راي برادبيري: الكتابة متعة خلابة، وهي الجنون في حياتي
ترجمة: بثينة العيسى
راي برادبيري روائي أمريكي (1920 -2012) كتبَ في مجال أدب الرّعب والخيال العلمي، ليس الخيال العلمي الذي بالكادِ يلامس اهتمامات راهننا الإنساني والثقافي، بل النوع الآخر الذي يضيء ببصيرة نافذةٍ مصير الإنسانية ومستقبلها. كاتبٌ مجنون، وعندما أقولُ “مجنون” فأنا أمعنُ في المديح، بدأتُ في ترجمة حوارِه الذي أجراه معه سام ويلر في صحيفة ذي باريس ريفيو، ثم توقفت لأشهر حتى أقرأ عمله الأشهر (451 فهرنهايت) وعدتُ إلى ترجمة بقية الحوار بكلّ الحماسة الممكنة.
أهمية برادبيري لا تقتصر على قدرته المذهلة على إثارة الأفكار في ذهنية المتلقي وحسب، بل لكونه من القلة القليلة التي تتعاطى مع الكتابة بصفتها غبطة، واحتفالٌ أبدي، ومشروع لذة لا متناهية. راي يكتبُ وكأنه يلعب، وهو لا يؤمن بالمعاناة، ويستخدم مخيلته الخلاقة لسبرِ وكشف مستقبلنا أمامنا، ليسألنا: ما الذي سنفعله بشأن سعينا الجماعي الدؤوب نحو القضاء على العالم؟
لماذا تكتب الخيال العلمي؟
الخيال العلمي هو خيالُ الأفكار. الأفكار تثيرني، وبمجرد ما أشعر بالإثارة يفعل الأدرينالين فعله، والشيء اللاحق الذي أعيه هو أنني أستعير الطاقة من الأفكار نفسها. الخيال العلمي هو أية فكرة تطرأ في الرأس ولا تكون موجودة بعد. ولكنها ستوجد قريبا، وستغير كل شيء لكل شخص، ولن يعود أي شيء كما كان عليه. بمجرد ما تكون لديك فكرة تغير جزءا صغيرا من العالم، فأنت تكتب الخيال العلمي. إنه دائما جزءٌ من الممكن، وليس أبدا جزءًا من المستحيل.
تخيل لو أنني، قبل ستين سنة، في بداية عملي ككاتب، فكرت أن أكتب قصة عن امرأة تبتلع حبّة دواء وتدمّر الكنيسة الكاثوليكية، وتتسبب في مجيء حرية المرأة. الأرجح أن القصة ستقابل بالضحك، ولكنها كانت في حقل الممكن، وكان يمكن أن تصنع خيالا علميًا عظيمًا. لو أنني عشتُ في أواخر سنوات الـ 1800، لربما كتبت قصة تتنبأ بأن عربات غريبة سوف تتحرك عبر أراضي الولايات المتحدة قريبًا، وسوف تقتل مليوني نسمة خلال سبعين سنة.
الخيال العلمي ليس فنّ الممكن وحسب، بل هو فنّ الواضح. بمجرد أن ظهرت السيارات، كان بإمكانك أن تتنبأ بأنها ستدمّر الكثير من الأشخاص، كما فعلت.
هل يحقق الخيال العلمي أمراً لا تحققه الكتابة السائدة؟
نعم، إنه يفعل. لأن الكتابة السائدة لم تهتم بالتغيرات في ثقافتنا خلال السنوات الخمسين الأخيرة. الأفكار المهمة في زمننا – التطورات في الطب، أهمية اكتشاف الفضاء لتطوير جنسنا البشري – تم تجاهلها. النقّاد هم عادةً على خطأ، أو أنهم متأخرون لـ 15 أو 20 عامًا. إنه عارٌ عظيم. إنهم يفوّتون الكثير. أما تساؤل: لماذا يتم تجاهل خيال الأفكار، فهو سؤالٌ يتجاوزني. لا أستطيع تفسيره، إلا من حيث كونه عجرفة فكرية.
