‏إظهار الرسائل ذات التسميات حفلة التفاهة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حفلة التفاهة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 31 يناير 2015

أجمل قراءة حول رواية حفلة التفاهة اخر روايات المبدع التشيكي ميلان كونديرا

قراءة عميقة مفيدة ومثمرة جدا من طارق عثمان .

نقلت عن موقع التقرير


كونديرا في حفلة التفاهة 

        

بينما كان ميلان كونديرا يتناول طعامه مع صديقه البروفيسور أفيناريوس (ذاك الذي يتأبط سكينًا ويخرج كل ليلة ليمزق إطارات السيارات)، تطرق بهما الحديث إلى فن الرواية، وتحديدًا إلى طبيعة الكتابة الروائية، فقال كونديرا لصديقه: “لا ينبغي أن تشبه الرواية سباق درجات، بل مأدبة نتذوق فيها ألوانًا من الأطباق” (كونديرا 2014: 279).

ماذا يقصد صاحب الخلود بهذه الاستعارة المرحة؟ 

من جماليات الرواية الكونديرية أنها غير قابلة للحكي، فهي ليست قصة بالمعنى الحرفي للكلمة، بحيث يمكن للمرء أن يقرأها ثم يسردها ببساطة لواحد من أصدقائه؛ إن كونديرا يرى أن خضوع الرواية لقاعدة “وحدة الحدث” (بمعنى أن تكون كل أحداث الرواية خاضعة لتسلسل سببي واضح، هو الذي يجعل منها دراما يمكن أن تحكى) هو لعنة قد حلت بفن الرواية، إنه يجعل الرواية شبيهة بـ”زقاق ضيق نطارد فيه الشخصيات ونحن نجلدها” (المرجع نفسه). إذ إنها تحول الرواية إلى خاتمة ما، وكل أحداث الرواية من أول صفحة مجرد مراحل تقودنا إلى هذه الخاتمة، بحيث يكون علينا أن نجتاز هذه المراحل بأقصى سرعة لنصل إلى خط النهاية (تمامًا كما هو الحال في سباق الدرجات). والحال أن كونديرا قد عزم من أول يوم على “تطهير” الرواية من هذه اللعنة؛ إنه يريد أن يجعل من كل حدث من أحداث الرواية، وكل موقف، قيمة في حد ذاته وليس مجرد خادم للخاتمة. إنه يريدنا أن نتذوق جماليات كل مشهد والأفكار المبحوثة في كل موقف أو حدث على حدة: (إن الرواية تتحول هنا إلى مأدبة كبيرة، وكل موقف فيها يمثل طبقًا علينا تذوقه بمفرده).


هذه السمة الجوهرية في مُبدَع كونديرا، هي أول ما يصطدم به من يريد تقديم قراءة لأي رواية من رواياته؛ إن كل محاولة لتجريد قصة ما من رواية لكونديرا، بمثابة تدمير لها، إن قارئ كونديرا يشعر طوال القراءة بكثافة وأهمية ما هو مكتوب في كل صفحة، ولكنه بعدما ينتهي ويغلق الكتاب، لن يستطيع أبدًا أن يسرد قصة متماسكة، بالرغم من كونه مقتنعًا تمامًا أنه للتو قد انتهى من قراءة رواية! علينا إذن أن نقرأ الرواية الكونديرية بالطريقة التي تليق بها، قراءتها ككتاب في الأنطولوجيا البشرية، لا كقصة درامية نتسلى بها في وقت الفراغ.

أحاول في هذه المقالة أن أقدم قراءة لرواية كونديرا الأخيرة la fete de l’insignifiance أو حفلة التفاهة، والتي صدرت بفرنسا عن غاليمار في 2014، وعن المركز الثقافي العربي بالمغرب في نفس العام، بترجمة معن عاقل (مترجم رواية الجهل). وهي رواية صغيرة الحجم (110 صفحة) تنتمي لقائمة روايات كونديرا الصغيرة (الجهل، الهوية، البطء). وبالرغم من صغر حجمها فقد قسمها لسبعة أجزاء، وكل جزء مثقل بالعناوين الفرعية.

سأحاول أن أبرز الثيمات الرئيسة التي تنبني عليها هذه الرواية، التي كتبها كونديرا بعدما توقف 14 عامًا عن الكتابة. (كانت آخر رواية له هي الجهل، والتي صدرت في عام 2000).

عصر ما بعد الِمزاح.. أو في رثاء الفكاهة


ما علاقة الرواية كفن بالفكاهة؟ لنحدد أولًا المعنى الدقيق الذي يقصده كونديرا بالفكاهة: واقع الأمر أن المقصود بالفكاهة عند صاحب كتاب الضحك والنسيان، ليس هو مجرد السخرية المثيرة للضحك، وإنما الفكاهة هي شيء أكثر عمقًا، ربما كانت إثارة الضحك هي ظاهره، إنها وكما يقول أوكتافيو باز (الشاعر المكسيكي الشهير المحبب كثيرًا لكونديرا): “ضرب خاص من الهزلي تجعل من كل شيء تتناوله غامضًا“، (كونديرا 2007: 173). الفكاهة إذن، تُكسب الشيء الذي تتعرض له غموضًا رهيبًا بحيث يمنعنا من إصدار أية أحكام عليه، إن الفكاهة هي تعليق أبدي للحكم، “الفكاهة هي البرق الإلهي الذي يكشف عن الغموض الأخلاقي لهذا العالم، وعن عدم اختصاص الإنسان العميق في الحكم على الآخرين. إنها ثَمل نسبية الأشياء الإنسانية، السعادة الغريبة الناتجة عن اليقين بعدم وجود اليقين” (نفسه: 195).

إذا كانت هذه هي الفكاهة، فما علاقتها بفن الرواية؟ ما يؤمن به كونديرا أن الفكاهة هي ابتكار خاص بالرواية، ولادة الفكاهة قد حايثت ولادة الرواية مع رابلييه وسرفانتس.

وعليه؛ فإن الفكاهة بهذا المعنى هي جزء من ماهية الرواية وجوهرها، الرواية فكاهية أو لا تكون. يضرب لنا كونديرا هذا المثال من رواية جارجانتويا للروائي المؤسس فرانسوا رابلييه: عندما يريد البطل بانورج أن ينتقم لنفسه من تاجر الخراف، الذي سخر منه، وهم على متن السفينة في عرض البحر، فيقوم بالآتي: “يشتري منه خروفًا ويلقي به إلى البحر، وبما أن الخراف معتادة على اتباع أولها، فإنها عمدت جميعًا إلى القفز إلى الماء. يُجن التجار وهم يمسكون بها تارة من صوفها وتارة من قرونها ويُجَرّون هم أيضًا إلى البحر. كان بانروج يمسك مجدافًا بيده، لا لإنقاذهم، بل ليمنعهم من التسلق إلى السفينة، وهو يعظهم بفصاحة مبيّنًا لهم بؤس هذا العالم وخير الحياة الآخرة وسعادتها، مؤكدًا لهم أن الموتى أسعد من الأحياء. على أنه يتمنى لهم في حال أرادوا الاستمرار في العيش بين البشر، أن يلتقوا حوتًا ما على شاكلة ما جرى للنبي يونس” (نفسه: 172).

