‏إظهار الرسائل ذات التسميات اورهان باموق. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اورهان باموق. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 17 أكتوبر 2014

حوار مع أورهان باموق




ترجمة وتقديم: عبد الوهاب أبو زيد

ولد أورهان باموك الحاصل على جائزة نوبل للآداب لعام 2006 في أسطنبول سنة 1952 ونشأ في عائلة كبيرة وغنية مشابهة لتلك الأسر التي عرض لها بالوصف في روايتيه (جودت بيك وأولاده) و (الكتاب الأسود). وكما يشير في كتابه (اسطنبول) الذي يقدم فيه سيرة مزدوجة للمدينة وله شخصيا.

أمضى باموك سنوات حياته الأولى حتى بلوغه الثانية والعشرين من العمر مكرسا نفسه بشكل كبير للفن التشكيلي وكان حلمه أن يصبح فنانا معروفا. وبعد تخرجه في كلية روبرت الأمريكية ذات الطابع العلماني في أسطنبول درس العمارة في جامعة اسطنبول التقنية لمدة ثلاثة أعوام؛ غير أنه توقف عن دراسته تلك حين تخلى عن حلمه في أن يصبح فنانا ومهندسا. وقد توجه بعد ذلك لدراسة الصحافة في جامعة اسطنبول دون أن يعمل فعليا بالصحافة. وحين كان باموك في الثالثة والعشرين من عمره أخذ على نفسه عهدا بأن يصبح كاتبا روائيا فترك كل شيء وراءه واعتزل الناس وشرع في الكتابة.

روايته الأولى (جودت بيك وأولاده) نشرت بعد ذلك بسبع سنوات عام 1982 وتحكي الرواية قصة ثلاثة أجيال تنتمي لعائلة ثرية تقطن في اسطنبول في نفس الحي الذي ترعرع ونشأ فيه. وقد نال عن روايته تلك جائزتين أدبيتين محليتين. وبعد مضي عام واحد نشر باموك روايته الثانية (المنزل الصامت) والذي فازت نسخته المترجمة إلى الفرنسية على إحدى الجوائز الأدبية كذلك. أما روايته (القلعة البيضاء) الصادرة في 1985 فتدور أحداثها حول العلاقة التي تربط بين عبد فينيقي وعالم عثماني وقد نشرت هذه الرواية بالإنجليزية وبلغات أخرى عديدة محققة لباموك شهرة وذيوعا عالميين. في نفس العام اتجه باموك إلى الولايات المتحدة ومكث هناك بضعة أعوام حيث عمل أستاذا في جامعة كولومبيا وهناك كتب معظم أجزاء روايته (الكتاب الأسود)، حيث يصف فيها خبايا وجوهر وماضي وحاضر مدينة اسطنبول من خلال قصة المحامي الذي يبحث عن زوجته المفقودة. نشرت هذه الرواية سنة 1990 في تركيا وحصلت ترجمتها الفرنسية على إحدى الجوائز الفرنسية الرفيعة مما أسهم في تعزيز شهرة باموك في كل من تركيا وفي كافة أرجاء العالم بوصفه كاتبا شعبيا وتجريبيا نخبويا في ذات الوقت. 

روايته التالية كانت بعنوان (الحياة الجديدة) وتدور أحداثها حول حياة طلاب الجامعة الصغار الذين يخضعون لتأثير كتاب غامض وقد نشرت في 1994 وأصبحت من أكثر الكتب ذيوعا وانتشارا في الأدب التركي. أما روايته (اسمي أحمر) والتي نشرت في 1998 فتدور أحداثها حول الفنين العثماني والفارسي وطرائق الفنانين المنتمين لهاتين الثقافتين في تصوير العالم غير الغربي. وكما أصبح مألوفا فقد فاز باموك عن هذه الرواية بعدد من الجوائز العالمية المختلفة. ومنذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم برز صوت باموك السياسي من خلال انتقاده لسجل الدولة التركية غير الناصع فيما يرتبط بحقوق الإنسان وتعاملها غير المنصف مع الأقليات كالأرمن والأكراد. من بين رواياته أيضا رواية (ثلج) والتي يقول عنها إنها «روايته السياسية الأولى والأخيرة» وقد نشرت في 2002 وتدور أحداثها في مدينة صغيرة في شمال شرق تركيا وتروي قصة العنف والتوتر الذي يسود بين العسكر والعلمانيين والإسلاميين والوطنيين الأكراد والترك. 

من بين مؤلفات باموك المهمة أيضا هناك كتاب (اسطنبول) وهو كتاب ذو نفس شعري يصعب تصنيفه تتداخل فيها السيرة الذاتية لباموك مع سيرة مدينته الأثيرة التي لم يفارقها سوى سنوات معدودة . الحوار الذي نترجمه هنا أجري لصالح مجلة باريس ريفيو العريقة وقد نشر في العدد رقم 175 لسنة 2005، وأعيد نشره في كتاب باموك الذي جاء تحت عنوان (ألوان أخرى) المنشور سنة 2007. 