هل يقدّم الخيال العلمي طريقًا أسهل للكاتب لاكتشاف الأسس الفكرية؟
خذ “451 فهرنهايت[i]” على سبيل المثال. أنت تتعاطى مع حرق الكتب، موضوعٌ جادٌ جدًا. يجب أن تتوخى الحذر بشأن وعظ الناس. وعليهِ تضع قصتك في المستقبل بعد بضع سنوات، وتخترع إطفائيًا اعتاد أن يحرق الكتب بدلا من أن يطفئ النيران، وهي الفكرة العظيمة بذاتها، ثم تأخذه في مغامرة لكي يكتشف بأنه.. ربما لا ينبغي حرق الكتب. إنه يقرأ كتابه الأول، ويقع في الحب. ثمّ يرسله إلى العالم لكي يغيّر حياته. إنها قصة شديدة التشويق، وفي داخلها توجد الحقيقة العظيمة التي ترغب بقولها، بلا وعظ.
عادة ما أشير إلى رمزية “فرساوس” ورأس “ميدوزا” عندما أتحدث عن الخيال العلمي. فبدلاً من أن تنظر إلى الحقيقة في وجهها، تنظر من فوق كتفك إلى السطح البرونزي لدرعٍ عاكس، ثم تعود بسيفك وتقطع رأس ميدوزا. الخيال العلمي يتظاهر بأنه ينظر إلى المستقبل، ولكنه في الحقيقة ينظر إلى انعكاسٍ لما هو موجودٌ بالفعل أمامنا. إذن لديك رؤية مرتدة، مرتدة بحيث تمكنك من أن تستمتع معها، بدلا من أن تكون ذاتيّ الإدراك وخارق الذهن.
متى بدأت الكتابة؟
لقد بدأتُ مع إدغار آلان بو. قمتُ بمحاكاته مذ كنت في الثانية عشر وحتى الثامنة عشرة. لقد أغرمتُ بمجوهرات بو. إنه منقّب مجوهرات، أليس كذلك؟ وكذلك إدغار رايس بوروغز وجون كارتر. كنتُ أكتب قصص رعب تقليدية، وهو ما أعتقدُ أن كل من يدخل هذا الحقل سيبدأ به. أنت تعرف، أشخاص يحتجزون في أضرحة. لقد رسمتُ متاهات مصرية.
كل شيءٍ اختمر حتى تلك السنة، 1932، عندما كنتُ في الثانية عشر. كان هناك بو، كارتر، بوروغز، والرسومات الهزلية. لقد استمعت إلى الكثير من برامج الراديو الخيالية، وبخاصة “الساحر شاندو”. أنا متأكد من أنه كان رديئا جدا، ولكن ليس بالنسبة لي. كل ليلة، بعد أن ينتهي البرنامج، كنت أجلس وأكتب النّص كاملا من الذاكرة. لم أستطع منع نفسي. شاندو كان ضدّ جميع مجرمي العالم، وأنا كذلك. لقد استجاب إلى استدعاء للتخاطر، وكذلك أنا.
لقد أحببتُ الرسم أيضا. كنتُ أرسم رسومات الكارتون. لطالما أردتُ مسلسلي الهزلي الخاص. وبناء على ذلك لم أكن أكتب عن طرزان وحسب، بل كنتُ أرسم بطاقات الأحد التي تخصّني. لقد كتبتُ قصص المغامرات المعتادة، جعلتها في أمريكا الجنوبية، أو بين شعب الآزتيك، أو في أفريقيا. كان هناك دائما العذراء الجميلة والقربان. وعليه فقد عرفتُ بأنني متوجه إلى أحد الفنون. كنت أرسم، أمثل، وأكتب.