ما الذي علينا فعله ككقراء أمام هذا المشهد؟ هل نجتهد في تأويل تصرف بانورج الرهيب هذا؟ لا، لا ينبغي، إنه مشهد مستحيل، ولا يمكن أن يكون ثمة حكم ما واضح ووحيد، يمكن أن نطلقه على بانورج، إن الحكم معلق هنا للأبد، وهذه هي عين الفكاهة. علينا فقط أن نتذوق جمالية هذا المشهد، وأن لا نحمله على محمل الجد مهما بدا لنا رهيبًا.

في حفلة التفاهة، اختارَ كونديرا للقسم الرابع هذا العنوان: “الجميع يبحثون عن الفكاهة“. إنه ينعي روح الفكاهة التي ولدت مع رابلييه، ويرى أنها قد رحلت عن فن الرواية، وعن هذا العالم برمته: “صديقي العزيز: ثمة شيء واحد أفتقده: روح الفكاهة” (كنونديرا 2014: 77). يقول رامون لصديقه كاليبان. “روح الفكاهة! هذا هو المراد ولا شيء آخر” (ص 56)، يقول رامون أيضًا، ولكن لصديقه كاكوليك هذه المرة.

للتدليل على انصرام عصر الفكاهة، ابتكر كونديرا مشهدًا لا يقل أبدا ًفتنة عن مشهد بانورج وهو يصد تجار الخراف عن الصعود إلى السفينة. إنها حكاية ستالين ورفاقه وطيور الحجل: فلقد قص ستالين على رفاقه يومًا ما، أنه خرج مرة للصيد، وسار مسافة 13 كيلو مترًا، فوجد شجرة عليها 24 من طيور الحجل، ولكنه لسوء الحظ لم يكن يملك في جعبته سوى 12 طلقة، فماذا يفعل؟ لقد أطلق طلقاته عليهم فاصطاد 12 طائرًا، ثم قفل عائدًا لبيته وأحضر 12 طلقة أخرى واجتاز الـ13 كيلو مترًا مرة ثانية، ليجد باقي طيور الحجل جاثمة في مكانها على نفس الغصن من الشجرة، فيصطادها جميعًا ويعود. فماذا كان رد فعل رفاق ستالين على هذه الحكاية؟ لم يضحك أحد منهم أبدًا، فقط اشمأزوا من كذب ستالين عليهم، وراحوا يصرخون في الحمامات، ظنًّا منهم أنه المكان الوحيد الذي لا يراقبهم فيه الزعيم: “ونحن نغسل أيدينا في صالة الحمامات، رحنا نقذف بالشتائم: إنه يكذب إنه يكذب” (ص 23)، يحكي لنا خروتشوف عنه هو ورفاقه.

إن المثير بالنسبة لكونديرا في هذه الحكاية، هو أنه لا أحد من رجال ستالين تصور أنه يمزح معهم، لقد أخذوا كلامه على محمل الجد تمامًا، رأوه كذبًا فجًّا لا يليق بالزعيم، لم يجرؤا على الاعتراض عليه في حضرته، فقط راحوا يصرخون في الحمامات كالمجانين بشتمه وتكذيبه، وهو يتلصص عليهم بدوره ويسمع صراخ أبطال المكتب السياسي ويقهقه كالمجنون. لقد صارحهم بعد ذلك قائلًا: “كنت أتسلى كثيرًا في الممر وأنا أصغي إليكم تصرخون، لكنني كنت أقول في سري في الوقت ذاته: ألأجل هؤلاء المغفلين بدّدتُ كل قواي؟ ألأجلهم عشت؟ ألأجل هؤلاء الرثين؟ لأجل هؤلاء المخبولين المبتذلين؟ لأجل فلاسفة المباول؟” (ص 90).

إن هذه اللحظة بالنسبة لكونديرا، اللحظة التي لم يعد فيها أي من رجال ستالين “يعرف ما هو المزاح، وما هي المزحة” (ص 23). هي لحظة تأبين لروح الفكاهة، وتدشين لعصر جديد تمامًا؛ “عصر أفول الفكاهات، عصر ما بعد المزحات” (ص 76).

في مديح التفاهة

ما علاقة الرواية كفن بالتفاهة؟ إذا كانت الرواية بما هي كذلك هي بحث في الوجود، فعليها إذن أن تهتم بالتافه وتبجله، لماذا؟ لأن التفاهة ليست شيئًا عرضيًا في هذا العالم، وإنما هي على العكس شيء جوهري تمامًا: “التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب. وهذا غالبًا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف درامية للغاية ولتسميتها باسمها. لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، يجب أن نتعلم حب التفاهة” (ص 108).

إن كونديرا يدعونا ألا نخجل من تفاهتنا؛ فهي “ليست استثناءً، صدفة، عيبًا، إنها ليست ظاهرة كمية إن صح القول، نقصًا في معدل الذكاء، يمكن شفاؤه بالتعلم، إنها لا تُشفى، وهي حاضرة في كل مكان، في فكر الحمقى مثلما هي في فكر العباقرة، إنها جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية” (كونديرا 2007: 524).

من هنا كان على الرواية أن تهتم بالتافه كما يليق به، لننظر مثلًا إلى ما فعله فولبير مع تفاصيل حياة السيدة بوفاري، أو إلى ما فعله بشكل أعظم جيمس جويس في عوليس؛ عدد مهول من الصفحات في فحص أكثر الأشياء ابتذالًا في يوم من أيام بطله بلوم، تسجيل لكل خاطرة تجول برأسه مع كل التفاتة وكل فعل تافه.

أو لننظر إلى كونديرا في حفلة التفاهة وهو يعنون فصل فيها بـ”ريشة تحلق تحت السقف“، إنه يفحص تفاعل المدعوين في حفلة دارديلو (الذي كان قاب قوسين من أن يشهد عيدًا مزدوجًا؛ ذكرى ميلاده التي صارت بعيدة وذكرى موته الذي أصبح وشيكًا، ولكن الموت ألغى دعوته في آخر لحظة)، مع ريشة تتسكع في الهواء، كيف وقف شارل متجمدًا كصنم يأس من أن يُعبد يحدق فيها، وكيف كانت فرانك (التي كانت في غاية المرح يوم مات زوجها الذي كانت تحبه بحق)، “ترفع ذراعها إلى أعلى ما يمكن، كقائدة أوركسترا تقود الإيقاعات الأخيرة لسمفونية عظيمة” (كونديرا 2014: 78)؛ طمعًا في أن ترسو الريشة بين إصبعيها.