إجابات غبية لأسئلة بلا مغزى 
كيف تشعر حيال إجراء المقابلات؟ 
أشعر أحيانا بالتوتر لأنني أعطي إجابات غبية لأسئلة معينة لا مغزى لها. إن ذلك يحدث باللغة التركية تماما كما يحدث باللغة الإنجليزية. إنني أتكلم لغة تركية سيئة وأتلفظ بجمل غبية. إن الهجوم الذي تعرضت له في تركيا بسبب حواراتي كان أكثر من الهجوم الذي تعرضت له بسبب كتبي. إن المشتغلين بالجدل السياسي وكتاب الأعمدة لا يقرؤون الرواية هناك. 
لقد تلقيت بشكل عام ردة فعل إيجابية تجاه كتبك في أوربا والولايات المتحدة. كيف تم استقبالك نقديا في تركيا؟ 
السنوات السمان قد انقضت الآن. حين كنت أنشر كتبي الأولى، كان الجيل السابق من المؤلفين آخذا في الاضمحلال، لذا فقد تم الترحيب بي لأنني كنت مؤلفا جديدا. 
حين تقول «الجيل السابق»، فمن يرد في ذهنك؟ 
المؤلفون الذين أحسوا بمسؤولية اجتماعية، المؤلفون الذين أحسوا أن الأدب يخدم الأخلاق والسياسة. كانوا واقعيين محضين، وليسوا تجريبيين. مثل الكتاب في كثير من الدول الفقيرة، بددوا مواهبهم في محاولة خدمة وطنهم. لم أرد أن أكون مثلهم، لأنني وحتى في شبابي استمتعت بفوكنر وفرجينيا وولف وبروست -لم أطمح أبدا لبلوغ النموذج الواقعي- الاشتراكي المتمثل في شتاينبك وجوركي. كان الأدب المنتج. في الستينيات والسبعينيات قد انقضى زمنه، لذا فقد تم الترحيب بي كمؤلف للجيل الجديد. بعد منتصف التسعينيات، حين بدأت كتبي تباع بكميات لم يحلم أحد في تركيا بالوصول إليها، كانت سنوات شهر العسل مع الصحافة التركية والمثقفين قد انتهت. منذ ذلك الحين وحتى الآن، أصبح الاستقبال النقدي بمثابة ردة الفعل للذيوع والمبيعات، أكثر منه اهتماما بمحتوى كتبي. الآن، لسوء الحظ، صرت سيئ السمعة بسبب تعليقاتي السياسية- معظمها يتم اجتزاؤها من حوارات عالمية ويتم استغلالها بشكل مخجل من قبل بعض الصحفيين القوميين الأتراك لكي أبدو أكثر راديكالية وأكثر حمقا على الصعيد السياسي مما أنا عليه بالفعل. 

أُعاقب على أرقام مبيعاتي 
إذن فهناك ردة فعل عدائية على شعبيتك؟ 
رأيي المرجح هو أنه نوع من العقاب على أرقام مبيعاتي وتعليقاتي السياسية. ولكنني لا أريد مواصلة قول هذا، لأنني أبدو دفاعيا. ربما أسيء تقديم الصورة بمجملها. 
أين تكتب؟ 
لطالما اعتقدت أن المكان الذي تنام فيه أو المكان الذي تتقاسمه مع شريك حياتك يجب أن يكون منفصلا عن المكان الذي تكتب فيه. إن الطقوس المنزلية والتفاصيل تقتل الخيال بطريقة ما. إنها تقتل الشيطان في داخلي. إن العائلي والروتين اليومي يجعلان من التوق إلى العالم الآخر، الذي يحتاج إليه الخيال لينشط، يضمر ويضمحل. لذلك فلسنوات عديدة كان لدي دائما مكتب أو مكان صغير خارج المنزل لأعمل فيه. كان لدي دائما شقق مختلفة. ولكن في إحدى المرات أمضيت نصف فصل دراسي في الولايات المتحدة حين كانت زوجتي السابقة تحضر للدكتوراه في جامعة كولومبيا. كنا نقيم في شقة مخصصة للطلاب المتزوجين ولم يكن لدينا أي مكان، لذا فقد اضطررت للنوم والكتابة في نفس المكان. الأشياء التي تذكرني بالحياة العائلية كانت تحيط بي. وهذا أمر يزعجني. في كل صباح اعتدت على أن أودع زوجتي مثل شخص ذاهب إلى العمل. كنت أغادر المنزل، وأمشي حول بضعة صفوف من المباني، لأعود مثل شخص يصل إلى المكتب. قبل عشر سنوات عثرت على شقة تشرف على البسفور مع إطلالة على المدينة العتيقة. وهي تحظى ربما بأحد أفضل المشاهد على اسطنبول. إنها تبعد خمسة وعشرين دقيقة مشيا عن المكان الذي أقيم فيه. إنها مليئة بالكتب ومكتبي يطل مباشرة على المشهد. أمضي في كل يوم ما معدله عشر ساعات هناك. 
عشر ساعات يوميا؟ 
أجل، إنني أعمل بجد واستمتع بعملي. الناس تقول إنني طموح، وربما تكون هناك حقيقة في ذلك أيضا. ولكنني أعشق ما أقوم به. إنني استمتع بالجلوس إلى طاولتي مثل طفل يداعب ألعابه. إنه عمل، بشكل أساسي، ولكنه متعة ولعب كذلك. 

