الاستعراب الإسباني والتراث الأندلسي من خلال
ثلاثة نماذج: خوان أندريس ـ غاينغوس ـ ريبيرا
الأستاذ محمد القاضيطنجة
تحديد المصطلح: استشراق أم استعراب؟
يرفض الكثير من الإسبان المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية نعتهم بالمستشرقين ويفضلون بدلها كلمة »الاستعراب« ((Arabistas نظراً لأنهم كلهم نذروا حياتهم لدراسة اللغة العربية وآدابها وحضارة المسلمين وعلومهم في شبه الجزيرة الإيبيرية بصفة خاصة دون أن يهتموا بلغات شرقية أخرى كالفارسية والتركية والأردية وغيرها، إلا ما كان من طرف بعض الباحثين المعاصرين وهم قلة. ويلح المستعرب بيدرو مارتينث مونتابيث على استعمال »كلمة "الاستعراب" (Arabista)، لأن الدراسات التي بدأت في إسبانيا وازدهرت منذ وقت طويل كانت الدراسات العربية، ولا توجد منذ بداية هذه الدراسات دراسات في التركية وفي الصينية والهندية وكلها تدخل في الاستشراق« ([1]).
ويرى الدكتور محمود صج »أنه يجب التمييز بين المستعربين والمستشرقين في إسبانيا. المستعربون هم الذين يهتمون بالدراسات العربية الإسلامية، وبخاصة الأندلسية منها، والمستشرقون هم الذين يهتمون بقضايا الشرق على العموم، وبخاصة قضايا الشرق الأقصى«([2]).
والاستعراب استعمال قديم. فقد استعمله ابن الفرية، وهو من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة. فإنه قال لما سأله الحجاج عن أهل البحرين: »نبط استعربوا«؛ قال: »فأهل عمان«؛ قال: »عرب استنبطوا«، وذلك يكون إما لغة أو انتساباً أو لعلاقة أخرى([3]).
أما في الأندلس، فقد أطلقت كلمة »المستعربة« أو »المستعربين« Mozarabes)) على العناصر المسيحية التي استعربت في لغتها وعاداتها، ولكنها بقيت على دينها محتفظة ببعض تراثها اللغوي والحضاري. وقد كفلت لهم الدولة الإسلامية حرية العقيدة، فأبقت لهم كنائسهم وأديرتهم وطقوسهم الدينية التي كانت تقام باللغة اللاتينية، كما كان لهم رئيس يعرف بـ»القومس« (Gomez) وقاضٍ يعرف بقاضي العجم أو النصارى، يفصل في منازعاتهم بمقتضى القانون القوطي([4]).
وقد وصف ألبارو (Alvaro) ونفسه تقطر حزناً وألماً فقال:
إن إخوتي في الدين وأبناء رعيتي يتذوقون الأشعار والروايات العربية ويتعمقون في دراسة الفلاسفة المسلمين. وليت انصرافهم هذا يؤدي إلى مساعدتهم على دحض المذاهب الإسلامية أو الرد عليها، بل على العكس لكي يتمكنوا من هذه اللغة ومن آدابها وليجيدوا استعمالها أحسن فأحسن… أين نجد الآن علمانياً واحداً نصرانياً يقرأ الأناجيل أو حياة القديسين وأعمال الرسل والأنبياء؟ آه ويا للأسف! إن الشباب المسيحي الذي تميز بذكائه وعبقريته لا يجد اللذة والمتعة الروحية إلا في قراءة الكتب العربية وآدابها وينفقون الأموال الطائلة على شراء هذه الكتب وتشكيل مكتبات ضخمة، وينادون على رؤوس الأشهاد: أن لا آداب توازي الآداب العربية… كلموهم عن الكتب المسيحية يجيبوكم بازدراء: »إنها لا تستحق الانتباه...«. آه ما أتعسنا! إن المسيحيين منا قد نسوا لغتهم، وبين ألف شخص منهم لا يوجد واحد يحسن كتابة رسالة إلى صديقه باللغة اللاتينية، ولكن إذا طلبته للكتابة باللغة العربية أجاد كل الإجادة بحيث أن الكثيرين من إخواننا في الدين يحسنون اللغة العربية أفضل من العرب أنفسهم ([5]).
ولقد أدَّى هؤلاء دوراً مهماً في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الممالك المسيحية بشمال إسبانيا وجنوب فرنسا، وكانوا أداة وصل بين شطري إسبانيا، ولم ينقطعوا عن التنقل بين أراضي المسلمين وأراضي النصارى في الشمال. فعملوا بذلك على نشر الثقافة الإسلامية بين أهل الشمال، وبخاصة عن طريق ترجمة كتب المسلمين، وشاركهم في ذلك اليهود حيث اضطلعوا بدور كبير في ترجمة المصنفات العربية إلى اللاتينية والقشتالية، مما جعل الفقيه الإشبيلي ابن عبدون ـ في القرن الثاني عشر الميلادي ـ يدعو إلى ألاَّ »يباع من اليهود ولا من النصارى كتاب علم إلا ما كان من شريعتهم. فإنهم يترجمون كتب العلوم وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم، وهي من تواليف المسلمين«([6]).
ومع مرور الزمن وتطور مفهوم »الاستعراب« وصيرورته ذا طابع علمي
يختص بدراسة حياة العرب وما يتعلق بهم من حضارة وآداب ولغة وتاريخ وفلسفات وأديان وله أصوله وفروعه ومدارسه وخصائصه وأتباعه ومنهجه وفلسفته وتاريخه وأهدافه. والمستعرب هو عالم ثقة في كل ما يتصل بالعرب وبلاد العرب أو باللغة العربية والأدب العربي، أو بالأحرى المستعرب هو من تبحر من غير أهل العرب في اللغة العربية وآدابها وتثقف بثقافتها وعني بدراستها ([7]).
ومهما يكن من أمر، فإن إسبانيا تميزت عن غيرها من الدول الأوربية الأخرى التي تدين بالشيء الكثير لإسبانيا العربية بأنها كانت سباقة إلى الاحتكاك بالعرب والاستفادة من حضارتهم وثقافتهم، مما جعلها تتبوأ مكانة خاصة في ميدان الاستعراب بصفة عامة؛ كما أن اهتمام الإسبان اتجه بالدرجة الأولى إلى دراسة الثقافة والفكر العربي الإسلامي الذي أنتجته العبقرية الأندلسية فأدوا للتراث العربي والإسلامي خدمات لا تنكر سواء بأبحاثهم ودراستهم الجادة أو بتحقيقاتهم للتراث الأندلسي واكتشاف مصادره ونفض غبار الإهمال عن كثير من المؤلفات المهمة التي لولاهم ما رأت النور؛ كما قاموا بوضع فهارس يستفيد منها الباحثون والمهتمون بالتراث الأندلسي.
I ـ خوان أندريس (1740 ـ 1817) والتأثير العربي في الثقافة الإسبانية
كتب الكثير عن التأثير العربي الإسلامي في الثقافة الغربية وتناول الباحثون والمهتمون هذا الموضوع بالدراسة والتحليل والمقارنة، فأبرزوا الدور الهام الذي لعبته الثقافة العربية الإسلامية بصفتها ثقافة إنسانية متطلعة إلى أفق أخلاقي رفيع المستوى، يعطي الحضارة امتدادها الإنساني، ويرتقي بمستوى الطموح البشري ليجعله طموحاً بانياً ومعبراً عن كرامة الإنسان وسمو وعيه. وقد حظيت هذه الثقافة بالتقدير والإعجاب من طرف الشعوب التي ارتبطت بالإسلام ديناً وثقافة وحضارة. ويعتبر الراهب الإسباني خوان أندريس (Juan Andres) أول من أشار إلى الأثر العربي في الثقافة الإسبانية خاصة والأوربية عامة. فقد ألف كتاباً عن أصول الأدب عامة وتطوراته وحالته الراهنة باللغة الإيطالية ونشره في سبعة مجلدات، وذلك بين سنتي 1782 و1798 وترجمه إلى الإسبانية بين سنتي 1784 و1806)، وهو بعنوان: Origen progresos y estado actual de toda la letteratura. وقد فجر فيه الكثير من القضايا الأدبية والفكرية والتاريخية: »وأعلن أن كل ما بلغته أوربا من نهضة في العلوم والفنون والآداب إنما كان بفضل ما تلقته من العرب عن طريق الأندلس وصقلية الإسلامية«([8]).