مغرقًا في مديح التفاهة، يكمل لنا كونديرا حكايته عن ستالين ورفاقه (فلاسفة المباول)، حكاية هي تجسيد فاتن لـ”روح الفكاهة اللانهائية” التي تحدث عنها هيجل: لماذا سُميت كونجسبرج (تلك المدينة الألمانية التي عاش فيها كانط عمره بأكمله) باسم كالينينجراد؟ يتعلق الأمر ببساطة في رغبة الروس في أن يظل أثرهم في هذا العالم باقيًا إلى الأبد؛ إذ أصابتهم حمى تغيير أسماء المدن التي يسيطرون عليها بأسماء روسية، “ولكن ليس أي اسم! لا بد أن أن تستند التسمية الجديدة إلى اسم مشهور في أرجاء الكوكب وأن يُخرس ألقه الأعداء. ولدى الروس وفرة من مثل هذه الأسماء العظيمة، بوشكين، تشايكوفيسكي، تولوستوي” (ص 31). ولكن الواقع أن ستالين لم يختر لبلد كانط أي اسم من هذه الأسماء الفخمة، وإنما اختار اسم شخص عديم الأهمية: كالينين، فلماذا اختار ستالين، هذا الرفيق، التافهة تحديدًا ليخلد اسمه؟

يحكي لنا كونديرا أن ستالين كان مفتونًا بتكرار قصته مع طيور الحجل على رفاقه، ولكن لماذا؟ إنه كالينين؛ فلقد كان هذا الأخير مصابًا بتضخم البروستاتا، ومن ثم كان مرغمًا على التبول في أغلب الأحيان، ولكنه عندما يكون جالسًا على المائدة أمام ستالين، لم يكن يجرؤ أن يزعجه ويذهب للمرحاض ويعود مرارًا. وكان ستالين يعلم ذلك جيدًا، وكان وهو يروي حكايته في كل مرة: “يركز نظره عليه، وعلى وجهه الذي يزداد شحوبًا وتعلوه تكشيرة متشنجة، وهذا ما كان يحرض ستالين على التمهل في سرده، وعلى إضافة أوصاف واستطرادات وإرجاء الخاتمة إلى اللحظة التي يسترخي فيها فجأة وجه كالينين المتوتر… فيعرف أنه قد فقد مقاومته مرة أخرى، فينتقل بسرعة إلى الخاتمة، وينهي الجلسة” (ص 29).

إنه مشهد مستحيل، خفيف، عبثي، فكاهي، تمامًا كحكاية رابلييه عن بانورج وهو يسوق الخراف إلى الماء. حكاية مرحة، علينا أن نتذوقها ونضحك لا أن نجتهد في إيجاد تأويل لقسوة ستالين غير المبررة بالمرة، أو لخنوع كالينين المذل للزعيم الروسي. ولكن مهلًا، فلم تقف شاعرية (جمالية) كونديرا عند هذا الحد، لنتساءل مرة ثانية: لماذا اختار ستالين رفيقه البائس هذا ليظل اسم كانط مرتبطًا باسمه إلى الأبد؟ إنه الحنان! نعم لقد كان ستالين “إبليس القرن” هذا يكنّ حنانًا استثنائياً لكالينين؛ فمن بين كل الآلام التي تسبب فيها على هذه الأرض، كان ألم كالينين وهو يضبط نفسه أمامه (وتعلو وجهه التكشيرة المتشنجة) “ألمًا مختلفًا تمامًا، ألمًا ضئيلًا، ملموسًا، فريدًا، مفهومًا. كان ينظر إلى رفيقه المتألم، وبدهشة عذبه، يحس أن شعورًا باهتًا ومتواضعًا وحتى مجهولًا ومنسيًا على أية حال يستيقظ فيه: حب لإنسان يتألم. كانت هذه اللحظة في حياته العنيفة (المترعة بالمؤامرات والخيانات والمجازر) بمثابة راحة. لقد كان الحنان يزداد في قلب ستالين بمعدل ازدياد ضغط البول على مثانة كالينين” (ص 31).

لقد اعطى ستالين لكونجسبرج اسم رفيقه إذن؛ لأنه “كان يشعر بالحنان حيال رجل تألم لأجله، وأمام ناظريه. هو يريد أن يشكره على وفائه، وأن يسعده لقاء تفانيه وإخلاصه” (ص 32).

لماذا خُلد اسم كالينين “شهيد النظافة” هذا إذن؟ إنها التفاهة، إنه لم يصبح مشهورًا بفضل طموحه السياسي وغروره وصلفه، وإنما “وحده من سيظل اسمه بالذاكرة، يُذّكر بمعاناة اختبرها كل كائن إنساني، ويذكر بمعركة يائسة لم تسبب البؤس لأحد إلا لنفسه” (ص 32، 33).

كذلك هو كاكوليك، صديق رامون، كيف كان يفوز بالنساء؟ إنها التفاهة، هو لم يكن يحاول أن يكون شخصًا لامعًا كدارديلو الذي “لم يزل حتى اليوم لا يفهم شيئًا عن قيمة التفاهة” (ص 17)، وإنما هو على العكس، شخص حريص كل الحرص على ألا يلفت الانتباه إليه. فهو يعلم أنه من غير المجدي أن يكون المرء لامعًا، في هذا السياق تحديدًا؛ “فحين يحاول رجل لامع إغواء امرأة، يتولد لديها انطباع أنها تدخل في منافسة، وتضطر هي أيضًا للتألق، ولا تمنح نفسها دون مقاومة. بينما التفاهة تحررها، تجردها من حذرها. لا تتطلب أي حضور للنباهة، تجعلها لا مبالية ومن ثم سهلة المنال” (ص 18).

ما الذي كان يشغل فكر بطل روايتنا ألان؟ إنّه شيء تافه ولا شك، إنه السرة، السرة العارية للحسنوات اللواتي يتجولن من حوله في الشوارع وفي حديقة اللكسومبورج. يبتدأ كونديرا حفلة التفاهة بتساؤل ألان العميق عن الدلالة الأيروتيكية لسرة المرأة وينهي الرواية بالإجابة عليه. لقد “ظل هذا اللغز يشغله، كما ينشغل بالكم أنتم أيضًا (نحن القراء يقصد)، شهورًا، إن لم يكن سنوات، بمشاكلكم ذاتها، والتي هي بالتأكيد أتفه بكثير من المشكلة التي تستحوذ على تفكير ألان” (ص 37).

ذلك الفخ الذي يُسمى العالم

ربما كانت هذه الرواية، هي الرواية الأولى لكونديرا، التي تغيب عنها التشيك، إنها رواية فرنسية تمامًا. أشخاصها وأحداثها (أو لا أحداثها إن شئنا الدقة). هل نسي كونديرا العجوز مآسي بلده الأم، وصار لا يرى في نفسه إلا رجلًا فرنسيًّا؟ من غير المرجح حدوث ذلك، ما يبدو لي أنه لما كانت التفاهة واللامعنى هي ثيمة هذه الرواية الأساسية، أراد أن يجعلها رواية متساوقة مع موضوعها، لقد أرادها فارغة من كل القضايا الكبرى. ربما كانت تشيكية كونديرا أعمق من أن توجد في قلب حفلة للتفاهة. فقط هو لم يغفل عن جعل أبطال روسيا الستالينية مسخرة لكل العصور.

إذا كانت حفلة التفاهة بمثابة تكثيف لهذه الثيمة “جوهرية التفاهة “، والتي هي مبحوثة بدرجات متفاوتة في مجمل مُبدعًه، فما هي الوصفة التي يقدمها لنا كونديرا للتعاطي مع هذه “الحقيقة”؟ لا شيء في واقع الأمر، فلقد “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد” (ص 75).

