‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات تكوين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات تكوين. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 10 يوليو 2014

يان مارتل: الكاتبُ هو الذي يعمل على إحياء الانفعال

يان مارتل: الكاتبُ هو الذي يعمل على إحياء الانفعال

عليك أن تبتكر منهجك الخاص
الأدب والفن ليس فقط للمتعة بل أيضا للانفعال ، فبهما معا يحيا المجتمع، وبصفتي كاتب فأنا أعمل على إحياء ذلك
ترجمة: هيفاء الجبري 
في عام 2001، كان من النادر أن تجد من سمع باسم “يان مارتل” حتى من بين القراء النهمين، وما أن حل عام 2002، وحازت روايته الثانية “حياة باي ” جائزة المان بوكر” حتى صار بالكاد أن تجد قارئا في أي مكان كان لم يسمع به. وفي حين أن الفوز بجائزة البوكر ليس بالضرورة تذكرة ذهاب دون عودة للشهرة والثروة، إلا أنها لفتت القراء إلى كتاب لمؤلف كندي غير معروف نسبيا، وهو الكتاب الذي – كما اتضح فيما بعد- خاطب عددا كبيرا من الأشخاص حول العالم بطريقة وفي فترة زمنية لم يستطع بها أي عنوان معاصر أن يفعل الشيء ذاته. والقصة التي تتحدث عن فتى عاش على متن قارب بعد أن كان الناجي الوحيد مع النمر البنغالي من تحطم سفينة ألهمت القراء للتفكر والتحدث والكتابة في القضايا الشائكة كمعنى الحياة. وهكذا ما إن انطلقت الرواية إلى العالم حتى أصبحت ظاهرة فريدة بحد ذاتها، وبعبارة أخرى أصبحت من الكلاسيكيات الذائعة.
ثم اكتسح اسم “يان مارتل” وسائل الإعلام، وكأي ابن من أبناء الدبلوماسيين، عاش مارتل طفولته متنقلا بين البلدان، وبعد أن حصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة وقضى بعدها سنوات متنقلا بين المهن أصبح كاتبا ومفكرا ذا شأن، وأصدر مجموعة قصص قصيرة تحت عنوان “حقائق وراء روكاماشيوز هلسنكي” ورواية “الذات” ولكن لم تحظيا بشعبية في مرحلة التسعينات. وحاليا يتنقل مارتل من مكان لآخر لترويج روايته “حياة باي” كما سيقوم بانتقاء الرسوم المناسبة لإخراج نسخة مزودة بالصور للرواية.
وظل مارتل صادقا مع ذاته ووفيا لبلاده إذ أنشأ مشروعا تحت عنوان “ماذا يقرأ ستيفن هاربر؟” دعما منه للأدب والفن، ويقوم في هذا المشروع بإرسال كتاب و إرفاق رسالة شخصية به إلى رئيس الوزراء كل أسبوعين، وكان ينشر الرسائل وعنوانين الكتب التي يبعث بها إلى الرئيس في هذا الموقع whatisstephenharperreading.ca).) حيث يطالع القراء نادٍ للكتب ربما يعد من أكثر الأندية تحيزا ومدعاة للحسد.
ثم شرع بعد ذلك في كتابة كتاب جديد. والآن كثر الحديث حول عودة مارتل المرتقبة منذ وقت طويل ليطالعنا براويته الجديدة الرمزية “بياترس وفرجيل”، ولكن مارتل ذاته قالها بصراحة في حواره المنشور بصحيفة “رايترز دايجست” قبيل إصدارها في أبريل: ” لا أجزم إن كانت الرواية ستفي بالتوقعات بعد ما حققته رواية “حياة باي” من النجاح فقد وصلت مبيعاتها إلى سبعة ملاييين نسخة وما زالت تباع، وسيتم تحويلها إلى فلم من إخراج آنغ لي وترجمت على ما يبدو إلى 41 لغة، وهذا النوع من النجاح استثنائي فليس هناك أي مجال للمقارنة.
وتستهل رواية بياترس وفرجيل بشخصية الكاتب “هنري” الذي يناضل من أجل مشروعه القادم بعد أن أحدث كتابه السابق ضجة هائلة كتلك التي أحدثتها رواية “حياة باي”، والنتيجة هي حكاية تناولت المحرقة بأسلوب مارتل الخاص: مستعينا بمحنط الحيوانات، والحمارة، والقرد.
ولك أن تقرأ عن حياة مارتل وشغفه بالكتابة والقراءة، وكيف أن الأدب والفن حياته ومتنفسه.
• لديك خلفية عن الفلسفة، ويبدو أنك تخلق فلسفة كاملة جديدة في قصصك؛ فلسفة تعتم الخطوط الفاصلة بين القصة والقاص.. بين الراوي والمؤلف بل حتى بين الخيال والحقيقة، هل هذا حقا ما تسعى إليه؟
لا، لأن ذلك الفعل يقتضي وعيا بالذات وهو الأمر الذي لست أمتلكه بعد. وكما تعرف، فالأعمال الإبداعية تختلف عن الطهي مثلا حيث يكون لديك مجموعة من المقادير وما عليك إلا أن تتبع الأساليب المعهودة في الإعداد، بخلاف الأعمال الإبداعية التي لا تفرض عليك إتباع الأساليب المعهودة، لذلك عليك أن تبتكر منهجك الخاص وهذا ما يحدث بطريقة عفوية هي أن تبدأ الكتابة ثم بعد ذلك تسير بك الأمور إلى مسار محدد.
ما أفعله عن وعي ومعرفة هو أنني في كل كتاب أتناول قضية من القضايا التي تشغل اهتمامي. فكل كتاب من كتبي يعد سيرة ذاتية فكرية، ففي كتاب “هلنسكي” حاولت استكشاف ما يمكن أن تفعل القصص، وفي رواية “الذات” كنت أستكشف الهوية الجنسية، وفي رواية “حياة باي” حاولت سبر أغوار الدين والإيمان وعلاقتهما بالحقائق، وفي كتاب “بياتريس وفرجيل” كنت أنظر إلى المحرقة نظرة المتأمل، وكل هذه القضايا كانت تشغل تفكيري في مرحلة أو أخرى من مراحل حياتي، وكان الأسلوب المفضل لدي في تناول مثل هذه القضايا هو الخيال– تحويلها إلى قصص، وهذا ما يجعل الأمر ذا معنى ومتعة بالنسبة لي.
• في رواية “حياة باي” ذكرت أنك أردت أن يحار القراء في ما إذا كانت القصة حقيقة أم غير ذلك، ويبدو أنك نحوت المنحى نفسه في كتاب “بياترس وفرجيل”، برأيك لم يمنح ذلك المنحى القصة هذه القوة؟
لأنها تشرك القارئ، فمثلا رواية “حياة باي” تستدعي أن يتساءل القارئ أي القصتين هي الحقيقة: القصة بالحيوانات أم بدون الحيوانات؟ وهنا يأتي دور القارئ في اتخاذ القرار، وهكذا يصبح شريكا في القصة.
أما كتاب “بياترس وفرجيل” فهو ينحو منحى مختلفا من الغموض إذ يستحث القارئ على التفاعل مع “المحرقة” بطريقة مغايرة لتفاعله معها في سياق السرد التاريخي، كنت أريد أن يشعر القراء بهذه المأساة بطريقة جديدة، لأنني لم أر طرحا مختلفا لهذا الحدث، فكل ما سبق طرحه لا يتجاوز السرد الوقائعي والمذكرات والتوثيق التاريخي، ولا يعد ذلك خطأ بطبيعة الحال – فنحن نحتاج إلى معرفة ما حدث فعلا قبل أن نضمه إلى حراكنا المعرفي – ولكن ليس لدينا إلا القليل نسبيا مما كتب عن المحرقة بالأسلوب القصصي الخيالي، وهذا ما يحتم علينا أن نطلق العنان كله للخيال في تصوير “المحرقة” تماما كما كتب عن الحرب، فموضوع “الحرب” مثلا قد حظي بكافة أنواع الكتابة القصصية الخيالية بينما لا تزال الكتابة عن المحرقة تفتقر إلى ذلك ولهذا حاولت أن أتجاوز الحرفية والواقعية في الكتابة عنها.