قلتَ بأنك لا تؤمن بالذهاب إلى الكلية لتعلم الكتابة. لماذا؟
لا تستطيع تعلم الكتابة في الكلية. إنه مكان سيءٌ جدًا للكتاب، لأن الأساتذة يعتقدون دائما بأنهم يعرفون أكثر مما تعرف، وهذا غير صحيح. لديهم تعصبات. قد يعجبهم هنري جيمس، ولكن ماذا لو لم تكن تريد الكتابة مثل هنري جيمس؟ يمكن أن يعجبهم جون إيرفنغ، على سبيل المثال، وهو الشخص الأكثر إملالا على مرّ العصور. معظم الناس الذين دُرِّست أعمالهم في المدارس في السنوات الثلاثين الأخيرة.. لا أفهم لماذا تتم قراءتهم، ولماذا يتم تعليمهم. المكتبة، من ناحيةٍ أخرى، ليس لها انحيازات. المعلومات كلها متوفرة لك حتى تؤوّلها. ليس هناك شخص يخبرك بما يجب أن تفكر فيه. إنك تكتشف ذلك بنفسك.
ولكنّ كتبك تدرّس بتوسّع في المدارس ..
هل تعرف لماذا يختارني المدرّسون؟ لأنني أتحدث بألسنة كثيرة. أكتب استعارات. كل واحدة من قصصي هي استعارة يمكنك أن تتذكرها. جميع الديانات العظيمة هي استعارات. نحن نقدر أشياء مثل “دانييل وعرين الأسد” و”برج بابل”. يتذكر الناس هذه الاستعارات لأنها حية جدا، ولا يمكنك التحرر منها، وهذا هو ما يعجب الأطفال في المدرسة.
إنهم يقرؤون عن الصواريخ والاشتباكات في الفضاء، قصص عن الديناصورات. لقد كنتُ طوال حياتي أركض حول الحقول وأقطف المواضيع المشرقة. أقلّب واحدة بيدي وأقول: نعم، ها هنا قصة. وهذا هو ما يعجب الأطفال. قصصي اليوم موجودة في آلاف المجموعات القصصية المختارة، وأنا برفقةٍ جيدة. الكتاب الآخرون الذين كتبوا الاستعارات هم في الغالب أموات: إدغار آلان بو، هيرمان ميلفل، واشنغتون إيرفنغ، ناثانيل هاوثورن. كل هؤلاء كتبوا للأطفال، ربما تظاهروا بعكس ذلك، ولكنهم فعلوا.
إلى أيّ حدٍ يهمّك أن تتبع غرائزك؟
آه. يا إلهي. إنها كل شيء. لقد عرض عليّ أن أكتب سيناريو “الحرب والسلم” قبل بضعة عقود. النسخة الأمريكية من ]الحرب والسلم[ مع المخرج كينغ فايدور. لقد رفضتُ العرض. قال لي الجميع: كيف يمكنك أن تفعل هذا؟ هذا سخيف، فهو كتابٌ عظيم! قلتُ: حسنًا، إنه ليس لي. لا أستطيع أن أقرأه. لا أستطيع التوغّل فيه. لقد حاولت! هذا لا يعني بأن الكتاب رديء. أنا فقط غير مستعدٍ له. إنه يجسّد ثقافة شديدة الخصوصية. لقد طوّحتني الأسماء. زوجتي أحبّته. لقد قرأته مرّة كل ثلاث سنواتٍ طوال عشرين عامًا. لقد عرضوا عليّ المبلغ المعتاد لكتابة سيناريو كهذا، مئة ألف دولار. ولكن، في هذا العالم، لا يمكنك أن تفعل الأشياء لأجل النقود. لا يهمني ما يعرضونه عليك. ولا يهمني إلى أيّ حدٍ أنت فقير. هناك عذرٌ واحد فقط لأخذ النقود تحت هذه الظروف: إذا كان هناك شخص مريض جدًا في عائلتك، وفواتير الطبيب تتراكم عاليًا إلى الحدّ الذي سيدمّرك. عندها أقول: اذهب وقم بالأمر. اكتب (الحرب والسلم) بطريقة رديئة، واندم لاحقًا.