إن كونديرا يبدو في هذا العمل “سيورانيًا” أكثر من سيوران نفسه، الذي لم يكل من التحسر على كون البشر قد جاءوا إلى هذا العالم، العالم هنا بوصفه فخًا قد علقنا فيه. يقول على لسان خيال أم ألان: “ما تمنيته هو الاختفاء الكلي للبشر مع مستقبلهم وماضيهم، مع بدايتهم ونهايتهم، مع كل فترة وجودهم، مع ذاكرتهم برمتها، مع نيرون ونابليون، مع بوذا والمسيح. تمنيت الفناء الكلي لشجرة متجذرة في بطن صغير بلا سرة لأول امرأة حمقاء لم تكن تعرف ما تفعله، وأي أهوال كلفنا جماعها البائس الذي لم يمنحها أية متعة بالتأكيد…” (ص 80).

جوهرية التفاهة، ورثاء الفكاهة، هما الثيمتان اللتان تُبنى عليهما هذه الرواية. إنها موعظة كونديرا المحببة لديه: فلنتوقف ولو قليلًا عن النظر بجدية إلى جدية البشر.



المراجع:
1- كونديرا، ميلان، 2014، الخلود، ت: محمد التهامي العماري، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
2- كونديرا، ميلان، 2014، حفلة التفاهة، ت: معن عاقل، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

3- كونديرا، ميلان، 2007، ثلاثية حول الرواية، ت: بدر الدين عرودكي، القاهرة: المركز القومي للترجمة.

الأحد، 23 نوفمبر 2014

حفلة التفاهة / فصول من الرواية


حفلة التفاهة /فصول 



آلان‮ ‬يتأمل السرة‮ ‬...