وقال أندريس:
بينما تصرف المدارس الكنسية جهدها إلى تلقين الناس الأناشيد الدينية، وتعلمهم القراءة وعد الأرقام، وبينما نجد الناس في فرنسا كلها يهرعون إلى متز وسواسون يكتب أناشيدهم الكنائسية لكي يقوموها على النحو المتبع في كنائس روما، نجد العرب يبعثون السفارات لاستجلاب الكتب القيمة ما بين إغريقية ولاتينية، ويقيمون المراصد لدراسة الفلك، ويقومون بالرحلات ليستزيدوا من العلم بالتاريخ الطبيعي وينشئون المدارس لتدرس فيها العلوم بشتى صنوفها ([9]).
والجدير بالذكر أن أحكام الراهب خوان أندريس هذه قد أسسها على كتاب العالم اللبناني الماروني ميخائيل الغزيري (Miguel Casiri) (1701 ـ 1791) الذي استدعته الحكومة الإسبانية إلى مدريد سنة 1738 م وعينته موظفاً في المكتبة الملكية بمدريد، ومديراً مساعداً لمكتبة الأسكوريال، ومترجماً للملك في اللغات الشرقية وعهدت إليه الحكومة الإسبانية منذ البداية بالمهمة الرئيسة التي دعته إلى القيام بها، وهي دراسة المجموعة العربية بالأسكوريال والتعريف بها، ونزل الغزيري بقصر الأسكوريال في سنة 1749 ولبث مقيماً به حتى سنة 1753 م. وفي سنة 1760 م أصدر الجزء الأول من فهرسه اللاتيني الشهير بعنوان "المكتبة العربية الإسبانية في الأسكوريال". واتبع في وضعه قاعدة التركيز، وهي تدور حول المواد والتحليلات، وجرى على أسلوب الاقتباسات الموجزة والمطولة في إبراز قيمة المخطوطات ذات الأهمية الخاصة وترجمة هذه الاقتباسات إلى اللاتينية([10]).
وتتلخص أفكار هذا الراهب في أن كل ما هو موجود في أوربا من الحضارة إنما يدين للعرب وإلى المسلمين، وأن الفضل في قيام الدراسات الطبية في أوربا يرجع إلى ما كتبه العرب، وأن قيام التأليف العلمي في أوربا في الطب والرياضيات والعلوم الطبيعية مرجعه إلى العرب. وتأييداً لرأيه ذكر أسماء: Gerberto وCampamo Denovara وAdelardo وAlfonso Elsabio وMoraly وBath، وقال إنهم أعلام حركة انتقال علوم العرب إلى أروبا وذهب إلى أن روجر باكون استقى مادة مؤلفه عن العدسات (anteojos) من الكتاب السابع من "أوبتيكا" للحسن بن الهيثم، وأن فيتاليون اختصر النظريات التي أودعها ذلك العالم المسلم في الكتاب نفسه وشرحها، وأن ليوناردو بساما أخذ علم الجبر من مؤلفات العرب، ونقل عنهم الأرقام العربية وأدخلها إلى أروبا، وعلمها لأهلها، وأن جيربرت درس علم الحساب العربي في إسبانيا الإسلامية وأدخله إلى المدارس الأوربية، وأن Ronaldo di Villanova تلقى تعليمه كله في إسبانيا الإسلامية على أيدي العرب وعن كتبهم ومدارسهم أخذ المعارف النافعة في الطب والكيمياء التي نشرها في أوربا.
وذهب أندريس كذلك إلى أن الفيلسوف الكتلاني Lulio مدين للأدب العربي في كثير، وأن أعلام الطب الأوربي قبل النهضة أمثال جلبيترو وجيرالمو إنما نهلوا من كتب العرب، ومن مؤلفات أبي القاسم الزهراوي على وجه الخصوص، وأن بيير دانييل هوست ذهب إلى أن ديكارت أخذ عن أعلام الفكر الإسلامي مبدأه الرئيس الذي يقول: »إن كل من يستطيع أن يفكر فهو موجود«، وأن كبلر استوحى اكتشافه الأفلاك الدائرية للكواكب من كتابات البطروجي، وأن بعض آراء سانتو توماس في الإلهيات مستقاة من كتب العرب »ولو لم يكن للعرب من الفضل إلا الاحتفاظ بذخائر العلوم التي أهلتها الشعوب الأوروبية ونقلها، وإيداعها أيدي الناس عن طيب خاطر لاستحقوا من أهل الأدب المحدثين الشكر والعرفان«. أما عن إسبانيا الإسلامية خاصة، فقد أشار أندريس إلى حقيقة خطيرة أثبتها البحث العلمي فيما بعد، وهي أن الناس في الأندلس كانوا يستعملون لغتين دارجتين: إحداهما عربية والأخرى »رومانثية« (romance)، وأن كتدرائية طليطلة تضم مئات الوثائق باللغة العربية، خلفها النصارى الذين كانوا يستخدمون العربية في حياتهم.
وذهب إلى أن الشعر الإسباني إنما نشأ أول أمره تقليداً للشعر العربي، وانتهى إلى هذا الرأي استنتاجاً وقال: إن اختلاط النصارى والمسلمين من الطبيعي أن يدفع الأول إلى تقليد الآخرين، ويمضي مع تفكيره المنطقي. وصور هذا الشعر وقوالبه حرية بأن تنتقل إلى بروفانس عن طريق الصلات المتبادلة بين الفرنسيين والإسبان ـ نصارى ومسلمين ـ وتجوال شعراء التروبادور، فنشأ الشعر البروفانسي على أساس من الشعر العربي، فهو ينتسب إلى العرب أكثر مما ينتسب إلى اليونان واللاتين، إذ لم يكن لدى البروفانسيين علم بهذين الأدبين في حين أن شعر العرب كان أقرب إليهم مورداً.
ويؤكد أن قواعد القافية التي اتبعها الشعر الشعبي، إسبانياً كان أو بروفانسياً، وأساليب صياغة الشعر الحديث ونظمه مأخوذة عن العرب؛ وكذلك قصص الخرافات والحكايات ترجع في نشأتها إلى أصول عربية.
وقد بقيت هذه الإشارات المجملة التي كتبها خوان أندريس دون إثبات مؤكد في عصره، لأن شيئاً من آثار الأندلسيين لم يكن قد نشر إذ ذاك. أما اليوم وبعد قرنين من الزمن على صدور كتابه، فإننا نستطيع أن نذكر الكثير عن أثر المسلمين في آداب من جاء بعدهم من الشعوب الأوربية وخاصة الإسبان([11]).
إن هذه الآراء والأحكام والجرأة على كتابتها ونشرها في ذلك الوقت من طرف راهب منفي، لأنه طرد من إسبانيا عام 1765 لأسباب داخلية متعلقة بخلافات داخل التنظيم الكنيسي المسيحي، ما كان لها لتقبل وخصوصاً من طرف معاصريه الذين عارضوا آراءه واعتبروها من نسج الخيال ونشطوا في الرد عليها سواء في إيطاليا أو في باقي الدول الأوربية.
