توطئة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على الذي جاءنا بالخيرات، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات وبعد:
فكأننا بمن يقول: لِمَ هذا الاهتمام بهذا الطود الشامخ وفي هذا الظرف بالذات وبعد مدة من رحيله؟ لِمَ لم ينصف الشيخ في حياته؟ فكيف يمكن رد الاعتبار إليه وتخليده بعد وفاته ثم ماذا يمثل هذا الرجل ضمن رصيد الحركة الإصلاحية حتى يستحق كل هذا الاهتمام؟ جالت في أذهاننا هذه التساؤلات وغيرها فاخترنا هذا الموضوع الذي يتعلق بهذا الرجل المعلم الثائر.
ومن دواعي اهتمامنا بهذا الموضوع ما يلي:
الدافع الشخصي:
لعل من الجحود أن ينكر أحدنا مدى الفوائد الجمة التي جنيناها من شيخنا ـ ونحن صغار ـ فقد كان شيخنا من أوائل رجالات الحركة الإصلاحية الشاملة بالمنطقة.
الدافع الديني:
فلقد ارتبط اسم الشيخ طالب عبد الله عبد الرحمن بالحركة الإصلاحية في أبعادها الدينية، فبالإضافة إلى التعليم القرآني فقد حرص على متانة المجتمع من الانحلال الخلقي والذوبان الثقافي للغير، بوجهة نظر ثاقبة تنم و تعبر على بعد النظر.
الدافع الوطني:
من الضروري على الأحفاد أن يقتدوا آثار هؤلاء الأمجاد، بل من واجب هذا الجيل أن يزيل الستار عن هذه الأسماء من طي النسيان، وأن يعطي لكل ذي حق حقه بعيدا عن كل تعصب أو تحيّز, وبرؤية صائبة بكل موضوعية وأمانة علمية.
فمن الواجب الوطني أن يركز الاهتمام على كافة أسمائنا المغمورة، التي قدمت الكثير في وقت الشدة، فلهذا من الضروري دراسة أعمال هؤلاء الرجال، لتظل جذورهم ثابتة وفروعهم وافرة.
وقد تكون هذه الالتفاتة الطيبة من مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية تامنغست وقفةً، تعرف الناشئة بمثل هؤلاء الأعلام والشخصيات الوطنية اقتفاء بجهادهم وإخلاصهم في وفائهم لوطنهم.
مقدمة البحث:
إن الموروث الفكري والثقافي لعلمائنا على تعداد وصولهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب معينا لا ينضب.
ومن العجب أن العلماء المختصين في أجناس البشر بعدما اكتشفوا خارطة الجنس البشري أكدوا أن البشر متشابهون، وكل الذي نراه بينهم من تفاوت واختلاف هو في الحقيقة أقل من أن يلحظ إذا نظرنا إلى ذلك من زاوية العلم والمعرفة ونشر المودة وفعل الخيرات في المجتمع لإصلاح إعوجاجه وما تخلخل من أركانه.
وان كان الذي يجعلنا نشعر بأن هذا التفاوت ابعد من ان نحسه، هو طبائع البشر المختلفة، إلا أن تجارب الحياة علمتنا أن في الناس العالم والجاهل والكريم واللئيم والذكي والبليد إلى غير ذلك من الطبائع الأخرى، فهذه سنة الله في خلقه.
وإذ نسلط الضوء من خلال هذا البحث على مسيرة واحد من مشايخنا الأفذاذ الذي عد فقدانه بمثابة مكتبة إحترقت ليبقى جهدنا ضئيلا وضئيلا جدا مقارنة وما قدم في سبيل تلقين الناشئة القرءان الكريم والسيرة النبوية وعلوم الدين، زيادة على مساعيه الحثيثة في سبيل تنوير المجتمع من ضلالات الجهل والخرافة والفساد، فكيف كان مولده وما الذي ميز مراحل نشأته وما إنجازاته ؟
الإمام الشيخ طالب عبد الله عبد الرحمان
(1900 - 1985)
مولده ونشأته:
هو عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الرحمان بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد الأركشاشي، أمه عائشة إبنت عبد الرحمان التيطي.