كنا في شهر‮ ‬يونيو،‮ ‬وشمس الصباح تتبدي من بين‮ ‬السحب وآلان‮ ‬يمضي ببطء في أحد الشوارع الباريسية‮. ‬يتطلع إلي الفتيات،‮ ‬اللائي ــ جميعهن ــ‮ ‬يبينّ‮ ‬سرتهن العارية بين البناطيل ذات الأحزمة والقمصان النسائية القصيرة للغاية‮. ‬كان مفتونا،‮ ‬ومضطربا‮: ‬كأن قوة الإغراء لا تتركز في الأفخاذ،‮ ‬ولا في المؤخرات،‮ ‬ولا في النهود،‮ ‬وإنما في هذا الثقب الصغير الكائن في وسط الجسد‮.‬
وهذا حرضه علي التفكير‮: ‬إذا رأي رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬إلي مركز الإغراء‮ ‬النسوي في الأفخاذ،‮ ‬كيف‮ ‬يتم وصف وتعريف خصوصية هذا التوجه الايروتيكي؟ ارتجل إجابة‮: ‬طول الأفخاذ الصورة المجازية للطريق،‮ ‬الطويلة والفاتنة‮ (‬ولهذا من الضروري أن تكون الأفخاذ طويلة‮)‬،‮ ‬التي تفضي الي الكمال الايروتيكي،‮ ‬في الواقع،‮ ‬كما قال آلان في نفسه،‮ ‬تفضي الي الجماع،‮ ‬اذ أن طول الفخذين‮ ‬يمنح المرأة‮ ‬سحرا رومانتيكيا‮ . ‬
اذا رأي رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬مركز الاغراء النسوي في المؤخرات،‮ ‬كيف‮ ‬يتم وصف وتعريف خصوصية هذا التوجه الايروتيكي ؟ ارتجل اجابة‮ : ‬وحشية،‮ ‬بهجة،‮ ‬الطريق الأقصر نحو الهدف،‮ ‬هدف بالأحري مثير بما أنه مزدوج‮.‬
اذا رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬الي مركز الاغراء النسوي في النهود،‮ ‬كيف‮ ‬يتم وصف وتعريف خصوصية هذا التوجه الايروتيكي ؟ ارتجل اجابة‮ : ‬تقديس المرأة،‮ ‬العذراء ترضع اليسوع،‮ ‬العضو الذكري‮ ‬يجثو أمام نبالة رسالة العضو النسوي‮. ‬
ولكن كيف‮ ‬يتم تعريف ايروتيكية رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬يري‮ ‬أن مركز الاغراء النسوي الكائن في وسط الجسد،‮ ‬في السرة ؟
رامون‮ ‬يتنزه
في حديقة لوكسمبرغ‮ ‬
في نفس اللحظة تقريبا التي كان آلان‮ ‬يفكر‮ ‬في‮ ‬مختلف أصول الاغراء النسوي،‮ ‬ألفي رامون نفسه أمام متحف‮ ‬يقع بالقرب من حديقة لوكسمبرغ،‮ ‬حيثما تعرض لوحات شاغال،‮ ‬منذ شهر‮. ‬يريد أن‮ ‬يراها،‮ ‬بيد أنه‮ ‬يعرف مقدما أنه لا‮ ‬يجد في نفسه القوة لكي‮ ‬يتحول طواعية الي شئ من هذا الطابور الطويل الذي‮ ‬يزحف متمهلا نحو شباك التذاكر‮. ‬يراقب الناس التي شل السأم وجوهها،‮ ‬يتخيل الصالات التي تحجب أجسادهم وثرثراتهم الخفيفة اللوحات،‮ ‬قبل أن‮ ‬يشيح بوجهه ويسلك طريقا نحو الحديقة،‮ ‬في أقل من دقيقة‮.‬
هناك،‮ ‬المناخ لطيف،‮ ‬الجنس البشري‮ ‬يتبدي أقل وأكثر حرية‮ : ‬كان هناك من‮ ‬يركض،‮ ‬ليس لأنهم متعجلون وانما لأنهم‮ ‬يحبون الركض،‮ ‬هناك من‮ ‬يتنزه ويتناولون الجيلاتي،‮ ‬وعلي الأعشاب‮ ‬يقوم مريدو مدرسة آسيوية بحركات‮ ‬غريبة وبطيئة،‮ ‬بعيدا،‮ ‬في حلقة كبيرة،‮ ‬كان هناك تماثيل بيضاء كبيرة لملكات ونبيلات فرنسيات وبعيدا،‮ ‬علي الأعشاب وسط الأشجار،‮ ‬في جميع اتجاهات الحديقة،‮ ‬تماثيل لشعراء،‮ ‬رسامين،‮ ‬علماء‮. ‬يتوقف أمام مراهق برونزي،‮ ‬جذاب،‮ ‬عار تحت سرواله القصير،‮ ‬يعرض عليه أقنعة لبلزاك،‮ ‬برليوز،‮ ‬هوغو،‮ ‬دوما‮. ‬لا‮ ‬يستطيع رامون أن‮ ‬يمنع بسمة علي شفتيه وتابع تسكعه في هذه الحديقة،‮ ‬حديقة العباقرة،‮ ‬المتواضعين،‮ ‬المحاطين بلا مبالاة المتنزهين اللطيفة،‮ ‬مما‮ ‬يشعرهم بحريتهم حتما،‮ ‬لا‮ ‬يتوقف أحد لكي‮ ‬يراقب وجوههم أو‮ ‬يقرأ النقوش المحفورة علي القواعد‮. ‬هذه اللا مبالاة،‮ ‬تنفسها رامون كسكينة تواسيه‮. ‬
لا وجود للسرطان
في نفس اللحظة التي عدل رامون فيها عن الذهاب الي‮ ‬معرض شاغال واختار التسكع في الحديقة،‮ ‬ارتقي دارديلو الدرج المفضي الي عيادة طبيبه‮. ‬هذا اليوم،‮ ‬ثلاثة أسابيع بالضبط قبل عيد ميلاده‮. ‬قبل سنوات عديدة،‮ ‬بدأ‮ ‬يكره أعياد الميلاد‮. ‬بسبب الأرقام التي تلتصق بها‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬لا‮ ‬يصل الي التفاخر بها،‮ ‬اذ أن بهجة الاحتفال تستدعي اليه خجل الشيخوخة‮. ‬لأن‮ ‬يجب عليه اليوم أن‮ ‬يعرف نتائج جميع الاختبارات التي تقول له اذا كانت الأعراض المشكوك فيها المكتشفة في جسده سرطانية أو لا‮. ‬دخل الي صالة الانتظار وردد في نفسه،‮ ‬بصوت مرتجف،‮ ‬أنه سوف‮ ‬يحتفل بعيد ميلاده البعيد نوعا ما وموته القريب نوعا ما في آن واحد،‮ ‬أنه سوف‮ ‬يحتفل بحفلين‮.‬
‮ ‬غير أنه حينما رأي وجه الطبيب المبتسم،‮ ‬فهم أن الموت ألغي‮. ‬ضم الطبيب‮ ‬يده بأخوية‮. ‬الدموع في العينين،‮ ‬لم‮ ‬يستطع دارديلو أن‮ ‬يتكلم‮.‬
‮ ‬تقع عيادة الطبيب في شارع الأوبزرفاتوار،‮ ‬علي بعد مائتي متر من حديقة لوكسمبرغ‮. ‬وبما أن دارديلو‮ ‬يسكن في شارع صغير في الناحية الأخري من الحديقة،‮ ‬كان عليه أن‮ ‬يجتازها‮. ‬كانت النزهة تجعل مزاجه رائقا الي حد ما،‮ ‬وبالأخص حينما‮ ‬يحاذي حلقة تماثيل ملكات فرنسا،‮ ‬المنحوتة بالرخام الأبيض،‮ ‬تماثيل كاملة،‮ ‬في وقفات احتفالية تبدت له طريفة،‮ ‬ان لم تكن منتشية،‮ ‬كأن هذه السيدات مبتهجات بالأخبار الجديدة التي تلقتها‮. ‬لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يسيطر علي نفسه،‮ ‬يحييهن مرتين أو ثلاثا بيده المرفوعة ويتفجر ضاحكا‮.‬
الجاذبية السرية لمرض عضال‮ ‬
علي بعد خطوات من هنا،‮ ‬قرب السيدات المنحوتات من‮ ‬المرمر،‮ ‬التقي رامون بدارديلو الذي كان زميلا له،‮ ‬خلال العام الفائت،‮ ‬بمؤسسة لا‮ ‬يثير اسمها اهتمامنا‮. ‬توقف كل منهما قبالة الآخر،‮ ‬وبعد التحية المعتادة،‮ ‬بدأ دارديلو،‮ ‬بصوت مستثار بغرابة،‮ ‬يحكي‮ :‬
‮»‬صديقي،‮ ‬تعرف لا فرانك ؟ قبل‮ ‬يومين،‮ ‬مات حبيبها‮«‬
توقف لبرهة وفي ذاكرة رامون تبدي وجه المرأة الجميلة المشهورة التي لا‮ ‬يعرفها الا عبر الصور‮. ‬
‮»‬احتضار مؤلم للغاية،‮ ‬تابع دارديلو‮. ‬عاشت معه كل شئ‮. ‬كم عانت‮ !«‬
‮ ‬مفتونا،‮ ‬بدأ رامون‮ ‬ينظر الي الوجه المرح وهو‮ ‬يحكي له قصة محزنة‮.‬
‮ «‬تخيل أنها في مساء اليوم الذي توفي فيه بين ذراعيها،‮ ‬كانت تتناول العشاء معي وبعض الأصدقاء،‮ ‬لن تصدق،‮ ‬كانت مرحة نوعا ما‮ ! ‬أنا معجب بها‮ !‬هذه القوة‮ ! ‬هذا الحب للحياة‮ ! ‬كانت تضحك،‮ ‬ولم تزل العينان حمراوين من البكاء‮ !‬ومع ذلك،‮ ‬نعرف كم أحبته‮ ! ‬كم عانت هذه المرأة قوية‮ !‬
بالضبط مثلما جري قبل ربع ساعة لدي الطبيب،‮ ‬كانت الدموع تتلألأ في عيني دارديلو‮. ‬لأنه كان‮ ‬يفكر في نفسه،‮ ‬وقتما كانا‮ ‬يتحدثان عن قوة لا فرانك المعنوية‮. ‬ألم‮ ‬يعش هو الآخر شهرا بطوله في حضرة الموت؟ أ لم تكن قوة شخصيته خاضعة لتجربة قاسية ؟ حتي أصبحت ذكري سهلة،‮ ‬ظل السرطان معه كنور مصباح صغير‮ ‬يثير الدهشة خفية‮. ‬ولكنه توصل الي كبح مشاعره وتكلم بنبرة عادية‮ : «‬في الوقت المناسب،‮ ‬ان لم أخطئ،‮ ‬تعرف أحد ما‮ ‬يستطيع تنظيم حفل كوكتيل والاهتمام بالطعام وكل شئ‮».‬
‮-‬في الواقع،‮ ‬قال رامون‮.‬
ودارديلو‮ : «‬سوف أقوم بتجهيز حفل بسيط لعيد ميلادي‮.‬
بعد الكلام المثير حول الشهيرة لا فرانكا،‮ ‬مكنت النبرة الخفيفة للجملة رامون من الابتسام‮ :»‬أري أن حياتك سعيدة‮«.‬
بفضول،‮ ‬لم تنل هذه الجملة اعجاب دارديلو‮. ‬كأن هذه النبرة الخفيفة للغاية تمحي الجمال الغريب لمزاجه الموسوم سحريا بتفخيم الموت الذي لم تكف ذكراه عن ملازمته‮ : «‬نعم،‮ ‬قال،‮ ‬كل شئ علي ما‮ ‬يرام‮» ‬وبعد لحظة صمت،‮ ‬أضاف‮ : »... ‬حتي اذا‮...«.‬
ثم صمت ثانية،‮ ‬وقال‮ : «‬تعرف،‮ ‬قدمت لتوي من عند طبيبي‮».‬
أعجبه الارتباك الذي تبدي علي وجه محادثه،‮ ‬يطيل من أمد الصمت،‮ ‬الي حد أن رامون لم‮ ‬يجد أمامه سوي سؤاله‮ : »‬وماذا بعد ؟ هل هناك مشكلة؟‮«‬
‮-‬كانت هناك مشكلة‮. ‬
من جديد صمت دارديلو،‮ ‬ومن جديد لم‮ ‬يجد رامون