II ـ باسكوال دي غايَنْغُوس (1809 ـ 1897 م) باعث الدراسات العربية والإسلامية في إسبانيا
يعتبر باسكوال دي غاينغوس ((Pascual de Gayangos المؤسس الحقيقي للاستعراب العلمي الإسباني الحديث. فقد أمضى طفولته في باريس حيث درس على المستشرق الفرنسي المشهور دي ساسي (De Sacy) مدة ثلاث سنوات انتقل بعدها إلى لندن ومنها عاد إلى إسبانيا وبعدها إلى لندن، ومنها إلى إسبانيا.
في سنة 1833 عين غاينغوس مترجماً في وزارة الخارجية الإسبانية، وفي سنة 1843 عين لشغل كرسي اللغة العربية الذي أنشئ بالجامعة الإسبانية بمدريد. كان أول من اهتم به هذا الباحث هو دراسته للتراث الأندلسي تاريخاً وفكراً وحضارة، فتمكن من جمع مكتبة نفيسة ضمت أكثر من أربعمائة مخطوط. ويعد:
رائداً لضرب جديد من الدراسات الأندلسية، يقوم على تفهم صحيح لحضارة العرب في إسبانيا وتقدير لمنجزاتها… غير أن أهم منجزاته على الإطلاق هو إعداده لطائفة كبيرة من تلاميذه خدموا الدراسات العربية طول القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ([12]).
قام غاينغوس بتصنيف كتاب عن تاريخ المسلمين في إسبانيا ثم فهرسته للمخطوطات الإسبانية في المتحف البريطاني:
ووصف قصر الحمراء مع بيان آثاره وتفسير كتاباته الحجرية. لندن 1843 م وفذلكة عن صحة الصحيفة الإخبارية للرازي في صفة الأندلس متنا وترجمة إسبانية… ورسالة في بيان فضل الأندلس وذكر علمائها عن المقري متنا وترجمة إنجليزية، وقصيدة مديح محمد وهي من الشعر الإسباني في القرن الرابع عشر ([13]).
لعل أهم أعماله في هذا الميدان هو وقوفه على مصدرين من مصادر التراث الأندلسي وتحقيقهما ونشرهما وهما: "نفح الطيب" للمقري. فقد قام بنشر قسمٍ كبيرٍ منه وترجمته إلى الإنجليزية في مجلدين (لندن ـ مدريد 1840 ـ 1843). يقول في مقدمته:
إن ماريانا وأكابر المؤرخين الإسبانيين تحدوهم عاطفة بغض قومي عميق، أو نزعة تعصب ديني، أبدوا دائماً أبلغ الاحتقار لمؤلفات العرب… فكانوا يرفضون وسائل البحث التي تقدمها لهم الوثائق التاريخية العربية الكثيرة، ويهملون المزايا التي قد تترتب على المقارنة بين الروايات النصرانية والإسلامية، ويوثرون أن يكتبوا تواريخهم من جانب واحد. وقد ترتب على هذا الروح الضيق الذي يطبع كتاباتهم أثر واضح. ذلك أن تاريخ إسبانيا في العصور الوسطى ما يزال ـ بالرغم مما أفاض عليه النقدة المحدثون ـ معتركاً من الخرافة والمتناقضات ([14]).
أما المصدر الثاني، فهو كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية الذي نشره في مدريد سنة 1868 م، »ويؤخذ على ناشره عدم تعمقه لفهم المعنى العام للفصل أو المقطع لكثرة الأخطاء الإملائية والنحوية التي وقع فيها… وقد حظي المؤلف لقيمته العلمية والتاريخية بعناية كبار المستشرقين الإسبان«([15]).
لقد كسر غاينغوس الصمت الطويل الذي فرض على كل ما هو عربي في إسبانيا منذ سقوط الأندلس، وتجرأ على الكلام وأثبت ذلك بالحجج والوثائق فكانت أعماله كما يقول غوستاف دوغه (Gustave Dugat) في كتابه "تاريخ المستشرقين": »في إسبانيا إن أعمال غاينغوس الجدية فيما يتعلق بتاريخ العرب معروفة لدى الجميع. لقد أنشأ عدداً من الطلاب الذين يهتمون بالدراسات الشرقية«([16]).
وعلى العموم، فإن أعمال غاينغوس الاستعرابية تندرج في إطار تحرري لا يخلو من عطف نحو الماضي الأندلسي والموريسكي كما استشهد بذلك الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتسولو في دراسته »تأملات في الاستعراب الإسباني« ([17]).
III ـ خوليان ريبيرا إي طَرَاكُو (1858 ـ 1934 م) أول من تبنى فكرة الأصل الإسباني لمسلمي الأندلس
يعتبر خوليان ريبيرا إي طراكو (Julian Ribera y Tarrago) واحداً من كبار المستعربين الإسبان، وقف حياته على دراسة الأدب الأندلسي وتاريخه. ولد في كركخنته (Carcajente) من أعمال بلنسية، تعلم اللغة العربية على المستعرب كوديرا، وتخرج من جامعة سرقسطة، وعين أستاذاً للعربية فيها سنة 1887 م، وأستاذاً لتاريخ حضارة اليهود والمسلمين في جامعة مدريد (1905 ـ 1927 م)، ثم اعتزل التدريس، وعكف على التأليف في بلنسية. وقد انتخب عضواً في المجمع اللغوي الإسباني وفي غيره. وعد من بين كبار علماء الاجتماع والتاريخ والكشف عن أصل الشعر الغنائي الأوربي من المنابع العربية.
أنجز ربييرا العديد من الأعمال المهمة المتعلقة بالتراث الأندلسي منها نشره بمعاونة أستاذه كوديرا "المكتبة العربية الإسبانية"، وله "دراسات عن نظم التدريس عند المسلمين الإسبان" (سرقسطة 1893) و"أصول القضاء العالمي في أرغون" (سرقسطة 1897) و"تاريخ القضاة بقرطبة" للخشني القيرواني متنا وترجمة إسبانية، وكتب عليه بالعربية: وقف على طبعه خوليان ربييرا إي طراكو البلنسي (مدريد 1914)، كما نشر الملاحم الإسبانية سنة 1915 بمدريد، و"ديوان ابن قزمان" (مدريد 1922) و"موسيقى الأندلسي والشعراء الجوالون" (مدريد 1925 م)، كما ترجم إلى الإسبانية "تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية. وكان قد نشره غاينغوس وسابيدرا من قبله ـ مع إضافات من كتاب "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة (مدريد 1926)، و"الموسيقى العربية وأثرها في الموسيقى الإسبانية" (مدريد 1927)، وصنف كتاباً بعنوان: "بحوث ورسائل" في جزئين اشتمل على الشاعر ابن قزمان والرد على دوزي، وأصول فلسفة رايموند لول، وجامعي الكتب والمكتبات في إسبانيا الإسلامية. وله في المجلات العلمية دراسات رصينة عن: أحوال العرب عند فتح الأندلس، وحول قلعة طريف، ومعاهدة سلام بين فيرناندو الأول حاكم نابولي وأبي عامر عثمان حاكم تونس. وقد حال الموت دون إنجاز كتاب: "تاريخ الثقافة الإسلامية". وقد أحصى مؤلفاته وقدم لها آسين بلاثيوس في كتاب عنوانه "أحاديث ونبذ" (1928 م) ([18]).
وككل مستعرب إسباني في عصره واجهته مشكلة التراث الأندلسي في لغته العربية الذي لم يكن متيسراً في إسبانيا:
وحين عزم على أن يطبع أمهات المصادر الأندلسية في نصها العربي بإسبانيا، لم يجد غير مطبعة البرلمان. ففيها قسم عربي لطبع الوثائق السياسية، ولكنه يتقاضى أجوراً باهظة لا قدرة له عليها، فتركه ليفكر في أمر لا يظنه دار بخاطر مستشرق قبله (إذا استثنينا المستشرقين الروس فقد مروا بالتجربة نفسها فيما أذكر): أن يشتري حروفاً عربية، وأن يعمل عليها مع طلابه، ويجمعون بأيديهم ويدفعون بما جمعوا إلى المطبعة، ويدفعون التكاليف من جيوبهم، ومن جيوب عشاق العصر العربي من الإسبان ([19]).