ولد بعين صالح ولاية تامنغست في خلال سنة ألف وتسعمائة ميلادية، توفي والده وهو لم يبلغ من العمر إلا سنة ليتولى تربيته أخوه الأكبر محمد فكان له الفضل في تعليمه المبادئ الأولية في اللغة والدين، إذ حرص على مشواره الدراسي، بعدما حفظ القرءان الكريم على يديه وهو طفل لم يبلغ سن الرشد بعد، فضلا عن تلقينه أصول الفقه وعلوم الدين.
وصف عبد الرحمان بالأرض الخصبة التي جعلت منه الابن البار والأخ المطيع، إذ ساعده في ذلك طلاقة لسانه وسلامة سريرته وقلبه، تميز بتوسط القامة، واعتدال البنية، وهدوء المزاج، وقد عرف كذلك بعزة النفس والزهد والورع منذ الصغر.
ساد عطفه وحنانه البؤساء والمحتاجين وبره الضعفاء مترفعا عما في يد غيره خوله مركزه الاجتماعي ان يتمتع بالمال والجاه والتملك، لكنه رفض، كما عرف بغلقه باب الهدايا وتسخير العباد لخدمة شؤونه، ليتولى بنفسه قضاء جميع احتياجاته ومستلزماته اليومية مصطحبا صغار أسرته قصد الإعانة.
كما وصف بين أقرانه بالشجاع المقدام، لا يخاف في الله لومة لائم، يفضل العزلة في الكثير من الأحيان، وان جالس غيره من الناس فحديثه ذو فائدة بعيدا عن كل لغو وثرثرة.
رحلته إلى تونس (1920 - 1946):
في شظف من العيش ووعورته آنذاك، وحبا في الإنتهال من منابيع العلم ومصاحبة صفوة العلماء والفقهاء، لاسيما بالبلاد العربية التي ذاع صيتها في هذا المجال، فكانت وجهته تونس الشقيقة، بعدما مكث بمدينة ورقلة سنتين مدرسا ومعلما للقرآن الكريم أبناء المسلمين، نزل تراب دولة تونس الشقيقة مع مطلع سنة 1920 طالبا الرزق والعلم بمعية رفاق له نذكر منهم الشيخان: بن سيدي بن عبد القادر بن الشيخ والطالب باسعيد فمكث هناك ستة وعشرين سنة، معتمدا على نفسه في كل الأحوال، يكد ويجتهد لتوفير قوت حياته، ويسهر ويجد لتوسيع معارفه العلمية، مستغلا احتكاكه بصفوة الرجال الذين جمعه بهم جامع الزيتونة الذي عد كقطب من أقطاب العلم والمعرفة بالمغرب العربي، موازاة مع القطب الشرقي جامع الأزهر بجمهورية مصر العربية، ولهذا فان هذه المدة الطويلة التي مكثها بأرض تونس يأخذ ويعطي، يحاجّ ويناظر كل ذلك قد ساهم في تكامل شخصيته ونضجها.
وبعد شوقه لمسقط رأسه وبإلحاح مستمر من ذويه وخلانه، أضحى التفكير واردا في استخلافه وتقاسمه أعباء المسجد مع أخيه محمد، لذلك تكبد أخوه أعباء السفر إلى تونس رفقة صحبه لإقناعه بالعودة، ونزولا عند رغبتهم وبالإضافة إلى شوقه لغرس القيم الدينية والوطنية في نفوس الناشئة وإخوانه، خاصة وأن الوطن لازال يئنّ تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الغاشم، الذي عمد على طمس هوية هذا الشعب، لأجل هذا كله كانت العودة إلى ارض الوطن مع بزوغ سنة ستة وأربعين وتسعمائة وألف.