صبر الروائي 
أورهان، سميك والراوي في (ثلج)، يصف نفسه ككاتب يجلس في ذات الوقت كل يوم. هل لديك نفس المبدأ بالنسبة للكتابة؟ 
كنت أشير إلى الطبيعة المكتبية للروائي في مقابل طبيعة الشاعر، الذي يحظى بمكانة مرموقة في تركيا. أن تكون شاعرا فذلك أمر محبب ويدعو للاحترام. معظم السلاطين العثمانيين ورجال الدولة كانوا شعراء. ولكن ليس بالطريقة التي نفهم بها الشعراء الآن. لمئات الأعوام كانت طريقةً لتأسيس نفسك كمثقف. معظم هؤلاء الناس كانوا يجمعون قصائدهم في مخطوطات تسمى دواوين. وفي الحقيقة فإن شعر البلاط العثماني يسمى شعر الديوان. نصف رجال الدولة العثمانيين أصدروا دواوين. كانت طريقة رفيعة ومتنورة لكتابة الأشياء، بالعديد من القوانين والطقوس. إنها تقليدية جدا وذات نسق تكراري. بعد وصول الأفكار الغربية إلى تركيا، تم مزج هذا الإرث مع الفكرة الرومانسية والحديثة للشاعر بوصفه شخصا يتحرق للحقيقة. لقد أضافت مزيدا من الثقل إلى مكانة الشاعر. من ناحية أخرى، فإن الروائي بشكل أساسي شخص يقطع المسافات بصبره، ببطء، مثل نملة. إن الروائي يثير إعجابنا ليس برؤيته الشيطانية والرومانسية، ولكن بصبره. 
هل سبق لك أن كتبت الشعر؟ 
كثيرا ما يوجه لي هذا السؤال. فعلت ذلك حين كنت في الثامنة عشرة ونشرت بعض القصائد في تركيا، ولكنني بعدئذ توقفت. تفسيري للأمر هو أنني أدركت أن الشاعر هو شخص يتحدث الغيب من خلاله. ينبغي أن تكون مسكونا بالشعر. لقد جربت نفسي في الشعر، ولكنني أدركت بعد بعض الوقت أن الغيب لم يكن يتحدث معي. لقد أسفت لذلك ثم حاولت أن أتخيل-فيما لو كان الغيب يتحدث من خلالي، ما الذي يمكن أن يقوله؟ شرعت في الكتابة بشكل بالغ الدقة وببطء شديد محاولا أن أتبين هذا الأمر. تلك هي كتابة النثر. لذا فقد عملت مثل موظف. بعض الكتاب الآخرين يعتبرون هذا التعبير بمثابة الإهانة. ولكنني أتقبلها؛ إنني أعمل مثل موظف. 

دخول الغرفة 
هل تقول إن كتابة النثر أصبحت أسهل بالنسبة لك مع مرور الزمن؟ 
لسوء الحظ كلا. أحيانا أحس أن إحدى شخصياتي ينبغي أن تدخل غرفة ما و لا أعرف كيف أجعله يدخل. قد تكون لدي ثقة أكبر بنفسي، وهو شيء غير إيجابي في بعض الأحيان لأنك حينئذ لن تقدم على التجريب، إنك تكتب فحسب ما يتبادر إلى قلمك. إنني أكتب الرواية منذ ثلاثين عاما، لذلك يصح لي أن أعتقد أنني تطورت قليلا. ورغم ذلك لا زلت أصل أحيانا إلى طريق مسدود ،حيث ظننت أنني لن أواجه بشيء منها. الشخصية لا تستطيع دخول الغرفة، ولا أعرف ما الذي أفعله. لا يزال ذلك يحدث! بعد ثلاثين عاما. 

تقسيم الكتاب إلى فصول مهم جدا لطريقة تفكيري. حين أكتب رواية، إذا ما كنت أعرف القصة بأكملها مسبقا- وفي أغلب الأحيان أعرف ذلك- أقوم بتقسيمها إلى فصول وأفكر في التفاصيل المتعلقة بما أريد حدوثه في كل فصل. إنني لا أبدأ بالضرورة من الفصل الأول وأقوم بكتابة بقية الفصول بالترتيب. حين تستعصي علي الكتابة، وهو ليس بالأمر الجلل بالنسبة لي، أستمر بأي شيء يأسر خيالي. قد اكتب من الفصل الأول إلى الخامس، وحين لا يروق لي الأمر أقفز إلى الفصل الخامس عشر وأواصل من هناك.

إعادة الكتابة 
هل تعني أنك تخطط للكتاب كله بشكل مسبق؟ 
كل شيء. (اسمي أحمر)، على سبيل المثال، فيها الكثير من الشخصيات، ولكل شخصية خصصت عددا محددا من الفصول. حين كنت أقوم بالكتابة، أحيانا كنت أريد أن أستمر في «كوني» إحدى الشخصيات. لذلك حين فرغت من كتابة إحدى الفصول الخاصة بشيكور، ربما الفصل السابع، قفزت إلى الفصل الحادي عشر، وهو فصل خاص بها أيضا. لقد أحببت كوني شيكور. إن القفز من شخصية إلى أخرى يمكن أن يكون محبطا. ولكن فيما يتعلق بالفصل الأخير فإنني دائما ما أكتبه في النهاية. ذلك أمر مؤكد. أحب أن أعذب نفسي، مسائلا نفسي كيف ينبغي أن تكون النهاية. لا أستطيع تنفيذ النهاية إلا مرة واحدة. باتجاه الختام، وقبيل الانتهاء، أتوقف وأعيد كتابة معظم الفصول الأولى. 

الأب يحكي حكاية 
هل هناك من يقرأ عملك أثناء كتابتك له؟ 
أقرأ عملي دائما للشخص الذي يشاطرني حياتي. ودائما ما أكون ممتنا حين يقول ذلك الشخص، ارني المزيد، أو ارني ما قمت به اليوم. لا يوفر لي ذلك ضغطا ضروريا فقط، ولكن الأمر يشبه أن يكون لديك أم أو أب يربت على ظهرك ويقول، أحسنت. بين الحين والآخر، سيقول ذلك الشخص، آسف، لم استسغ هذا. هذا شيء جيد. يعجبني هذا الطقس. دائما ما أتذكر توماس مان، أحد النماذج التي أحتذي بها. لقد اعتاد أن يجمع العائلة بأسرها، أطفاله الستة وزوجته. اعتاد أن يقرأ لكل أسرته المجتمعة.. يعجبني ذلك، الأب يحكي حكاية. 
حين كنت يافعا أردت أن تكون فنانا تشكيليا. متى طغى حبك للكتابة على حبك للفن؟ 
حين كنت في الثانية والعشرين. منذ كنت في السابعة أردت أن أكون فنانا تشكيليا، وقد تقبلت أسرتي هذا الأمر. اعتقدوا جميعا أنني سأكون فنانا مشهورا. ولكن بعدئذ حدث شيء ما في رأسي- أدركت أن برغيا ما قد انحل- وكففت عن ممارسة الفن وشرعت على الفور في كتابة روايتي الأولى. 