هل تمثل الرواية والقصة القصيرة مشكلات مختلفة بالنسبة لك؟
نعم. المشكلة في الرواية هي أن تبقى صادقًا. إذا كنتَ تشعر بكثافة ولديك فكرة مثيرة، فإن القصة القصيرة تكتب نفسها في ساعات قليلة. أحاول أن أشجع أصدقائي التلاميذ وأصدقائي الكتّاب على أن يكتبوا القصة القصيرة في يومٍ واحد، حتى ينمو غشاءٌ حولها. حول كثافتها، حول حياتها، حول سبب وجودها. ثمة سببٌ وراء أن تخطر الفكرة في رأسك في تلك الساعة على أية حال. لذا امضِ مع هذا الأمر وتحرّ عنه. اكتبه. ألفين إلى ثلاثة آلاف كلمة في بضع ساعات ليست بالأمر الصعب. لا تدع الناس يتدخلون. اركلهم خارجًا، أغلق الهاتف، اختبئ بعيدًا. إذا أخذت قصة قصيرة معك إلى اليوم التالي، فقد تفكّر بشيءٍ حيالها بين عشية وضحاها، وتحاول أن تجعلها مزخرفة أكثر مما ينبغي، أو تحاول إرضاء شخصٍ ما.
أما الرواية، ففيها كل أنواع المزالق، لأنها تأخذ وقتا أطول وأنت تدور حولها. وإذا لم تكن حذرًا فسوف تتحدث عنها. وأيضا، من الصعب كتابة الرواية من ناحية إبقاء محبّتك كثيفة. من الصعب أن تبقى منتشيا لمئتي يوم. إذن.. أخرِج الحقيقة الكبيرة أولا. إذا أخرجت الحقيقة الكبيرة، فإن الحقائق الصغيرة ستتراكم حولها. دعها تنجذب إليها مغناطيسيا، تتجه إليها، ومن ثم تتشبث بها.
هل من مشكلات محددة واجهتها مع أيٍ من رواياتك؟
في رواية (فهرنهايت 451)، جاءني “مونتاغ” وقال لي: إنني أفقد صوابي. قلتُ له: ما الخطب يا مونتاغ؟ قال: كنت أحرقُ الكتب. قلتُ: حسنا، ألا ترغب بذلك بعد الآن؟ قال: لا، أنا أحبُّها. فقلتُ: اذهب وافعل شيئًا بهذا الشأن. فكتبَ لي الكتاب في تسعة أيام.
هل تحافظ على جدولٍ زمنيّ ضيّق؟
شغفي يأخذني إلى الآلة الكاتبة في كلّ يومٍ من حياتي. وقد أخذني إلى هناك مذ كنت في الثانية عشرة من عمري. لذا.. لستُ مضطرا لأن أقلق بشأن الجدول الزمني. دائمًا هناك شيءٌ جديد ينفجر في داخلي، وهو الذي يجدولني. أنا لا أجدوله. إنه يقول: اذهب إلى الآلة الكاتبة الآن وأنهِ الأمر.
أين تنجز كتاباتك؟
أستطيع أن أعمل في أيّ مكان. لقد كتبتُ في غرف النوم وغرف المعيشة عندما كنتُ يافعًا مع والديّ وأخي في بيتٍ صغير في لوس أنجلوس. لقد عملتُ على آلتي الكاتبة في غرفة المعيشة، بوجود الراديو، وأمي وأبي وأخي يتحدثون في نفس الوقت. ولاحقًا، عندما أردت أن أكتب (فهرنهايت 451) ذهبت إلى جامعة كاليفورنيا وعثرتُ على غرفة طباعة في السرداب. إذا أدخلت في الآلة الكاتبة 10 سنتات، تشتري نصف ساعة من وقت الطباعة.
هل استخدمت الكمبيوتر؟
لحين إصابتي بالجلطة، كتبتُ على الآلة الكاتبة طراز IBM سيليكترك. لم أكتب على الكمبيوتر أبدًا. الكمبيوتر هو آلة كاتبة، لماذا أحتاج إلى آلة كاتبة أخرى؟ لديّ واحدة.
غالبية الناس يرون بأن الكمبيوتر يجعل عملية المراجعة أسهل بكثير. بالإضافة إلى التدقيق الإملائي..