وأنا أرى أن “بياترس وفرجيل” أقل غموضا من “حياة باي”، ولكني أردت أيضا أن يشعر القارئ بالمفاجأة، تماما كما تفاجأ اليهود في أوروبا بالمحرقة إذ لم يتوقعوها أو كانوا ينكرون حدوثها.
• في رأيك، ما ذا يمكن أن يتعلم الكُتَّاب إبداعيا من خلال إعادة التفكير بالحدود بطريقة مشابهة لما فعلت أنت؟
حسنا، أعتقد أن على كل كاتب أن يفعل ذلك، إلا إذا كان من كتاب قصص الخيال الشعبي، التي تحتم عليه أن يلتزم بالمنهجية الخاصة بهذا النوع من الكتابة، لأن القارئ يتوقع ذلك، وبالنظر إلى نقاط القوة والضعف، فإني أرى أن قصص الخيال الأدبي ليس لها منهجية محددة تستدعي الالتزام بها، ولذلك قد نرى عملا روائيا ضخما مخالفا تماما للتوقعات، وهذا ما يجعل هذه الأعمال صعبة القراءة، لكنها بذلك تكتسب أصالة كبيرة ، لذلك على الكاتب نفسه أن يحدد مكانه في المساحة الممتدة ما بين الخيال الشعبي والخيال الروائي، ولا يمكن فعل ذلك إلا باتباع المنهجية ثم مخالفتها حتى يجد الكاتب المكان المريح له، ولن يرتاح إلا أذا عرف جيدا لم يكتب وماذا يكتب، لذا فعليه أن يتحرك هنا وهنا حتى يجد المكان الملائم له.
كل كتاب من كتبي يعد سيرة ذاتية فكرية
كل كتاب من كتبي يعد سيرة ذاتية فكرية
• تعتبر رواية حياة باي عملا ضخما وهي أول تجربة تحتم عليك متابعة العمل السابق مع مراعاة التوقعات الخارجية، ما ذا تمثل لك هذه التجربة لك؟
كنت أفكر في قصة “بياترس وفرجيل” قبل أن يتحقق ما تتحقق من النجاح لرواية حياة باي، والآن يبدو لي أن الأخيرة هي العمل الأبرز، ولكنني في طور كتباتها كنت كاتبا فقيرا يعيش في مونتريال، وكان دخلي في السنتين السابقتين لإتمامي كتابة الرواية لا يتجاوز 6000 دولار في العام أي أنني كنت أعيش تحت خط الفقر، وكنت أسكن مع رفقاء، ولا أدخن، ولا أشرب، ولا أمتلك سيارة ولا أحتاج كثيرا من المال. فأمي وأبي يسكنان قريبا من هنا، وأقوم عندهما بغسيل الملابس وتناول الطعام في بعض الأحيان، وهكذا جرت الأمور على نحو مرض تماما وكنت سعيدا جدا.
في هذه الرواية صوّرتُ حديقة الحيوان على الرغم من أن معظم القراء لا يحبون هذه الحدائق باعتبارها سجونا، وكتبت عن الدين الذي يحترم الدين، وعن مفهوم الإيمان الذي يعد في التيار الكندي السائد موضوعا قديما.
إنها في نظري رواية تقليدية بجدارة، وما حققته من نجاح كان معجزة، صحيح أنني أحببته ولكنه لم يكن بمحض جهدي، أنا حقيقة لا أشعر أنني وحدي من صنعت هذا النجاح ولكن من حسن الحظ أن العمل ضرب على وتر حساس عند كثير من الناس، وكان الناشر موفقا في إصداره في الوقت المناسب ثم حالفني الحظ بلجنة تحكيم جائزة البوكر المكونة من خمسة محكمين ومن حسن حظي أيضا أن نالت الرواية استحسانهم من بين الكتب المرشحة، ولو تغير هؤلاء المحكمون الخمسة فلربما فاز كتاب آخر، لذلك أرى أن عامل الحظ كان له دور في هذا النجاح.
وبالتالي لم أشعر بالضغط فالنجاح كان محفوفا بعوامل خارجية تماما؛ باطنيا حياة باي عمل يروي قصة فتى على متن قارب نجاة بصحبة نمر، وهي عن الإيمان وكيفية قراءة الواقع وأن الحياة تأويلات، وكل ما تحقق من نجاح كان شيئا مبهجا لكنه أيضا كان بفضل عوامل خارجية، ولذلك عندما أردت كتابة “بياترس وفرجيل” أغلقت الأبواب أمام كل هذه الضجة، فلكل كتاب عالمه المختلف واحتياجاته التي يفرضها عليك، وفي كل كتاب تسأل نفسك: “هل بإمكاني إنجاز هذا العمل ؟ هل أنا على وعي بما أفعله؟ هل هذا العمل سينجح؟! وإن كنت تعتقد أنه لن ينجح، فكيف يمكن إصلاحه؟ هذه العملية غير مرتبطة بما قبله من الكتب أو ما سيأتي بعده.
أنا من جهة لا أهتم كثيرا لما سيجري لكتاب “بياترس وفرجيل” من حيث المبيعات أو الجوائز، فقد كتبت هذا الكتاب لفهم “المحرقة” ولا أجزم أنه سيفي بالتوقعات بعد ما حققته رواية “حياة باي” من النجاح فقد وصلت مبيعاتها إلى سبعة ملاييين نسخة وما زالت تباع، وسيتم تحويلها إلى فلم من إخراج آنغ لي وترجمت إلى ما يقارب 41 لغة وهذا النوع من النجاح استثنائي فليس هناك أي مجال للمقارنة. صحيح أنني سعيد لاهتمام القراء بكتاب “بياترس وفرجيل” على إثر رواية “حياة باي” ولكن هذا الكتاب مختلف تماما، فإن حظي بإعجاب القراء فسيسرني ذلك وإن كان العكس فسيؤسفني – لكن سأظل على أمل أن ينال العمل القادم إعجابهم وهكذا تستمر الحياة.
• يستهل كتاب “بياتريس وفرجيل” بتصوير إحباط أحد الكتاب من الناشر، تُرى هل من الممكن أن يكون الجانب التجاري من الكتابة سببا في قمع الكاتب كما هو الحال مع شخصية الكاتب “هنري”؟
نعم من الممكن، ولطالما كان الحال كذلك في وجهة نظري، وكأن العالم يُصرّح لك باستمرار أنه لا يريد المزيد من الروايات، أو من القصائد، أو من المسرحيات أو من اللوحات الفنية، وهذا ليس صحيحا فالواقع أنه يحتاج ، بل يحتاج الكثير.
نحن نعيش في عالم رأسمالي رهيب حيث اللهث وراء الربحية والمادية وما أشبه ذلك، وهذا ما يجعل الناس يرغبون في الهروب من هذا العالم، وفي رأيي أن عالم الأدب والفن عالم رائع يحتوي كينونتك، والأدب والفن ليس مهنة يومية كما هو الحال مع المحاسب والطبيب والمحامي وسائق الحافلة، فهؤلاء يستطيعون تغيير المهنة عندما يشعرون بعدم الرغبة في الاستمرار، أما الأدباء والفنانون فلا يستطيعون إذ إن الأدب والفن يحيطهم من كل النواحي وهذا ما يفسر كيف يتضرر أحدهم حين لا يكون أداؤه على ما يرام، ولو قارنا حال الأديب أو الفنان مثلا بطبيب الأسنان لوجدنا أن طبيب الأسنان لا يقلق كثيرا عندما لا يرضى المريض عن أدائه، لأنه يعلم أن مريضا آخر سيأتي في اليوم التالي، أما الكاتب فحين لا يحظى كتابه بمراجعة جيدة فسيواجه بالرفض من جميع النواحي ، وهذا ما يُشعر بالألم حقا، سواء كان الكاتب في بداياته أو في أي مرحلة من المراحل اللاحقة.