وهكذا انكب خوليان ريبيرا على دراسة التراث الأندلسي ثقافة وفناً وتاريخاً. وكان يعتبر الحضارة الأندلسية جزءاً من التراث الإنساني القيم، وأن كل منجزات الأندلسيين المسلمين في العلوم والفنون والثقافة ينبغي أن تنتسب إلى إسبانيا قبل أن تنتسب إلى الشرق العربي أو الغرب الأوربي؛ كما أنه يعتبر أن المجتمع المولد الجديد في الأندلس بعد الفتح والاختلاط والانصهار بين العرب الفاتحين والسكان الأصليين كان عربي اللسان إسلامي الدين، وردد علانية أنه:
ليس ثمة فضل في أن يعرف أحدنا اللغة العربية، فهناك ملايين الرجال يعرفونها، ويتحدثون بها خيراً منا. أما الذي نستطيعه دون قدرة الملايين، فهو أن نجعل منها دوراً نكتشف في هديه أصول الثقافة الإسبانية، ونوضح في ضوئها ما خفي من جوانبها، حين كانت العربية في وطننا لغة الثقافة ولغة الحياة ([20]).
تعددت الآراء واختلفت حول أصل الموشحات وأوزانها، وكان الباحثون ـ وما زالوا ـ منقسمين إلى رأيين بارزين ما بين الأصل الإسباني الأندلسي والعربي المشرقي، وكل فريق يدلي بآرائه وحججه في هذا الميدان. ويرى الدكتور زكريا عناني أن:
الآراء حول النشأة الأندلسية للموشحات أكثر من أن تحصى، ولكن ليس معنى هذا أن الموشحات ظاهرة مستقلة لا علاقة لها بالشعر العربي. فمؤلفو الموشحات هم أولاً وأخيراً شعراء عرب، وهذه حقيقة لم ينكرها حتى المستشرقون المنادون بأن في الموشحات عناصر إسبانة محلية([21]).
ويذهب خوليان ريبيرا إلى »إسبانية الموشحات« ويدلل على نظريته هاته بما يلي: إن أهل الأندلس الإسلامي كانوا يستعملون اللغة العربية الفصيحة لغة رسمية يتعلمها الناس في المدارس ويكتبون بها الوثائق وما إليها. وأما شؤونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم، فكانوا يستعملون لهجة من اللاتينية الدارجة أو العجمية (El romance). ثم إن هذا الازدواج في اللغة هو الأصل في نشوء طراز شعري مختلط تمتزج فيه مؤثرات غربية ومشرقية. وقد ازدرى أهل الأدب الفصيح والمعنيون بأمره هذا الطراز الجديد، بينما مضى الناس جميعاً يتناقلون مقطعاته سراً فيما بينهم، وذاع أمره داخل البيوت وفي أوساط العوام، وما زال أمره والإقبال يشتد حتى أصبح في يوم من الأيام لوناً من الأدب. وقد أخذ هذا الطراز الجديد من الأدب الشعبي صورتين: إحداهما »الزجل« والثانية »الموشحة«، وهما في واقع الأمر فن شعري واحد، ولكن الزجل يطلق على السوقي الدارج منها، إذ لابد من أن يكون في اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى به في الطرقات؛ أما الموشحة، فلا تكون إلا في العربي الفصيح، وإسمها كذلك عربي كما هو واضح([22]).
وقد وافقه في هذا تلميذه أميليو غارسيا غوميث، ووافقهما بعض الباحثين العرب كالدكتور عبد العزيز الأهواني والدكتور مصطفى عوض الكريم وبطرس البستاني. وقد اعتمد هؤلاء على نقاط محددة في مذهبهم، منها أن الموشحات تختلف اختلافاً بيناً عن فنون الشعر العربي في المشرق لكونها استجابة لبعض متطلبات الفن الغنائي؛ وثانيها أن أوزان قسم الموشحات غير جارية وفق أوزان الخليل؛ وثالثها أن فن الموشحات قد ظهر في الأندلس، وحذقه الأندلسيون وأحبوه، لذا ذهبوا إلى أن هذا الفن تقليد لشعر غنائي أعجمي كان منتشراً في الأندلس عرفه كل من العرب والإسبان. ومما قوى اعتزاز هذا الفريق برأيهم اكتشاف مجموعة من الخرجات الأعجمية، وعددها ست وعشرون، في كتاب: "عدة الجليس ومؤانسة الوزير والرئيس" لعلي بن بشري الغرناطي، فضلاً عن الخرجات الأعجمية التي وردت في موشحات عبرية نظمها ابن النغرلة وابن جبيرول وموسى بن عزرا ويهودا هاليفي وغيرهم. لذا انبرى جماعة من العلماء لدراستها، ومن أولئك شتيرن (Stern) ونشرها في مجلة "الأندلس" (العدد 13، سنة 1948)، وغارسيا غوميث، ونشرها في المجلة المذكورة (الأعداد: 14، سنة 1949 و15، سنة 1950 و17، سنة 1952 و19، سنة 1954)، بل جزم غوميث بأن تلك الخرجات المشتركة بين الموشحات العبرية أغان قصيرة باللهجة الرومانتيَّة كانت شائعة، وأنه على هذه الأغاني بنيت الموشحات([23]).
كما اهتم ريبيرا بدراسة موسيقى الأغاني الإسبانية ودواوين شعراء التروبادور في أروبا في العصر الوسيط، فانتهى من دراساته المستفيضة إلى أن الموشح والزجل هما »المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سير تكوين القوالب التي صبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط، وأثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي فضلاً عن الموسيقى العربية إلى أروبا«([24]). وكان قد أكد وجود التماثل في تراكيب الأبيات وتعاقب القوافي لدى أغاني التروبادور (الشعر الغنائي الجوال) البروفانسية خلال العصور الوسطى كما هي في النتاج الأصلي للشعر الشعبي الأندلسي، وذلك في محاضرة ألقاها سنة 1912 م في المجمع الملكي الإسباني.
وكانت مقاطعة بروفانس في جنوب فرنسا أولى الإقطاعيات ازدهاراً، وكانت لغتها البروفانسية أشهر اللغات الرومانتية، وموقعها الجغرافي يجعل منها نقطة اتصال حضاري لا بين اللغات الرومانتية أو الشعوب اللاتينية فحسب، وإنما بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية أيضاً. فقد كانت على حافة الأندلس الإسلامي… وشهدت أول ازدهار أدبي لا يتخذ اللاتينية لغة له، وشغل هذا الازدهار قرنين كاملين في تاريخها، من مطلع القرن العاشر حتى عام 1210 م، وكانت تدين في ذلك طائفة من الشعراء دخلوا التاريخ تحت اسم التروبادور ((Troubadour([25]).
وثمة عامل ديني كان وراء اهتمام سكان بروفانس بالأندلس، وهو توافدهم سنوياً في أعداد كبيرة حجاجاً إلى كتدرائية سانتياكو دي كومبوستيلا (Santiago de Compostela) في الشمال الغربي من شبه الجزيرة، لأنها تضم رفات القديس يعقوب، وهم في غدوهم ورواحهم يلتقطون الأخبار، ويسمعون الإشاعات ويحملون ما يفتقدونه في بلادهم مادياً أو فكرياً. وكان المسلمون بدورهم يعرفون قيمة هذه الكنيسة… وأدى هذا إلى قيام رجال الدين المسيحيين فيما وراء جبال البرانس بمحاولة تعلم اللغة العربية ليتعرفوا إلى ما عند المسلمين([26]).