إنني أكتبُ منذ سبعين عامًا، إن لم أكن قادرًا على التهجئة الإملائية الآن فـ ..
هل تحتفظ بدفتر؟
لا. بمجرد ما أحصل على فكرة، أكتب قصة قصيرة، أو أبدأ رواية، أو أنجز قصيدة. وعليه فلا حاجة بي لدفتر. ولكنني أحتفظ بملفات لأفكارٍ لم تنجح في السنة الماضية، في السنوات الخمس الماضية، في السنوات العشر الماضية. أعود إليها لاحقًا وأنظر إلى العناوين. الأمر يشبه أن يعود الطائر الأب ]إلى العش[ بدودة. فأنت تنظر إلى تلك المناقير الجائعة - كل هذه القصص تنتظر أن يتم إنهاؤها - ومع هذا فأنت تقول لها: أيكم يحتاج إلى إطعام؟ أيكم يحتاج أن ينتهي اليوم؟ والقصة التي تصرخ بصوتٍ أعلى، الفكرة التي تقفُ وتفتح فمها، هي التي يتمّ إطعامها. فأسحبها خارج الملف، وأنجزها خلال ساعات قليلة.
في كتابك (الزِن في فنّ الكتابة) ذكرت بأنك - في عمرٍ مبكرة - صنعتَ قوائم بأسماء، كطريقة لتوليد أفكار للقص: الجرّة، الحوض، البحيرة، الهيكل العظمي. هل ما زلتَ تفعل ذلك؟
ليس كثيرًا، لأنني بتُّ أولّد الأفكار تلقائيًا. ولكن في الأيام الخوالي كنتُ أعرف بأن عليّ أن أحفرَ في عقلي الباطن، وقد فعلتْ (الأسماء) ذلك. تعلمت هذا في وقتٍ مبكّر؛ هناك ثلاثة أشياء في رأسك: أولاً، كل شيءٍ اختبرته منذ يوم ولادتك وحتى الآن؛ كل ثانية، كل ساعة، كل يوم بذاته. ثمّ هناك الكيفية التي تفاعلت فيها مع هذه الأحداث في دقيقة حدوثها، سواء كانت كارثية أو مبهجة. هذان شيئان موجودان في رأسك ويمنحانك مادّة. ثمّ، بمعزلٍ عن تجاربك الحياتية، هناك التجارب الفنية التي اختبرتها، الأشياء التي تعلّمتها من كتّابٍ آخرين، فنانين، شعراء، مخرجي أفلام، وملحّنين. إذن، كل هذا موجودٌ في عقلك، كمهادٍ رائع، عليك أن تقوم بإحضاره خارجًا. كيف تقومُ بذلك؟ أنا قمتُ بذلك عن طريق إعداد قوائم بأسماء، وسألتُ نفسي عما يعنيه كلّ اسم منها. يمكنك أن تذهب الآن وتعدّ قائمتك الخاصّة وستكون مختلفة عن قائمتي؛ الليل، الصراصير، صافرة القطار، السرداب، العلية، حذاء التنس، الألعاب النارية. كل هذه الأشياء شخصيّةٌ جدًا، ثمّ عندما تنتهي من تدوين قائمتك، تبدأ بإقامة علاقة مع تلك الكلمات. تسأل: لماذا دوّنتُ هذه الكلمة؟ ما الذي تعنيهِ بالنسبة لي؟ لماذا دوّنتُ هذا الاسم وليس الاسم الآخر؟ افعل ذلك، وستكون في طريقك لأن تصبح كاتبًا جيّدًا. لا يمكنك أن تكتب لأناسٍ آخرين، لا يمكنك أن تكتب لليمين أو لليسار، لهذا الدين أو ذاك، لهذا المعتقد أو ذاك. عليك أن تكتبَ الطريقة التي ترى فيها الأشياء. أقولُ للناس: اكتبوا قائمة بعشرة أشياء تكرهونها ثم مزقوها في قصة قصيرة أو قصيدة. اكتبوا قائمة بعشرة أشياء تحبونها واحتفلوا بها، عندما كتبتُ (451 فهرنهايت) كرهتُ حرّاق الكتب وأحببتُ المكتبات، وها نحن هنا.