نشاطه الديني والاصلاحي:
إستهل نشاطه الديني والإصلاحي بالمنطقة، بتوليه إمامة المصلين في المسجد العتيق ( سبعين صالح بن عزي ) قصر المرابطين مع تعليم القرءان الكريم للصبية، فأعطاها من شمائله شمائل، مظهرا صدقه وإخلاصه في ذلك، فعظم أمره وعلا شأنه في نفوس تلامذته وأوليائهم على السواء، فأعجبوا بسلوكه وطريقة معاملته وتعليمه، فانطلقت الألسن بالثناء عليه، فذاع صيته في المنطقة، فقصده التلاميذ من كل الربوع والنواحي، مما اضطره إلى تخصيص قسم للصغار وآخر للكبار.
كما يعود له الفضل في تعليم الفتيات إذ خصص لهن قسما وتعهدهن بالرعاية والمتابعة، فبلغن بذلك مراحل متقدمة في حفظ كتاب الله، في ظل الظروف القاهرة والرواسب الاجتماعية البليدة، إذ كان للفتيات حظ ضئيل في التعليم مقارنة مع الفتيان, وإيمانا منه من أن المجتمع لن تقوم له قائمة دون تعليم المرأة التي دعانا الإسلام إلى تعليمها، وكأنّنا به مجسدا قول الشاعر العربي حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
نشاطه بالمدرسة القرآنية:
إن المهمة الأساسية للمدرسة هي تحفيظ القران الكريم وتعليم مبادئ القراءة والكتابة للأطفال، وهذه المدرسة كان لها الدور في الحياة الدينية والثقافية الفكرية والاجتماعية، وقد مثلت هذه المدرسة مقاومة حضارية خلال فترة الاستعمار، فوقفت حاجزا منيعا ضد سياسة التجهيل التي انتهجها المستعمر منذ دخوله أرض عين صالح, فحفظت لسان المجتمع الجزائري من الضياع، لذا كان همّ الشيخ متمثلا في قول الرسول صلى الله عليه و سلم: ( خيركم من تعلم القران و علمه ).
1- أهدافه ومساعيه في التعليم القرآني:
أ- الأهداف التربوية:
- تعليم الأبناء وتربيتهم على الأخلاق الإسلامية.
- التمسك بالقرآن وحسن التلاوة برواية ورش.
- تعليم مبادئ العبادات وتعويدهم على أدائها.
ب- الأهداف الاجتماعية:
- تربية الطفل على المبادئ الإسلامية والأخلاق الفاضلة، كوقاية من الإنحرافات.
- تجسيد حق الطفل في التعليم.
- تهيئة الطفل لمواجهة الحياة.
ج- الأهداف الثقافية:
- تزويد الطفل برصيد لغوي.
- حفظ كتاب الله ومجموعة من الأحاديث الشريفة والمتون على المذهب المالكي كمتن العبقري- ابن عاشر- أسهل المسالك.......
- نشر الوعي الإجتماعي لإزالة الخرافات والبدع التي شجع عليها الاستعمار الفرنسي.
2- منهجيته في التدريس بالمدرسة القرآنية:
أ) إعتمد على تعليم الأطفال بقصار السور وفائدة هذه الطريقة مراعاة ذهنية الطفل إذ من البديهي أن الطفل لا يستطيع استيعاب مقاطع طوال السور إضافة إلى ان:
- جل السور مكية والتي من المعلوم أن القران المكي يركز على ترسيخ العقيدة.
- هذه السور قصيرة الفواصل.
- اشتمالها على بعض القصص كسورتي: الفيل والمسد.
- الطفل في هذه المرحلة مأمور بالصلاة وحاجته إلى مثل هذه السور ضرورية لصلاته.
- هذه السور القصيرة تجنب الطفل الركود والملل بل وتعينه على الحفظ.
ب) استعمال اللوح الخشبي:
- يراعي الفروق الفردية للتلاميذ.
- يمكّن من تعليم الأطفال الرسم العثماني.
- يساعد على التدرج في حفظ السور.
ج) العرض: ويمكننا تقسيمه إلى قسمين:
- العرض الأولي: حيث يسمع التلميذ الآية صحيحة بعد تلقيها مكتوبة في لوحه ليصحح أخطاء النطق.