رؤية طفل لاسطنبول 
برغي محلول؟ 
لا أستطيع أن أقول ما هي أسبابي لفعل هذا. لقد نشرت مؤخرا كتابا عنوانه (اسطنبول). نصفه يمثل سيرتي الذاتية حتى تلك اللحظة ونصفه الآخر عبارة عن مقالة عن اسطنبول، أو بشكل أكثر دقة، رؤية طفل لاسطنبول. إنها خليط من التفكير حول الصور والمشاهد وكيمياء المدينة، واستيعاب طفل لتلك المدينة، وسيرة ذلك الطفل. آخر جملة في الكتاب تقول، «لا أريد أن أكون فنانا. سأكون كاتبا». ولا يتم شرح الأمر. رغم أن قراءة الكتاب بمجمله قد يفسر شيئا ما. 
هل كانت عائلتك سعيدة بهذا القرار؟ 
أمي كانت منزعجة. أبي كان بشكل ما أكثر تفهما لأنه في شبابه أراد أن يكون شاعرا وترجم فاليري إلى التركية، ولكنه تخلى عن تلك الفكرة حين سخرت منه دائرة الطبقة العليا التي كانت ينتمي إليها. 

العمل في الهندسة 
تقبلت عائلتك فكرة أن تكون فنانا، ولكن ليس أن تكون كاتبا؟ 
نعم، لأنهم ظنوا أنني لن أكون فنان متفرغا. العمل في الهندسة المدنية كان هو السائد في العائلة. جدي كان مهندسا مدنيا جمع ثروة طائلة من بناء سكك الحديد. أعمامي وأبي بددوا المال، ولكنهم جميعا درسوا في نفس مدرسة الهندسة، جامعة اسطنبول التقنية. كان متوقعا مني أن أذهب إلى هناك فقلت، حسنا، سأذهب إلى هناك. ولكن بما أنني كنت الفنان في العائلة، فقد كان هناك تفهم بأنني سأكون مهندسا معماريا. بدا أن ذلك حل يرضي الجميع. لذا فقد ذهبت إلى تلك الجامعة، ولكن في منتصف الدراسة الهندسية توقفت فجأة عن الرسم وبدأت في كتابة الروايات. 

بدايات فاشلة 
هل كانت فكرة الرواية الأولى مختمرة في ذهنك حين قررت أن تنصرف عن الفن؟ هل هذا هو سبب إقدامك على هذا الفعل؟ 
ما أستطيع تذكره هو أنني أردت أن أكون روائيا قبل أن أعرف ما سأكتبه. وفي حقيقة الأمر فحين شرعت فعلا في الكتابة كانت لدي بدايتان أو ثلاث باءت بالفشل. لا زلت أحتفظ بالكراسات. ولكن بعد ستة أشهر بدأت في كتابة مشروع روائي مهم تم نشره آخر الأمر تحت عنوان (جودت بك وأولاده). 
لم تتم ترجمة ذلك العمل إلى الإنجليزية. 
إنها قصة عائلية من حيث الجوهر، مثل (فورسايت ساغا) أو رواية توماس مان (بادن بروكس). بعد انتهائي منها بوقت ليس بالطويل بدأت أحس بالندم على كتابة شيء قد عفا عليه الزمن، رواية تنتمي بشكل واضح إلى القرن التاسع عشر. لقد ندمت على كتابتها لأنني، حين كنت في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين تقريبا، بدأت أفرض على نفسي فكرة أنه ينبغي لي أن أكون كاتبا حديثا. في الوقت الذي نشرت فيه الرواية أخيرا، حين كنت في الثلاثين، كانت كتابتي قد أصبحت تجريبية أكثر. 

نحو التجريبية 
حين تقول إنك أردت أن تكون أكثر حداثة، وأن تكون تجريبيا، هل كان يحضر أنموذج ما في ذهنك؟ 
في ذلك الوقت، الكُتّاب العظام بالنسبة لي لم يعودوا تولستوي ودستويفسكي وستندال وتوماس مان. أبطالي كانوا فرجينيا وولف وفوكنر. الآن أود أن أضيف بروست ونابوكوف إلى تلك القائمة. 
السطر الافتتاحي في (الحياة الجديدة) يقول، «قرأت كتابا في أحد الأيام فتغيرت حياتي بمجملها.»، هل كان لأي كتاب مثل هذا التأثير عليك؟ 
(الصخب والعنف) كانت مهمة جدا بالنسبة لي حين كنت في الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين. ابتعت نسخة من طبعة بنغوين. كان من الصعب فهمها، خصوصا مع لغتي الإنجليزية الفقيرة. ولكن كانت هناك ترجمة رائعة للكتاب باللغة التركية، لذا فقد كنت أضع النسختين التركية والإنجليزية جنبا إلى جنب على الطاولة وأقرأ نصف فقرة من إحدى النسختين ثم أنتقل إلى الأخرى. لقد ترك الكتاب أثره علي. الأثر الباقي تمثل في الصوت الذي طورته. سرعان ما بدأت في الكتابة باستخدام ضمير المتكلم. في معظم الأوقات أحس براحة أكبر حين أتقمص شخصا ما بدلا من الكتابة بضمير الغائب. 