إذا أعددت قائمتك الخاصة بالأسماء، فأين تذهب من هناك؟
أبدأ بكتابة بعض الأفكار ((pensées عن الأسماء. إنها نثرٌ شعري. إنها استذكار. إنها تحاولُ أن تكون مجازية، سان جون بيرس نشر عدة مجلدات ضخمة من هذا النوع من الشعر على ورق جميل بطباعةٍ جميلة. كان لدواوينه الشعرية عناوين مثل: أمطار، ثلوج، عواصف، علامات البحر. لا يمكنني تحمّل شراء كتبه، لأنها لابدّ وأن تكلّف عشرين إلى ثلاثين دولار - وكان هذا قبل خمسين سنة. ولكنه أثر علي، لأنني قرأتهُ في متجر الكتب، وبدأت أكتبُ فقرات وصفية قصيرة، 200 كلمة للفقرة الواحدة، وفي تلك الفقرات بدأتُ أختبر (أسمائي). ثمّ أحضر بعض الشخصيات لكي تتحدث عن ذلك الاسم، وعن ذلك المكان، وفجأة، صار عندي قصة تحدث. اعتدتُ أن أفعل الشيء نفسه مع فقرات أمزقها من المجلات اللامعة، كنتُ آخذ الفقرات وأكتب قصائد نثرٍ عنها.
بعض الصور تثيرُ في نفسي أشياء من حياتي الماضية. عندما أنظرُ إلى لوحات إدوارد هوبر، فهي تفعل ذلك بي. لقد رسم لوحات رائعة عن المدن؛ مقاهٍ فارغة، مسارح فارغة بعد منتصف الليل، ربما بوجودِ شخصٍ واحد. الإحساس بالعزلة والوحدة رائع. سوف أنظرُ إلى تلك اللوحات وأملأها من مخيّلتي. لا زال لديّ كل تلك الأفكار. كانت هذه هي بداية استخراج ما كان لي.
لماذا تفضّلُ القصص القصيرة على الروايات برأيك؟ هل هي مسألة صبر؟ إنهم يدعونه اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط هذه الأيام.
أعتقدُ بأن هناك بعض الحقيقة في ذلك، حوّل التزامًا ( (Liabilityإلى أصل (Asset). انتباهي ليس هناك، وعليه فأنا أكتب ما أستطيع كتابته: القصص القصيرة.
إذا كانت المسودة الأولى - كما تقولُ غالبًا - هي لا وعيك متحدّثًا للورقة، فهل تقوم بمعالجته ذهنيًا في مرحلة إعادة الكتابة؟
بالتأكيد. أمضي داخلاً وأقطع. معظم القصص القصيرة هي أطول مما ينبغي، عندما كتبتُ رواية (شيءٌ شرير يأتي من هذا الطريق)، كانت المسودة الأولى تتألف من 150 ألف كلمة، لقد مضيتُ خلالها وتخلصت من 50 ألف كلمة، من المهم ألا تعترض طريقك الخاص، أزل النشارة، والقمامة. اجعلها واضحة.
أنت كاتبٌ سريع، فهل أنت محرّرٌ سريع؟
لا. أنا أكتبُ مسودتي الأولى بسرعة، بعد عدة أيام أقوم بإعادة طباعة النص كاملا، ويقوم لا وعيي، فيمَ أنا أطبع، بإعطائي كلمات جديدة. ربما يتطلب الأمر إعادة الطباعة عدة مرات حتى ينتهي الأمر. أحيانًا يتطلب الأمر قدرا قليلا من المراجعة.