- العرض النهائي: إذ لا يمكن للطفل ان يمحو اللوح ما لم يعرض ما حفظه.
د) التكرار: وهو مراجعة دورية للقران الكريم، ومن فوائد هذه الطريقة:
- تثبيت الحفظ والتركيز عند رفع الصوت بالقراءة.
ه) الإملاء: فعندما يصل التلميذ إلى مرحلة من معرفة الخط (الرشم) يبدأ في الإملاء (الفتوى) حيث يجتمع حول الشيخ مجموعة من التلاميذ كل على حسب مستواه، ليتلقى ما يمليه عليه الشيخ.
للإشارة فقد كان يكلف بعضا من كبار تلامذته، ليتولوا تعليم المبتدئين على شكل مجموعات، رغبة منه في غرس روح المسؤولية والشعور بالقيادية لدى التلاميذ.
إنجازات الشيخ:
العلمية:
من المعلوم أن الشيخ لم يصرف وقته في تأليف كتاب، أو تدوين مؤلف، بقدر ما اهتم بالإنسان، فاعتبره رأس مال ينبغي استثماره في خدمة مجتمعه ووطنه, فسعى بكل جدية وصرامة في تربية تلامذته على حب العلم، باعتباره نافذة تطلنا على هذا العالم الخفي، فحثهم على التوافق بين التعليمين في المدرسة النظامية والمدرسة القرآنية، مما جعلهم متفوقين في مشوارهم التعليمي والتربوي، هذا الذي أهلهم ليتقلدوا مناصب ووظائف مرموقة، فمنهم الإمام والأستاذ والإداري ونحو ذلك, جعلتهم يقرون بجميل فضله عليهم، كما يعود الفضل إلى الآباء الذين شجعهم الشيخ على الدفع بالأبناء إلى المدارس ومتابعتهم, وذلك عن طريق دروسه وخطبه الداعية إلى غرس حب العلم والوطن.
الاجتماعية:
حرص الشيخ بشكل مباشر على محاربة العادات السيئة المتفشية في المجتمع، إذ يعترف له أنه من الأوائل الذين حاربوا الكثير من البدع والخرافات التي عمد الإستعمار الفرنسي على تشجيعها بكل قوة في الأوساط الشعبية، كرسم الصلب على مداخل البيوت والأطعمة للتبرك والتفاؤل، كما ساهم في دحض الاختلاط الذي كان يحصل بين الرجال والنساء في الرقص التقليدي، إضافة إلى تهذيبه للعديد من الأقوال والأفعال المشينة للأخلاق والقيم المؤثرة في العقيدة، فحمل عليها الشيخ وخاض في دحضها مبينا مساوئها ونتائجها الوخيمة، ولا يختلف إثنان عن ما في هذا من مخاطر لا يقرها العقل السليم ولا الدين القويم.
ولقد ساعده في هذا السبيل، سلوكه المثالي مع الناس، وإصراره على قول كلمة الحق بكل قناعة وإيمان.
إلى جانب كل هذا لا ننسى دوره في إصلاح ذات البين، سواء بين الأفراد أو الجماعات، وذلك عن طريق فك النزاعات والخصومات التي يمكن أن تقع بينهم.
ثقتهم به أهلته أن يتولى توثيق عقودهم الكتابية والشفوية في الزواج والبيع والشراء والإيجار والهبة ...