الاشتراك في مسابقة 
قلت إن الأمر تطلب سنوات لتتمكن من نشر روايتك الأولى؟ 
في العشرينيات من عمري لم تكن لدي أي صداقات في الوسط الأدبي؛ ولم أكن أنتمي إلى أي جماعة أدبية في أسطنبول. الطريقة الوحيدة الممكنة لنشر كتابي كانت عبر تسليمه لمسابقة أدبية للمخطوطات غير المنشورة في تركيا. فعلت ذلك وفزت بالجائزة، والتي تمثلت في نشر عملي من قبل ناشر كبير وجيد. في ذلك الحين، كان الاقتصاد التركي في حالة سيئة. قالوا لي، أجّل، سنمنحك عقدا، ولكنهم أخّروا نشر الرواية. 
هل مرت روايتك الثانية بيسر أكبر- بسرعة أكبر؟ 
الكتاب الثاني كان كتابا سياسيا، ليس بروبوغاندا. كنت منغمسا بكتابته فعليا في الوقت الذي كنت أرقب أن يرى كتابي الأول النور. كنت قد خططت لإنهاء ذلك الكتاب خلال عامين أو عامين ونصف. فجأة، في إحدى الليالي كان هناك انقلاب عسكري. ذلك كان في 1980. في اليوم التالي، قال الناشر المرتقب للكتاب الأول، (جودت بيك)، إنه لن يقوم بنشره، حتى مع وجود عقد ما بيننا. أدركت أنني حتى لو انتهيت من كتابي الثاني-الكتاب السياسي- ذلك اليوم، فإنني لن أتمكن من نشره لخمس أو ست سنوات لأن الجيش لن يسمح بذلك. لذلك فقد جرت أفكاري كالتالي: في الثانية والعشرين من عمري قلت إنني سأكون روائيا وكتبت لمدة سبعة أعوام آملا أن أنشر شيئا ما في تركيا.. ولا شيء. الآن، شارفت على الثلاثين وليس هناك احتمال لأن أنشر شيئا. لا زلت أحتفظ بالصفحات المائتين والخمسين من تلك الرواية السياسية غير المكتملة في أحد أدراجي. مباشرة بعد الانقلاب العسكري، لأنني لم أرد أن أصاب بالإحباط، شرعت في كتابة كتاب ثالث -الكتاب الذي أشرت إليه، (المنزل الصامت). ذلك ما كنت اشتغل عليه في 1982 حين تم نشر الكتاب الأول أخيرا. تم استقبال (جودت) بشكل جيد، الأمر الذي عنى أن بوسعي أن أنشر الكتاب الذي كنت أكتبه حينئذ. إذن فقد كان الكتاب الثالث الذي كتبته هو الكتاب الثاني الذي تم نشره. 
ما الذي جعل من رواياتك غير ممكنة النشر تحت النظام العسكري؟ 
الشخصيات كانت شخصيات شباب ارستقراطي ماركسي. آباؤهم وأمهاتهم يذهبون إلى منتجعات صيفية، ويمتلكون منازل كبيرة ورحبة تنم عن الغنى، وهم يستمتعون بكونهم ماركسيين. ستجد أنهم يتصارعون مع بعضهم البعض ويغارون من بعضهم بعضا ويتآمرون لكي يفجروا رئيس الوزراء. 

استمراريّة التغيير 
دوائر ثورية مموهة؟ 
شباب ارستقراطي له عادات الأغنياء، يتظاهرون بكونهم راديكاليين متطرفين. ولكنني لم أكن أصدر حكما أخلاقيا حول ذلك. الأصح هو أنني كنت أضفي طابعا رومانطيقيا على شبابي، بطريقة ما. إن فكرة القذف بقنبلة على رئيس الوزراء كانت كافية لمنع الكتاب. لذلك لم أنهه. أنت تتغير أثناء كتابتك للكتب وليس من الممكن أن تكون الشخص ذاته مرة أخرى. إنك لا تستطيع أن تستمر كما في السابق. إن كل كتاب يكتبه مؤلف ما يمثل فترة محددة في تطوره. إن روايات المرء يمكن أن ترى -باعتبارها معالم في تطور- روح المرء. إذن فليس بوسعك العودة للوراء. إن مرونة السرد إن ذهبَت فلن يمكنك أن تزحزحها مرة أخرى. 

أغيّر كلَّ شيء 
حين تعمد إلى التجريب مع الأفكار، كيف تختار شكل رواياتك؟ هل تبدأ بصورة ما، أو بجملة ما؟ 
ليست هناك معادلة ثابتة. ولكن أضع نصب عيني ألا أكتب روايتين بذات الأسلوب. أحاول أن أغيّر كل شيء. هذا هو السبب وراء قول العديد من القراء لي، لقد أحببت روايتك هذه، ومن المؤسف أنك لم تكتب روايات أخرى مثلها، أو لم يسبق لي أن استمتعت بإحدى رواياتك حتى كتبت هذه الرواية، لقد سمعت ذلك خصوصا حول (الكتاب الأسود). وفي حقيقة الأمر فإنني أكره أن أسمع هذا. إنه لأمر ممتع، وباعث للتحدي بأن تقدم على التجريب بالشكل والأسلوب، وكذلك باللغة والحالة النفسية والشخصيات، وأن تفكر بكل كتاب بشكل مختلف. موضوع الكتاب قد يأتي إلي من مصادر متنوعة. ففي (اسمي أحمر)، أردت أن أكتب عن طموحي في أن أكون رساما. كانت محاولتي الأولى فاشلة؛ إذ بدأت في كتابة كتاب ذي صوت أحادي يركز على رسام بعينه. بعد ذلك حولت ذلك الرسام إلى عدة رسامين يعملون معا في أتيلييه. وجهة النظر تغيرت، لأنه أصبح هناك رسامون آخرون يتحدثون. في البدء كنت أفكر في الكتابة عن رسام معاصر، ولكنني حينها فكرت في أن هذا الفنان التركي قد يكون معتمدا بشكل كبير ومتأثرا بالغرب، لذلك رجعت إلى الوراء زمنيا لأكتب عن فناني المنمنمات. هكذا عثرت على موضوعي. بعض الموضوعات كذلك تحتم ابتكارات شكلية محددة أو استراتيجيات سردية. أحيانا، على سبيل المثال، تكون قد رأيت شيئا للتو، أو قرأت شيئا للتو، أو شاهدت فيلما، أو قرأت مقالة صحفية، فتفكر حينها، سأجعل البطاطا تتحدث، أو الكلب، أو الشجرة. ما إن تتشكل لديك الفكرة فإنك تبدأ في التفكير بالتناسق والاستمرارية في الرواية. حينها ستقول لنفسك، رائع، لم يسبق لأحد أن فعل مثل هذا من قبل. في الختام، إنني أفكر بالأشياء لأعوام عدة. قد تكون لدي أفكار ثم أقولها لأصدقائي المقربين. إنني أحتفظ بالعديد من الكراسات لروايات محتملة قد أكتبها. أحيانا لا أكتبها، لكن إن حدث وفتحت كراسا وبدأت في تسجيل الملاحظات لها، فعلى الأرجح أنني سأكتب تلك الرواية. لذلك فحين أفرغ من رواية ما فقد أكون وضعت عيني على واحد من تلك المشاريع، وبعد فراغي من إحدى الروايات بشهرين أشرع في كتابة رواية أخرى.