وبالتالي فإن الجانب التجاري قد يكون بالتأكيد قاتلا لذات الكاتب، إذ لا يوجد في الواقع ما يفرض عليك أن تشتري كتابا معينا، وعندما يكون هناك تراجع اقتصادي فإن أعمال النشر تتضرر.
والأمر الآخر هو استيلاء الشركات على دور النشر، وخير مثال على ذلك “ألفريد كنوبف” وكانت في الأصل دار نشر تقع في نيويورك، ومؤسسها ألفريد كنوبف الذي لم يكن يجني الكثير من المال، كل ما في الأمر أنه قرأ كتبا ومخطوطات جيدة ثم قام بنشرها، وكانت لديه ذائقة عالية، و اكتسب شهرة كبيرة فيما بعد، ولم يكن يجني الكثير من الأرباح فهو لم يكن إلا ناشرا فقط. ولكن الآن لدينا شركات ضخمة يجني من ورائها ذوو المستويات العليا ثروات معتبرة، ومن يدفع الثمن في ذلك ؟ الكُتّاب هم من يدفع الثمن.
إنها سوق مرهقة، ولكنّ لا يعني ذلك أن يتوقف الكاتب، كل ما عليه أن يجد عملا نظاميا ثم يحاول التوفيق بين ساعات العمل والساعات المخصصة للكتابة، وإن وُفّقَ في ذلك فهذا عظيم، وإن لم يوفق فلا بأس، عليه أن يتصرف كبوذي ويتخلى عن التوقعات.
عندما بدأت الكتابة في بداية العشرينات من عمري بينما كنت على مشارف إنهائي الدراسة الجامعية، كنت فقط أترقب أن تبدأ الحياة؛ أن يشير إلي أصبع قادم من السماء مخترقا الغيوم ويقول: “ستصبح محاميا” أو “ستصبح سائق حافلة” ولكني لم أر هذا الإصبع وحينها بدأت أكتب قصصا قصيرة فقط لأقضي الوقت، وكنت بشكل قسري أراجع تقاويم الجامعة “حسنا سأعود إلى الجامعة” ما ذا سأفعل؟ سأضطر للالتزام بأبجديات المهنة ولكن ليس هذا ما أريده، ولذلك عكفت على كتابة هذه القصص القصيرة حتى تحسن الحال بشكل بطيء.
ولكن لم أتوقع أبدا أن أمتهن الكتابة، وما زلت لا أرى ذلك، فحين يحقق أحد كتبك نجاحا هائلا فهذا أمر مقدر، لكن أن تكون الكتابة مهنة يُخطط لها كما يُخطط لأي مهنة أخرى فهذا ما لا يمكن، والأمر ينطبق على كافة مجالات الأدب الفنون، فالكاتب مضطر إلى أن يكتب خضوعا للرغبة الملحة في داخله، فهو لا يستطيع أن يتنفس دون الكتابة، ولكن من الصعب التنبؤ بالنجاح أو عدمه. صحيح أن النجاح يجعلك أكثر ثقة ويفتح الأبواب أمامك، ولكن هذه الأبواب قد تقفل، وتفتح أبواب أخرى لأشخاص آخرين.
منذ أعوام قلائل، تحدثت علانية عن إصدار (Flip book) تماما مثل ما فعل “هنري” الذي قوبل بالرفض من قبل الناشرين في قصة “بياتريس وفرجيل”، هل هذا المشهد مستقى من تجربتك – هل سبق أن قوبل أحد كتبك بالرفض من قبل المحررين؟
نعم حصل، على أن التفاصيل تختلف قليلا إلا أن النتيجة مماثلة، فقد كتبت مقالا مطولا استغرق مني سنتين في الكتابة لكن الناشرين لم يتقبلوه وتبريرهم جدير بالاعتبار، فهم يرون أن الجمع بين رواية ومقال في كتاب واحد وتحت عنوان واحد – فالمقال يتحدث بمباشرة عن المحرقة، والرواية تتناول تجليات المحرقة – فإن ذلك بالضرورة سيؤثر على تلقي القراء للرواية، والأرجح أنهم سيقرؤونها على ضوء ما كتب في المقال.
وهذا لم يشكل لدي مشكلة ولكنهم بخلاف ذلك يرون أنني بهذه الطريقة أضع الرواية في صندوق، فهل هذا تبرير منطقي؟ لا أعلم. ولكن على أية حال تنازلت عن المقال، ومن الصدفة أن الكتاب جاء على طريقة Flip book من حيث تعاكس الغلافين، وكأنه يشير إلى ما جرى من النقاش بين هنري والناشرين.
وكما أنك في مجال الفنون لا بد أن تؤمن بذاتك وبما تفعل، إلا أن الموازنة مطلوبة، فالفن والأدب نشاط اجتماعي، وفيه تواصل مع القراء أو المشاهدين، أو المستمعين، ولا بد من الاستماع إليهم، ولذلك لا بد من المقاربة: أن تؤمن بذاتك وتحاول مراعاة الجمهور، وهذا ما دفعني للتنازل عن المقال ولكن لا يزال لدي أمل أن أراه في إصدار.
فالكاتب مضطر إلى أن يكتب خضوعا للرغبة الملحة في داخله، فهو لا يستطيع أن يتنفس دون الكتابة، ولكن من الصعب التنبؤ بالنجاح أو عدمه.
الكاتب مضطر إلى أن يكتب خضوعا للرغبة الملحة في داخله، فهو لا يستطيع أن يتنفس دون الكتابة، ولكن من الصعب التنبؤ بالنجاح أو عدمه.
هذا هو سؤالي التالي.
لم يكن الناشرون متحمسين على وجه الخصوص للمقال، فالسوق الاقتصادية تعتبر المواد غير القصصية مواد متخصصة، وأتصور أن مقالا عن المحرقة في نظرهم لا يعد من الأشكال الكتابية التي قد تحقق أعلى المبيعات، وهذا ما صرف نظرهم عن المقال. فالكتب التي تحقق أعلى المبيعات تدر عليهم الكثير من الأرباح إلى جانب الدعاية، أما الكتب المصنفة على أنها “متوسطة” فهي تلك التي تُنحَّى جانبا.
عندما فرغت من هذا الكتاب، كم في تقديرك أمضيت من الوقت في كتابته؟
قضيت وقتا طويلا في التفكير بالطريقة التي يمكن أن أنتهجها في الكتابة عن “المحرقة” من منظور شخص ليس يهوديا، ولا ألمانيا ولا حتى من أوروبا الشرقية، شخص خارج عن هذه الحدود تماما، ولكن المحرقة قد أزعجته بما يكفي للكتابة عنها، وقد أبدع كتاب آخرون في الكتابة، وكنت أتساءل كيف يمكنني أكتب قصة عن المحرقة؟ فالقضية أكبر من أن تختصرها قصة، إن جريمة قتل واحدة قد تكتب عنها ستة ملايين قصة، ولكن كيف لستة ملايين جريمة قتل أن تحتوى في قصة واحدة فقط.
عندما فزت بجائزة البوكر عام 2002، كنت حينها أُدَرِّس فصلا دراسيا في جامعة فري في برلين، وكنت أراها فرصة ممتازة أن أكتب عن المحرقة في برلين، وأي مكان أفضل من برلين وهي قلب الحدث الذي حصلت فيه هذه المأساة البشعة، وكنت أفكر وأخطط أن أجري الكثير من البحوث والكتابات، ثم جاءت جائزة البوكر وما صاحبها من الضجة وتوقفت، ولكني لم أتوقف عن التفكير بها، وربما أقول أنني أمضيت سبع أو ثمان سنوات، على الرغم من أن الرواية ليست طويلة.