أمامه سوي سؤاله‮ : »‬ما الذي قاله الطبيب ؟‮«.‬
وقتئذ نظر دارديلو،‮ ‬في عيني رامون،‮ ‬الي وجهه
الحقيقي كما في المرآة‮ : ‬وجه رجل عجوز،‮ ‬ولكن وسيم دوما،‮ ‬موسوم بشئ من الحزن الذي جعله حتي هذه اللحظة جذابا،‮ ‬قال في نفسه أن هذا الرجل الوسيم الحزين سوف‮ ‬يحتفل بعيد ميلاده وأن الفكرة التي داعبته قبل زيارته للطبيب تنبجس في رأسه،‮ ‬فكرة فاتنة عن حفل مزدوج‮ ‬يحتفي بالميلاد والموت في آن واحد‮. ‬تابع النظر في عيني رامون،‮ ‬ثم قال بصوت هادئ وناعم للغاية‮ : »‬سرطان‮...«.‬
تمتم رامون بشئ ما،‮ ‬ولمس بيده،‮ ‬برعونة وأخوية،‮ ‬ذراع دارديلو‮ : »‬ولكن عليك بمراعاة صحتك‮...«.‬
‮-‬تأخر الوقت،‮ ‬ولكن أنس ما قلته لك،‮ ‬لا تتحدث عنه الي أحد،‮ ‬وفكر بالأحري في حفل كوكتيلي‮. ‬من اللازم العيش‮ !»‬،‮ ‬قال دارديلو،‮ ‬وقبل أن‮ ‬يواصل طريقه،‮ ‬رفع‮ ‬يده بالتحية،‮ ‬وكان لهذه الحركة الرزينة،‮ ‬شبه الخجول،‮ ‬سحرا مفاجئا هيج مشاعر رامون‮. ‬
كذبة‮ ‬غامضة،‮ ‬ضحكة‮ ‬غامضة
أنتهي لقاء هذين الزميلين بهذه الحركة الجميلة‮. ‬ولكنني لا أستطيع تحاشي سؤال‮ : ‬لماذا كذب دارديلو ؟
هذا السؤال طرحه دارديلو نفسه بعد ذاك ولم‮ ‬يجد له اجابة‮. ‬لا،‮ ‬لم‮ ‬يخجل من الكذب‮. ‬ما حيره،‮ ‬عدم القدرة علي فهم سبب هذه الكذبة‮. ‬من الطبيعي،‮ ‬اذا كذب المرء فهذا لكي‮ ‬يخدع شخصا ما وجني مكسب معين‮. ‬ولكن ماذا‮ ‬يربح من كذبة السرطان ؟ بفضول،‮ ‬مرورا بلا معني كذبته،‮ ‬لم‮ ‬يمنع نفسه من الضحك‮. ‬وهذه الضحكة،‮ ‬هي الأخري،‮ ‬كانت‮ ‬غير مفهومة‮. ‬لماذا ضحك ؟ هل وجد سلوكه الهزلي ؟ لا‮. ‬علاوة علي ذلك،‮ ‬لم‮ ‬يكن حس الهزل قوته‮. ‬ببساطة،‮ ‬كل شئ،‮ ‬من دون معرفة السبب،‮ ‬سرطانه الخيالي‮ ‬يفرحه‮. ‬واصل طريقه وتابع ضحكه‮. ‬يضحك ويستلذ بمزاجه الرائق‮.‬
رامون في زيارة لشارل
بعد ساعة من لقائه لدارديلو،‮ ‬كان رامون لدي شارل‮. ‬‮»‬أحمل لك دعوة الي حفل كوكتيل علي سبيل الهدية،‮ ‬قال‮«.‬
‮- ‬أحسنت‮ ! ‬نحن في حاجة اليه هذا العام،‮ ‬قال شارل الذي دعا صديقه الي الجلوس أمام طاولة واطئة،‮ ‬في مواجهته‮.‬
‮- ‬هدية لك‮. ‬ولكاليبان‮. ‬فضلا عن ذلك،‮ ‬أين هو ؟
‮- ‬أين‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون ؟ في البيت،‮ ‬لدي امرأته‮.‬
‮- ‬ولكن أتمني أن‮ ‬يكون موجودا لديك في حفلات الكوكتيل‮.‬
‮- ‬بالتأكيد‮. ‬المسارح تسخر كثيرا منه‮»‬
لاحظ رامون كتابا سميكا نوعا ما علي الطاولة‮. ‬أنحني ولم‮ ‬يستطع اخفاء دهشته‮ : «‬ذكريات‮» ‬لنيكيتا خروشتشيف‮. ‬لماذا ؟
‮- ‬أنه مديرنا الذي منحه لي‮.‬
‮- ‬وما الذي وجده مديرنا مثيرا فيه ؟
‮- ‬سطر لي بعض الفقرات‮. ‬ما قرأته كان مسليا‮.‬
‮- ‬مسل؟
‮- ‬قصة أربعة وعشرين طيرا من الحجل‮.‬
‮- ‬ماذا ؟
‮- ‬قصة أربعة وعشرين طيرا من الحجل‮. ‬أ لا تعرفها ؟ ومع ذلك،‮ ‬من هنا بدأ التغير الكبير في العالم‮ !‬
‮- ‬التغير الكبير في العالم ؟ فقط ؟
‮- ‬فقط‮. ‬ولكن قل لي،‮ ‬أي شراب كوكتيل ؟
شرح رامون وسأل شارل‮ : »‬ومن هو دارديلو ؟ أحمق مثل كل زبائني ؟‮«‬
‮ - ‬بالتأكيد‮.‬
‮ - ‬وحماقته،‮ ‬من أي نوع ؟
‮-»‬من أي نوع حماقته‮...«‬،‮ ‬ردد رامون مفكرا،‮ ‬ثم قال‮ ‬،‮ »‬تعرف قاقوليك ؟‮«.‬
درس رامون
حول اللامع والتافه‮ ‬
‮»‬صديقي العجوز قاقوليك،‮ ‬تابع رامون كلامه،‮ ‬أحد كبار‮ ‬العدائين الذي عرفته في لحظة معينة‮. ‬ذات مرة،‮ ‬ذهبت الي سهرة كان،‮ ‬دارديلو وهو،‮ ‬حاضرين بها‮. ‬وبالمصادفة وجدا نفسيهما في نفس الصالة المزدحمة،‮ ‬الي حد أن دارديلو لم‮ ‬يلحظ وجود صديقي‮. ‬كانت هناك نساء جميلات،‮ ‬وكان دارديلو مجنونا بهن‮. ‬كان مستعدا لفعل المستحيل لكي‮ ‬يهتممن به‮. ‬ومن عقله خرجت أشياء كما الألعاب النارية في هذا المساء‮.‬
‮- ‬محرض ؟
‮- ‬بالعكس‮. ‬حتي أن دعاباته دوما أخلاقية،‮ ‬متفائلة،‮ ‬دقيقة،‮ ‬ولكن في نفس الوقت مصاغة جيدا،‮ ‬غامضة،‮ ‬صعبة علي الفهم بحيث تجذب الانتباه من دون تحقيق أي صدي فوري‮. ‬من الضروري انتظار ثلاث أو أربع ثوان قبل أن‮ ‬ينفجر،‮ ‬هو نفسه،‮ ‬ضاحكا،‮ ‬ثم بضع ثوان قبل أن‮ ‬يفهم الآخرون ويجاملونه ضاحكين‮. ‬وهكذا،‮ ‬في اللحظة التي كان الجميع‮ ‬يضحك فيها ــ وأتمني أن تقدر هذا اللطف‮ ! ‬ــيصبح جادا،‮ ‬كأنه لا مبال،‮ ‬ضجر الي حد ما،‮ ‬يتأمل الحاضرين،‮ ‬وهو مبتهج من ضحكهم،‮ ‬في خفية وبخيلاء‮. ‬سلوك قاقوليك عكسه تماما‮. ‬ليس لأنه ظل صامتا‮. ‬حينما‮ ‬يكون بين الناس،‮ ‬يهمهم بلا انقطاع بشئ ما بصوته الضعيف الذي‮ ‬يصفر عن كونه‮ ‬يتكلم،‮ ‬ولكن لا شئ مما‮ ‬يقوله‮ ‬يثير الاهتمام‮«.‬
ضحك شارل
‮»-‬لا تضحك‮. ‬الكلام بدون جذب الانتباه،‮ ‬أمر‮ ‬غير سهل‮ ! ‬أن‮ ‬يكون المرء موجودا بكلامه ومع ذلك‮ ‬يبقي‮ ‬غير مسموع،‮ ‬هذا‮ ‬يتطلب شيئا من البراعة‮ !«‬
‮»- ‬معني هذه البراعة فاتتني‮«.‬
‮»- ‬الصمت‮ ‬يجذب الانتباه‮. ‬يستطيع أن‮ ‬يثير المشاعر‮. ‬أن تكون‮ ‬غامضا‮. ‬أو‮ ‬غامضا نوعا ما‮. ‬هو ما‮ ‬يريد قاقوليك تجنبه‮. ‬كما في هذه السهرة التي أتحدث عنها‮. ‬كانت هناك امرأة جميلة تثير اعجاب دارديلو‮. ‬ومن وقت الي آخر،‮ ‬كان قاقوليك‮ ‬يتوجه اليها بكلمة بسيطة للغاية،‮ ‬غير مهمة،‮ ‬لا قيمة لها،‮ ‬لا تتطلب أي رد ذكي،‮ ‬أي وجود للعقل‮. ‬بعد فترة،‮ ‬لاحظت قاقوليك لم‮ ‬يعد موجودا‮. ‬لقد نبس دارديلو بكلمة من كلماته الجميلة،‮ ‬وتبعها صمت من خمس ثوان،‮ ‬ثم انفجر ضاحكا،‮ ‬وبعد ثلاث ثوان،‮ ‬قلده الآخرون‮. ‬في هذه اللحظة،‮ ‬المكتومة خلف ساتر الضحك،‮ ‬ابتعدت المرأة متجهة نحو المدخل‮. ‬دارديلو،‮ ‬معجبا بما حققته كلماته الطيبة،‮ ‬واصل عروضه الشفهية‮. ‬بعد ذاك،‮ ‬لاحظ أن المرأة‮ ‬غير موجودة‮. ‬ولأنه لا‮ ‬يعرف شيئا عن وجود قاقوليك،‮ ‬لم‮ ‬يستطع تفسير اختفائها‮. ‬لم‮ ‬يفهم شيئا،‮ ‬وحتي اليوم لا‮ ‬يفهم شيئا عن قيمة التافه‮. ‬هي ذي اجابتي عن سؤالك حول نوع حماقة دارديلو‮.‬
‮-‬عدم جدوي أن‮ ‬يكون المرء لامعا،‮ ‬نعم،‮ ‬كما فهمت‮.‬
‮-‬أكثر من عدم الجدوي‮. ‬الأذية‮. ‬حينما‮ ‬يعمل رجل لامع علي اغواء امرأة،‮ ‬تشعر هذه المرأة بأنها في حالة منافسة‮. ‬تشعر برغبتها في اللمعان أيضا‮. ‬لا تمنح نفسها من دون مقاومة‮. ‬بينما‮ ‬يحررها التافه‮. ‬يواجهها بالاحتياطات‮. ‬لا‮ ‬يقتضي أي وجود للعقل‮. ‬يجعلها لا مبالية وسهلة البلوغ‮. ‬ولكن لنغير مجري الكلام‮. ‬مع دارديلو،‮ ‬لا علاقة لك بما هو تافه وانما بالنرسيسي‮. ‬وأنتبه للمعني الدقيق لهذه الكلمة‮ : ‬نرسيسي ليس متعجرفا‮. ‬المتعجرف‮ ‬يحتقر الآخرين‮. ‬يبخس قيمتهم‮. ‬النرسيسي‮ ‬يبالغ‮ ‬في التقدير،‮ ‬لأنه‮ ‬يلاحظ في عيني كل واحد منهم صورته ويريد أن‮ ‬يجاملهم‮. ‬بالتالي،‮ ‬ينشغل برقة بمراياه كلها‮. ‬وما‮ ‬يهمكما أنتما الاثنين‮ : ‬أنه طيب‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬بالنسبة لي أنه نفاق علي وجه الخصوص‮. ‬ولكن هناك شئ ما تغير بيننا‮. ‬تعلمت أنه مريض مرضا عضالا‮. ‬ومنذ هذه اللحظة،‮ ‬أراه بصورة مختلفة‮.‬
‮ -‬مريض؟ بم؟
‮ - ‬سرطان‮. ‬اندهشت من درجة الحزن التي أصابتني‮. ‬ربما‮ ‬يحيا شهوره الأخيرة‮.‬
‮ ‬ثم،‮ ‬لحظة صمت‮ : «‬تأثرت بالطريقة التي حادثني بها‮... ‬مقتضبة للغاية،‮ ‬وكذا محتشمة‮. ‬وفجأة،‮ ‬ربما للمرة الأولي،‮ ‬شعرت نحو هذا الأحمق بشئ من التعاطف‮... ‬تعاطف حقيقي‮.‬
‮ ‬