    الجمعة، 26 سبتمبر 2014

    حرية الكتابة / أورهان باموق







    أورهان باموك
    حرية الكتابة
    ترجمة : وائل عشري
    في شهر مارس 1985، قام آرثر ميلر(1) وهارولد بنتر(2)، الكاتبان الأكثر شهرة وأهمية آنذاك في المسرح العالمي، بزيارة إلي مدينة استنبول. لكن المؤسف أن الهدف من تلك الزيارة لم يكن لحضور عرض مسرحي أو ندوة أدبية، بل كان تلك القيود الثقيلة التي فرضت علي حرية التعبير في تركيا، والزج بمئات الآلاف من الأتراك في السجون، في أعقاب الانقلاب الذي شهدته تركيا في خمسينيات القرن الماضي. وكما هي العادة دائمًا تصدر العديد من الكتاب التعساء قائمة الأكثر عرضة للاضطهاد شديد الوطأة.
    وفي كل مرة كنت أعود فيها إلي أرشيف الصحف و«روزنامات» ذلك الوقت، كي أذكر نفسي بما كانت عليه الحال في تلك الأيام، كانت ترتسم أمامي صورة تقدم تجسيدًا دقيقًا لتلك الحقبة ومعظم من عاصروها: الجندرما «عساكر» تحيط برجال رءوسهم محلوقة ويجلسون بوجوه عابسة تزداد عبوسًا كلما طال نظر القضية داخل غرفة المحكمة. وبين الرجال كان هناك العديد من الكتاب. وقد جاء ميلر وبنتر إلي استنبول لمساندتهم والالتقاء بهم وبعائلاتهم ولفت أنظار العالم إلي الوقت العصيب الذي يعيشونه. وكانت «الجمعية الدولية للشعراء وكتاب المسرح والمحررين وكتاب المقالة والروائيين» PEN(3) هي التي نظمت تلك الزيارة باتفاق مع Helsinki Watch Committe «لجنة هلسنكي المعنية بحقوق الإنسان. ويوم وصول ميلر وبنتر توجهت، وأحد الأصدقاء إلي المطار لاستقبالهما، وكنا قد كلفنا بمرافقتهما.
    كنت قد تقدمت إلي هذه الوظيفة ليس بشغف السياسة بل لأنني روائي يجيد الإنجليزية بطلاقة. وقد سعدت بالوظيفة ليس لأنها وسيلة لمساعدة أصدقاء كتاب في محنة، بل لكي أكون، ولو لبضعة أيام، في صحبة اثنين من كبار كتاب العالم.
    وبصحبة ميلر وبنتر زرنا دور نشر صغيرة تجاهد من أجل الاستمرار، صالات تحرير وبث أخبار تعيش الأزمة، ومقار مجلات صغيرة مظلمة علي حافة الإغلاق. تنقلنا من منزل إلي منزل، ومن مطعم إلي مطعم، للقاء كتاب في ورطة هم وعائلاتهم.
    كنت، وإلي تلك الفترة، أقف علي هامش السياسة ولا أخطو إلي داخلها إلا مجبرًا. لكنني، وبينما كنت أستمع إلي حكايات خانقة عن الكبت، القسوة، والشر المطلق، شعرت بانجذاب مشوب بالذنب إلي هذا العالم، وأنني مشدود إليه، أيضًا بمشاعر التضامن وإن كنت قد شعرت، في الوقت نفسه، برغبة مساوية ومناقضة، تدفعني إلي أن أنأي بنفسي بعيدًا عن هذا كله وألا أفعل شيئًا في حياتي سوي تأليف الروايات الجميلة.
    ونحن نتنقل داخل سيارة أجرة من موعد إلي موعد، وسط زحام المرور في استنبول، أتذكر أننا تبادلنا الأحاديث حول الباعة والعربات التي تجرها الخيول وأفيشات الأفلام السينمائية والنساء السافرات منهن والمتشحات اللاتي يثرن دائمًا اهتمام الزائر الغربي. أتذكر أيضًا، وبشكل أكثر وضوحًا صورة: أنا وصديقي المرافق نقف عند نهاية ممر طويل في «هيلتون» استنبول نتبادل همسًا مضطربًا إلي حد ما، بينما ميلر وصديقه بنتر يجلسان يتهامسان بحدة غامضة مماثلة. لقد بقيت هذه الصورة محفورة في الذاكرة المضطربة ربما لأنها ترسم في اعتقادي، تلك المسافة الشاسعة ما بين تاريخنا المعقد وتاريخهم، وتوحي في الوقت نفسه بأن التضامن العزائي بين الكتاب كان ممكنًا.
    في كل اجتماع آخر مع كتاب داخل غرف معبأة بالدخان، كنت أشعر بالكبرياء المتبادل والعار المشترك. لقد أدركت ذلك وكان التعبير عنه علانية أحيانًا، وألمسه بنفسي في أحيان أخري أو أراه في تلميحات وتعبيرات الآخرين. كان معظم الكتاب، المفكرين، والصحفيين، الذين التقينا بهم، غالبًا ما يعرفون أنفسهم، في تلك الأيام، بأنهم من اليسار. لهذا يمكن القول بأن مشاكلهم كانت ذات علاقة بالحريات التي يحظي بها الديمقراطيون في الغرب الحر. بعد ذلك، وبعشرين عامًا أري ما يقارب نصف هؤلاء يقف في صف واحد مع أصحاب الاتجاهات القومية المتنازعة مع اتجاهات غربية وديمقراطية. ومن المؤكد أن هذا الأمر يشعرني بالحزن.