وأول شاعر تروبادور عرف، ووصلتنا أخباره وجانب كبير من قصائده هو جيوم التاسع (1071 ـ 1127 م) وإليه ينسب ابتداع الشكل الجديد الغنائي، والذي يتخذ من شكل الموشحة العربية قالباً ينظم فيه أشعاره… ولم يجدد جيوم في الشكل فقط، بل في موضوعات هذا الشعر أيضاً. فكان أول من تغنى بجمال المرأة ودفعها إلى أن تحس بقيمتها. وكان جيوم قد رحل إلى المشرق في حملته الصليبية (عامي 1101 ـ 1102 م) وأقام في الشام حقبة من الزمن وجاء إلى الأندلس عام 1120 م ليساعد ألفونسو المحارب في معركة »كتندة« ضد مسلمي الأندلس، وتزوج من أندلسية هي ابنة راميرو الراهب ملك أرغون. وذلك يعني تأكيداً أنه كان يعرف أشياء كثيرة تتعلق بالإسلام والبلاد الإسلامية، ويرجح أنه كان يعرف اللغة العربية بقدر لا بأس به، يمكنه أن يقرأها ويتفاهم بها، وليس ثمة شك في أن غنائها وأشعارها كانت مألوفة لديه([27]).
وقد استنتج خوليان ريبيرا من تأثير الموسيقى العربية في نشأة الموسيقى الأوروبية عنصرين مهمين حددهما عبد الرحمن بدوي وهما: أولاً، ظهور مذهب جديد في الموسيقى اسمه فن الميزان ظهر في أروبا لأول مرة في القرن الثالث عشر والكتب التي وضعها المؤلفون الأوروبيون في هذا الفن في ذلك القرن تشابه في معالجتها لأنواع الأنغام ما كتبه العرب في القرن التاسع في الموسيقى؛ ثانياً، استعمال الآلات الموسيقية العربية في أروبا وأهمها الربابة، وهي في أصلها أسيوية قديمة جداً، ثم العود وهو ما يجمع عليه المؤلفون في تاريخ الموسيقى أنه عربي دخل إلى أروبا عن طريق الإسبان؛ وثالثاً، الناي الأندلسي أو القيتارة الموريسكية([28]).
كما اتجه إلى دراسة الملاحم الشعبية والقصص والأساطير الأندلسية وتأثيرها في الأدب الإسباني، ودلل على ذلك في بحث نشره سنة 1915 م، حيث لاحظ وجود آثار من شعر قصصي عند أوائل مؤرخي الأندلس من المسلمين لابد أنه كان مزدهراً في الأندلس خلال القرنين التاسع والعاشر، ومضى يلتمس ما في كتب التاريخ الأندلسي من بقايا أسطورية ذات أصول محلية، إذ غلب على ظنه أن هذه العناصر الأسطورية قد اندرجت في كتب التاريخ الإسلامي الأندلسي، وبالضبط كما حدث لأشعار الملاحم القشتالية من انتشار نظمها واندراجها في المدونات النصرانية في زمن متأخر. ذلك بأنه علاوة على ما تحدثنا به من المراجع من أن نفراً من الأندلسيين وصف أحداث فتح الأندلس وما تلاه من حروب في قصائد طوال كيحيى الغزال (توفي 250 هـ) والذي اشتهر بالغارات التي قام بها لعبد الرحمن الأوسط، وبأرجوزته التي كتبها عن فتح الأندلس والوقائع التي دارت بين العرب والإسبان… واستنتج من تحليله لبعض النماذج القصصية أنه كان لأهل الأندلس شعر قصصي شعبي، ولكنه ضاع ضياعاً يكاد يكون تاماً لسوء الحظ. ومن الممكن أن يكون هذا الشعر القصصي قد عاش طالما وجدت بين ظهراني أهل الأندلس جماعة يعمر قلوب أفرادها الحب للغة هذا الشعر وموضوعاته. ومن الممكن أن تكون هذه الجماعة قد وجدت بين الصقالبة الذين كان لهم أثر عظيم خلال فترة معينة من العصور الإسلامية من تاريخ إسبانيا. ومضى يتساءل إن كان من الممكن لهذا الأدب بعد أن أثبت وجوده أثر في الشعر القصصي الإسباني والفرنسي الذي ظهر بعد ذلك، فوجد بعد المقارنة أن الشعر القصصي الأندلسي البدائي لا يبدو لنا مجرد محاكاة جامدة لأدب أجنبي، بل هو يروي أخباراً كانت ذكرياتها غضة ماثلة في الأخلاق، إذا ذكرنا أن المدة بين وقوع الحادث الذي تدور الأسطورة حوله وبين اندراجها في مدونة تاريخية لا تكاد تعدو قرناً من الزمان تنشأ خلاله الأسطورة التي تندرج في ثنايا المدونة. وتلك الأساطير الأندلسية تتفق في هذا مع الأساطير الإسبانية، ومن بعض النواحي مع الأساطير الفرنسية، التي ظهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وتتفق تلك الأساطير الأندلسية كذلك مع الإسبانية في أنها نشأت في النواحي والأعصر التي حفلت بالصراع والحروب، وتتفق مع الإسبانية والفرنسية في أن شخصياتها تاريخية([29]).
كان خوليان ريبيرا من المتعصبين للعرق القومي الإسباني فكان أول من تبنى من المستشرقين فكرة الأصل الإسباني لمسلمي الأندلس معتمداً في ذلك على دور المرأة البالغ الأهمية في أسبنة المسلمين القادمين من المشرق أو من شمال إفريقيا، وفي إشاعة اللغة الرومانتية والإبقاء عليها والحفاظ على الخصائص البيولوجية الإسبانية، والتقاليد التي كان عليها الإسبان قبل الفتح الإسلامي بعامة، وفي مجال الحياة العاطفية والأسرية على نحو خاص. لقد جاء العرب أو البربر جنوداً فاتحين، أو أفراداً مهاجرين، وتزوجوا في الأندلس من نسائها جواري أو حرائر، وفي كل الأحوال كن ينحدرن في الأعمِّ الأغلب من أصول إسبانية، ونشأ أولادهم هجناء في بيت مختلط. ويمضي ريبيرا بعيداً مع فكرته لينتهي بها إلى أن العرب القادمين إلى الأندلس فقدوا خصائصهم السلالية بصفتهم جنساً سامياً ابتداءً من الجيل الثالث أو الرابع، نظراً لتغلغل الدم الإسباني في عروق المسلمين.
ويثبت ذلك من الوجهة العلمية فيجري تجربته على الأسرة الأموية التي حكمت في الأندلس فيقول ما خلاصته: إن عبد الرحمن الداخل كان يحمل فقط نصف دم عربي، لأنه كان من أم غير عربية؛ وكذلك ابنه هشام لا يحمل إلا ربع دم عربي، لأن أمه كانت جارية إسبانية. وهكذا تتناقص نسبة الدم العربي كلما مضينا من أمير إلى آخر، بينما تتضاعف نسبة الدم الأجنبي. وهكذا إلى أن يصل إلى هشام الثاني، فلا يكون له من الدم العربي إلا جزء من أربعة وعشرين ألف جزءٍ([30]).
ويعلق الدكتور أحمد هيكل على نظرية خوليان ريبيرا قائلاً:
لسنا ننكر الدافع الكريم الذي حمل الأستاذ ريبيرا على محاولة إثبات أن الأندلسيين إسبان مسلمون. فهو يعتز بالأندلسيين ويحاول كسب الحضارة الأندلسية وضمها إلى التراث الإسباني، ولكنّنا مع ذلك لا نستطيع أن نذهب مع الأستاذ ريبيرا في ما ذهب إليه من تجريد الأندلسيين من عروبتهم، ولا نستطيع كذلك أن نسلم بتلك التجربة التي أجراها على الأسرة الأموية الأندلسية كدليل على ذوبان الدم العربي في الدم الإسباني، لأننا لا نتصور أولاً أن كل الذين جاءوا إلى الأندلس من الرجال قد تركوا نساءهم في المشرق؛ ولأننا لا نتصور ثانياً أن الوفود على الأندلس كان دائماً من نصيب الرجال دون النساء؛ ولأننا لا نتصور ثالثاً أن كل عربي في الأندلس كان ينجب دائماً من إسبانية جديدة، وإن كان تصادف ذلك في الأسرة الأموية. بقي أن نقرر أن هؤلاء الأندلسيين وإن كانوا مولدين جنساً ومختلطين دماءً، فهم عرب في قوميتهم، لأنهم عرب في عقيدتهم وثقافتهم ولغتهم وكل جوانب حضارتهم ([31]).
أما الدكتور الطاهر المكي، فيعلق على ريبيرا قائلاً:
نحن إذاً مع خوليان ريبيرا في الدور الذي لعبته المرأة الإسبانية بوصفها هذا، في مجال الحياة الأندلسية، وكان واضحاً ومقدراً، لكننا لا نتابعه في لعبة الأرقام التي اعتمد عليها، وأدارها في مهارة وسذاجة في الوقت نفسه، لأن العلم والشواهد التاريخية والظواهر النفسية والاجتماعية تقف في الجانب المقابل منها ([32]).
إنه مهما وجهت من تعليقات وملاحظات لبعض أعمال المستعرب الكبير، فإنه ينبغي أن نعترف له ببعض الإيجابيات المهمة في أعماله وأبحاثه ومجهوداته. فقد استطاع أن يثبت بالحجج والدلائل الدور العظيم الذي قامت به الأندلس الإسلامية في مجال الثقافة والفن والفكر بصفة عامة، كما أنه ساهم مساهمة فعالة في تصحيح العديد من المفاهيم الخاطئة التي رسخت في أذهان العديد من الباحثين والكتاب الإسبان منذ مئات السنين، وذلك نتيجة التعصب الأعمى والتغاضي وعدم الاعتراف بأهم وأزهى فترة في تاريخ إسبانيا وهي الفترة العربية الإسلامية التي دامت ثمانية قرون.
خوليان ريبيرا وإسبانية الموشحاتالآراء حول النشأة الأندلسية للموشحات أكثر من أن تحصى، ولكن ليس معنى هذا أن الموشحات ظاهرة مستقلة لا علاقة لها بالشعر العربي. فمؤلفو الموشحات هم أولاً وأخيراً شعراء عرب، وهذه حقيقة لم ينكرها حتى المستشرقون المنادون بأن في الموشحات عناصر إسبانة محلية([21]).
ويذهب خوليان ريبيرا إلى »إسبانية الموشحات« ويدلل على نظريته هاته بما يلي: إن أهل الأندلس الإسلامي كانوا يستعملون اللغة العربية الفصيحة لغة رسمية يتعلمها الناس في المدارس ويكتبون بها الوثائق وما إليها. وأما شؤونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم، فكانوا يستعملون لهجة من اللاتينية الدارجة أو العجمية (El romance). ثم إن هذا الازدواج في اللغة هو الأصل في نشوء طراز شعري مختلط تمتزج فيه مؤثرات غربية ومشرقية. وقد ازدرى أهل الأدب الفصيح والمعنيون بأمره هذا الطراز الجديد، بينما مضى الناس جميعاً يتناقلون مقطعاته سراً فيما بينهم، وذاع أمره داخل البيوت وفي أوساط العوام، وما زال أمره والإقبال يشتد حتى أصبح في يوم من الأيام لوناً من الأدب. وقد أخذ هذا الطراز الجديد من الأدب الشعبي صورتين: إحداهما »الزجل« والثانية »الموشحة«، وهما في واقع الأمر فن شعري واحد، ولكن الزجل يطلق على السوقي الدارج منها، إذ لابد من أن يكون في اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى به في الطرقات؛ أما الموشحة، فلا تكون إلا في العربي الفصيح، وإسمها كذلك عربي كما هو واضح([22]).
وقد وافقه في هذا تلميذه أميليو غارسيا غوميث، ووافقهما بعض الباحثين العرب كالدكتور عبد العزيز الأهواني والدكتور مصطفى عوض الكريم وبطرس البستاني. وقد اعتمد هؤلاء على نقاط محددة في مذهبهم، منها أن الموشحات تختلف اختلافاً بيناً عن فنون الشعر العربي في المشرق لكونها استجابة لبعض متطلبات الفن الغنائي؛ وثانيها أن أوزان قسم الموشحات غير جارية وفق أوزان الخليل؛ وثالثها أن فن الموشحات قد ظهر في الأندلس، وحذقه الأندلسيون وأحبوه، لذا ذهبوا إلى أن هذا الفن تقليد لشعر غنائي أعجمي كان منتشراً في الأندلس عرفه كل من العرب والإسبان. ومما قوى اعتزاز هذا الفريق برأيهم اكتشاف مجموعة من الخرجات الأعجمية، وعددها ست وعشرون، في كتاب: "عدة الجليس ومؤانسة الوزير والرئيس" لعلي بن بشري الغرناطي، فضلاً عن الخرجات الأعجمية التي وردت في موشحات عبرية نظمها ابن النغرلة وابن جبيرول وموسى بن عزرا ويهودا هاليفي وغيرهم. لذا انبرى جماعة من العلماء لدراستها، ومن أولئك شتيرن (Stern) ونشرها في مجلة "الأندلس" (العدد 13، سنة 1948)، وغارسيا غوميث، ونشرها في المجلة المذكورة (الأعداد: 14، سنة 1949 و15، سنة 1950 و17، سنة 1952 و19، سنة 1954)، بل جزم غوميث بأن تلك الخرجات المشتركة بين الموشحات العبرية أغان قصيرة باللهجة الرومانتيَّة كانت شائعة، وأنه على هذه الأغاني بنيت الموشحات([23]).
كما اهتم ريبيرا بدراسة موسيقى الأغاني الإسبانية ودواوين شعراء التروبادور في أروبا في العصر الوسيط، فانتهى من دراساته المستفيضة إلى أن الموشح والزجل هما »المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سير تكوين القوالب التي صبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط، وأثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي فضلاً عن الموسيقى العربية إلى أروبا«([24]). وكان قد أكد وجود التماثل في تراكيب الأبيات وتعاقب القوافي لدى أغاني التروبادور (الشعر الغنائي الجوال) البروفانسية خلال العصور الوسطى كما هي في النتاج الأصلي للشعر الشعبي الأندلسي، وذلك في محاضرة ألقاها سنة 1912 م في المجمع الملكي الإسباني.
وكانت مقاطعة بروفانس في جنوب فرنسا أولى الإقطاعيات ازدهاراً، وكانت لغتها البروفانسية أشهر اللغات الرومانتية، وموقعها الجغرافي يجعل منها نقطة اتصال حضاري لا بين اللغات الرومانتية أو الشعوب اللاتينية فحسب، وإنما بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية أيضاً. فقد كانت على حافة الأندلس الإسلامي… وشهدت أول ازدهار أدبي لا يتخذ اللاتينية لغة له، وشغل هذا الازدهار قرنين كاملين في تاريخها، من مطلع القرن العاشر حتى عام 1210 م، وكانت تدين في ذلك طائفة من الشعراء دخلوا التاريخ تحت اسم التروبادور ((Troubadour([25]).
وثمة عامل ديني كان وراء اهتمام سكان بروفانس بالأندلس، وهو توافدهم سنوياً في أعداد كبيرة حجاجاً إلى كتدرائية سانتياكو دي كومبوستيلا (Santiago de Compostela) في الشمال الغربي من شبه الجزيرة، لأنها تضم رفات القديس يعقوب، وهم في غدوهم ورواحهم يلتقطون الأخبار، ويسمعون الإشاعات ويحملون ما يفتقدونه في بلادهم مادياً أو فكرياً. وكان المسلمون بدورهم يعرفون قيمة هذه الكنيسة… وأدى هذا إلى قيام رجال الدين المسيحيين فيما وراء جبال البرانس بمحاولة تعلم اللغة العربية ليتعرفوا إلى ما عند المسلمين([26]).
وأول شاعر تروبادور عرف، ووصلتنا أخباره وجانب كبير من قصائده هو جيوم التاسع (1071 ـ 1127 م) وإليه ينسب ابتداع الشكل الجديد الغنائي، والذي يتخذ من شكل الموشحة العربية قالباً ينظم فيه أشعاره… ولم يجدد جيوم في الشكل فقط، بل في موضوعات هذا الشعر أيضاً. فكان أول من تغنى بجمال المرأة ودفعها إلى أن تحس بقيمتها. وكان جيوم قد رحل إلى المشرق في حملته الصليبية (عامي 1101 ـ 1102 م) وأقام في الشام حقبة من الزمن وجاء إلى الأندلس عام 1120 م ليساعد ألفونسو المحارب في معركة »كتندة« ضد مسلمي الأندلس، وتزوج من أندلسية هي ابنة راميرو الراهب ملك أرغون. وذلك يعني تأكيداً أنه كان يعرف أشياء كثيرة تتعلق بالإسلام والبلاد الإسلامية، ويرجح أنه كان يعرف اللغة العربية بقدر لا بأس به، يمكنه أن يقرأها ويتفاهم بها، وليس ثمة شك في أن غنائها وأشعارها كانت مألوفة لديه([27]).
وقد استنتج خوليان ريبيرا من تأثير الموسيقى العربية في نشأة الموسيقى الأوروبية عنصرين مهمين حددهما عبد الرحمن بدوي وهما: أولاً، ظهور مذهب جديد في الموسيقى اسمه فن الميزان ظهر في أروبا لأول مرة في القرن الثالث عشر والكتب التي وضعها المؤلفون الأوروبيون في هذا الفن في ذلك القرن تشابه في معالجتها لأنواع الأنغام ما كتبه العرب في القرن التاسع في الموسيقى؛ ثانياً، استعمال الآلات الموسيقية العربية في أروبا وأهمها الربابة، وهي في أصلها أسيوية قديمة جداً، ثم العود وهو ما يجمع عليه المؤلفون في تاريخ الموسيقى أنه عربي دخل إلى أروبا عن طريق الإسبان؛ وثالثاً، الناي الأندلسي أو القيتارة الموريسكية([28]).
كما اتجه إلى دراسة الملاحم الشعبية والقصص والأساطير الأندلسية وتأثيرها في الأدب الإسباني، ودلل على ذلك في بحث نشره سنة 1915 م، حيث لاحظ وجود آثار من شعر قصصي عند أوائل مؤرخي الأندلس من المسلمين لابد أنه كان مزدهراً في الأندلس خلال القرنين التاسع والعاشر، ومضى يلتمس ما في كتب التاريخ الأندلسي من بقايا أسطورية ذات أصول محلية، إذ غلب على ظنه أن هذه العناصر الأسطورية قد اندرجت في كتب التاريخ الإسلامي الأندلسي، وبالضبط كما حدث لأشعار الملاحم القشتالية من انتشار نظمها واندراجها في المدونات النصرانية في زمن متأخر. ذلك بأنه علاوة على ما تحدثنا به من المراجع من أن نفراً من الأندلسيين وصف أحداث فتح الأندلس وما تلاه من حروب في قصائد طوال كيحيى الغزال (توفي 250 هـ) والذي اشتهر بالغارات التي قام بها لعبد الرحمن الأوسط، وبأرجوزته التي كتبها عن فتح الأندلس والوقائع التي دارت بين العرب والإسبان… واستنتج من تحليله لبعض النماذج القصصية أنه كان لأهل الأندلس شعر قصصي شعبي، ولكنه ضاع ضياعاً يكاد يكون تاماً لسوء الحظ. ومن الممكن أن يكون هذا الشعر القصصي قد عاش طالما وجدت بين ظهراني أهل الأندلس جماعة يعمر قلوب أفرادها الحب للغة هذا الشعر وموضوعاته. ومن الممكن أن تكون هذه الجماعة قد وجدت بين الصقالبة الذين كان لهم أثر عظيم خلال فترة معينة من العصور الإسلامية من تاريخ إسبانيا. ومضى يتساءل إن كان من الممكن لهذا الأدب بعد أن أثبت وجوده أثر في الشعر القصصي الإسباني والفرنسي الذي ظهر بعد ذلك، فوجد بعد المقارنة أن الشعر القصصي الأندلسي البدائي لا يبدو لنا مجرد محاكاة جامدة لأدب أجنبي، بل هو يروي أخباراً كانت ذكرياتها غضة ماثلة في الأخلاق، إذا ذكرنا أن المدة بين وقوع الحادث الذي تدور الأسطورة حوله وبين اندراجها في مدونة تاريخية لا تكاد تعدو قرناً من الزمان تنشأ خلاله الأسطورة التي تندرج في ثنايا المدونة. وتلك الأساطير الأندلسية تتفق في هذا مع الأساطير الإسبانية، ومن بعض النواحي مع الأساطير الفرنسية، التي ظهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وتتفق تلك الأساطير الأندلسية كذلك مع الإسبانية في أنها نشأت في النواحي والأعصر التي حفلت بالصراع والحروب، وتتفق مع الإسبانية والفرنسية في أن شخصياتها تاريخية([29]).
كان خوليان ريبيرا من المتعصبين للعرق القومي الإسباني فكان أول من تبنى من المستشرقين فكرة الأصل الإسباني لمسلمي الأندلس معتمداً في ذلك على دور المرأة البالغ الأهمية في أسبنة المسلمين القادمين من المشرق أو من شمال إفريقيا، وفي إشاعة اللغة الرومانتية والإبقاء عليها والحفاظ على الخصائص البيولوجية الإسبانية، والتقاليد التي كان عليها الإسبان قبل الفتح الإسلامي بعامة، وفي مجال الحياة العاطفية والأسرية على نحو خاص. لقد جاء العرب أو البربر جنوداً فاتحين، أو أفراداً مهاجرين، وتزوجوا في الأندلس من نسائها جواري أو حرائر، وفي كل الأحوال كن ينحدرن في الأعمِّ الأغلب من أصول إسبانية، ونشأ أولادهم هجناء في بيت مختلط. ويمضي ريبيرا بعيداً مع فكرته لينتهي بها إلى أن العرب القادمين إلى الأندلس فقدوا خصائصهم السلالية بصفتهم جنساً سامياً ابتداءً من الجيل الثالث أو الرابع، نظراً لتغلغل الدم الإسباني في عروق المسلمين.
ويثبت ذلك من الوجهة العلمية فيجري تجربته على الأسرة الأموية التي حكمت في الأندلس فيقول ما خلاصته: إن عبد الرحمن الداخل كان يحمل فقط نصف دم عربي، لأنه كان من أم غير عربية؛ وكذلك ابنه هشام لا يحمل إلا ربع دم عربي، لأن أمه كانت جارية إسبانية. وهكذا تتناقص نسبة الدم العربي كلما مضينا من أمير إلى آخر، بينما تتضاعف نسبة الدم الأجنبي. وهكذا إلى أن يصل إلى هشام الثاني، فلا يكون له من الدم العربي إلا جزء من أربعة وعشرين ألف جزءٍ([30]).