السبت، 22 نوفمبر 2014

حفلة التفاهة / ميلان كونديرا / pdf

تنويه : لما تجهز الرواية الكترونيا تجدون الرابط في هذا الموقع . نعتذر عن الازعاج . وفي خلال ذلك . لنطالع هذا المقال الجيد عن الرواية .



محمد إسماعيل زاهر

ما الذي يود الكاتب التشيكي ميلان كونديرا قوله في روايته الأخيرة "حفلة التفاهة"؟، خاصة بعد توقفه أربعة عشر عاماً عن الكتابة الروائية، صدرت آخر رواياته "الجهل" في عام ،2000 أن أسئلة من نوعية لماذا توقف كونديرا طوال هذه الفترة؟، وهل كان يفكر في نوعية ومسارات الرواية المنتجة على مستوى العالم؟، وهل كان يبحث عن طرائق جديدة في الأسلوب والتقنيات؟ . .الخ لابد سيطرحها متابع كونديرا، وتكتسب هذه الأسئلة أهمية مضاعفة في ضوء كتابه الصادر منذ عامين بعنوان "لقاء" وفيه يدلي بخبرة الروائي المخضرم بآراء حول العديد من الروائيين ويناقش مستقبل هذا الجنس الأدبي الرائج حالياً بصورة لافتة .

لقد انتهت الرواية العظيمة مع "مئة عام من العزلة" لماركيز، هكذا يصدم كونديرا قارئه في "لقاء"، ويبشره برواية سطحية ستهيمن على مستقبل هذا الفن السردي الصاعد في العالم بأكمله، ففي زمن يكتب فيه الجميع الرواية، وتحقق مبيعاتها الملايين من النسخ وتمنح الجوائز العالمية، لن يكون أمام القارىء الذي يبحث عن الجديد إلا "التفاهة"، هي ظاهرة يدعو كونديرا الجميع للتوقف أمامها ودراستها .

هذا المفصل الأخير مفيد في التعرف إلى الرواية الجديدة والاقتراب من مناخها، تقع "حفلة التفاهة" في حوالي مئة صفحة من القطع الصغير، ويبدو الملل واضحاً على كاتبها، فهي مقسمة إلى فصول قصيرة وإلى عناوين فرعية داخل هذه الفصول، حيث لا يشعر القارئ بأنه على وشك الإمساك بفكرة أو ملمح أو مفردة ما يود مؤلف "البطء" التعبير عنها إلا ويراوغه السارد بالإفلات، هو إحساس بزمن جديد ومغاير يود كونديرا أن ينقلنا إليه، زمن يماهي فيه المؤلف بين عصره الخاص وعصر شخصياته .

شخصيات كونديرا في روايته الأخيرة لا تتأمل ذواتها أو العالم من حولها أو حتى الآخرين، شخصيات أقرب إلى الصور، تتحدث فيما لا يفيد وأحيانا بعبثية وكثيرا بسخرية، تضحكنا و تمتعنا وتجعلنا نتوقف لنطرح أسئلة مختلفة، شخصيات تستعيد في فنتازيا عابرة ستالين، ذلك الزعيم الذي حكى في أحد الاجتماعات مع قادة السوفييت أنه حمل بندقيته وذهب ليصطاد أربعة وعشرين من طيور الحجل، ولم يكن معه إلا اثنتا عشرة طلقة، وبعد أن فرغت ذخيرته وأتم مهمته انتظرته بقية الطيور حتى يذهب ليذخر بندقيته ويعود لاصطيادها مرة أخرى، لم يضحك القادة وكتموا غيظهم ولعنوا ستالين في دورة المياة، لم يدركوا أن الزعيم يمزح، ربما المزاح في عرف كونديرا هو العلاج الناجع للكثير من الأوجاع وعلى رأسها الاستبداد، حيث يظهر ستالين مرة أخرى في نهاية الرواية في زمننا الراهن في حديقة لوكسمبورغ في باريس ببندقيته القديمة وزيه الرث الذي ارتداه بعد أن يأس من جدية القادة السوفييت، ليحطم بإحدى طلقاته أنف ماري دوميديسي ملكة فرنسا الشهيرة .

هل كان ستالين يمزح بالفعل؟، في الواقع أو الحكاية المتخيلة أو في ظهوره الفانتازي في عصرنا، أو بمعنى ما هل تخلى كونديرا عن أفكاره المعروفة أو عدل منها خلال الأربعة عشر عاما الماضية؟، فتلك الشيوعية التي حاولت التعامل مع البشر من منطق الكل في واحد كما يحاور ستالين قادته في إحدى مشاهد الرواية، لم تتجاوزها الرأسمالية ودولة الرفاة و الفردانية وكل تلك الادعاءات التي أعقبت الشيوعية، فنحن نعيش ووفق تحليلات اجتماعية وجمالية وبيولوجية يناوشنا بها صاحب كتاب " الضحك والنسيان" طوال عمله الجديد في عصر البشر المستنسخين والذين يسلكون استهلاكيا بالطريقة نفسها ويبصرون العالم من زاوية النظر ذاتها، يرددون الأفكار المعلبة كما هي من دون فرز، فنحن مقبلون على زمن لا تجيد فيه تكون الوجوه والمشاعر والأفكار إلا التكرار، وفي إشارة دالة تسأل إحدى الشخصيات: "هل لا يزال يوجد شعراء؟"، سؤال عابر يتركه لنا مبدع "الخلود" لنتأمل مآلات الثقافة واللغة وقدرة الشعر على التفرد في مواجهة ذلك السيل من السرديات التي تصدر يوميا وربما لا تحكي إلا التفاهات .

لم يكن ظهور ستالين في نهاية الرواية إلا مزحة لرثاء قرن بأكمله درج البعض على التمييز بين إيديولوجياته بصرامة وسعى كونديرا إلى إضحاكنا عليها، ودرج آخرون على وصفه بقرن العنف أو حقوق الإنسان ، فالإيديولوجية نفسها لم تكن إلا مزحة، ونحن في مرحلة ما بعد الإيديولوجيات و "عصر ما بعد الفكاهات" .

أما مؤلف "كائن لا تحتمل خفته" فلا يجد أفضل من التفاهة الكامنة في قلب الجدية المفتعلة لتكون علامة على القرن العشرين وربما الحادي والعشرين، تلك التفاهة التي يتحدث عنها بطل كونديرا بوصفها القيمة الأبرز في عصرنا " التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود"، التفاهة التي تجعلنا نتأكد من عجزنا حتى عن الحلم بتغيير العالم "أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام"، التفاهة المتوارية خلف سؤال استنكاري عن وجود الشعراء .

لن يجد قارىء "حفلة التفاهة" أي جديد على مستوى التوجهات والروح العامة لأدب كونديرا، فالحياة ما زالت وفق الكاتب التشيكي الأشهر تمتلىء بالمفارقات، تلك المفارقات الفردية أو حتى الناتجة عن تفاهة طبقة أو جماعة، يضمهم كونديرا في حفلة لنستمع من خلال حواراتهم ونرى عبر تصرفاتهم المداهنة والتصنع، فهذا يدعي الحب، وذاك فرنسي يمثل دور الخادم الباكستاني الذي لا يعرف الفرنسية ليوقع في شباكه خادمة برتغالية تعاني بدورها غربة مفرطة، وثالث يكذب مدعيا المرض، والمؤلف الذي يتدخل معلقا بصوته أحيانا . .الخ .

وهناك أيضا الحس الوجودي الكلاسيكي المستعاد من زمن سارتر وكامو وبيكيت يحيط بنا من جهات السرد كافة، و المتمثل في مشاعر الوحدة "الكائن الإنساني ليس إلا شعوراً بالوحدة"، والفشل في العلاقات الحميمية، فأحد الشخصيات يكره أمه لأنها جاءت به إلى هذا العالم "بدا لي دوما أنه من المرعب إرسال شخص إلى هذا العالم دون أن يطلب ذلك"، يخاطب صورتها كل يوم بلوم وعتاب، يتصورها في مشهد تخيلي قاتلة، لا يسامحها إلا بعد أن تعتذر منه في مشهد تخيلي آخر . . . ثيمات لا يحتاج هذا القارئ إلى أن يبذل أي مجهود لكي يعثر عليها، ولكنها مصاغة أيضا بروح مرحة ربما تدفعنا للسخرية أو التفكير والأهم تثير شهيتنا للضحك، ذلك الفعل الذي افتتح به سيرفانتس الرواية الحديثة وأراد كونديرا أن يترجمه إبداعيا بعد أربعة عشر عاماً من التوقف عن الكتابة الروائية، تخللها إعلانه أن الرواية الراهنة ليست على ما يرام .