أتصور أنك تلقيت – كهنري – عددا كثير من الرسائل الإلكترونية بما فيها رسالة من الرئيس أوباما وقد حظيت بتغطية إعلامية متميزة، هل ترد على رسائل قرائك؟
نعم أرد، ومن الطريف أنني إلى الآن لم أرد على رسالة الرئيس أوباما – لك أن تسميها سذاجة – لكن لا بد أن أرد …أنا أرد على جميع القراء.
ما هو أفضل الرسائل في رأيك؟
جميعها رائعة، فأن يقرأ أحدهم كتابك ثم يكتب إليك، فهذا بحق أمر مدهش والرسائل عموما تختلف عن الكتب التي تحمل عناوين مؤلفيها على الصفحة الأمامية، بخلاف الرسائل التي تتخذ أساليب ملتوية، وتخيل موقف الكُتّاب، ربما يرى بعضهم – كما ذكرت في الرواية – أنه كمن يرمي رسالة في زجاجة في المحيط ثم يأتي من يهتم بهذا العمل ويكلف نفسه الكتابة إلى المؤلف. هذا ما يؤثر في نفسي حقيقة.
لكل كاتب فكرة معينة في ذهنه وحين يترجمها إلى كتاب ثم يأتي هؤلاء الغريبون عنك ويبدون اهتمامهم بالكتاب فهذا مؤثر حقا، لذلك أرى أن أقل ما أفعله هو أن أرد على رسائلهم.
بمناسبة الحديث عن الرسائل، أنت أمضيت الآن ما يقارب ثلاث سنوات في مشروعك “ما ذا يقرأ ستيفن هاربر”، وقد قابلتُ شخصيا بعض الأشخاص الذين اعتبروا عدم رده على رسائلك أمرا محبطا، هل تراه كذلك؟
أنا أراه مفاجئا، فقد أرسلت إليه 76 كتابا، و76 رسالة، ولم أتلق منه ردا واحدا. تلقيت خمسة ردود من موظفيه لكنها كانت ردود عامة جدا وهي موجودة على الموقع، مثل “العزيز مارتل شكرا لهذا الكتاب، نقدر لك هذه الرسالة، شكرا جزيلا للطفك، مع فائق الاحترام” وفي آخر الرسالة اسم الشخص المرسل. وكوني من أصحاب الأدب فأنا متفاجىء بعدم رده، وأظن أنه لم يقرأ كتابا قصصيا منذ انتهائه من المرحلة الثانوية حيث يطلب كجزء من متطلبات المنهج الدراسي، وربما أنه يشعر بشيء من الخجل وشيء من الرغبة والافتقار في هذا الجانب ولكنه لا يريد الاعتراف، لأنه لو كتب إلي ردا صريحا كأن يقول مثلا : ” السيد العزيز مارتل، أنت على حق تماما، أنا لم أقرأ الكثير، وأجدني غير مهتم، ربما لم أوفق في قراءة الكتب الصحيحة، وقد تكون محقا ولكن هذه هي طريقتي، وبصفتي رئيس الوزراء فأنا مشغول جدا، ولكن بعض الكتب التي أرسلتها إلي استوقفتني، وعندما أجد الوقت الملائم فسأحاول قراءتها. هذا كل ما بوسعي فعله، وتقبل تحياتي، ستيفن هاربر” لو تلقيت هذا الرد الصريح منه، لتراجعت تماما عن مشروعي لأنني لو واصلت بعد ذلك فسيقول الناس هذا شخص متعجرف ولسان حالهم يقول : ” أخبرك الرجل أنه مشغول جدا وأعتذر عن القراءة ولكنه سيحاول إن أمكن، ما ذا تريد منه أكثر؟”
لكنه لم يفعل، وكلما طال هذا الصمت، فسيكون الحال أكثر حرجا وأكثر افتضاحا فهناك شاهد عام على ذلك وهو الموقع الإلكتروني، والعبرة أن نسأل الناس ونستمع إلى ما يقولون: هل نريد أن يقود المجتمع رجل أبيض البشرة في منتصف العمر لا يفقه شيئا في الآداب والفنون ؟ إذا كان هذا الحال، فأنا أتساءل من أين يستمد هذا القائد رؤاه القيادية؟
خذ مثلا كتاب ” العين الأكثر زرقة” للكاتبة توني موريسن، وهو أحد الكتب التي بعثت بها إليه. هذا الكتاب لا يرتبط بواقع ستيفن هاربر، ولا بواقعي شخصيا، ولكن إذا لم يقرأ السياسيون أو أصحاب السلطة أبدا هذا النوع من الكتب، فكيف سيصلون إلى مشاعر الآخرين؟  والمشكلة أنه إذا رضي الناس بعدم الحاجة إلى قراءة مثل هذه الكتب، فمعنى ذلك أن حياتهم منغلقة، وأنهم معرضون للأدلجة بشكل أكبر وهذا بالضبط ما ينطبق على ستيفن هاربر.
بعد انقضاء فترة رئاسة هاربر، هل ستستمر في إرسال الكتب إليه ؟
هل تمزح؟ لا قطعا، لا يمكن أن أستمر، فأنا بكل شغف أترقب خسارته في الانتخابات، فقد بذلت جهدا مضنيا، صحيح أنني قضيت وقتا ممتعا إذ اكتشفت كتبا جديدة وأعدت قراءة أخرى، وهذا رائع – لكني متشوق لخسارته لأن ذلك لن يكون لصالح البلد فحسب بل أيضا لصالحي.
يبدو من خلال أفعالك وأيضا من خلال ما تطرحه من القضايا في قصصك أنك حريص جدا على التصدي للامبالاة، هل لك أن تخبرنا ما الذي يدفعك لذلك؟
اللامبالاة سلوك غير لائق في جميع الميادين، ولاسيما في ميدان الأدب والفنون، وربما يُعذَرُ من لا يهتم بمجال العلوم مثلا لأنها علوم غير شخصية لا ترتبط بذاتك، فأنت حين تقود سيارتك لا تهتم أن تعرف كيف تعمل، كل ما يهمك أن تكون آمنة عند القيادة.
أما مجال الأدب والفن فمختلف تماما، إذ هو الأداة الكبيرة للتأمل والتفكر واختبار الحياة، لذلك فهو مرتبط بالذات ارتباطا كليا، بل هو متغلغل فيها، ومن يقل أنه لا يهتم فبالأدب فقد خالف الصواب، إذ إن طريقة ملبسك، ومأكلك، واللغة التي تتحدث بها، كل هذه انبثاقات ثقافية، فإن لم يسبق لك أن قرأت كتابا أو شاهدت مسرحية أو قرأت قصيدة، أو شاهدت فيلما ليس من الأفلام الهوليودية التقليدية الرائجة فهذا حتما يعني أنك لا تقدر التجربة الإنسانية.
ومن ناحية عملية أكثر، فالأدب والفن يجعلك تفكر، وتتمرد، وإذا لم تكن ثائرا، فإنك ستغرق في السائد، وهذا بالنسبة لي ما يجلب الشقاء للمجتمع.
فالأدب والفن ليس فقط للمتعة بل أيضا للانفعال ، فبهما معا يحيا المجتمع، وبصفتي كاتب فأنا أعمل على إحياء ذلك، وأعتقد أن كل كاتب يفعل كما أفعل، فكل كاتب يحاول بطريقة أو بأخرى أن يستنهض الناس قليلا وكأنه يقول: “هل فكرتم في هذا الأمر، هل استوعبتموه ، هل أحسستم به؟
اللامبالاة سلوك غير لائق في جميع الميادين، ولاسيما في ميدان الأدب والفنون
اللامبالاة سلوك غير لائق في جميع الميادين، ولاسيما في ميدان الأدب والفنون
هل ترى أنه من المسؤولية الاجتماعية أن يطرح الكاتب هذه الأسئلة؟
لا أرى ذلك ، فالأمر متروك للكاتب وهو من يقرر لم يفعل ما يفعل، وما يميز الأدب والفن أيضا حرية التصرف، فالكاتب ليس له مدير، صحيح أن هناك ناشرون ولكن مهمتهم تقتصر على إصدار الكتب لا كتابتها، ولهذا فأنت عندما تكتب أو ترسم أو تعزف أو ترقص، فإنك تتمتع بحرية كاملة. إنك تفعل ما تشاء.
وفي ذلك ما يبرر كون الأدب خطيرا إذ تتسع مساحته إلى أقصى درجات الحرية، ولذلك يمكن القول بأن الأدب قد يربك الأنظمة السياسية، فالأديب لا يدين لأي شخص. وهذا ما يمنح الكُتّاب الحرية في النقد، ولكن لا ينبغي إجبارهم، فالإجبار يقيد مساحة الحرية لدى الكاتب، لذلك فهو صاحب القرار فيما يريد أن يكتب.
هل تعمل حاليا على مشروع جديد؟
لدي مشروع الآن كان في الواقع يشغل تفكيري منذ عشرين عاما: رواية تصور ثلاثة من قردة الشمبانزي في البرتغال. وستكون حول دور المعلمين العظماء في حياتنا. لكل منا معلمه إما بالمعنى الحرفي وأقصد بذلك معلمي المدرسة المُلهِمين أو الموجهين كالأبوين أو المرشدين في فترة الشباب؛ ما ذا يحدث لأحدنا حين يُتوفى قائده الروحي؟ أنا مفتون نوعا ما بذلك: ظاهرة رحيل المعلم العظيم. وسأبدأ بحثي هذا الخريف بعد الانتهاء من رحلاتي.
وكم ستستغرق رحلاتك؟
ستستغرق سبعة أسابيع في أمريكا الشمالية.
وهل لك دور فعلي في فيلم “حياة باي”؟ لاحظت تغيير المخرجين عدة مرات
نعم، والمخرج الآن هو آنغ لي ولكنه لم يُعطَ الضوء الأخضر بعد في هوليود، ولكني مؤخرا سمعت أنهم سيبدؤون التصوير في سبتمبر في تايوان، وعلى حد علمي أنه بدأ فعليا. ومشاركتي في الفلم غير رسمية إطلاقا، هم من اقتنى الكتاب ولهم أن يفعلوا ما يشاؤون، ولكنهم كانوا لطفاء جدا ووضعوني في الصورة، وكانت تجربتي معهم إيجابية جدا، وكانوا حريصين جدا “نريد أن نفعل ما بالإمكان لإخراج الفلم في أفضل صورة بناء على الكتاب” وكانوا في الحقيقة أكثر مني حزما ودقة في الإخراج.

الأحد، 6 يوليو 2014

راي برادبيري: الكتابة متعة خلابة، وهي الجنون في حياتي

راي برادبيري: الكتابة متعة خلابة، وهي الجنون في حياتي

الخيال العلمي ليس فنّ الممكن وحسب، بل هو فنّ الواضح.
الخيال العلمي ليس فنّ الممكن وحسب، بل هو فنّ الواضح.
ترجمة: بثينة العيسى
 راي برادبيري روائي أمريكي (1920 -2012) كتبَ في مجال أدب الرّعب والخيال العلمي، ليس الخيال العلمي الذي بالكادِ يلامس اهتمامات راهننا الإنساني والثقافي، بل النوع الآخر الذي يضيء ببصيرة نافذةٍ مصير الإنسانية ومستقبلها. كاتبٌ مجنون، وعندما أقولُ “مجنون” فأنا أمعنُ في المديح، بدأتُ في ترجمة حوارِه الذي أجراه معه سام ويلر في صحيفة ذي باريس ريفيو، ثم توقفت لأشهر حتى أقرأ عمله الأشهر (451 فهرنهايت) وعدتُ إلى ترجمة بقية الحوار بكلّ الحماسة الممكنة.
أهمية برادبيري لا تقتصر على قدرته المذهلة على إثارة الأفكار في ذهنية المتلقي وحسب، بل لكونه من القلة القليلة التي تتعاطى مع الكتابة بصفتها غبطة، واحتفالٌ أبدي، ومشروع لذة لا متناهية. راي يكتبُ وكأنه يلعب، وهو لا يؤمن بالمعاناة، ويستخدم مخيلته الخلاقة لسبرِ وكشف مستقبلنا أمامنا، ليسألنا: ما الذي سنفعله بشأن سعينا الجماعي الدؤوب نحو القضاء على العالم؟
لماذا تكتب الخيال العلمي؟
الخيال العلمي هو خيالُ الأفكار. الأفكار تثيرني، وبمجرد ما أشعر بالإثارة يفعل الأدرينالين فعله، والشيء اللاحق الذي أعيه هو أنني أستعير الطاقة من الأفكار نفسها. الخيال العلمي هو أية فكرة تطرأ في الرأس ولا تكون موجودة بعد. ولكنها ستوجد قريبا، وستغير كل شيء لكل شخص، ولن يعود أي شيء كما كان عليه. بمجرد ما تكون لديك فكرة تغير جزءا صغيرا من العالم، فأنت تكتب الخيال العلمي. إنه دائما جزءٌ من الممكن، وليس أبدا جزءًا من المستحيل.
تخيل لو أنني، قبل ستين سنة، في بداية عملي ككاتب، فكرت أن أكتب قصة عن امرأة تبتلع حبّة دواء وتدمّر الكنيسة الكاثوليكية، وتتسبب في مجيء حرية المرأة. الأرجح أن القصة ستقابل بالضحك، ولكنها كانت في حقل الممكن، وكان يمكن أن تصنع خيالا علميًا عظيمًا. لو أنني عشتُ في أواخر سنوات الـ 1800، لربما كتبت قصة تتنبأ بأن عربات غريبة سوف تتحرك عبر أراضي الولايات المتحدة قريبًا، وسوف تقتل مليوني نسمة خلال سبعين سنة.
الخيال العلمي ليس فنّ الممكن وحسب، بل هو فنّ الواضح. بمجرد أن ظهرت السيارات، كان بإمكانك أن تتنبأ بأنها ستدمّر الكثير من الأشخاص، كما فعلت.
هل يحقق الخيال العلمي أمراً لا تحققه الكتابة السائدة؟
 نعم، إنه يفعل. لأن الكتابة السائدة لم تهتم بالتغيرات في ثقافتنا خلال السنوات الخمسين الأخيرة. الأفكار المهمة في زمننا – التطورات في الطب، أهمية اكتشاف الفضاء لتطوير جنسنا البشري – تم تجاهلها. النقّاد هم عادةً على خطأ، أو أنهم متأخرون لـ 15 أو 20 عامًا. إنه عارٌ عظيم. إنهم يفوّتون الكثير. أما تساؤل: لماذا يتم تجاهل خيال الأفكار، فهو سؤالٌ يتجاوزني. لا أستطيع تفسيره، إلا من حيث كونه عجرفة فكرية.
هل يقدّم الخيال العلمي طريقًا أسهل للكاتب لاكتشاف الأسس الفكرية؟
 خذ “451 فهرنهايت[i]” على سبيل المثال. أنت تتعاطى مع حرق الكتب، موضوعٌ جادٌ جدًا. يجب أن تتوخى الحذر بشأن وعظ الناس. وعليهِ تضع قصتك في المستقبل بعد بضع سنوات، وتخترع إطفائيًا اعتاد أن يحرق الكتب بدلا من أن يطفئ النيران، وهي الفكرة العظيمة بذاتها، ثم تأخذه في مغامرة لكي يكتشف بأنه.. ربما لا ينبغي حرق الكتب. إنه يقرأ كتابه الأول، ويقع في الحب. ثمّ يرسله إلى العالم لكي يغيّر حياته. إنها قصة شديدة التشويق، وفي داخلها توجد الحقيقة العظيمة التي ترغب بقولها، بلا وعظ.
عادة ما أشير إلى رمزية “فرساوس” ورأس “ميدوزا” عندما أتحدث عن الخيال العلمي. فبدلاً من أن تنظر إلى الحقيقة في وجهها، تنظر من فوق كتفك إلى السطح البرونزي لدرعٍ عاكس، ثم تعود بسيفك وتقطع رأس ميدوزا. الخيال العلمي يتظاهر بأنه ينظر إلى المستقبل، ولكنه في الحقيقة ينظر إلى انعكاسٍ لما هو موجودٌ بالفعل أمامنا.  إذن لديك رؤية مرتدة، مرتدة بحيث تمكنك من أن تستمتع معها، بدلا من أن تكون ذاتيّ الإدراك وخارق الذهن.
 متى بدأت الكتابة؟
 لقد بدأتُ مع إدغار آلان بو. قمتُ بمحاكاته مذ كنت في الثانية عشر وحتى الثامنة عشرة. لقد أغرمتُ بمجوهرات بو. إنه منقّب مجوهرات، أليس كذلك؟ وكذلك إدغار رايس بوروغز وجون كارتر. كنتُ أكتب قصص رعب تقليدية، وهو ما أعتقدُ أن كل من يدخل هذا الحقل سيبدأ به. أنت تعرف، أشخاص يحتجزون في أضرحة. لقد رسمتُ متاهات مصرية.
كل شيءٍ اختمر حتى تلك السنة، 1932، عندما كنتُ في الثانية عشر. كان هناك بو، كارتر، بوروغز، والرسومات الهزلية. لقد استمعت إلى الكثير من برامج الراديو الخيالية، وبخاصة “الساحر شاندو”. أنا متأكد من أنه كان رديئا جدا، ولكن ليس بالنسبة لي. كل ليلة، بعد أن ينتهي البرنامج، كنت أجلس وأكتب النّص كاملا من الذاكرة. لم أستطع منع نفسي. شاندو كان ضدّ جميع مجرمي العالم، وأنا كذلك. لقد استجاب إلى استدعاء للتخاطر، وكذلك أنا.
 لقد أحببتُ الرسم أيضا. كنتُ أرسم رسومات الكارتون. لطالما أردتُ مسلسلي الهزلي الخاص. وبناء على ذلك لم أكن أكتب عن طرزان وحسب، بل كنتُ أرسم بطاقات الأحد التي تخصّني. لقد كتبتُ قصص المغامرات المعتادة، جعلتها في أمريكا الجنوبية، أو بين شعب الآزتيك، أو في أفريقيا. كان هناك دائما العذراء الجميلة والقربان. وعليه فقد عرفتُ بأنني متوجه إلى أحد الفنون. كنت أرسم، أمثل، وأكتب.
لا تستطيع تعلم الكتابة في الكلية. إنه مكان سيءٌ جدًا للكتاب
لا تستطيع تعلم الكتابة في الكلية. إنه مكان سيءٌ جدًا للكتاب
قلتَ بأنك لا تؤمن بالذهاب إلى الكلية لتعلم الكتابة. لماذا؟
لا تستطيع تعلم الكتابة في الكلية. إنه مكان سيءٌ جدًا للكتاب، لأن الأساتذة يعتقدون دائما بأنهم يعرفون أكثر مما تعرف، وهذا غير صحيح. لديهم تعصبات. قد يعجبهم هنري جيمس، ولكن ماذا لو لم تكن تريد الكتابة مثل هنري جيمس؟ يمكن أن يعجبهم جون إيرفنغ، على سبيل المثال، وهو الشخص الأكثر إملالا على مرّ العصور. معظم الناس الذين دُرِّست أعمالهم في المدارس في السنوات الثلاثين الأخيرة.. لا أفهم لماذا تتم قراءتهم، ولماذا يتم تعليمهم. المكتبة، من ناحيةٍ أخرى، ليس لها انحيازات. المعلومات كلها متوفرة لك حتى تؤوّلها. ليس هناك شخص يخبرك بما يجب أن تفكر فيه. إنك تكتشف ذلك بنفسك.
 ولكنّ كتبك تدرّس بتوسّع في المدارس ..
هل تعرف لماذا يختارني المدرّسون؟ لأنني أتحدث بألسنة كثيرة. أكتب استعارات. كل واحدة من قصصي هي استعارة يمكنك أن تتذكرها. جميع الديانات العظيمة هي استعارات. نحن نقدر أشياء مثل “دانييل وعرين الأسد” و”برج بابل”. يتذكر الناس هذه الاستعارات لأنها حية جدا، ولا يمكنك التحرر منها، وهذا هو ما يعجب الأطفال في المدرسة.
 إنهم يقرؤون عن الصواريخ والاشتباكات في الفضاء، قصص عن الديناصورات. لقد كنتُ طوال حياتي أركض حول الحقول وأقطف المواضيع المشرقة. أقلّب واحدة بيدي وأقول: نعم، ها هنا قصة. وهذا هو ما يعجب الأطفال. قصصي اليوم موجودة في آلاف المجموعات القصصية المختارة، وأنا برفقةٍ جيدة. الكتاب الآخرون الذين كتبوا الاستعارات هم في الغالب أموات: إدغار آلان بو، هيرمان ميلفل، واشنغتون إيرفنغ، ناثانيل هاوثورن. كل هؤلاء كتبوا للأطفال، ربما تظاهروا بعكس ذلك، ولكنهم فعلوا.
 إلى أيّ حدٍ يهمّك أن تتبع غرائزك؟
آه. يا إلهي. إنها كل شيء. لقد عرض عليّ أن أكتب سيناريو “الحرب والسلم” قبل بضعة عقود. النسخة الأمريكية من ]الحرب والسلم[ مع المخرج كينغ فايدور. لقد رفضتُ العرض. قال لي الجميع: كيف يمكنك أن تفعل هذا؟ هذا سخيف، فهو كتابٌ عظيم! قلتُ: حسنًا، إنه ليس لي. لا أستطيع أن أقرأه. لا أستطيع التوغّل فيه. لقد حاولت! هذا لا يعني بأن الكتاب رديء. أنا فقط غير مستعدٍ له. إنه يجسّد ثقافة شديدة الخصوصية. لقد طوّحتني الأسماء. زوجتي أحبّته. لقد قرأته مرّة كل ثلاث سنواتٍ طوال عشرين عامًا. لقد عرضوا عليّ المبلغ المعتاد لكتابة سيناريو كهذا، مئة ألف دولار. ولكن، في هذا العالم، لا يمكنك أن تفعل الأشياء لأجل النقود. لا يهمني ما يعرضونه عليك. ولا يهمني إلى أيّ حدٍ أنت فقير. هناك عذرٌ واحد فقط لأخذ النقود تحت هذه الظروف: إذا كان هناك شخص مريض جدًا في عائلتك، وفواتير الطبيب تتراكم عاليًا إلى الحدّ الذي سيدمّرك. عندها أقول: اذهب وقم بالأمر. اكتب (الحرب والسلم) بطريقة رديئة، واندم لاحقًا.
 المشكلة في الرواية هي أن تبقى صادقًا. إذا كنتَ تشعر بكثافة ولديك فكرة مثيرة، فإن القصة القصيرة تكتب نفسها في ساعات قليلة.
المشكلة في الرواية هي أن تبقى صادقًا. إذا كنتَ تشعر بكثافة ولديك فكرة مثيرة، فإن القصة القصيرة تكتب نفسها في ساعات قليلة.
 هل تمثل الرواية والقصة القصيرة مشكلات مختلفة بالنسبة لك؟
نعم. المشكلة في الرواية هي أن تبقى صادقًا. إذا كنتَ تشعر بكثافة ولديك فكرة مثيرة، فإن القصة القصيرة تكتب نفسها في ساعات قليلة. أحاول أن أشجع أصدقائي التلاميذ وأصدقائي الكتّاب على أن يكتبوا القصة القصيرة في يومٍ واحد، حتى ينمو غشاءٌ حولها. حول كثافتها، حول حياتها، حول سبب وجودها. ثمة سببٌ وراء أن تخطر الفكرة في رأسك في تلك الساعة على أية حال. لذا امضِ مع هذا الأمر وتحرّ عنه. اكتبه. ألفين إلى ثلاثة آلاف كلمة في بضع ساعات ليست بالأمر الصعب. لا تدع الناس يتدخلون. اركلهم خارجًا، أغلق الهاتف، اختبئ بعيدًا. إذا أخذت قصة قصيرة معك إلى اليوم التالي، فقد تفكّر بشيءٍ حيالها بين عشية وضحاها، وتحاول أن تجعلها مزخرفة أكثر مما ينبغي، أو تحاول إرضاء شخصٍ ما.
 أما الرواية، ففيها كل أنواع المزالق، لأنها تأخذ وقتا أطول وأنت تدور حولها. وإذا لم تكن حذرًا فسوف تتحدث عنها. وأيضا، من الصعب كتابة الرواية من ناحية إبقاء محبّتك كثيفة. من الصعب أن تبقى منتشيا لمئتي يوم. إذن.. أخرِج الحقيقة الكبيرة أولا. إذا أخرجت الحقيقة الكبيرة، فإن الحقائق الصغيرة ستتراكم حولها. دعها تنجذب إليها مغناطيسيا، تتجه إليها، ومن ثم تتشبث بها.
 هل من مشكلات محددة واجهتها مع أيٍ من رواياتك؟
 في رواية (فهرنهايت 451)، جاءني “مونتاغ” وقال لي: إنني أفقد صوابي. قلتُ له: ما الخطب يا مونتاغ؟ قال: كنت أحرقُ الكتب. قلتُ: حسنا، ألا ترغب بذلك بعد الآن؟ قال: لا، أنا أحبُّها. فقلتُ: اذهب وافعل شيئًا بهذا الشأن. فكتبَ لي الكتاب في تسعة أيام.
هل تحافظ على جدولٍ زمنيّ ضيّق؟
 شغفي يأخذني إلى الآلة الكاتبة في كلّ يومٍ من حياتي. وقد أخذني إلى هناك مذ كنت في الثانية عشرة من عمري. لذا.. لستُ مضطرا لأن أقلق بشأن الجدول الزمني. دائمًا هناك شيءٌ جديد ينفجر في داخلي، وهو الذي يجدولني. أنا لا أجدوله. إنه يقول: اذهب إلى الآلة الكاتبة الآن وأنهِ الأمر.
 أين تنجز كتاباتك؟
 أستطيع أن أعمل في أيّ مكان. لقد كتبتُ في غرف النوم وغرف المعيشة عندما كنتُ يافعًا مع والديّ وأخي في بيتٍ صغير في لوس أنجلوس. لقد عملتُ على آلتي الكاتبة في غرفة المعيشة، بوجود الراديو، وأمي وأبي وأخي يتحدثون في نفس الوقت. ولاحقًا، عندما أردت أن أكتب (فهرنهايت 451) ذهبت إلى جامعة كاليفورنيا وعثرتُ على غرفة طباعة في السرداب. إذا أدخلت في الآلة الكاتبة 10 سنتات، تشتري نصف ساعة من وقت الطباعة.
 هل استخدمت الكمبيوتر؟
 لحين إصابتي بالجلطة، كتبتُ على الآلة الكاتبة طراز IBM سيليكترك. لم أكتب على الكمبيوتر أبدًا. الكمبيوتر هو آلة كاتبة، لماذا أحتاج إلى آلة كاتبة أخرى؟ لديّ واحدة.
غالبية الناس يرون بأن الكمبيوتر يجعل عملية المراجعة أسهل بكثير. بالإضافة إلى التدقيق الإملائي..
 إنني أكتبُ منذ سبعين عامًا، إن لم أكن قادرًا على التهجئة الإملائية الآن فـ ..
 أستطيع أن أعمل في أيّ مكان.
أستطيع أن أعمل في أيّ مكان.
هل تحتفظ بدفتر؟
لا. بمجرد ما أحصل على فكرة، أكتب قصة قصيرة، أو أبدأ رواية، أو أنجز قصيدة. وعليه فلا حاجة بي لدفتر. ولكنني أحتفظ بملفات لأفكارٍ لم تنجح في السنة الماضية، في السنوات الخمس الماضية، في السنوات العشر الماضية. أعود إليها لاحقًا وأنظر إلى العناوين. الأمر يشبه أن يعود الطائر الأب ]إلى العش[ بدودة. فأنت تنظر إلى تلك المناقير الجائعة - كل هذه القصص تنتظر أن يتم إنهاؤها - ومع هذا فأنت تقول لها: أيكم يحتاج إلى إطعام؟ أيكم يحتاج أن ينتهي اليوم؟ والقصة التي تصرخ بصوتٍ أعلى، الفكرة التي تقفُ وتفتح فمها، هي التي يتمّ إطعامها. فأسحبها خارج الملف، وأنجزها خلال ساعات قليلة.
 في كتابك (الزِن في فنّ الكتابة) ذكرت بأنك - في عمرٍ مبكرة - صنعتَ قوائم بأسماء، كطريقة لتوليد أفكار للقص: الجرّة، الحوض، البحيرة، الهيكل العظمي. هل ما زلتَ تفعل ذلك؟
ليس كثيرًا، لأنني بتُّ أولّد الأفكار تلقائيًا. ولكن في الأيام الخوالي كنتُ أعرف بأن عليّ أن أحفرَ في عقلي الباطن، وقد فعلتْ (الأسماء) ذلك. تعلمت هذا في وقتٍ مبكّر؛ هناك ثلاثة أشياء في رأسك: أولاً، كل شيءٍ اختبرته منذ يوم ولادتك وحتى الآن؛ كل ثانية، كل ساعة، كل يوم بذاته. ثمّ هناك الكيفية التي تفاعلت فيها مع هذه الأحداث في دقيقة حدوثها، سواء كانت كارثية أو مبهجة. هذان شيئان موجودان في رأسك ويمنحانك مادّة. ثمّ، بمعزلٍ عن تجاربك الحياتية، هناك التجارب الفنية التي اختبرتها، الأشياء التي تعلّمتها من كتّابٍ آخرين، فنانين، شعراء، مخرجي أفلام، وملحّنين. إذن، كل هذا موجودٌ في عقلك، كمهادٍ رائع، عليك أن تقوم بإحضاره خارجًا. كيف تقومُ بذلك؟ أنا قمتُ بذلك عن طريق إعداد قوائم بأسماء، وسألتُ نفسي عما يعنيه كلّ اسم منها. يمكنك أن تذهب الآن وتعدّ قائمتك الخاصّة وستكون مختلفة عن قائمتي؛ الليل، الصراصير، صافرة القطار، السرداب، العلية، حذاء التنس، الألعاب النارية. كل هذه الأشياء شخصيّةٌ جدًا، ثمّ عندما تنتهي من تدوين قائمتك، تبدأ بإقامة علاقة مع تلك الكلمات. تسأل: لماذا دوّنتُ هذه الكلمة؟ ما الذي تعنيهِ بالنسبة لي؟ لماذا دوّنتُ هذا الاسم وليس الاسم الآخر؟ افعل ذلك، وستكون في طريقك لأن تصبح كاتبًا جيّدًا. لا يمكنك أن تكتب لأناسٍ آخرين، لا يمكنك أن تكتب لليمين أو لليسار، لهذا الدين أو ذاك، لهذا المعتقد أو ذاك. عليك أن تكتبَ الطريقة التي ترى فيها الأشياء. أقولُ للناس: اكتبوا قائمة بعشرة أشياء تكرهونها ثم مزقوها في قصة قصيرة أو قصيدة. اكتبوا قائمة بعشرة أشياء تحبونها واحتفلوا بها، عندما كتبتُ (451 فهرنهايت) كرهتُ حرّاق الكتب وأحببتُ المكتبات، وها نحن هنا.
إذا أعددت قائمتك الخاصة بالأسماء، فأين تذهب من هناك؟
 أبدأ بكتابة بعض الأفكار ((pensées عن الأسماء. إنها نثرٌ شعري. إنها استذكار. إنها تحاولُ أن تكون مجازية، سان جون بيرس نشر عدة مجلدات ضخمة من هذا النوع من الشعر على ورق جميل بطباعةٍ جميلة. كان لدواوينه الشعرية عناوين مثل: أمطار، ثلوج، عواصف، علامات البحر. لا يمكنني تحمّل شراء كتبه، لأنها لابدّ وأن تكلّف عشرين إلى ثلاثين دولار - وكان هذا قبل خمسين سنة. ولكنه أثر علي، لأنني قرأتهُ في متجر الكتب، وبدأت أكتبُ فقرات وصفية قصيرة، 200 كلمة للفقرة الواحدة، وفي تلك الفقرات بدأتُ أختبر (أسمائي). ثمّ أحضر بعض الشخصيات لكي تتحدث عن ذلك الاسم، وعن ذلك المكان، وفجأة، صار عندي قصة تحدث. اعتدتُ أن أفعل الشيء نفسه مع فقرات أمزقها من المجلات اللامعة، كنتُ آخذ الفقرات وأكتب قصائد نثرٍ عنها.
 بعض الصور تثيرُ في نفسي أشياء من حياتي الماضية. عندما أنظرُ إلى لوحات إدوارد هوبر، فهي تفعل ذلك بي. لقد رسم لوحات رائعة عن المدن؛ مقاهٍ فارغة، مسارح فارغة بعد منتصف الليل، ربما بوجودِ شخصٍ واحد. الإحساس بالعزلة والوحدة رائع. سوف أنظرُ إلى تلك اللوحات وأملأها من مخيّلتي. لا زال لديّ كل تلك الأفكار. كانت هذه هي بداية استخراج ما كان لي.
 لماذا تفضّلُ القصص القصيرة على الروايات برأيك؟ هل هي مسألة صبر؟ إنهم يدعونه اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط هذه الأيام.
 أعتقدُ بأن هناك بعض الحقيقة في ذلك، حوّل التزامًا ( (Liabilityإلى أصل (Asset). انتباهي ليس هناك، وعليه فأنا أكتب ما أستطيع كتابته: القصص القصيرة.
إذا كانت المسودة الأولى - كما تقولُ غالبًا - هي لا وعيك متحدّثًا للورقة، فهل تقوم بمعالجته ذهنيًا في مرحلة إعادة الكتابة؟
 بالتأكيد. أمضي داخلاً وأقطع. معظم القصص القصيرة هي أطول مما ينبغي، عندما كتبتُ رواية (شيءٌ شرير يأتي من هذا الطريق)، كانت المسودة الأولى تتألف من 150 ألف كلمة، لقد مضيتُ خلالها وتخلصت من 50 ألف كلمة، من المهم ألا تعترض طريقك الخاص، أزل النشارة، والقمامة. اجعلها واضحة.
أنت كاتبٌ سريع، فهل أنت محرّرٌ سريع؟
لا. أنا أكتبُ مسودتي الأولى بسرعة، بعد عدة أيام أقوم بإعادة طباعة النص كاملا، ويقوم لا وعيي، فيمَ أنا أطبع، بإعطائي كلمات جديدة. ربما يتطلب الأمر إعادة الطباعة عدة مرات حتى ينتهي الأمر. أحيانًا يتطلب الأمر قدرا قليلا من المراجعة.
في أي وقتٍ من اليوم تقوم بمعظم كتاباتك؟
إنني أكتبُ طوال الوقت، أنا أستيقظ في الصباح ولا أعرف ما الذي سأفعله. عادة ما يكون لديّ تصور عن الفجر عندما أستيقظ. لديّ هذا الذي أدعوه (مسرح الصباح) داخل رأسي، كل تلك الأصوات تحدّثني. عندما يخترعون استعارة جيدة، أقفز من السرير وأصطادهم قبل أن يختفوا. هذا هو السرُّ كله: أن تفعل الأشياء التي تثيرك. وأيضًا، أنا غالبًا ما آخذ قيلولة، بهذه الطريقة سوف أحصلُ على صباحيْن.
هذا هو السرُّ كله: أن تفعل الأشياء التي تثيرك.
هذا هو السرُّ كله: أن تفعل الأشياء التي تثيرك.
 هل تضع خطوطا عريضة؟
 لا، أبدًا. لا يمكنك أن تفعل ذلك. تمامًا كما أنك لا تستطيع أن تصمم حبكة ليوم الغد، أو للسنة القادمة، أو لما بعد عشر سنوات. عندما تخطط الكتب مسبقًا فأنت تتخلص من كل الطاقة والحيوية فيها، لن يكون هناك دم. يجب أن تعيش ]الكتاب[ يومًا بيوم وأن تسمح لشخوصك بفعل الأشياء.
 هل سبق لك العودة لإعادة قراءة كتبك وقصصك القصيرة؟
 في أحيانٍ كثيرة، في وقتٍ متأخر من الليل، أنزل إلى الطابق السفلي، أفتح أحد كتبي، أقرأ فقرة وأقول "يا إلهي!"، أجلسُ وأبكي لأنني أشعرُ بأنني لستُ مسئولاً عن أي شيءٍ من هذا. إنها من عند الرّب. وأنا ممتنٌ للغاية، ممتنٌ جدًا جدًا.  أفضل وصفٍ لمسيرتي ككاتب هو (في مسرحية في حقول الرّب)، لقد كانت متعة رائعة، وسأكون ملعونًا من أيّ مكانٍ جاءت منه، لقد كنت محظوظًا، محظوظًا جدًا.
 أفترض أنه لا داعي لسؤالك إذا ما كنتَ تستمتع بالكتابة ..
من الواضح أنني أفعل. إنها متعة خلابة، وهي الجنون في حياتي، وأنا لا أفهم الكتّاب ممن عليهم أن يعلموا عليها. أحب أن ألعب، أنا أستمتع باللهو مع الأفكار، أن أقذف بها في الهواء، مثل قصاصات الورق الملون، ثمّ أركض تحتها. إذا كان عليّ أن أعمل عليها فسأتخلى عنها، العمل لا يعجبني.
 هل تكتبُ لقارئٍ مثالي، أم لجمهور معين؟
 في كلّ مرة تكتب لأحد، بغض النظر عمن يكونون، مهما كانت القضية التي تؤمن بها صحيحة، فأنتَ تكذب. شتاينبك هو واحدٌ من عدد قليل من كتاب الثلاثينات ممن لا زال يُقرأ، لأنه لم يكتب لقضايا على الإطلاق. لقد كتب قصصًا إنسانية تمثّل قضايا بشكل غير مباشر، (عناقيد الغضب) وكتبه الأخرى ليست أطروحات سياسية. (451 فهرنهايت) هي بشكلٍ ما أطروحة سياسية، ولكنها ليست كذلك، لأن كلّ ما تقوله، عاطفيًا، هو: ليترك الجميعُ الجميعَ وشأنهم.
هل للأدب، إذن، أية مسئولية اجتماعية؟
ليس بشكلٍ مباشر. يجب أن يكون ذلك من خلال الانعكاس، والمراوغة. يقول نيكوس كازنتزاكيس (عِش للأبد). هذا هو التزامه الاجتماعي، (الأدويسة: منقذو الرّب[ii]) تحتفلُ بالحياة في العالم. أيّ عملٍ عظيم يحقق ذلك لك. كل ما يقوله ديكنز هو: عِش الحياة في قمّة طاقتك. لم يكن إدغار رايس بوروز لينظر لنفسه على أنه ناشط اجتماعي، أو أنه خضّاض بالتزامات اجتماعية. ولكن كما يتضح – وأحب قولها لأنها تضايق الكثيرين بشكلٍ رهيب، بوروز على الأرجح هو الكاتب الأكثر تأثيرًا في تاريخ العالم.
[i] الرواية صادرة باللغة العربية عن دار الساقي، ترجمة: سعيد العظم، الطبعة الأولى 2014، وحائزة على جائزة بوليتزر للعام 2007.
[ii] Ascesis: The Saviors of God
سلسلة تمارين روحية كتبها الروائي والكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، لم تترجم للغة العربية.