الأحد، 23 نوفمبر 2014

حفلة التفاهة / فصول من الرواية


حفلة التفاهة /فصول 



آلان‮ ‬يتأمل السرة‮ ‬...

كنا في شهر‮ ‬يونيو،‮ ‬وشمس الصباح تتبدي من بين‮ ‬السحب وآلان‮ ‬يمضي ببطء في أحد الشوارع الباريسية‮. ‬يتطلع إلي الفتيات،‮ ‬اللائي ــ جميعهن ــ‮ ‬يبينّ‮ ‬سرتهن العارية بين البناطيل ذات الأحزمة والقمصان النسائية القصيرة للغاية‮. ‬كان مفتونا،‮ ‬ومضطربا‮: ‬كأن قوة الإغراء لا تتركز في الأفخاذ،‮ ‬ولا في المؤخرات،‮ ‬ولا في النهود،‮ ‬وإنما في هذا الثقب الصغير الكائن في وسط الجسد‮.‬
وهذا حرضه علي التفكير‮: ‬إذا رأي رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬إلي مركز الإغراء‮ ‬النسوي في الأفخاذ،‮ ‬كيف‮ ‬يتم وصف وتعريف خصوصية هذا التوجه الايروتيكي؟ ارتجل إجابة‮: ‬طول الأفخاذ الصورة المجازية للطريق،‮ ‬الطويلة والفاتنة‮ (‬ولهذا من الضروري أن تكون الأفخاذ طويلة‮)‬،‮ ‬التي تفضي الي الكمال الايروتيكي،‮ ‬في الواقع،‮ ‬كما قال آلان في نفسه،‮ ‬تفضي الي الجماع،‮ ‬اذ أن طول الفخذين‮ ‬يمنح المرأة‮ ‬سحرا رومانتيكيا‮ . ‬
اذا رأي رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬مركز الاغراء النسوي في المؤخرات،‮ ‬كيف‮ ‬يتم وصف وتعريف خصوصية هذا التوجه الايروتيكي ؟ ارتجل اجابة‮ : ‬وحشية،‮ ‬بهجة،‮ ‬الطريق الأقصر نحو الهدف،‮ ‬هدف بالأحري مثير بما أنه مزدوج‮.‬
اذا رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬الي مركز الاغراء النسوي في النهود،‮ ‬كيف‮ ‬يتم وصف وتعريف خصوصية هذا التوجه الايروتيكي ؟ ارتجل اجابة‮ : ‬تقديس المرأة،‮ ‬العذراء ترضع اليسوع،‮ ‬العضو الذكري‮ ‬يجثو أمام نبالة رسالة العضو النسوي‮. ‬
ولكن كيف‮ ‬يتم تعريف ايروتيكية رجل‮ (‬أو عصر‮) ‬يري‮ ‬أن مركز الاغراء النسوي الكائن في وسط الجسد،‮ ‬في السرة ؟
رامون‮ ‬يتنزه
في حديقة لوكسمبرغ‮ ‬
في نفس اللحظة تقريبا التي كان آلان‮ ‬يفكر‮ ‬في‮ ‬مختلف أصول الاغراء النسوي،‮ ‬ألفي رامون نفسه أمام متحف‮ ‬يقع بالقرب من حديقة لوكسمبرغ،‮ ‬حيثما تعرض لوحات شاغال،‮ ‬منذ شهر‮. ‬يريد أن‮ ‬يراها،‮ ‬بيد أنه‮ ‬يعرف مقدما أنه لا‮ ‬يجد في نفسه القوة لكي‮ ‬يتحول طواعية الي شئ من هذا الطابور الطويل الذي‮ ‬يزحف متمهلا نحو شباك التذاكر‮. ‬يراقب الناس التي شل السأم وجوهها،‮ ‬يتخيل الصالات التي تحجب أجسادهم وثرثراتهم الخفيفة اللوحات،‮ ‬قبل أن‮ ‬يشيح بوجهه ويسلك طريقا نحو الحديقة،‮ ‬في أقل من دقيقة‮.‬
هناك،‮ ‬المناخ لطيف،‮ ‬الجنس البشري‮ ‬يتبدي أقل وأكثر حرية‮ : ‬كان هناك من‮ ‬يركض،‮ ‬ليس لأنهم متعجلون وانما لأنهم‮ ‬يحبون الركض،‮ ‬هناك من‮ ‬يتنزه ويتناولون الجيلاتي،‮ ‬وعلي الأعشاب‮ ‬يقوم مريدو مدرسة آسيوية بحركات‮ ‬غريبة وبطيئة،‮ ‬بعيدا،‮ ‬في حلقة كبيرة،‮ ‬كان هناك تماثيل بيضاء كبيرة لملكات ونبيلات فرنسيات وبعيدا،‮ ‬علي الأعشاب وسط الأشجار،‮ ‬في جميع اتجاهات الحديقة،‮ ‬تماثيل لشعراء،‮ ‬رسامين،‮ ‬علماء‮. ‬يتوقف أمام مراهق برونزي،‮ ‬جذاب،‮ ‬عار تحت سرواله القصير،‮ ‬يعرض عليه أقنعة لبلزاك،‮ ‬برليوز،‮ ‬هوغو،‮ ‬دوما‮. ‬لا‮ ‬يستطيع رامون أن‮ ‬يمنع بسمة علي شفتيه وتابع تسكعه في هذه الحديقة،‮ ‬حديقة العباقرة،‮ ‬المتواضعين،‮ ‬المحاطين بلا مبالاة المتنزهين اللطيفة،‮ ‬مما‮ ‬يشعرهم بحريتهم حتما،‮ ‬لا‮ ‬يتوقف أحد لكي‮ ‬يراقب وجوههم أو‮ ‬يقرأ النقوش المحفورة علي القواعد‮. ‬هذه اللا مبالاة،‮ ‬تنفسها رامون كسكينة تواسيه‮. ‬
لا وجود للسرطان
في نفس اللحظة التي عدل رامون فيها عن الذهاب الي‮ ‬معرض شاغال واختار التسكع في الحديقة،‮ ‬ارتقي دارديلو الدرج المفضي الي عيادة طبيبه‮. ‬هذا اليوم،‮ ‬ثلاثة أسابيع بالضبط قبل عيد ميلاده‮. ‬قبل سنوات عديدة،‮ ‬بدأ‮ ‬يكره أعياد الميلاد‮. ‬بسبب الأرقام التي تلتصق بها‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬لا‮ ‬يصل الي التفاخر بها،‮ ‬اذ أن بهجة الاحتفال تستدعي اليه خجل الشيخوخة‮. ‬لأن‮ ‬يجب عليه اليوم أن‮ ‬يعرف نتائج جميع الاختبارات التي تقول له اذا كانت الأعراض المشكوك فيها المكتشفة في جسده سرطانية أو لا‮. ‬دخل الي صالة الانتظار وردد في نفسه،‮ ‬بصوت مرتجف،‮ ‬أنه سوف‮ ‬يحتفل بعيد ميلاده البعيد نوعا ما وموته القريب نوعا ما في آن واحد،‮ ‬أنه سوف‮ ‬يحتفل بحفلين‮.‬
‮ ‬غير أنه حينما رأي وجه الطبيب المبتسم،‮ ‬فهم أن الموت ألغي‮. ‬ضم الطبيب‮ ‬يده بأخوية‮. ‬الدموع في العينين،‮ ‬لم‮ ‬يستطع دارديلو أن‮ ‬يتكلم‮.‬
‮ ‬تقع عيادة الطبيب في شارع الأوبزرفاتوار،‮ ‬علي بعد مائتي متر من حديقة لوكسمبرغ‮. ‬وبما أن دارديلو‮ ‬يسكن في شارع صغير في الناحية الأخري من الحديقة،‮ ‬كان عليه أن‮ ‬يجتازها‮. ‬كانت النزهة تجعل مزاجه رائقا الي حد ما،‮ ‬وبالأخص حينما‮ ‬يحاذي حلقة تماثيل ملكات فرنسا،‮ ‬المنحوتة بالرخام الأبيض،‮ ‬تماثيل كاملة،‮ ‬في وقفات احتفالية تبدت له طريفة،‮ ‬ان لم تكن منتشية،‮ ‬كأن هذه السيدات مبتهجات بالأخبار الجديدة التي تلقتها‮. ‬لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يسيطر علي نفسه،‮ ‬يحييهن مرتين أو ثلاثا بيده المرفوعة ويتفجر ضاحكا‮.‬
الجاذبية السرية لمرض عضال‮ ‬
علي بعد خطوات من هنا،‮ ‬قرب السيدات المنحوتات من‮ ‬المرمر،‮ ‬التقي رامون بدارديلو الذي كان زميلا له،‮ ‬خلال العام الفائت،‮ ‬بمؤسسة لا‮ ‬يثير اسمها اهتمامنا‮. ‬توقف كل منهما قبالة الآخر،‮ ‬وبعد التحية المعتادة،‮ ‬بدأ دارديلو،‮ ‬بصوت مستثار بغرابة،‮ ‬يحكي‮ :‬
‮»‬صديقي،‮ ‬تعرف لا فرانك ؟ قبل‮ ‬يومين،‮ ‬مات حبيبها‮«‬
توقف لبرهة وفي ذاكرة رامون تبدي وجه المرأة الجميلة المشهورة التي لا‮ ‬يعرفها الا عبر الصور‮. ‬
‮»‬احتضار مؤلم للغاية،‮ ‬تابع دارديلو‮. ‬عاشت معه كل شئ‮. ‬كم عانت‮ !«‬
‮ ‬مفتونا،‮ ‬بدأ رامون‮ ‬ينظر الي الوجه المرح وهو‮ ‬يحكي له قصة محزنة‮.‬
‮ «‬تخيل أنها في مساء اليوم الذي توفي فيه بين ذراعيها،‮ ‬كانت تتناول العشاء معي وبعض الأصدقاء،‮ ‬لن تصدق،‮ ‬كانت مرحة نوعا ما‮ ! ‬أنا معجب بها‮ !‬هذه القوة‮ ! ‬هذا الحب للحياة‮ ! ‬كانت تضحك،‮ ‬ولم تزل العينان حمراوين من البكاء‮ !‬ومع ذلك،‮ ‬نعرف كم أحبته‮ ! ‬كم عانت هذه المرأة قوية‮ !‬
بالضبط مثلما جري قبل ربع ساعة لدي الطبيب،‮ ‬كانت الدموع تتلألأ في عيني دارديلو‮. ‬لأنه كان‮ ‬يفكر في نفسه،‮ ‬وقتما كانا‮ ‬يتحدثان عن قوة لا فرانك المعنوية‮. ‬ألم‮ ‬يعش هو الآخر شهرا بطوله في حضرة الموت؟ أ لم تكن قوة شخصيته خاضعة لتجربة قاسية ؟ حتي أصبحت ذكري سهلة،‮ ‬ظل السرطان معه كنور مصباح صغير‮ ‬يثير الدهشة خفية‮. ‬ولكنه توصل الي كبح مشاعره وتكلم بنبرة عادية‮ : «‬في الوقت المناسب،‮ ‬ان لم أخطئ،‮ ‬تعرف أحد ما‮ ‬يستطيع تنظيم حفل كوكتيل والاهتمام بالطعام وكل شئ‮».‬
‮-‬في الواقع،‮ ‬قال رامون‮.‬
ودارديلو‮ : «‬سوف أقوم بتجهيز حفل بسيط لعيد ميلادي‮.‬
بعد الكلام المثير حول الشهيرة لا فرانكا،‮ ‬مكنت النبرة الخفيفة للجملة رامون من الابتسام‮ :»‬أري أن حياتك سعيدة‮«.‬
بفضول،‮ ‬لم تنل هذه الجملة اعجاب دارديلو‮. ‬كأن هذه النبرة الخفيفة للغاية تمحي الجمال الغريب لمزاجه الموسوم سحريا بتفخيم الموت الذي لم تكف ذكراه عن ملازمته‮ : «‬نعم،‮ ‬قال،‮ ‬كل شئ علي ما‮ ‬يرام‮» ‬وبعد لحظة صمت،‮ ‬أضاف‮ : »... ‬حتي اذا‮...«.‬
ثم صمت ثانية،‮ ‬وقال‮ : «‬تعرف،‮ ‬قدمت لتوي من عند طبيبي‮».‬
أعجبه الارتباك الذي تبدي علي وجه محادثه،‮ ‬يطيل من أمد الصمت،‮ ‬الي حد أن رامون لم‮ ‬يجد أمامه سوي سؤاله‮ : »‬وماذا بعد ؟ هل هناك مشكلة؟‮«‬
‮-‬كانت هناك مشكلة‮. ‬
من جديد صمت دارديلو،‮ ‬ومن جديد لم‮ ‬يجد رامون

أمامه سوي سؤاله‮ : »‬ما الذي قاله الطبيب ؟‮«.‬
وقتئذ نظر دارديلو،‮ ‬في عيني رامون،‮ ‬الي وجهه
الحقيقي كما في المرآة‮ : ‬وجه رجل عجوز،‮ ‬ولكن وسيم دوما،‮ ‬موسوم بشئ من الحزن الذي جعله حتي هذه اللحظة جذابا،‮ ‬قال في نفسه أن هذا الرجل الوسيم الحزين سوف‮ ‬يحتفل بعيد ميلاده وأن الفكرة التي داعبته قبل زيارته للطبيب تنبجس في رأسه،‮ ‬فكرة فاتنة عن حفل مزدوج‮ ‬يحتفي بالميلاد والموت في آن واحد‮. ‬تابع النظر في عيني رامون،‮ ‬ثم قال بصوت هادئ وناعم للغاية‮ : »‬سرطان‮...«.‬
تمتم رامون بشئ ما،‮ ‬ولمس بيده،‮ ‬برعونة وأخوية،‮ ‬ذراع دارديلو‮ : »‬ولكن عليك بمراعاة صحتك‮...«.‬
‮-‬تأخر الوقت،‮ ‬ولكن أنس ما قلته لك،‮ ‬لا تتحدث عنه الي أحد،‮ ‬وفكر بالأحري في حفل كوكتيلي‮. ‬من اللازم العيش‮ !»‬،‮ ‬قال دارديلو،‮ ‬وقبل أن‮ ‬يواصل طريقه،‮ ‬رفع‮ ‬يده بالتحية،‮ ‬وكان لهذه الحركة الرزينة،‮ ‬شبه الخجول،‮ ‬سحرا مفاجئا هيج مشاعر رامون‮. ‬
كذبة‮ ‬غامضة،‮ ‬ضحكة‮ ‬غامضة
أنتهي لقاء هذين الزميلين بهذه الحركة الجميلة‮. ‬ولكنني لا أستطيع تحاشي سؤال‮ : ‬لماذا كذب دارديلو ؟
هذا السؤال طرحه دارديلو نفسه بعد ذاك ولم‮ ‬يجد له اجابة‮. ‬لا،‮ ‬لم‮ ‬يخجل من الكذب‮. ‬ما حيره،‮ ‬عدم القدرة علي فهم سبب هذه الكذبة‮. ‬من الطبيعي،‮ ‬اذا كذب المرء فهذا لكي‮ ‬يخدع شخصا ما وجني مكسب معين‮. ‬ولكن ماذا‮ ‬يربح من كذبة السرطان ؟ بفضول،‮ ‬مرورا بلا معني كذبته،‮ ‬لم‮ ‬يمنع نفسه من الضحك‮. ‬وهذه الضحكة،‮ ‬هي الأخري،‮ ‬كانت‮ ‬غير مفهومة‮. ‬لماذا ضحك ؟ هل وجد سلوكه الهزلي ؟ لا‮. ‬علاوة علي ذلك،‮ ‬لم‮ ‬يكن حس الهزل قوته‮. ‬ببساطة،‮ ‬كل شئ،‮ ‬من دون معرفة السبب،‮ ‬سرطانه الخيالي‮ ‬يفرحه‮. ‬واصل طريقه وتابع ضحكه‮. ‬يضحك ويستلذ بمزاجه الرائق‮.‬
رامون في زيارة لشارل
بعد ساعة من لقائه لدارديلو،‮ ‬كان رامون لدي شارل‮. ‬‮»‬أحمل لك دعوة الي حفل كوكتيل علي سبيل الهدية،‮ ‬قال‮«.‬
‮- ‬أحسنت‮ ! ‬نحن في حاجة اليه هذا العام،‮ ‬قال شارل الذي دعا صديقه الي الجلوس أمام طاولة واطئة،‮ ‬في مواجهته‮.‬
‮- ‬هدية لك‮. ‬ولكاليبان‮. ‬فضلا عن ذلك،‮ ‬أين هو ؟
‮- ‬أين‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون ؟ في البيت،‮ ‬لدي امرأته‮.‬
‮- ‬ولكن أتمني أن‮ ‬يكون موجودا لديك في حفلات الكوكتيل‮.‬
‮- ‬بالتأكيد‮. ‬المسارح تسخر كثيرا منه‮»‬
لاحظ رامون كتابا سميكا نوعا ما علي الطاولة‮. ‬أنحني ولم‮ ‬يستطع اخفاء دهشته‮ : «‬ذكريات‮» ‬لنيكيتا خروشتشيف‮. ‬لماذا ؟
‮- ‬أنه مديرنا الذي منحه لي‮.‬
‮- ‬وما الذي وجده مديرنا مثيرا فيه ؟
‮- ‬سطر لي بعض الفقرات‮. ‬ما قرأته كان مسليا‮.‬
‮- ‬مسل؟
‮- ‬قصة أربعة وعشرين طيرا من الحجل‮.‬
‮- ‬ماذا ؟
‮- ‬قصة أربعة وعشرين طيرا من الحجل‮. ‬أ لا تعرفها ؟ ومع ذلك،‮ ‬من هنا بدأ التغير الكبير في العالم‮ !‬
‮- ‬التغير الكبير في العالم ؟ فقط ؟
‮- ‬فقط‮. ‬ولكن قل لي،‮ ‬أي شراب كوكتيل ؟
شرح رامون وسأل شارل‮ : »‬ومن هو دارديلو ؟ أحمق مثل كل زبائني ؟‮«‬
‮ - ‬بالتأكيد‮.‬
‮ - ‬وحماقته،‮ ‬من أي نوع ؟
‮-»‬من أي نوع حماقته‮...«‬،‮ ‬ردد رامون مفكرا،‮ ‬ثم قال‮ ‬،‮ »‬تعرف قاقوليك ؟‮«.‬
درس رامون
حول اللامع والتافه‮ ‬
‮»‬صديقي العجوز قاقوليك،‮ ‬تابع رامون كلامه،‮ ‬أحد كبار‮ ‬العدائين الذي عرفته في لحظة معينة‮. ‬ذات مرة،‮ ‬ذهبت الي سهرة كان،‮ ‬دارديلو وهو،‮ ‬حاضرين بها‮. ‬وبالمصادفة وجدا نفسيهما في نفس الصالة المزدحمة،‮ ‬الي حد أن دارديلو لم‮ ‬يلحظ وجود صديقي‮. ‬كانت هناك نساء جميلات،‮ ‬وكان دارديلو مجنونا بهن‮. ‬كان مستعدا لفعل المستحيل لكي‮ ‬يهتممن به‮. ‬ومن عقله خرجت أشياء كما الألعاب النارية في هذا المساء‮.‬
‮- ‬محرض ؟
‮- ‬بالعكس‮. ‬حتي أن دعاباته دوما أخلاقية،‮ ‬متفائلة،‮ ‬دقيقة،‮ ‬ولكن في نفس الوقت مصاغة جيدا،‮ ‬غامضة،‮ ‬صعبة علي الفهم بحيث تجذب الانتباه من دون تحقيق أي صدي فوري‮. ‬من الضروري انتظار ثلاث أو أربع ثوان قبل أن‮ ‬ينفجر،‮ ‬هو نفسه،‮ ‬ضاحكا،‮ ‬ثم بضع ثوان قبل أن‮ ‬يفهم الآخرون ويجاملونه ضاحكين‮. ‬وهكذا،‮ ‬في اللحظة التي كان الجميع‮ ‬يضحك فيها ــ وأتمني أن تقدر هذا اللطف‮ ! ‬ــيصبح جادا،‮ ‬كأنه لا مبال،‮ ‬ضجر الي حد ما،‮ ‬يتأمل الحاضرين،‮ ‬وهو مبتهج من ضحكهم،‮ ‬في خفية وبخيلاء‮. ‬سلوك قاقوليك عكسه تماما‮. ‬ليس لأنه ظل صامتا‮. ‬حينما‮ ‬يكون بين الناس،‮ ‬يهمهم بلا انقطاع بشئ ما بصوته الضعيف الذي‮ ‬يصفر عن كونه‮ ‬يتكلم،‮ ‬ولكن لا شئ مما‮ ‬يقوله‮ ‬يثير الاهتمام‮«.‬
ضحك شارل
‮»-‬لا تضحك‮. ‬الكلام بدون جذب الانتباه،‮ ‬أمر‮ ‬غير سهل‮ ! ‬أن‮ ‬يكون المرء موجودا بكلامه ومع ذلك‮ ‬يبقي‮ ‬غير مسموع،‮ ‬هذا‮ ‬يتطلب شيئا من البراعة‮ !«‬
‮»- ‬معني هذه البراعة فاتتني‮«.‬
‮»- ‬الصمت‮ ‬يجذب الانتباه‮. ‬يستطيع أن‮ ‬يثير المشاعر‮. ‬أن تكون‮ ‬غامضا‮. ‬أو‮ ‬غامضا نوعا ما‮. ‬هو ما‮ ‬يريد قاقوليك تجنبه‮. ‬كما في هذه السهرة التي أتحدث عنها‮. ‬كانت هناك امرأة جميلة تثير اعجاب دارديلو‮. ‬ومن وقت الي آخر،‮ ‬كان قاقوليك‮ ‬يتوجه اليها بكلمة بسيطة للغاية،‮ ‬غير مهمة،‮ ‬لا قيمة لها،‮ ‬لا تتطلب أي رد ذكي،‮ ‬أي وجود للعقل‮. ‬بعد فترة،‮ ‬لاحظت قاقوليك لم‮ ‬يعد موجودا‮. ‬لقد نبس دارديلو بكلمة من كلماته الجميلة،‮ ‬وتبعها صمت من خمس ثوان،‮ ‬ثم انفجر ضاحكا،‮ ‬وبعد ثلاث ثوان،‮ ‬قلده الآخرون‮. ‬في هذه اللحظة،‮ ‬المكتومة خلف ساتر الضحك،‮ ‬ابتعدت المرأة متجهة نحو المدخل‮. ‬دارديلو،‮ ‬معجبا بما حققته كلماته الطيبة،‮ ‬واصل عروضه الشفهية‮. ‬بعد ذاك،‮ ‬لاحظ أن المرأة‮ ‬غير موجودة‮. ‬ولأنه لا‮ ‬يعرف شيئا عن وجود قاقوليك،‮ ‬لم‮ ‬يستطع تفسير اختفائها‮. ‬لم‮ ‬يفهم شيئا،‮ ‬وحتي اليوم لا‮ ‬يفهم شيئا عن قيمة التافه‮. ‬هي ذي اجابتي عن سؤالك حول نوع حماقة دارديلو‮.‬
‮-‬عدم جدوي أن‮ ‬يكون المرء لامعا،‮ ‬نعم،‮ ‬كما فهمت‮.‬
‮-‬أكثر من عدم الجدوي‮. ‬الأذية‮. ‬حينما‮ ‬يعمل رجل لامع علي اغواء امرأة،‮ ‬تشعر هذه المرأة بأنها في حالة منافسة‮. ‬تشعر برغبتها في اللمعان أيضا‮. ‬لا تمنح نفسها من دون مقاومة‮. ‬بينما‮ ‬يحررها التافه‮. ‬يواجهها بالاحتياطات‮. ‬لا‮ ‬يقتضي أي وجود للعقل‮. ‬يجعلها لا مبالية وسهلة البلوغ‮. ‬ولكن لنغير مجري الكلام‮. ‬مع دارديلو،‮ ‬لا علاقة لك بما هو تافه وانما بالنرسيسي‮. ‬وأنتبه للمعني الدقيق لهذه الكلمة‮ : ‬نرسيسي ليس متعجرفا‮. ‬المتعجرف‮ ‬يحتقر الآخرين‮. ‬يبخس قيمتهم‮. ‬النرسيسي‮ ‬يبالغ‮ ‬في التقدير،‮ ‬لأنه‮ ‬يلاحظ في عيني كل واحد منهم صورته ويريد أن‮ ‬يجاملهم‮. ‬بالتالي،‮ ‬ينشغل برقة بمراياه كلها‮. ‬وما‮ ‬يهمكما أنتما الاثنين‮ : ‬أنه طيب‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬بالنسبة لي أنه نفاق علي وجه الخصوص‮. ‬ولكن هناك شئ ما تغير بيننا‮. ‬تعلمت أنه مريض مرضا عضالا‮. ‬ومنذ هذه اللحظة،‮ ‬أراه بصورة مختلفة‮.‬
‮ -‬مريض؟ بم؟
‮ - ‬سرطان‮. ‬اندهشت من درجة الحزن التي أصابتني‮. ‬ربما‮ ‬يحيا شهوره الأخيرة‮.‬
‮ ‬ثم،‮ ‬لحظة صمت‮ : «‬تأثرت بالطريقة التي حادثني بها‮... ‬مقتضبة للغاية،‮ ‬وكذا محتشمة‮. ‬وفجأة،‮ ‬ربما للمرة الأولي،‮ ‬شعرت نحو هذا الأحمق بشئ من التعاطف‮... ‬تعاطف حقيقي‮.‬
‮ ‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق