‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات نقدية. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 17 أكتوبر 2014

قراءة في رواية الطريق الى الملح للمبدع عبد الكريم العامري/ نقوس المهدي


مدخل لا بد منه

 نقوس المهدي

تولد رواية ” الطريق الى الملح” للأديب عبد الكريم العامري في النفس العديد من التداعيات الاليمة، وتحرك في اعماق النفس الكثير من الذكريات الدفينة.. هكذ ا وجدتني مشدودا بحبل سري بابطالها كانهم احبابي واهلي.. الحب نفسه الذي اختزنته لسنوات متتالية لكاتبها عبد الكريم العامري. ولصديقي مضر حمد السعيد الفتى البغدادي والشاعر الطموح الذي افتقدته في أتون حرب الخليج الاولى.. لا هو من بين اسماء قوائم الشهداء ولا من عداد المفقودين.. ابتلعته الارض الى يومنا هذا.. والذي تعرفت من خلاله على روايات الحرب لــ ” إيريك ماريا ريماك”.. وادب الواقعية الاشتراكية عند مكسيم غوركي وخورخي أمادو ، وتنظيرات انطونيو غرامشي .. وقرات عن طريقه اشعار حسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف.. وعرفني على تاريخ النضال الجماهيري في الخليج.. والمعارك العقائدية والفكرية المحتدمة بين صفوف الطلبة العراقيين.. والاغتيالات والاختطافات التي تطال المناضلين.. وقصيدته الحزينة “شهادة عن مناضل اغتيل ذات مساء عند مدخل البار العتيق” .. واوراقه التي بعثها الي من ساحة المعركة ووسمها باوراق صفراء من زمن الحرب تحدث من خلالها عن ملابسات يومياته في الميدان ومعاناته وآماله العريضة الواسعة المتدفقة الرقراقة التي التهمتها الحرب اللعينة.. وتاريخ الحزب الشيوعي و”الرفيق فهد” وجريدة “الطريق” التي نشرت بها بعض الخربشات المبكرة.. وسلكت بعدها الطريق الشاق لــــ ” أحمد الصالح ” في سبيل البحث عنهما فلم اعثر لصديقي مضر على اثر.. فيما دلني على صديقي الآخر من غرناطة المبدع محسن الرملي..


قراءة في العتبة


العنوان مفتاح تاويل النص.. هكذا يحيلنا عنوان الرواية المكون من جملة اسمية على الطريق وركوب الاهوال وتكبد المشاق من اجل البحث عن الزمن الضائع.. اي على الرحلة.. ذلك ان الرحلة كتابة في المدى، والكتابة رحلة على الورق. اذ “يخيل إلي أن كل كتابة رحلة في الزمان والمكان ( الفضاء). وقبل كل شيء هي رحلة في المساحة اللامتناهية لجغرافية الكلمات” بحد تعبير الناشر الفرنسي الشهير فرانسوا ماسبيرو. ومن جانب اخر على الملح حيث هناك شخص تقاسم معه الراوي الخيز والملح كما نقول في المتخيل الشعبي.. وهو بوابة تتدفق عبرها بشكل لامتناهي جملة من المتتاليات التي تتولد في رحم الغيب.. وتحيلنا على عالم روائي مؤثت بالاحتمال والتوجس والمفاجاة والشوق والحنين المعشش في الحنايا والذكريات الحارقة والتاريخ الضمني لشخوص ينبضون املا ورقة وبساطة.. الأم رمز الارض، والجد رمز التاريخ العريق، ومعتوق الحداد الذي يحيل اسمه على العتق والتحرير، ونازك التي يرمز اسمها الى الرمح انظر لسان العرب ص 498، وما جاء في الحديث ” ان عيسى يقتل الدجال بالنيزك “.. وكل هذه المؤشرات الايقونية تكتسب دلالات تعج بالارادة والاصرار على تحرير مدينة الصبا ومرتع الشباب…. وترمز في نفس الآن للحياة والأمل والإستمرارية.. وتحاول التأريخ بهذه المعطيات لثالوث الانسان والمكان والزمان عبر أوبة الراوي بعد زمن طويل من الغياب القسري الى كنف مدينته المحررة العابقة بجمال مدبنة ” الفــــــاو “. والتي عمدتها دماء 52848 شهيد عدا العديد من الاسرى والمفقودين والمعطوبين .. وهذه احصاءات رسمية تختفي وراءه اكمتها الوجه الحقيقي والسافر للانظمة السنبدة.. والصورة البشعة للحروب، وما تجره من ويلات ومآسي من ترميل النساء وتشريد الاطفال وتشتيت العوائل، وتكبيد البلد العديد من الخسائر الاقتصادية والسياسية الفادحة .. على هذه الصورة تبتدئ الرواية وتبدو المدينة بعد ان يعود اليها البطل وهي محررة من المحتل وفي زمن ” بدأت الارض تخضر… والاشجار تستعيد عافيتها” ص 9.. بعد ان دمرت وحطمت الحرب كل شئ فيها، واقتلعت رؤوس النخيل… وعبر الاستعانة بالتذكر والاسترجاع ” الفلاش باك” يلملم الراوي شتات ذاكرة منهكة وضبابية لرصد حياة “احمد الصالح”، وايام الصبا والشيطنة والعفرتة والجنون والحب والعبقرية والجندية .. مسلطا كاميرته على تحولات المكان وهواجس البطل وجزئيات حياته الشبه الشطارية .. ذكريات جارحة تسربت عبر نافذة السيارة محمولة على هودج الريح الشرقية الملتهبة والحارقة دافعة الراوي الى هوة الماضي السحيقة ص11.. وركوب قطار الذكريات واستحضار سيرة مدينة عزيزة في سبيل البحث عن احمد الصالح مسلحا بالامل والرغبة الاكيدة وصورة الصاحب ومفتاح صندوق الذكريات الجميلة والعديد من الاشارات و المؤشرات الدقيقة.. ذلك لان مصير الرواية اية رواية هو بحث في بعض التفاصيل الصغيرة لنستدل عن طريقها على ما هو اهم.. ذلك أن “ميخائيل باختين” يعتبر الرواية جنينا، لم يكتمل بعد، كجنس أدبي قائم بذاته؟ طبعا ليس بالمعنى التصغيري أو التحقيري؟ على العكس من (الفن الْملحمي) …


المكان في الطريق الى الملح


“بإمكان كاتب أن يُهدي مدينةً شُهرةً عالميّة من خلال كتاب” هكذا تقول احلام مستغانمي .. وفي اقصى الحالات الإجرائية تتحول العديد من الامكنة الروائية في وجداننا الى اماكن حميمية، و الكثير من الشخوص الى اصدقاء ملحميين حميمين من حيث لا نعلم و لا نحتسب كانما تربطنا بهم صلة قرابة قوية.. ونعشق عن طريقهم تلك الاعمال بعوالمها وامكنتها وافضيتها الصغيرة المحدودة المضغوطة بين دفتي الورق والموشومة بالحبر .. و التي تغدو افتراضيا اكبر من حجمها في الواقع.. وننسج معهم علاقات ضمنية اقرب الى الحميمية واقوى من الخيال.. من منا لم تشده قاهرة نجيب محفوظ، واسكندرون حنا مينا، واسكندرية ادوار الخراط ولورنس داريل، وبصرياثا محمد خضير، وسومر حسب الشيخ جعفر، وطنجة محمد شكري وبول بولز، ودبلن جيمس جويس، وبيونس ايرس خورخي بورخيس، وباريس بودلير، ولشبونة فرناندو بيسوا، وبراغ كافكا، واسطنبول باورهان باموك .. ويتجلى ذلك الارتباط عن طريقة حديثهم الاسطوري عنها في كل حين كرد فعل لتاثيرات بصمها ذلك المكان على ارواحهم، واصبحت قطعة من حياتهم.. يكتب كافكا في احدى رسائله لأحد أصدقائه: “لن تخلي براغ سبيلنا، لهذه الأم الصغيرة مخالب، ينبغي الإذعان لها …” .


هكذا تخلق تلك الامكنة و الاشياء الحميمية في نفوسنا ذلك الفضول الآسر لاقتفاء آثارها خارج الحيز الورقي وتدفعنا لمتابعة تطورات الاحداث في رواية “الطريق الى الملح” عبر تتبع معاناة الانا والاخر.. “الانا” الراوي الذي ليس حتما الكاتب الذي يستلهم على مستويات عدة مرجعية السيرة الذاتية في تشكيل الخطاب الروائي.. و”الاخر” الذي يمثله احمد الصالح البطل الايجابي الذي يرمز في بحثه الى الامل واللقاء والمحبة والبساطة وهلم جرا من تلك الاوصاف النبيلة النابعة من اعماق الارض الطيبة المحتضنة لامال واحلام الناس الطيبين..


رؤى حول الرواية


تبتدئ الرواية في منطقة تماس بين زمنين يمتزج عبرهما الماضي بالحاضر الذي يتولد من رحمه المستقبل.. زمن ماض يستدعي التاريخ والمعالم والذكريات والرؤى والاطياف والاخيلة.. و زمن حاضر يستحضر الرغبة في اللقاء ويستنطق السجلات ويتحرى فيهم عن مصير احمد الصالح في دواليب الادارات والدوائر الحكومية وعبر مساءلة رفاق السلاح .. والمستقبل الباسم لكن الضبابي في ظل الخطر الداهم الذي يتهدد البلد ..


الطريق الى الملح من نوع السهل الممتنع بيساطة توليفتها وهرمية نسقها المعماري .. ومؤثثة بالشعر والنوستالجيا والشوق والتشويق واللهفة والاكتشاف لتتبع مجرى نهر الرواية وتتبع مساره ليمضي بنا صعدا لاهثين لمعرفة النهاية الحتمية للاحداث.. واقتناص المصير الغامض لكن المشرق والايجابي للبطل الذي ينبعث من جديد عبر الطفل رمز التجدد والعطاء والاستمرارية والتجدد، وعبر الحكاية اللامتناهية، واغراء القارئ وايهامه باكتشاف الاوراق المرتقبة التي ستنطلق في الفضاء الكبير كسرب حمام “ص112… والتي وعد بها – وهو من سيقترح ذلك بلسانه – في الجزء القادم من الرواية، كما يوحي بذلك آلبرتو مانغويل في أنه ” يعرض أمام القارئ كنزا من الروايات في حالة جنينية، وبذورا لحكايات، ليست في حاجة لتنمو زيادة حتى تمتعنا وتدهشنا.” وآخذا بقول احمد فؤاد نجم ” عشقي للكلام غالب سكوتي وكرهي للسكات جالب شقاي”


خلاصة


عموما الطريق الى الملح جاءت لتعزز المنجز الابداعي للاستاذ عبد الكريم العامري ولعل أول ارتسا نخرج به من اول قراءة لها انها رواية ناضجة بكل المعايير السردية بالرغم من انها باكورة شاعر راكم تجارب ناضجة ومهمة في الكتابة الشعرية والمسرحية، وتتعالق فيها بغبطة الكتابة الروائية بالتجرية الشعرية الناضجة، ذلك أنه حسب ديكارت “قد يبدو من المدهش العثور على أفكار عميقة في كتابات الشعراء وليس في كتابات الفلاسفة. والسبب هو أن الشعراء يكتبون تحت تأثير حماسهم وقوة تخيلهم: ذلك أنه توجد فينا بذرات العلم مثلما توجد شرارات النار في الحجر. الفلاسفة يستخرجونها بالبرهان العقلي أما الشعراء فتنقشع لديهم بفعل تخيلهم وتغدو أكثر لمعانا”..


بهذا السلاح وبتلك الرؤى آثر الشاعر والمسرحي والصحافي عبد الكريم العامري ركوب غمار الكتابة الروائية ببراعة فاتنة عبر الاسلوب الشاعري الذي يشيع داخل النص فيبعث بين ثناياه جمالية ويهاء ورقة، ولغة شفيفة جذابة تتوخى الاقتصاد في الكلام غبر الجمل القصيرة التي تتوغل عميقا داخل اعماق الابطال، وتؤرخ لمرحلة حرجة من تاريخ العراق الحالك الموشوم بالاستبداد والجبروت والتسلط والاحباط والاقصاء الممنهج للانسان.. التاريخ المليء بالبطولات الوهمية والانكسارات والحافل بالاشعار والمفعم باخبار الابطال الحقيقيين في الخليج واهب اللؤلؤ والمحار والردى.. وعبر معانقة الاحزان الدفينة في عراق ما مر عام والا فيه جوع وظلم وتشييء للكائن، ومعانقة الامل في النصر والتحول والاصرار على مواصلة الحياة برغم كل يتعرض له البلد من مكائد وويلات ضحيتها الاولى والرئيسة المواطن العراقي والقادمة من الغرب اساسا تمثلا بقول ابي الطيب

وسوى الروم خلف ظهرك روم = فعلى اي جانبيك تميل


ترى هل نقرا جزءا قادما تقول فيه الام وهي رمز العطاء والولادة المستمرة والخصوبة انه من الغرب جاءت المصائب” ص4..

—————————-

* نقوس المهدي: قاص وناقد من المغرب







الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

ضوء على رواية احمد رضا حوحو غادة ام القرى ( رابط تحميل الرواية pdf )


رواية غادة ام القرى /احمد رضا حوحو 

الاستاذ سناقرية




تحميل من هنا 

من الروايات التي لم تأخذ حقها من الدراسة وهي رواية جزائرية كتبت عن البيئة الخليجية.
تعتبر روايـة ‘ غادة أم القرى ‘ للكاتب الجزائري أحمــد رضا حوحو ، أول رواية باللغة العربية في الجزائر. و تحكي هذه الرواية - المتواضعة - حياة فتاة عربية مسلمة تعيش مع عائلتها المحافظة في إحدى مدن الحجاز و هذا في منتصف القرن العشرين.

ملخص الرواية 

في رواية "غادة أم القرى" لأحمد رضا حوحو تتجلى شخصية المرأة المضطهدة متمثلة في الفتاة "زكية" بطلة الرواية، وفي أم جميل التي تقطعت بها الأسباب، فضعفت حيلتها، ولم تجد مخرجاً لانقاذ ابنها من غياهب السجن، ومن التهمة التي ألحقت به، ذلك أن قصة حب عاصفة نشأت بين "زكية" و"جميل" وهما من أبناء مكة المكرمة، فلا تتمكن من الزواج به، بسبب غلبة التقاليد أولاً، ووشاية "رؤوف سعد" لطمعه فيها لابنه، وهو رجل خبيث ذو جاه ومال، فألحق تهمة السكر والاعتداء بجميل، وأشهد على فعلته شاهدين من أتباعه، شهدا زوراً، فأصيبت "زكية" بصدمة عصبية عنيفة أدت بها إلى الجنون.. ثم ماتت على إثر ذلك ومات جميل جزعاً في سجنه. 

والرواية تتعمد إثارة التساؤل حول سيطرة التقاليد وغلبتها، فلا تتمكن الفتاة من رؤية خطيبها، ولا محادثته، ولا الرد على الرجال إلا تصفيقاً باليد - على عادة أهل البلاد وكما يذكر الكاتب، وإعلان حبها، أو ذكر اسم حبيبها، ثم الإشارة إلى إقٍبال عامة الناس على السحر والشعوذة بحثاً عن العلاج حين ادلهمت الخطوب على زكية وأصيبت بالانهيار فذهب أهلها ومن حولها إلى أنها اصيبت بمس من الجان" وأصبحت لا تشتكي من شيء بقدر ماتشتكي من هذه العقاقير والرقي والتعاويذ والبخور التي يرهقونها بها، فمنذ أصيبت زكية أصبحت دار سليمان خليل ميداناً واسعاً للدجالين والسحرة، ضمن قائل: إنها مسحورة، ومن مؤكد أن ما بها هو مس جن، ولم تجد التمائم العديدة ولا الذبائح الكثيرة لولائم الجن وملوكهم، وماذا عسى أن يفعل ملك الجن الضعيف أمام سلطان الحب الجبار". 

ولكن البطلة "زكية" لا تنجو من توترها النفسي الذي وقعت فيه وأدى بها إلى شيء قاس من الخيال - كما أشار الكاتب - بل إنها تهلك بمعضلتها تلك، ولا تنجو كما تعودنا في الروايات السابقة حين يأتي البطل الحبيب المختفي فينقذ الحبيبة المأزومة، وتنفرج الأحداث بنهاية سعيدة، كما حدث في رواية "سمراء الحجازية" لعبدالسلام هاشم حافظ، حين رأي الأهل ضرورة زواج سمراء بعادل انقاذاً لها، أو زواج زكية بمحسن في رواية "لا تقل وداعاً" لسيف الدين عاشور.. فلماذا لم يجعل حوحو من البطل (جميل) الذي لم يأخذ بعداً عميقاً في الرواية منقذاً؟ ولماذا تأتي النهايات في مجملها لشخصيات الرواية غير سارة، فيسجن البطل طويلاً ولا يخرج إلا على خبر وفاة حبيبته؟! وهي وإن انتصرت للخير وألقت برؤوف سعد في السجن في الصفحة الأخيرة من الرواية إلا أن مشهد الظلم والخيبة وعدم نوال الحظ وإسعاده وسيادة المكر والخبث والخديعة جعل الرواية أبعد عن التفاؤل، وأقرب إلى تصوير المجتمع المكي الذي تحدثت عنه بأنه مكبل بقسوة المرابي رؤوف سعد ومكره، وقسوة التقاليد وتجبرها على قلب الفتاة اليانعة التي لم تنل حظاً من التعليم، واستسلام "لمصيرها المقيد بحكم المجتمع وشهوته للمال وانصياعه إلى ما توحي به العادة، وربما جاءت سلبيتها هذه من جهلها وعدم تعلمها، وبراءتها الشديدة، وفشلها في المشاركة الاجتماعية، والإسهام مع أسرتها بالرأي في قضاياهم بعامة، وقد تكون حالة الهستريا التي أصابتها بعد فجيعتها في جميل بعد أن اطمأنت إلى قرب الاقتران به تعبيراً نفسياً وحيداً عن الرفض، رفض انصياع المجتمع وتقبله للموروث من العادات دون تفكير أو تعليل أو دراسة، ورفض ما هي عليه من جهل وإظلام وبعد عن القراءة والكتابة والتعبير عن رأيها ورؤيتها حول ما يمس شخصيتها على الأخص من قرارات تتخذها أسرتها دون أن تنبس ببنت شفة، فكانت المظاهر العصبية وفقدان العقل خير ما يعبر عن كل هذه السوءات والتردي، وبما أن العالم من حولها ليس عاقلاً، فلماذا تحتفظ بعقلها دون أن يحترمه ويفيد منه من حوله؟ فالأولى والأمر كذلك أن يذهب هذا العقل المقيد مع العقل الاجتماعي المكبل هو الآخر بأغلال متعددة من الضغينة والتسلط والمكر والشره والخنوع للسائد من التقاليد. وإذا كنا نلوم حوحو على ضعف بطلته أمام بطلة فكرة للسباعي فإننا أيضاً نعاتبه على إسرافه في تصوير البيئة الحجازية بالسوء المطلق، سوى ما بدا من إنقاذ لأسرة سليمان خليل من الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - حين اشتكت إليه أم جميل في وسط الطريق وأوقفت مسيره، والكاتب هنا يصف مشهداً رآه في الواقع مرات عديدة. ونلتمس له عذراً في غايته الشريفة التي يرمي إليها بانزاله أكبر قدر من الألم في نفوس قارئيه حين يطوق الظلم جوانب الحياة، وتطبق المأساة على الشخصيات على خلاف ابن مكة حمزة بوقري في "سقيفة الصفا" الذي كان معتدلاً في أحكامه مصوراً واقع الحياة في مكة كما كان بين سيادتي الجهل والشعودة في شخصيته الأم والوعي في حده الأدنى عند الأب، وكذلك الأمر عند حامد دمنهوري ابن مكة أيضاً في "ثمن التضحية" في شخصية الأم الجاهلة، والابنة التي لم ترض طموح الابن أحمد فيعرض عن ابنة عمه "فاطمة" لجهلها ويتعلق ب "فايزة" المصرية لتعلمها. وبموازنة يسيرة بين الصورة التي رسمها حوحو للحياة الاجتماعية في مكة والصورة التي رسمها حمزة بوقري نجد الفارق بين الصورتين في حرارة المعالجة الفنية المدفوعة بالغرض الإًصلاحي الحاد عند الأول، وبالتمكن من أدوات فن "الرواية" أي الرواية السيرية أو السيرة الروائية عند الثاني ساعياً إلى التوفيق والوصف والتدوين أكثر من سعيه إلى إصلاح خلل اجتماعي ملح وظاهر. وليس بين الصورتين سوى سنوات معدودة، فقد جرت أحداث رواية "سقيفه" بعد أحداث "غادة أم القرى" بما يقرب من خمسة شر عاماً، إذ صور أحمد رضا حوحو نمطية الحياة الاجتماعية في مكة قرب منتصف القرن الرابع عشر الهجري الماضي، وحمل على رؤية المجتمع للمرأة أنذاك، تلك الرؤية التي تذهب إلى عزل المرأة، ومصادرة خيالاتها الحياتية بعامة، ثم عرض لفساد الطبائع، وخضوع النفوس لشهوة المال، واستذلال الفقير، على حين لم يذهب البوقري بعيداً في روايته، فقد توسع في نقل دقائق الحياة الاجتماعية في مكة، وقدم لنا وصفاً بارعاً للمأكل والمشرب، والتعليم، والعمل، والمعتقدات، والتدين، والخرافة، والرغبة في التمدين، والخطوبة، وتعليم المرأة، والفصل الحاد بين الجنسين، بحيث تكون "سقيفة الصفا" امتداداً متوسعاً متعمقاً في تتبع أيقاع الحياة الملكية في العقدين الخامس والسادس من القرن الهجري الماضي، ولم يحدث اختلاف كبير بين صورتي المرأة في الروايتين، فهي فيهما صامتة لا تنطق بل تصفق عند حوحو، وتومىء برأسها عند البوقري، وهي لا تشارك بل تسمع، ولاتبدي رأياً بل تتلقى، أو ترغم على قبول خيار الأهل، ولا تبادر ولكن تتمنى وتطمح، ومن حولها يقودها إلى ما يراد لها دون أن تبدي قبولاً مطلقاص أو رفضاً بيناً، لأنها ملسلوبة الإرادة، منشأة على ذلك، ولم تتعلم بعد كيف تسعى إلى إبداء رؤيتها حول ما يحيط بها أو تطمح إليه، بله أن تحاول تمزيق ما يكبلها من رؤى تقليدية مستلبة.

مقتبس عن الفيسبوك .الاستاذ سناقرية .