في أي وقتٍ من اليوم تقوم بمعظم كتاباتك؟
إنني أكتبُ طوال الوقت، أنا أستيقظ في الصباح ولا أعرف ما الذي سأفعله. عادة ما يكون لديّ تصور عن الفجر عندما أستيقظ. لديّ هذا الذي أدعوه (مسرح الصباح) داخل رأسي، كل تلك الأصوات تحدّثني. عندما يخترعون استعارة جيدة، أقفز من السرير وأصطادهم قبل أن يختفوا. هذا هو السرُّ كله: أن تفعل الأشياء التي تثيرك. وأيضًا، أنا غالبًا ما آخذ قيلولة، بهذه الطريقة سوف أحصلُ على صباحيْن.
هل تضع خطوطا عريضة؟
لا، أبدًا. لا يمكنك أن تفعل ذلك. تمامًا كما أنك لا تستطيع أن تصمم حبكة ليوم الغد، أو للسنة القادمة، أو لما بعد عشر سنوات. عندما تخطط الكتب مسبقًا فأنت تتخلص من كل الطاقة والحيوية فيها، لن يكون هناك دم. يجب أن تعيش ]الكتاب[ يومًا بيوم وأن تسمح لشخوصك بفعل الأشياء.
هل سبق لك العودة لإعادة قراءة كتبك وقصصك القصيرة؟
في أحيانٍ كثيرة، في وقتٍ متأخر من الليل، أنزل إلى الطابق السفلي، أفتح أحد كتبي، أقرأ فقرة وأقول "يا إلهي!"، أجلسُ وأبكي لأنني أشعرُ بأنني لستُ مسئولاً عن أي شيءٍ من هذا. إنها من عند الرّب. وأنا ممتنٌ للغاية، ممتنٌ جدًا جدًا. أفضل وصفٍ لمسيرتي ككاتب هو (في مسرحية في حقول الرّب)، لقد كانت متعة رائعة، وسأكون ملعونًا من أيّ مكانٍ جاءت منه، لقد كنت محظوظًا، محظوظًا جدًا.
أفترض أنه لا داعي لسؤالك إذا ما كنتَ تستمتع بالكتابة ..
من الواضح أنني أفعل. إنها متعة خلابة، وهي الجنون في حياتي، وأنا لا أفهم الكتّاب ممن عليهم أن يعلموا عليها. أحب أن ألعب، أنا أستمتع باللهو مع الأفكار، أن أقذف بها في الهواء، مثل قصاصات الورق الملون، ثمّ أركض تحتها. إذا كان عليّ أن أعمل عليها فسأتخلى عنها، العمل لا يعجبني.
هل تكتبُ لقارئٍ مثالي، أم لجمهور معين؟
في كلّ مرة تكتب لأحد، بغض النظر عمن يكونون، مهما كانت القضية التي تؤمن بها صحيحة، فأنتَ تكذب. شتاينبك هو واحدٌ من عدد قليل من كتاب الثلاثينات ممن لا زال يُقرأ، لأنه لم يكتب لقضايا على الإطلاق. لقد كتب قصصًا إنسانية تمثّل قضايا بشكل غير مباشر، (عناقيد الغضب) وكتبه الأخرى ليست أطروحات سياسية. (451 فهرنهايت) هي بشكلٍ ما أطروحة سياسية، ولكنها ليست كذلك، لأن كلّ ما تقوله، عاطفيًا، هو: ليترك الجميعُ الجميعَ وشأنهم.
هل للأدب، إذن، أية مسئولية اجتماعية؟
ليس بشكلٍ مباشر. يجب أن يكون ذلك من خلال الانعكاس، والمراوغة. يقول نيكوس كازنتزاكيس (عِش للأبد). هذا هو التزامه الاجتماعي، (الأدويسة: منقذو الرّب[ii]) تحتفلُ بالحياة في العالم. أيّ عملٍ عظيم يحقق ذلك لك. كل ما يقوله ديكنز هو: عِش الحياة في قمّة طاقتك. لم يكن إدغار رايس بوروز لينظر لنفسه على أنه ناشط اجتماعي، أو أنه خضّاض بالتزامات اجتماعية. ولكن كما يتضح – وأحب قولها لأنها تضايق الكثيرين بشكلٍ رهيب، بوروز على الأرجح هو الكاتب الأكثر تأثيرًا في تاريخ العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق