر العدو قبل الحبيب بتعبير الساكنة نفسها، وكأن الآلة الاجتماعية تعطلت ولم تعد عناصرها تعمل بما فيه الكفاية، إنه الجفاف بالنسبة للواحات، بل وحتى بالنسبة لبعض المناطق الساحلية والجبال حتى، تقول الساكنة والمسئولون وكذلك الأطروحة التقنوية.
أما بالنسبة للتقرير السوسيولوجي والأنثربولوجي فهو ينظر من زاوية أخرى أكثر شمولية، زاوية القدرات الذهنية والإمكانات الثقافية والمعرفية التي لم تعد مؤهلة للتفكير والفعل في الأشياء الاجتماعية القروية، وليس الأمر سياسات فاشلة ولا منافسة السوق الرأسمالية فحسب، بل يرتبط الأمر هنا بشكل مركزي بأنا لم تسعف ولم تهيأ بما فيه الكفاية كي تحافظ على مقومات ذاتها وتنفتح على قبول القيم الجديدة مع إدماجها في مقولاتها القاعدية.
ذلك هو الرهان بالنسبة للملاحظة الأنثربولوجية، إذ المجتمع لا يعتبر مجتمعا إلا إذا حقق نسبة مقبولة من التوافق والانسجام سواء مع الذات أو مع الآخر والعالم. لقد استطاع المجتمع المغربي التقليدي أن يبني ذلك الانسجام المشكل للهوية عبر تجارب التاريخ، لكن الصدمة الكولونيالية جعلته يفقد توازنه سواء على مستوى تدبير الأشياء أو على مستوى إنتاج الأفكار وتصريفها.
نحن الآن أمام تجمعين بشريين لا يجمعهما جامع، تجمع قديم، ولا أقول تقليدي لأنه لم يعد كذلك، وأخر جديد، ولا أقول حداثي لأنه لم يعد بعد كذلك، بل واستضمر كل واحد الازدواجية تلك في ذاتيته، تلك الازدواجية الغير المتصالحة بين قيم المساواة والتسامح من جهة وقيم السوق والربح والمنافسة من جهة ثانية، وبين إبداع أشكال جديدة تنظيمية للشغل والحفاظ على القاع الإنساني الكافي من جهة ثالثة.
أما السياسات والاختيارات فقد تجلى فشلها خصوصا في كون المدرسة والمؤسسات البيداغوجية الأخرى لم تستطع أن تقوم بأي مجهود في هذا الاتجاه، بل على عكس ذلك لم تعمل سوى على إنتاج خريجين لم يعودوا بأناهم الأصلية، خريجين إما متنكرين بشكل مطلق للماضي وقيمه أو على عكس ذلك ماضويين بشكل لا يمكن به فهم ما يجري في العالم حولهم.
إن العودة الذاتية إلى الجذور من أجل الإحساس والتفكير في تربة الميلاد" التربة المعروفة أفضل" ليس تمرينا بلا جدوى وبلا حجاج علمي( Patrick Watier, Le savoir sociologique, 2000). تعلمنا سوسيولوجيا اليومي والأنثربولوجيا التأويلية الأهمية الإبستمولوجية للعودة إلى الأنا الجمعي من أجل وضع الإصبع على كيفية اشتغاال الأفعال الاجتماعية أو عدم اشتغالها حتى، كما هو الأمر هنا لسوء الحظ(Raymond Boudon, Effets pervers et ordre social,1977).
هي مقاربة تريد الاقتراب من الوقائع، ليس كوقائع، وإنما كتصورات وتمثلات وإدراكات الوقائع(Patrick Watier, La sociologie et les représentations de l'activité sociale, 1996) ، إن الذاتية الحذرة تريد تجاوز البحث في الأسباب " الميتافيزيقية" كما تريد تجاوز التحريات حول المسؤوليات الجنائية من أجل بناء حقل معرفي انطلاقا من السؤال كيف وليس من السؤال لماذا، ذلك السؤال العقيم في العلوم الإنسانية.
يرتبط الأمر هنا بالتفكير في الإجابة عن سؤال مركزي هو كيف كانت الأمور تشتغل في الماضي وفق نظام مؤسس و متوافق عليه وكيف لم تعد كذلك اليوم؟ من الذي جعل الناس يبتعدون عن أشيائهم اليومية؟
إن ما يعاني منه القرويون اليوم أكثر من الفصام، إنه حصر نفسي- ثقافي مس مستوى الآليات الفكرية والتنظيمية على حد سواء
..(Kostani, (l'Oasis de Gheris et le protectorat, mécanismes de changement et formes de résistance, thèse de Doctorat en sociologie rurale, 2000).