    لقد تعلمت من تجاربي، كدليل، والتجارب المشابهة لآخرين، شيئًا نعرفه جميعًا وأرغب في انتهاز الفرصة للتأكيد عليه الآن: إن حرية التفكير وحرية التعبير هما من الحقوق الأساسية العالمية للإنسان دون النظر إلي طبيعة الدولة. وهذه الحريات التي يشتهيها الإنسان المعاصر، كما يشتهي الخبز والماء، لا يجب تقييدها باستخدام عاطفة قومية أو حساسيات أخلاقية، أو مصالح تجارية أو عسكرية. والأخيرة هي الأسوأ علي الإطلاق. وعندما يعاني العديد من الدول خارج العالم الغربي، وبخجل، من الفقر، لا يكون ذلك بسبب أنها تملك حرية التعبير، بل بسبب أنها لا تملك هذه الحرية. وبالنسبة لهؤلاء الذين يهاجرون من دولهم الفقيرة إلي دول الغرب والشمال، هربًا من صعوبات اقتصادية واضطهاد وحشي، يجدون أنفسهم، وكما نعرف، تحت وطأة وحشية أشد، بسبب عنصرية يتعرضون لها في دول غنية. نعم، يجب أن نتنبه أيضًا إلي هؤلاء الذين يشوهون سمعة المهاجرين والأقليات بسبب معتقداتهم الدينية أو أصولهم العرقية، أو بسبب آثار البطش التي تتركها ممارسات حكومات الدول التي جاءوا منها، علي مواطنيها. لكن احترام إنسانية ومعتقدات الأقليات لا يعني أننا يجب علينا تقييد حرية التفكير. واحترام حقوق ومعتقدات الأقليات العرقية لا يجب أن يكون ذريعة لانتهاك حرية القول. وعلينا، نحن الكتاب، ألا نتردد إزاء هذا الأمر مهما كانت تلك الذريعة مستفزة. إن لدي البعض منا تفهمًا أفضل للغرب. وبعضنا ينجذب أكثر إلي هؤلاء الذين يعيشون في الشرق، والبعض، وأنا منهم، يحاول أن ينفتح علي جانبي هذا التقسيم المصطنع إلي حد ما. لكن ارتباطاتنا الطبيعية ورغبتنا في فهم هؤلاء الذين يختلفون عنا، يجب ألا تقف في طريق احترامنا لحقوق الإنسان.
    دائمًا ما أجد صعوبة في التعبير عن مواقفي السياسية بشكل واضح، حاسم، وقوي، إذ أشعر وكأنني مدع يقول أشياء ليست صادقة تمامًا. سبب ذلك هو علمي بعدم استطاعتي تكثيف ودمج أفكاري حول الحياة في نغمة موسيقية مفردة أو وجهة نظر وحيدة. أنا روائي في نهاية الأمر، وصنف من الروائيين الذين يجعلون عملهم هو التطابق والتماثل مع كل شخصيات رواياتهم، وخاصة الشخصيات الشريرة. والعيش، كما أعيش أنا، في عالم يستطيع فيه شخص ما، أن يتحول، وخلال فترة قصيرة، من ضحية استبداد إلي مستبد، علمني أيضًا أن الإصرار علي التمسك بمعتقدات حول طبيعة الأشياء هو في حد ذاته عمل صعب. إنني أؤمن أيضًا أن معظمنا تؤانسه، وفي وقت واحد، تلك الأفكار المتناقضة داخل روح الإرادة الطيبة والنوايا الحسنة. إن متعة كتابة الروايات تكمن في الكشف عن هذه الحالة العصرية المميزة، حيث يتناقض الناس، بشكل مستمر، مع ما في عقولهم. إن عقولنا المعاصرة غامضة إلي درجة تجعل لحرية التعبير أهمية قصوي: نحتاج «هذه الحرية» لكي نفهم أنفسنا، ونفهم أفكارنا الغامضة المتناقضة، ونحتاجها بسبب الكبرياء والعار اللذين سبق وأشرت إليهما.
    دعوني أحكي لكم حكاية أخري قد تلقي بعض الضوء علي العار والكبرياء اللذين شعرت بهما قبل 20 عامًا مضت، وأنا أصطحب ميلر وبنتر في جولات حول مدينة استنبول. ففي السنوات العشر التي تلت تلك الزيارة وقعت سلسلة من مصادفات ناجمة عن نوايا حسنة، مشاعر غضب، إحساس بالذنب، وتباينات شخصية، قادتني إلي حرية التعبير، منبتة الصلة برواياتي، وقبل وقت طويل من تجسيدي لشخصية سياسية كانت أشد بأسًا إلي درجة لم أخطط لها. في ذلك الوقت كان مؤلف هندي كبير السن، أعد تقرير الأمم المتحدة حول حرية التعبير في ذلك الجزء من العالم الذي أعيش فيه، قد جاء إلي استنبول وراح يبحث عني. والذي حدث أننا التقينا في فندق هيلتون، أيضًا، وفور جلوسنا إلي المائدة بادر السيد الهندي بتوجيه سؤال لا يزال صداه يتردد بشكل غريب داخل عقلي. سألني: ما الذي يجري في بلدك وترغب في سبر أغواره في رواياتك لكنك لا تحاول الاقتراب منه بسبب محظورات شرعية؟
    بعد السؤال مرت فترة صمت طالت ووجدت نفسي في خضم تفكير عميق. غرقت في تساؤل ديستو فيسكي(4) ذاتي موجع. وكان واضحًا أن السيد القادم من الأمم المتحدة يسألني عن المسكوت عنه في بلدي، نتيجة للمحرمات والمحظورات الشرعية، والسياسات القامعة. لكنه صاغ السؤال في إطار ما أكتبه من روايات لأنه مهذب. أما أنا، وفي ضوء تجربتي، فقد أخذت السؤال في إطار معناه الحرفي. ففي تركيا، وخلال عشر سنوات مضت، كان هناك العديد من الموضوعات التي أغلقت القوانين وسياسات الدولة القمعية، أبواب الحوار حولها. لكنني، وباستعراض هذه الموضوعات، الواحد تلو الآخر، لم أجد موضوعًا واحدًا أرغب في سبر أغواره في رواياتي. رغم ذلك أدركت أنني سأقدم انطباعًا خاطئًا إذا ما قلت أنه لا يوجد ما أرغب في الكتابة عنه، في رواياتي، ولا أستطيع مناقشته لأنني كنت قد بدأت بالفعل تناول كل تلك الموضوعات بشكل علني ولكني خارج رواياتي. الأكثر من ذلك أن مجرد التفكير في طرح تلك الموضوعات في رواياتي لمجرد أنها موضوعات محظورة، كان يصيبني بالغضب. وبينما كانت كل تلك الأفكار تعبر خاطري، شعرت فجأة بخجل من صمتي الذي طال واستقر في يقيني أن حرية التعبير لها جذورها المرتبطة بالكبرياء، وهي في جوهرها تعبير عن الكرامة الإنسانية. لقد عرفت علي المستوي الشخصي ، كتابًا اختاروا طرح قضايا محظورة لمجرد أنها محظورة. أظن أنني غير مختلف. لأنه، وعندما يوجد كاتب آخر، في دار آخر، ليس حرًا، فهذا معناه عدم وجود كاتب حر. هذه حقًا هي الروح التي تشكل التضامن الذي تشعر به «الجمعية الدولية للشعراء PEN، ويشعر به الكتاب في أنحاء العالم كله.
    أحيانًا ما يخبرني أصدقائي بأني ما كان يجب علي صياغة أمر ما بالشكل الذي صغته به و«لو أنك صغته، هكذا، وبأسلوب لا يضير أحدًا لما كنت في مثل ما أنت فيه من ورطة». لكنك إذا ما غيرت في كلمات المرء وغلفتها بأسلوب يحظي بالقبول، من الجميع، داخل ثقافة مقموعة، وتصبح ماهرًا في هذا الميدان، فإن ذلك يشبه إلي حد ما تهريب بضائع ممنوعة عبر الجمارك. وهذا فعل مشين ومُحقر.
    إن الفكرة الرئيسية لمهرجان هذا العام «للجمعية الدولية للشعراء PEN»، هي العقل والعقيدة. ولقد سردت كل تلك الحكايات بهدف تجسيد حقيقة واحدة هي أن بهجة التعبير الحر عما نشاء قوله ترتبط بالكرامة الإنسانية رابطة لا انفصام لها. لذا دعونا نسأل أنفسنا الآن عن مدي معقولية تشويه الثقافات والديانات، بل وقصف دولة بالقنابل، وبلا رحمة، تحت اسم الديمقراطية وحرية التعبير. إن الجزء الذي أعيش فيه، في هذا العالم، لم يعد أكثر ديمقراطية بعد سقوط كل هؤلاء القتلي. إن اضطهاد وقتل آلاف الناس بلا رحمة في الحرب علي العراق، لم يحقق سلامًا ولا ديمقراطية. لقد أصبحت الأوضاع أكثر صعوبة بالنسبة لأقلية صغيرة تقاوم من أجل الديمقراطية والعلمانية في الشرق الأوسط. وهذه الحرب الوحشية القاسية هي عار أمريكا والغرب. أما المنظمات مثل PEN، والكتاب مثل هارولد 
    بنتر وآرثر ميلر، فهم الكبرياء.


    هوامش للمترجم
    (1) Arther Miller (1915 2005) كاتب مسرحي أمريكي له العديد من الأعمال ذائعة الصيت، من بينها «كل أبنائي»، و«موت بائع متجول» التي فازت بجائزة بوليتزر للأدب.
    (2) Harold Penter شاعر وكاتب وممثل بريطاني فاز بجائزة نوبل للآداب لعام 2005.
    (3) International Association for Poets, Playwriters, Editors, and Novelists
    (4) نسبة إلي Fyodor Dostoevsky (1881 - 1821) الأديب والروائي الروسي العالمي الذي من أشهر أعماله: الجريمة والعقاب، الإخوة كرامازوف، والسكير