ويعلق الدكتور أحمد هيكل على نظرية خوليان ريبيرا قائلاً:
لسنا ننكر الدافع الكريم الذي حمل الأستاذ ريبيرا على محاولة إثبات أن الأندلسيين إسبان مسلمون. فهو يعتز بالأندلسيين ويحاول كسب الحضارة الأندلسية وضمها إلى التراث الإسباني، ولكنّنا مع ذلك لا نستطيع أن نذهب مع الأستاذ ريبيرا في ما ذهب إليه من تجريد الأندلسيين من عروبتهم، ولا نستطيع كذلك أن نسلم بتلك التجربة التي أجراها على الأسرة الأموية الأندلسية كدليل على ذوبان الدم العربي في الدم الإسباني، لأننا لا نتصور أولاً أن كل الذين جاءوا إلى الأندلس من الرجال قد تركوا نساءهم في المشرق؛ ولأننا لا نتصور ثانياً أن الوفود على الأندلس كان دائماً من نصيب الرجال دون النساء؛ ولأننا لا نتصور ثالثاً أن كل عربي في الأندلس كان ينجب دائماً من إسبانية جديدة، وإن كان تصادف ذلك في الأسرة الأموية. بقي أن نقرر أن هؤلاء الأندلسيين وإن كانوا مولدين جنساً ومختلطين دماءً، فهم عرب في قوميتهم، لأنهم عرب في عقيدتهم وثقافتهم ولغتهم وكل جوانب حضارتهم ([31]).
أما الدكتور الطاهر المكي، فيعلق على ريبيرا قائلاً:
نحن إذاً مع خوليان ريبيرا في الدور الذي لعبته المرأة الإسبانية بوصفها هذا، في مجال الحياة الأندلسية، وكان واضحاً ومقدراً، لكننا لا نتابعه في لعبة الأرقام التي اعتمد عليها، وأدارها في مهارة وسذاجة في الوقت نفسه، لأن العلم والشواهد التاريخية والظواهر النفسية والاجتماعية تقف في الجانب المقابل منها ([32]).
إنه مهما وجهت من تعليقات وملاحظات لبعض أعمال المستعرب الكبير، فإنه ينبغي أن نعترف له ببعض الإيجابيات المهمة في أعماله وأبحاثه ومجهوداته. فقد استطاع أن يثبت بالحجج والدلائل الدور العظيم الذي قامت به الأندلس الإسلامية في مجال الثقافة والفن والفكر بصفة عامة، كما أنه ساهم مساهمة فعالة في تصحيح العديد من المفاهيم الخاطئة التي رسخت في أذهان العديد من الباحثين والكتاب الإسبان منذ مئات السنين، وذلك نتيجة التعصب الأعمى والتغاضي وعدم الاعتراف بأهم وأزهى فترة في تاريخ إسبانيا وهي الفترة العربية الإسلامية التي دامت ثمانية قرون.
([1]) الاستجواب الذي أجرته معه مجلة "الوطن العربي"، عدد 328، يونيو 1983، صفحة 73.
([2]) الاستجواب الذي أجرته معه مجلة "الفكر العربي المعاصر"، عدد مزدوج 4 ـ 5، سنة 1980، ص. 165.
([3]) محمد الطنجي، »من أطوار الاستشراق ومراميه«، مجلة دعوة الحق، عدد 7، السنة 13، 1970، ص. 23.
([4]) أحمد المختار العبادي، »الإسلام في الأندلس«، مجلة عالم الفكر، عدد 2، 1979، ص. 94؛ وانظر كذلك أسعد حومد، محنة العرب في الأندلس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ـ لبنان، ص. 121.
([5]) سيمون الحايك، عبد الرحمن الأوسط، المطبعة البولسية، بيروت، ص ص. 166 ـ 167.
([6]) ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ص. 57؛ »الإسلام في الأندلس وصقلية وأثره في الحضارة والنهضة الأوربية«، إعداد قسم البحوث والدراسات بمجلة رسالة الجهاد الليبية، عدد 57، 1987، ص. 84.
([7]) سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار المعارف، 1980، ص. 34؛ وانظر منير البعلبكي، المورد، دار العلم للملايين، بيروت، ص. 58.
([8]) الدكتور محمود علي مكي، محاضرة ألقيت بجامعة قطر، ثمار الفكر، الموسم الثقافي السادس، 1980، ص. 128.
([9]) آنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية، ص. 533.
([10]) انظر ذلك بالتفصيل في "كتاب العربي"، الكتاب العشرون، يوليو 1988، "أندلسيات محمد عبد الله عدنان" ـ نفائس المكتبة العربية في الأسكوريال، ص ص. 212 ـ 219.
([11]) آنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، ص ص. 534 ـ 536.
([12]) محمد علي مكي، »الأندلس في شعر شوقي ونثره«، مجلة فصول، عدد 1، المجلد 3، 1982، ص. 215.
([13]) نجيب العقيقي، المستشرقون، دار المعارف، ج 2، ص ص. 182 ـ 183.
([14]) محمد عبد الله عنان، »مقدمة« كتاب دولة الإسلام في الأندلس من الفتح إلى بداية العهد الناصر، ط 4، ص. 10.
([15]) ابن قوطية القرطبي، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق وشرح وتعليق عبد الله أنيس الطباع، دار النشر للجامعيين، ص. 25.
([16]) ميشال جحا، الدراسات العربية والإسلامية في أوربا، ط 1، بيروت، معهد الإنماء العربي، ص. 129.
([17]) انظر جريدة العلم الثقافي، عدد يوم 15/12/ 1984، ص. 1.
([18]) بتصرف عن كتاب نجيب العقيقي، كتاب المستشرقون، دار المعارف، ج 2، ص ص. 189 ـ 190.
([19]) الطاهر أحمد مكي، »قمة الاستشراق الإسباني المعاصر«، مجلة آفاق عربية، عدد 3، السنة الثالثة، 1972، ص. 72.
([20]) مجلة آفاق عربية، مرجع سابق، ص. 73. والرأي نفسه ورد في مجلة "اللسان العربي"، العدد الخامس (غشت 1967)، ص. 66.
([21]) الموشحات الأندلسية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 31، يونيو 1980، ص. 66.
([22]) انظر ذلك بالتفصيل في كتاب أنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، ص ص. 142 ـ 143.
([23]) عباس مصطفى الصالمي، »الموشحات والأزجال«، مجلة آفاق عربية، عدد 5، ماي 1987، ص. 98. وهي الآراء نفسها التي يثبتها الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "فصول في الأدب الأندلسي".
([24]) أنحيل بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، ص ص. 613 ـ 614.
([25]) الطاهر أحمد مكي، »التروبادور ـ شعراء أوروبيون تأثروا بالشعر العربي«، مجلة آفاق عربية، عدد 10، يونيو 1976، ص. 69.
([26]) الطاهر أحمد مكي، »العلاقة بين الشعر الأندلسي وشعر التروبادور«، مجلة آفاق عربية، عدد 6، فبراير 1983، ص ص. 31 ـ 33.
([27]) الطاهر أحمد مكي، »التروبادور ـ شعراء أوروبيون تأثروا بالشعر العربيّ«، مجلة آفاق عربية، عدد 10، يونيو 1976، ص. 74.
([28]) دور العرب في تكوين الفكر الأوربي، ط 2، 1979، ص. 44.
([29]) انظر ذلك بالتفصيل في كتاب أنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة د. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية، ص ص. 603 ـ 613.
([30]) أحمد هيكل، الأدب الأندلسي. من الفتح إلى سقوط الخلافة، دار المعارف، ص ص. 35 ـ 36؛ والطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه "طوق الحمامة"، ص ص. 249 ـ 250، وكلاهما اعتمدا على كتاب خوليان ريبيرا:Disertaciones y opusculos, Vol. 1, p. 14.
([31]) أحمد هيكل، الأدب الأندلسي. من الفتح إلى سقوط الخلافة، دار المعارف، ص ص. 36 ـ 37.
([32]) الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه "طوق الحمامة"، ص ص. 225 ـ 252.