صحيح أنه لا يوجد مجتمع راكد على الشكل المطلق، (Le nomade, l'oasis et la ville, Actes de Tours, 1989 -Mohamed Mehdi et autre, Mutations sociales et réorganisation des espaces steppiques, 2002) لكن بعض الظواهر والمؤشرات مثل تخشب السلوكات وتصلبها وانغلاقها ونزوعها نحو الأصولية بجميع أنواعها أصبحت جد مؤرقة، وهي مظاهر سوسيولوجية تستحق أن تبرز وأن توصف بما فيه الكفاية من أجل البحث عن علاج ما ليس بعيدا عن الذات وقيمها، بل في ثناياها ذاتها. إن القبيلة لم تكن تنظيما منغلقا في يوم من الأيام، بل كانت تنظيما فاعلا وعضويا يستطيع بمرونة كبيرة أن يدمج الغريب وأن يمتص المتناقضات ويدبرها وأن ينفتح باستمرار على الآخر، وخلق من أجل ذلك آليات ذكية ونظمها بشكل ملفت حتى للملاحظين الغربيين. ولم تعد القبيلة رمز البلى والتقليد بمعناه السلبي إلا عندما أصبحت دالا بدون مدلول وبطاقة إدارية وخزان ذكريات وموضع تعويضات نفسية تصل حدود البؤس أحيانا.
إن المشاكل الإثنية في الواحات، تلك المشاكل التي لا تدع الناس يخرجون من فقرهم باسم بقايا قيم مهترئة لم تستطع الساكنة تجاوزها من أجل قيم أكثر قوة وجدوى، تلك القيم التي لم تعد سوى تعويضات وكهوف يلتجأ إليها لإخفاء هشاشة أسلحة الذات الدفاعية أمام أسلحة الآخر الفتاكة، أسلحة المدني حتى، حيث دونية مركبة لا مثيل لها، دونية التخلف والتبعية بحكم الانتماء إلى بلد متخلف ومتعب تاريخيا ودونية أكثر خطورة وهي دونية تسليم المصير للآخرين الذين يأتون في المناسبات، يتقنون لعبة فرق تسد واللعب على أوتار الذكريات الأليمة وتوجيهها نحو الجار ومن ثمة نحو الأنا، وبذلك تصبح الساكنة بضاعة انتخابية رخيصة تهب حنكها لتجار الرأي وعرابي الثروة السياسية التي لا زالت لسوء الحظ سوقا رائجة في بلدنا ، ذلك السوق الذي يمكن اعتباره مرة أخرى مؤشرا على تعب المؤهلات الذهنية التقليدية وعدم إنتاج بدائل يستطاع بها مسايرة الحاضر.
لا يمكن للعالم القروي أن ينمي نفسه قبل التصالح معها، ذلك التصالح الذي يجب اعتباره البوابة الرئيسية للتنمية البشرية المندمجة نفسها، حيث يمكن للعادات والأعراف والثقافة المحلية أن تكون رافعة التنمية انطلاقا من العودة إلى الذات والفرح بمقوماتها دون انكار أو تضخيم لها بعيدا عن كل أشكال الأصوليات إسلاموية كانت أم عروبوية أم أمازغوية، إذ كل المذهبيات المتطرفة ليست سوى ردود أفعال وتشنجات انفعالية نفسية لا يمكن أن تسمح للذات أن تتحرر نحو الفعل المنتج.
انطلاقا من كل ما سبق يمكن أن نقترح أربعة مستويات يمكن أن توضع كأرضيات للتفكير:
1- المستوى التقني بين المعرفة العلمية العالمة والمهارات التقليدية( الماء، تقنيات الري، الصناعة التقليدية، أنظمة الشغل...)
2- المعرفة وآليات تمريرها( المعرفة القبلية التقليدية، المدارس القرآنية، المدرسة العصرية، ما قبل التمدرس، تمدرس الفتاة القروية، محو الأمية...)
3- تنظيم المجال والمجتمع(الأشكال التقليدية للتنظيم، العرف، المجتمع المدني، انفجار السكن التقليدي، الأشكال الحديثة لبناء المجال، العقار، حدود الجماعات، الطرق، تدبير الخلاف...)
4- القيم وتوجهات الناس، هل هي نحو التقليد أم نحو الحداثة، نحو العرف أم نحو القوانين الدولتية، التوجه نحو الغنى أم الفقر، نحو الكسل أم الشغل، الهجرة...)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق