‏إظهار الرسائل ذات التسميات في الحاجة إلى لاهوت جمالي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات في الحاجة إلى لاهوت جمالي. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 30 يوليو 2014

في الحاجة إلى لاهوت جمالي


في الحاجة إلى لاهوت جمالي 

 بقلم : عبد الحليم المسعودي


(1)
تباهى اللاهوتي الشاب بيكو دولا ميراندولا Pico della Mirandola في فجر عصر النهضة الأوروبية أثناء مناظرته الشهيرة المعروفة بـ “مناظرة الكرامة الإنسانية” أمام دكاترة الإكليروس الكنسي بالعرب في إدراكهم لعقل الأنوار الفائض على الإنسان وكرامته، وكانت هذه المناظرة تتلخص بشكل رئيسي بتحرير الله للإنسان، هذا المخلوق الجامح الذي لا يخضع لتلك النواميس التي خطها الله لغيره من المخلوقات. قلتُ، كان بيكو دولا ميراندولا يتباهى وهو المُتشرّب للفلسفة الرُشدية بالعرب، والعرب المسلمين تحديدا حين يقول في خطبته “آبائي المبجّلين، لقد قرأت في كتب العرب أنّ عبد الله أجاب عندما سئل عن أكثر مشهد إثارة للإعجاب في هذا العالم أنه لا يرى أكثر بهاء من الإنسان”(*). كان ذلك في المنتصف الثاني من القرن الخامس عشر في إيطاليا حيث المغامرة الفكرية والمعركة العقلية مع حَوَالِكِ القرون الوسطى قد بدأت تعطي ثمارها في اتجاه انتصار العقل وتأكيد الحرية البهية للإنسان بوصفه مركزا للكون وبوصفه ميزانا ومعيارا لكل شيء، وهي الفكرة التي خلدها العبقري ليونار دا فانشي L. de Vinci في أيقونته الشهيرة المعروفة بـ “إنسان فيتروف” L’Homme de Vitruve ، أي الرجل العاري كما خلقه الله يتوسط الدائرة العجلة الكونية باسطا أطرافه على كل شيء أي في المربع والدائرة الكوسمولوجية بعد أن كان إنسانا استعلائيا تتزاحم فيه الرّبوبية والناسوتية في صورة السّيد المسيح على الصليب وهي نفس الدائرة المتعالقة، ربما، أقول ربما، بما تصوّره الشيخ محيي الدين بن عربي في رسالته “إنشاء الدوائر”.
 (2)
ترجم هذا الانعتاق البهيّ للإنسان في عصر النهضة إلى التعويل على قدرات الإنسان الهائلة في التحكم في مصير الكون من خلال الإمساك بناصية المعارف والعلوم وكان الشرط الأساسي لهذا المسار الكوني الجديد الذي يعيشه الإنسان هو الحرية والكرامة الإنسانية التي ردّدها بيكو دولا ميراندولا في مناظرته الشهيرة النابعة مرجعياتها من تجارب الحضارات الإنسانية وعلى رأسها حضارة الإسلام. فهو يستشهد في نص المناظرة ذاتها بأقوال الرّسول العربيّ محمّد في القول الفاصل ما بين الإنسان والبهيمة من خلال إدراك العقل الروحاني المتعالي، وهو ما أدركه بيكو من خلال الجهد الفكري العالي الذي تم بناء صرحه في الأندلس، ذاك الجهد التوّاق لتحرير الإنسان وتحقيق كرامته والذي مثّل لبناته ابن طفيل وابن رشد وابن باجة وابن عربي دون الاستغناء عن تراث المتكلمين من المعتزلة والفلاسفة المشرقيين والإشراقيين كابن سينا والفارابي والسّهروردي (المقتول طبعا) وغيرهم قبل الهجمة الحنبلية الأصولية التي أغلقت باب الاجتهاد في حضارة الإسلام على يد فقهاء النقل والتذييل. طبعا لم يكن نجاح مناشدة هذه الحرية والكرامة الإنسانية في عصر النهضة دون ثمن ويكفي أن نستذكر نهاية دي ميراندولا نفسه ومحنة غاليلي ومقتلة جيوردانو برنو الذي شوته الكنيسة وهو يسبّح لمهندس النجوم في السماء دون نسيان عذابات سبينوزا.
 (3)
وبالعودة إلى حضارة الإسلام وقبل إهانة ابن رشد وحرق كتبه وقبل انفتاق عصر النهضة الأوروبي برهن مناخ الحرية الذي عاشته الحضارة الإسلامية عن نبوغ عقول مسلمة ضمن مغامرة العقل الإنساني في تخوم البهاء المعرفي، وأستذكر في هذا السياق جرأة عالم مثل جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري في رسالته “كتاب التجميع” الذي بحث فيه إمكانية تكوين إنسان بصناعة الكيمياء، وهي الفكرة كما يشير إلى ذلك علي محمد إسبر التي تلقفاها المخيال الغربي في صناعة أسطورة فرانكنشتاين (*)، وأراها سببا لامتداد علم الرابوتيك، أي صناعة الإنسان الآلي في شتى المجالات التكنولوجية اليوم في الغرب، أو استتباعاتها في مجال النانوتكنولوجيا وعلوم الفضاء. وهل يمكن أن نتصور مثل هذه الدّعوة – دعوة جابر بن حيان - اليوم عند المسلمين؟ ألم يكفّر ابن باز من يدّعي اليوم أن الأرض كروية الشكل وأن الإنسان قد وطأ بقدميه القمر؟ ومن المفارقات العجيبة في هذا الوقت العصيب الذي يمر به المسلمون اليوم من انحطاط عقليّ لم يسبق له مثيل عند من يوصفون بـ“علماء الأمة”. والغريب أنّ هذا العقل الامتثالي والإرتدادي الذي نشهده في عقول أصحاب الإسلام السياسي الجديد الذي يدّعي الصحوة والنهضة والعزّة و“الشهود الحضاري” على حدّ عبارة الإخواني التونسي عبد المجيد النجار هي عقول ذات تكوين علمي (بالمعنى الصحيح في الانتساب إلى العلوم الصحيحة)، وهي عقول لم تكتشف دواءً لوباءٍ ولم تستنبط طرائق لمقاومة المرض والمجاعة ولم تحقق أمنا غذائيا ولا أمنا صناعيا ولا أمنا صحيا ولا أمنا علميا – تكنولوجيا، ولا أمنا عسكريا، اللهم إلا الخراب والاستهلاك والإمعان في تبديد المكتسبات .. أنا أعني هنا العقل الإسلاموي، عقل الإسلام السياسي.
 
(4)
ولو أننا قمنا بجرد اعتباطيّ للتكوين التربوي لهذا العقل الإسلاموي السياسي - باستثناء العقول التقليدية الدينية والفقهية المختصة في تأصيل مدونة التحريم والتحليل الفقهية الأصولية والتي ينعتون أصحابها بصفة “علماء الأمة” - فأننا سنقف على أنّ قادة الإسلام السياسي بشقيه الدّعويّ والجهادي يتحدرون من عقل تربوي تقني وعلمي صحيح وأنّ غالبيتهم تخرجوا من المعاهد والجامعات العلمية وهذا لعمري أمر عجيب... وأذكر في منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما كان طلبة كلية العلوم بالمركب الجامعي بتونس -وغالبيتهم العظمى من الإسلاميين- يقيمون النفير وبعضهم بأزياء أفغانية لتحتل حشودهم كلية الحقوق وهم لا يتورعون في استعمال العنف ضدّ طلبة اليسار ... لكن كيف نفسر هذا الزواج المريح بين العقل العلمي والعقل الديني المتسيس؟ تصعب الإجابة بالشكل الوافي والكافي، لكن الأمر متأكد في التباس هاذين العقلين وبارز مثاله عند قادة جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية السلفية طبعا دون احتساب الأنصار والمتعاطفين. ففي حركة النهضة نجد هذا التكوين عند قادتها البارزين كحمادي الجبالي (مهندس في الطاقة الشمسية) وعلي العريض (مهندس في النقل البحري) والحبيب اللوز (كلية الاقتصاد والتصرف - المقاولات) والصادق شورو (أستاذ الكيمياء) ومحمد بن سالم (مهندس أشغال في مجال المياه) وعبد اللطيف المكي (الإجازة في الطب) وعبد الكريم الهاروني (الهندسة المعمارية) والمنصف بن سالم (دكتورا في الرياضيات) وعبد الحميد الجلاصي (مهندس) وفتحي العيادي (إجازة في الرياضيات) وغيرهم، أما جماعة الإخوان في مصر فنجد هذا التكوين عند رموزهم كالآتي : مرسي العياط (مهندس في علوم التعدين) والمرشد محمد بديع (أستاذ الأمراض البيطرية) وعصام العريان (طبيب مختص في أمراض الدم) وعبد المنعم أبو الفتوح (طبيب) وخيرت الشاطر (مهندس) ومحمود عزت (أستاذ بكلية الطب الأمراض الوبائية) ومحمد حبيب (أستاذ في الجيولوجيا) وإذا نظرنا من جهة الإخوان في المغرب أي في حزب العدالة و التنمية سنجد الأمر كالتالي : سعد الدين العثماني (طبيب) وعبد الله بها (مهندس زراعي) وعبد الإله بن كيران (أستاذ في الفيزياء)، دون نسيان رموز الحركة السلفية سواء الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري (طبيب جراح) أو الأمير في حزب النور السلفي المصري عماد عبد الغفور (خريج كلية الطب) أو رموز حركة الدعوة السلفية المصرية كمحمد بن أحمد إسماعيل المقدم (خريج كلية الطب) ومحمد عبد الفتاح أبو إدريس (مهندس) وحسين محمود برهامي (كلية طب الأطفال) ومصطفى العدوي (كلية الهندسة فسم الميكانيكا)، وأسامة عبد اللطيف القوصي (كلية الطب) ومحمد رسلان (طب وجراحة) ومحمد عبد المقصود عفيفي (كلية الزراعة) وسعيد عبد العظيم (طب وجراحة) وغيرهم كثيرون في جماعات الإسلام السياسي في البلاد العربية والإسلامية.
 