وفاته:
في مساء 30 جوان 1985 إنتقل إلى رحمة ربه الشيخ طالب عبد الله عبد الرحمن بعد مرض عضال ألزمه الفراش في سنواته الأخيرة، وكان رحيله مأساة في نفوس ذويه وتلامذته ومحبيه، بعدما ترك رحيله بينهم فراغا رهيبا، وقد حضر تشييع جنازته جمع غفير من المصلين جاؤوا من كل حدب وصوب، ودفن في مقبرة أولاد بلقاسم إلى جوار إخيه. فرحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
بحث من اعداد اﻻستاذان/محمد بن دياب ومحمد طالب
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على الذي جاءنا بالخيرات، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات وبعد:
فكأننا بمن يقول: لِمَ هذا الاهتمام بهذا الطود الشامخ وفي هذا الظرف بالذات وبعد مدة من رحيله؟ لِمَ لم ينصف الشيخ في حياته؟ فكيف يمكن رد الاعتبار إليه وتخليده بعد وفاته ثم ماذا يمثل هذا الرجل ضمن رصيد الحركة الإصلاحية حتى يستحق كل هذا الاهتمام؟ جالت في أذهاننا هذه التساؤلات وغيرها فاخترنا هذا الموضوع الذي يتعلق بهذا الرجل المعلم الثائر.
ومن دواعي اهتمامنا بهذا الموضوع ما يلي:
الدافع الشخصي:
لعل من الجحود أن ينكر أحدنا مدى الفوائد الجمة التي جنيناها من شيخنا ـ ونحن صغار ـ فقد كان شيخنا من أوائل رجالات الحركة الإصلاحية الشاملة بالمنطقة.
الدافع الديني:
فلقد ارتبط اسم الشيخ طالب عبد الله عبد الرحمن بالحركة الإصلاحية في أبعادها الدينية، فبالإضافة إلى التعليم القرآني فقد حرص على متانة المجتمع من الانحلال الخلقي والذوبان الثقافي للغير، بوجهة نظر ثاقبة تنم و تعبر على بعد النظر.
الدافع الوطني:
من الضروري على الأحفاد أن يقتدوا آثار هؤلاء الأمجاد، بل من واجب هذا الجيل أن يزيل الستار عن هذه الأسماء من طي النسيان، وأن يعطي لكل ذي حق حقه بعيدا عن كل تعصب أو تحيّز, وبرؤية صائبة بكل موضوعية وأمانة علمية.
فمن الواجب الوطني أن يركز الاهتمام على كافة أسمائنا المغمورة، التي قدمت الكثير في وقت الشدة، فلهذا من الضروري دراسة أعمال هؤلاء الرجال، لتظل جذورهم ثابتة وفروعهم وافرة.
وقد تكون هذه الالتفاتة الطيبة من مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية تامنغست وقفةً، تعرف الناشئة بمثل هؤلاء الأعلام والشخصيات الوطنية اقتفاء بجهادهم وإخلاصهم في وفائهم لوطنهم.
مقدمة البحث:
إن الموروث الفكري والثقافي لعلمائنا على تعداد وصولهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب معينا لا ينضب.
ومن العجب أن العلماء المختصين في أجناس البشر بعدما اكتشفوا خارطة الجنس البشري أكدوا أن البشر متشابهون، وكل الذي نراه بينهم من تفاوت واختلاف هو في الحقيقة أقل من أن يلحظ إذا نظرنا إلى ذلك من زاوية العلم والمعرفة ونشر المودة وفعل الخيرات في المجتمع لإصلاح إعوجاجه وما تخلخل من أركانه.
وان كان الذي يجعلنا نشعر بأن هذا التفاوت ابعد من ان نحسه، هو طبائع البشر المختلفة، إلا أن تجارب الحياة علمتنا أن في الناس العالم والجاهل والكريم واللئيم والذكي والبليد إلى غير ذلك من الطبائع الأخرى، فهذه سنة الله في خلقه.
وإذ نسلط الضوء من خلال هذا البحث على مسيرة واحد من مشايخنا الأفذاذ الذي عد فقدانه بمثابة مكتبة إحترقت ليبقى جهدنا ضئيلا وضئيلا جدا مقارنة وما قدم في سبيل تلقين الناشئة القرءان الكريم والسيرة النبوية وعلوم الدين، زيادة على مساعيه الحثيثة في سبيل تنوير المجتمع من ضلالات الجهل والخرافة والفساد، فكيف كان مولده وما الذي ميز مراحل نشأته وما إنجازاته ؟
الإمام الشيخ طالب عبد الله عبد الرحمان
(1900 - 1985)
مولده ونشأته:
هو عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الرحمان بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد الأركشاشي، أمه عائشة إبنت عبد الرحمان التيطي.
