أدبُ سُوء النِيّة
عبدالدائم السلامي
نزعم أن لا أحد منّا يشكّ في أن زمننا العربيّ زمن منحرِفٌ وفوضوي ومثير للسخرية والبكاء معا؛ فالحاكم فيه يحشد أعوانه لينفخوا في صورته ويضخّموا من حاله وأفعاله ليبدو كما لو أنه من فئة المرسَلين الذين يوحى إليهم، والمعارضون يتاجرون بشعوب قلقة لا تحلم إلا بالهجرة أو بالانتحار بعدما اكتشفت أنها مثّلت دور الكومبارس في مسرحية هزلية تسمّى «الثورة»، وفقهاء التلفزيون يحتكرون معرفة الله ويستولون على مفاتيح جنته، والقتل بيننا عنيف وبالتكبير، وكتائبُ موظَّفي الإبداع الذين قيل فيهم: «احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ» (لوقا 46/20)، يكيدون كيدَهم لإفراغ المشهد الثقافي من كلّ كاتب مجروح بوعيه الحادّ ليجلسوا على رِقاب الكتابة بكل ما لديهم من ثقل الإسفاف والتهافت.
في هكذا زمن مات فيه صدق العلاقة بين الأنا والهُوَ، وبين الدولة والمواطن، وبين الثورة والثائر، وبين العاشق والمعشوق، وبين الفكرة وصاحبها، وبين الجسد وروحه، ما يزال الكاتب العربيّ ممتلئا بحُسن نواياه؛ فتراه يثق في الماضي ويعتزّ به ويُجمِّل فيه سوءاته، ويصدّق أوهام الحاضر ويمجّد وقائعه ويعلّق عليه أحلامه، ويطمئنّ إلى أنظمة استعاراتنا وكناياتنا التي حفلت بها مدوّنات أدبية ضعيفة السند فلا يصنع للناس من معنى إلا وهو منقوع في إدام القدامة الفاسد.
والظاهر للعيان أنّ هذه الحال قد زادت من ضمور حضور الكاتب العربي في الواقع والتأثير فيه حتى باتت صورته عند الناس تحيل إلى كونه شاهدا ضعيفَ الحُجّة على وقائع أيام آهلة بالآلام، وبات نصّه سريع الأفول ومنذورا للنسيان، بل بات هو في متصوَّر العامّة إنسانا مفعولا به «لا يحكّ ولا يصكّ» مثله مثل المغفَّلين.
نحن لا نشكّ في أن الكاتب، ونعني به ذاك الذي لا ينطبق عليه توصيف إنجيل لوقا المذكور سابقا، كائن خيِّرٌ، قد ندب نفسه لأمر خدمة الناس والدفاع عنهم وحفزهم لأن يكتشفوا الجمال في كلّ شيء من أشياء الأرض وأشياء التخييل. ولكنْ أن يكون الكاتب خيِّرًا لا يعني أن يصدّق أو يصادق كلّ شيء وأن يكون خارج تاريخه وتابعا لحركة الواقع، وإنما واجبه الحضاريّ يحتّم عليه أن يتجهّز بسوء النيّة في التعامل مع كلّ مفردة من مفردات معيشه الثقافي والاجتماعي والسياسي حتى يقدر على تبيّن مضمَراتها ومناوراتها: فلا يثق في ذائقة القارئ لأنها منفعلة وغير مستقرّة ومرهونٌ فعلها التقبُّلي بالطارئ من فلسفات الصورة الحديثة وآليات تصنيع الرموز، ولا يثق في الجمهور الاجتماعي لأنه وجدانيّ وسريع البكاءِ وترضيه حبّة حلوى، ولا يثق في الخطاب السياسي لأنه مرقون خارج جغرافيته. ولا يعني عدم الثقة أن يبلغ الكاتب حال البارانويا في تعاطيه مع واقعه (هناك من القراء مَن سيضحك لهذه الكلمة) وإنما ألاّ يقبل صورة الواقع في إعلانات الإشهار، وأن يتسلّح بحَدْسٍ كانطيّ وقّادٍ يكون سبيلا إلى إذكاء روحِ عدم الاطمئنان إلى الواقع وإلى نصّه أيضا، والعمل على انتهاك المألوف فيهما، وإلى الجرأة في الكشف عن كلّ الأمراض التي تنخر جسم مجموعته الاجتماعية وجسم أحلامهم دون تضليل. لأنّنا نرى في الكتابة المطمئنّة في ظلّ أنظمة سيّئة النيّة جرما ثقافيّا يرتكبه الكاتب في حقّ قرّائه.
ذلك أن تاريخ سوء نيّة الأنظمة مع الكتّاب يشي بكون أغلبها أنظمة تعرف جيدا مدى تأثير المكتوبِ في المتلقّي، فلا تتعاطى مع نصّ الكاتب إلا بارتياب وحذر شديديْن خشيةَ ما قد تُمثّله الكتابة من خطورة في توجيه الرأي العامّ وجهات لا ترتضيها هي. تفعل ذلك بفضل يقينها البوليسيّ بأن الكتابة فعل قادر على الغوص في أعماق الوقائع الحياتية وتعرية تفاصيلِها، والتعبير عن قضايا المضطهَدين بما يتوفّر عليه أصحابها من تقنيات تعرية المسكوت عنه والوقوف على هشاشته، وإبطال زيف قداساته، وكشف مغالطاته. ولذلك تراها تعمل على استمالة الكاتب إليها حينا، وتهجره حينا آخر، فإذا لم يركب مراكبَها وانضوى تحت إبطيْها، عزلته، ومنعته من تنفّس هواء الدنيا.
لقد ظلّ الخطاب السلطوي العربي الحديث، سواء أكان سياسيا أم قِيَميا أم ثقافيا، يُجيّش طاقاته لتدجين الكاتب وإسكات صوته وتحويله من كائن ذي وظائف تنويرية وتحرّرية له روح المعارضة والرفض إلى وسيلة من وسائل التهريج التي تتقصّد إمتاع السائد وتعزيز سلطانه. ولعلّ في هذا ما جعل وظيفة أغلب كُتّابنا لا تزيد عن كونهم «يسوقون الناس جميعا ويصيحون بهم بالولاء للدولة» على حدّ عبارة الشاعر إدوارد سولتر أوين.
لذلك نميل إلى القول إن حُسن النيّة لا يصلح في الأدب، فالكتابة حسنة النيّة لا تقدر على الانتصار لحق قارئها في الحياة، ولا لحقّه في الموت الطبيعيّ. الكتابة سيّئة النيّة هي التي تقف ضدّ هيمنة السلطة بجميع هيئاتها المادية والرمزية، وهي التي تقدر على رفع الحُجب عن أذهان القرّاء وتفتح لهم كوّة لينظروا منها إلى الممكن ممّا لم يتحقّق في دنياهم وإلى الذي لم يُقَل ممّا تمنّوا قولَه. وهي إلى ذلك فضاء يُنجز فيه النص قَصاصا تخييليا لأعوان الظُّلم، ويردّهم إلى طبيعتهم الأولى، فإذا الواحد منهم طينٌ فاسدٌ وآسنٌ ومخالِفٌ لما ترسَّب عنه في وجدان الناس من صورة تنزع دائما إلى تأكيد أنه كائن نوراني وطاهر لا يوجد لسلطانه الماديّ والرمزيّ حدّ، وهو المنقذ للمواطنين من الضلال السياسي والاجتماعي، وبذلك هو جدير بالوطن وبالجلوس فيه على أكتاف المواطنين بعيدا عن كلّ ما يهدّده من أحلامهم في تحقّق قِيَم الخير والعدل والكرامة الإنسانية.
سوء النيّة في الأدب يُخرج الكاتب من حيز المفعولية والخضوع الأعمى لاستعلائية الواقع وخطاباته، ويملأ كيانه الفكري بطاقة ناقدة لكلّ ما يُرى أو يستحضره الخيال الجمعيّ، ومن ثمة يكون وفقا لتوصيف إدوارد سعيد «اللامنتمي أو الهاوي الذي يعكّر صفوَ الحالة الراهنة».
كاتب تونسي
عبدالدائم السلامي
القدس العربي