(5) 
هذا هو العقل الإسلاموي السائد وتكوينه العلمي (الصّحيح)، وهذه هي تجلياته التي تدفع بطبيب أسنان فلسطيني إسمه “وسام العطل ،أب لأربعة أطفال، كان مقيما بمخيم جباليا بغزة ويملك عيادة بها.... يعنى بينه وبين أقرب جندي إسرائيلي ما لا يزيد عن أربعة كيلومتر . هذا الطبيب يقرر أن”يبيع الدنيا“و”يشترى الجنة“...لكن عن طريق رأس الرجاء الصالح بمعنى عوض أن يلبس حزاما ناسفا ويتوغل أربعة كيلو في إسرائيل ليحقق صرا على أعدائه ويفجّر نفسه فإنه يقرّر أن يتسلل من غزة إلى مصر عبر الأنفاق ومنها يتخفى في أحد الموانئ المصرية ليلتحق خلسة بأحد المراكب التجارية الذاهبة إلى تركيا، ثم بعد ذلك ينتقل في تركيا حتى يصل الحدود التركية السورية، ويتسلل إلى داخل سوريا.. وهناك في سوريا وبعدما قطع ما يقارب الألف كيلومتر يلبس حزاما ناسفا ويفجر نفسه في أبناء جلدته ودينه أي أفراد من الجيش السوري... هذه هي تجليات هذا العقل التي تدفع أيضا بطبيب سعودي يدعى فيصل بن شامان العنزي شغل الرأي العام السعودي بمقتله مع تنظيم داعش في العراق، ونفت أسرته أن يكون مقاتلاً، وزعمت أنه طبيب يعالج المصابين في عيادة التنظيم، ولكن ظهرت له صورة التقطت في أيامه الأخيرة في الموصل، ملوحاً بسكين كبيرة، على نهج رفاقه وقادته في التنظيم عندما يلوحون بها تحت شعار”بالذبح جئناكم“... هذا هو العقل العلمي الذي لم نر منه إعمارا ولا تعميرا والذي في جنباته ترعرع الجهل وازدهرت بازارات الغيب والتكفير والتعزيم والرقى الشرعية والطب الروحاني والشعوذات والتخاريف القروسطية والرجم وتقطيع أبظار النساء وبول البعير، وفتاوى النيكروفيليا وجهاد النكاح، وتهافت الدّعاة وتدمير الروابط داخل العائلة والمجتمع .
 (6)
العقل السّراطي، العقلُ التجريدي، العقل الوثوقي، العقل الثبوتي، العقل الأرتودوكسي الأصولي التأصيلي المدرساني، العقل الآلي، الإتباعي، النمطي، المحاسبي، الذي لا يدخله الشك والنسبية، العقل الذرائعي المصلحي البرغماتي، العقل المانوي، عقل الأبيض والأسود الذي لا ينازعه الرمادي، عقل الحلال والحرام ، العقل البرهاني، العقل الإعجازي، العقل الحديدي الصارم البتار ، العقل الأحاد ، العقل السّبحاني إلى حدود الوثنية، العقل الوثوقي الإيماني المُطبق على الحقيقة الواحدة، عقل الرّبح والخسارة، عقل المغانم والتمكن، العقل الشمولي، عقل المفاصلة والتوحد، عقل الولاء والبراء ... هذا هو العقل العلمي الإسلاموي، عقل الإسلام السياسي ... نعود إلى السؤال كيف نفسر هذا الزواج المريح بين العقل العلمي والعقل الديني المتسيس؟ أنه ببساطة العقل الذي ينقصه الشعر، أي الإيمان بالبهاء والجمال، أي ببساطة :الإيمان بالإنسان، أي بحرية الإنسان والكرامة، كم نحن في حاجة إلى لاهوت جمالي، لاهوتٌ يؤكد إيمان الإنسان بأن حريته هبة من الله عز وجل أو كما يلخصها دولا ميراندولا في خطبة الخالق في الإنسان في مناظرته في الكرامة :” أما أنت يا من لا يكبح جماحك حدّ ، فأنت وحدك من تحدّد ماهيتك لأنك مخيّر فقد وضعتك بين يدي إرادتك الحرة. لقد جعلتك لا أرضيا ولا سماويا لا فانيا ولا أزليا، حتى تكتمل تشكيل نفسك لأنك حرّ ومخيّر كما لو كنت رساما أو نحاتا لنفسك، لأنك سيدها، لك أن تفسد فتقترب من الأشكال السفلى كأنك صنو الدابة أو تولد من جديد فتتخذ أشكالا نورانية عليا“.
 (7)
”إنسان فتروف“ الذي رسمه ليونار دافنتشي هو إنسان الحرية عينه، هو إنسان الكرامة عينه، إنه يفتحُ ذراعيه ليحتضن جمال العالم ويُعانق بهاء الله، وهو ليس ذاك الرّهط الذي يفتح ذراعيه ليفجر نفسه مزقا وأشلاء. أشلاء لا يستطيع جابر بن حيان تجميعها لتكوينها إنسانا في مخبره الكيميائي، اللهم أن يأتي الدكتور فرانكنشتاين ليرتقها ويصنع منها مسخا آدمية، والدكتور فرانكنشتاين موجود الآن في بغداد كما أخبر عنه الروائي العراقي أحمد السّعداوي .


هوامش:
- - - - - - - - -
(*) – أنظر كتاب يوحنا بيك دولا ميراندولا ” مناظرة في الكرامة الإنسانية “، ترجمة عن الفرنسية و اللاتينية للأستاذة آمنة الجبلاوي وتحقيق البروفيسور بيار شيزاري بوري ، الديوان للنشر ، تونس 2012.
(*) – أنظر كتاب جابر بن حيان ، تكوين إنسان بصناعة الكيمياء ، تقديم و دراسة علي محمد إسبر ، دار بدايات ، جبلة – سوريا 2007. 
 
المقال منشور بجريدة”الشروق" التونسية يوم
27/07/2014
مقتبس من موقع الاوان 2014 كل الحقوق محفوظة .