ولد بعين صالح ولاية تامنغست في خلال سنة ألف وتسعمائة ميلادية، توفي والده وهو لم يبلغ من العمر إلا سنة ليتولى تربيته أخوه الأكبر محمد فكان له الفضل في تعليمه المبادئ الأولية في اللغة والدين، إذ حرص على مشواره الدراسي، بعدما حفظ القرءان الكريم على يديه وهو طفل لم يبلغ سن الرشد بعد، فضلا عن تلقينه أصول الفقه وعلوم الدين.
وصف عبد الرحمان بالأرض الخصبة التي جعلت منه الابن البار والأخ المطيع، إذ ساعده في ذلك طلاقة لسانه وسلامة سريرته وقلبه، تميز بتوسط القامة، واعتدال البنية، وهدوء المزاج، وقد عرف كذلك بعزة النفس والزهد والورع منذ الصغر.
ساد عطفه وحنانه البؤساء والمحتاجين وبره الضعفاء مترفعا عما في يد غيره خوله مركزه الاجتماعي ان يتمتع بالمال والجاه والتملك، لكنه رفض، كما عرف بغلقه باب الهدايا وتسخير العباد لخدمة شؤونه، ليتولى بنفسه قضاء جميع احتياجاته ومستلزماته اليومية مصطحبا صغار أسرته قصد الإعانة.
كما وصف بين أقرانه بالشجاع المقدام، لا يخاف في الله لومة لائم، يفضل العزلة في الكثير من الأحيان، وان جالس غيره من الناس فحديثه ذو فائدة بعيدا عن كل لغو وثرثرة.
رحلته إلى تونس (1920 - 1946):
في شظف من العيش ووعورته آنذاك، وحبا في الإنتهال من منابيع العلم ومصاحبة صفوة العلماء والفقهاء، لاسيما بالبلاد العربية التي ذاع صيتها في هذا المجال، فكانت وجهته تونس الشقيقة، بعدما مكث بمدينة ورقلة سنتين مدرسا ومعلما للقرآن الكريم أبناء المسلمين، نزل تراب دولة تونس الشقيقة مع مطلع سنة 1920 طالبا الرزق والعلم بمعية رفاق له نذكر منهم الشيخان: بن سيدي بن عبد القادر بن الشيخ والطالب باسعيد فمكث هناك ستة وعشرين سنة، معتمدا على نفسه في كل الأحوال، يكد ويجتهد لتوفير قوت حياته، ويسهر ويجد لتوسيع معارفه العلمية، مستغلا احتكاكه بصفوة الرجال الذين جمعه بهم جامع الزيتونة الذي عد كقطب من أقطاب العلم والمعرفة بالمغرب العربي، موازاة مع القطب الشرقي جامع الأزهر بجمهورية مصر العربية، ولهذا فان هذه المدة الطويلة التي مكثها بأرض تونس يأخذ ويعطي، يحاجّ ويناظر كل ذلك قد ساهم في تكامل شخصيته ونضجها.
وبعد شوقه لمسقط رأسه وبإلحاح مستمر من ذويه وخلانه، أضحى التفكير واردا في استخلافه وتقاسمه أعباء المسجد مع أخيه محمد، لذلك تكبد أخوه أعباء السفر إلى تونس رفقة صحبه لإقناعه بالعودة، ونزولا عند رغبتهم وبالإضافة إلى شوقه لغرس القيم الدينية والوطنية في نفوس الناشئة وإخوانه، خاصة وأن الوطن لازال يئنّ تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الغاشم، الذي عمد على طمس هوية هذا الشعب، لأجل هذا كله كانت العودة إلى ارض الوطن مع بزوغ سنة ستة وأربعين وتسعمائة وألف.
نشاطه الديني والاصلاحي:
إستهل نشاطه الديني والإصلاحي بالمنطقة، بتوليه إمامة المصلين في المسجد العتيق ( سبعين صالح بن عزي ) قصر المرابطين مع تعليم القرءان الكريم للصبية، فأعطاها من شمائله شمائل، مظهرا صدقه وإخلاصه في ذلك، فعظم أمره وعلا شأنه في نفوس تلامذته وأوليائهم على السواء، فأعجبوا بسلوكه وطريقة معاملته وتعليمه، فانطلقت الألسن بالثناء عليه، فذاع صيته في المنطقة، فقصده التلاميذ من كل الربوع والنواحي، مما اضطره إلى تخصيص قسم للصغار وآخر للكبار.
كما يعود له الفضل في تعليم الفتيات إذ خصص لهن قسما وتعهدهن بالرعاية والمتابعة، فبلغن بذلك مراحل متقدمة في حفظ كتاب الله، في ظل الظروف القاهرة والرواسب الاجتماعية البليدة، إذ كان للفتيات حظ ضئيل في التعليم مقارنة مع الفتيان, وإيمانا منه من أن المجتمع لن تقوم له قائمة دون تعليم المرأة التي دعانا الإسلام إلى تعليمها، وكأنّنا به مجسدا قول الشاعر العربي حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
نشاطه بالمدرسة القرآنية:
إن المهمة الأساسية للمدرسة هي تحفيظ القران الكريم وتعليم مبادئ القراءة والكتابة للأطفال، وهذه المدرسة كان لها الدور في الحياة الدينية والثقافية الفكرية والاجتماعية، وقد مثلت هذه المدرسة مقاومة حضارية خلال فترة الاستعمار، فوقفت حاجزا منيعا ضد سياسة التجهيل التي انتهجها المستعمر منذ دخوله أرض عين صالح, فحفظت لسان المجتمع الجزائري من الضياع، لذا كان همّ الشيخ متمثلا في قول الرسول صلى الله عليه و سلم: ( خيركم من تعلم القران و علمه ).
1- أهدافه ومساعيه في التعليم القرآني:
أ- الأهداف التربوية:
- تعليم الأبناء وتربيتهم على الأخلاق الإسلامية.
- التمسك بالقرآن وحسن التلاوة برواية ورش.
- تعليم مبادئ العبادات وتعويدهم على أدائها.
ب- الأهداف الاجتماعية:
- تربية الطفل على المبادئ الإسلامية والأخلاق الفاضلة، كوقاية من الإنحرافات.
- تجسيد حق الطفل في التعليم.
- تهيئة الطفل لمواجهة الحياة.
ج- الأهداف الثقافية:
- تزويد الطفل برصيد لغوي.
- حفظ كتاب الله ومجموعة من الأحاديث الشريفة والمتون على المذهب المالكي كمتن العبقري- ابن عاشر- أسهل المسالك.......
- نشر الوعي الإجتماعي لإزالة الخرافات والبدع التي شجع عليها الاستعمار الفرنسي.
2- منهجيته في التدريس بالمدرسة القرآنية:
أ) إعتمد على تعليم الأطفال بقصار السور وفائدة هذه الطريقة مراعاة ذهنية الطفل إذ من البديهي أن الطفل لا يستطيع استيعاب مقاطع طوال السور إضافة إلى ان:
- جل السور مكية والتي من المعلوم أن القران المكي يركز على ترسيخ العقيدة.
- هذه السور قصيرة الفواصل.
- اشتمالها على بعض القصص كسورتي: الفيل والمسد.
- الطفل في هذه المرحلة مأمور بالصلاة وحاجته إلى مثل هذه السور ضرورية لصلاته.
- هذه السور القصيرة تجنب الطفل الركود والملل بل وتعينه على الحفظ.
ب) استعمال اللوح الخشبي:
- يراعي الفروق الفردية للتلاميذ.
- يمكّن من تعليم الأطفال الرسم العثماني.
- يساعد على التدرج في حفظ السور.
ج) العرض: ويمكننا تقسيمه إلى قسمين:
- العرض الأولي: حيث يسمع التلميذ الآية صحيحة بعد تلقيها مكتوبة في لوحه ليصحح أخطاء النطق.
- العرض النهائي: إذ لا يمكن للطفل ان يمحو اللوح ما لم يعرض ما حفظه.
د) التكرار: وهو مراجعة دورية للقران الكريم، ومن فوائد هذه الطريقة:
- تثبيت الحفظ والتركيز عند رفع الصوت بالقراءة.
ه) الإملاء: فعندما يصل التلميذ إلى مرحلة من معرفة الخط (الرشم) يبدأ في الإملاء (الفتوى) حيث يجتمع حول الشيخ مجموعة من التلاميذ كل على حسب مستواه، ليتلقى ما يمليه عليه الشيخ.
للإشارة فقد كان يكلف بعضا من كبار تلامذته، ليتولوا تعليم المبتدئين على شكل مجموعات، رغبة منه في غرس روح المسؤولية والشعور بالقيادية لدى التلاميذ.
إنجازات الشيخ:
العلمية:
من المعلوم أن الشيخ لم يصرف وقته في تأليف كتاب، أو تدوين مؤلف، بقدر ما اهتم بالإنسان، فاعتبره رأس مال ينبغي استثماره في خدمة مجتمعه ووطنه, فسعى بكل جدية وصرامة في تربية تلامذته على حب العلم، باعتباره نافذة تطلنا على هذا العالم الخفي، فحثهم على التوافق بين التعليمين في المدرسة النظامية والمدرسة القرآنية، مما جعلهم متفوقين في مشوارهم التعليمي والتربوي، هذا الذي أهلهم ليتقلدوا مناصب ووظائف مرموقة، فمنهم الإمام والأستاذ والإداري ونحو ذلك, جعلتهم يقرون بجميل فضله عليهم، كما يعود الفضل إلى الآباء الذين شجعهم الشيخ على الدفع بالأبناء إلى المدارس ومتابعتهم, وذلك عن طريق دروسه وخطبه الداعية إلى غرس حب العلم والوطن.
الاجتماعية:
حرص الشيخ بشكل مباشر على محاربة العادات السيئة المتفشية في المجتمع، إذ يعترف له أنه من الأوائل الذين حاربوا الكثير من البدع والخرافات التي عمد الإستعمار الفرنسي على تشجيعها بكل قوة في الأوساط الشعبية، كرسم الصلب على مداخل البيوت والأطعمة للتبرك والتفاؤل، كما ساهم في دحض الاختلاط الذي كان يحصل بين الرجال والنساء في الرقص التقليدي، إضافة إلى تهذيبه للعديد من الأقوال والأفعال المشينة للأخلاق والقيم المؤثرة في العقيدة، فحمل عليها الشيخ وخاض في دحضها مبينا مساوئها ونتائجها الوخيمة، ولا يختلف إثنان عن ما في هذا من مخاطر لا يقرها العقل السليم ولا الدين القويم.
ولقد ساعده في هذا السبيل، سلوكه المثالي مع الناس، وإصراره على قول كلمة الحق بكل قناعة وإيمان.
إلى جانب كل هذا لا ننسى دوره في إصلاح ذات البين، سواء بين الأفراد أو الجماعات، وذلك عن طريق فك النزاعات والخصومات التي يمكن أن تقع بينهم.
ثقتهم به أهلته أن يتولى توثيق عقودهم الكتابية والشفوية في الزواج والبيع والشراء والإيجار والهبة ...
وفاته:
في مساء 30 جوان 1985 إنتقل إلى رحمة ربه الشيخ طالب عبد الله عبد الرحمن بعد مرض عضال ألزمه الفراش في سنواته الأخيرة، وكان رحيله مأساة في نفوس ذويه وتلامذته ومحبيه، بعدما ترك رحيله بينهم فراغا رهيبا، وقد حضر تشييع جنازته جمع غفير من المصلين جاؤوا من كل حدب وصوب، ودفن في مقبرة أولاد بلقاسم إلى جوار إخيه. فرحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
بحث من اعداد اﻻستاذان/محمد بن دياب ومحمد طالب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق