قراءة عميقة مفيدة ومثمرة جدا من طارق عثمان .
نقلت عن موقع التقرير
المراجع:
نقلت عن موقع التقرير
كونديرا في حفلة التفاهة
بينما كان ميلان كونديرا يتناول طعامه مع صديقه البروفيسور أفيناريوس (ذاك الذي يتأبط سكينًا ويخرج كل ليلة ليمزق إطارات السيارات)، تطرق بهما الحديث إلى فن الرواية، وتحديدًا إلى طبيعة الكتابة الروائية، فقال كونديرا لصديقه: “لا ينبغي أن تشبه الرواية سباق درجات، بل مأدبة نتذوق فيها ألوانًا من الأطباق” (كونديرا 2014: 279).
ماذا يقصد صاحب الخلود بهذه الاستعارة المرحة؟
من جماليات الرواية الكونديرية أنها غير قابلة للحكي، فهي ليست قصة بالمعنى الحرفي للكلمة، بحيث يمكن للمرء أن يقرأها ثم يسردها ببساطة لواحد من أصدقائه؛ إن كونديرا يرى أن خضوع الرواية لقاعدة “وحدة الحدث” (بمعنى أن تكون كل أحداث الرواية خاضعة لتسلسل سببي واضح، هو الذي يجعل منها دراما يمكن أن تحكى) هو لعنة قد حلت بفن الرواية، إنه يجعل الرواية شبيهة بـ”زقاق ضيق نطارد فيه الشخصيات ونحن نجلدها” (المرجع نفسه). إذ إنها تحول الرواية إلى خاتمة ما، وكل أحداث الرواية من أول صفحة مجرد مراحل تقودنا إلى هذه الخاتمة، بحيث يكون علينا أن نجتاز هذه المراحل بأقصى سرعة لنصل إلى خط النهاية (تمامًا كما هو الحال في سباق الدرجات). والحال أن كونديرا قد عزم من أول يوم على “تطهير” الرواية من هذه اللعنة؛ إنه يريد أن يجعل من كل حدث من أحداث الرواية، وكل موقف، قيمة في حد ذاته وليس مجرد خادم للخاتمة. إنه يريدنا أن نتذوق جماليات كل مشهد والأفكار المبحوثة في كل موقف أو حدث على حدة: (إن الرواية تتحول هنا إلى مأدبة كبيرة، وكل موقف فيها يمثل طبقًا علينا تذوقه بمفرده).
هذه السمة الجوهرية في مُبدَع كونديرا، هي أول ما يصطدم به من يريد تقديم قراءة لأي رواية من رواياته؛ إن كل محاولة لتجريد قصة ما من رواية لكونديرا، بمثابة تدمير لها، إن قارئ كونديرا يشعر طوال القراءة بكثافة وأهمية ما هو مكتوب في كل صفحة، ولكنه بعدما ينتهي ويغلق الكتاب، لن يستطيع أبدًا أن يسرد قصة متماسكة، بالرغم من كونه مقتنعًا تمامًا أنه للتو قد انتهى من قراءة رواية! علينا إذن أن نقرأ الرواية الكونديرية بالطريقة التي تليق بها، قراءتها ككتاب في الأنطولوجيا البشرية، لا كقصة درامية نتسلى بها في وقت الفراغ.
أحاول في هذه المقالة أن أقدم قراءة لرواية كونديرا الأخيرة la fete de l’insignifiance أو حفلة التفاهة، والتي صدرت بفرنسا عن غاليمار في 2014، وعن المركز الثقافي العربي بالمغرب في نفس العام، بترجمة معن عاقل (مترجم رواية الجهل). وهي رواية صغيرة الحجم (110 صفحة) تنتمي لقائمة روايات كونديرا الصغيرة (الجهل، الهوية، البطء). وبالرغم من صغر حجمها فقد قسمها لسبعة أجزاء، وكل جزء مثقل بالعناوين الفرعية.
سأحاول أن أبرز الثيمات الرئيسة التي تنبني عليها هذه الرواية، التي كتبها كونديرا بعدما توقف 14 عامًا عن الكتابة. (كانت آخر رواية له هي الجهل، والتي صدرت في عام 2000).
عصر ما بعد الِمزاح.. أو في رثاء الفكاهة
ما علاقة الرواية كفن بالفكاهة؟ لنحدد أولًا المعنى الدقيق الذي يقصده كونديرا بالفكاهة: واقع الأمر أن المقصود بالفكاهة عند صاحب كتاب الضحك والنسيان، ليس هو مجرد السخرية المثيرة للضحك، وإنما الفكاهة هي شيء أكثر عمقًا، ربما كانت إثارة الضحك هي ظاهره، إنها وكما يقول أوكتافيو باز (الشاعر المكسيكي الشهير المحبب كثيرًا لكونديرا): “ضرب خاص من الهزلي تجعل من كل شيء تتناوله غامضًا“، (كونديرا 2007: 173). الفكاهة إذن، تُكسب الشيء الذي تتعرض له غموضًا رهيبًا بحيث يمنعنا من إصدار أية أحكام عليه، إن الفكاهة هي تعليق أبدي للحكم، “الفكاهة هي البرق الإلهي الذي يكشف عن الغموض الأخلاقي لهذا العالم، وعن عدم اختصاص الإنسان العميق في الحكم على الآخرين. إنها ثَمل نسبية الأشياء الإنسانية، السعادة الغريبة الناتجة عن اليقين بعدم وجود اليقين” (نفسه: 195).
إذا كانت هذه هي الفكاهة، فما علاقتها بفن الرواية؟ ما يؤمن به كونديرا أن الفكاهة هي ابتكار خاص بالرواية، ولادة الفكاهة قد حايثت ولادة الرواية مع رابلييه وسرفانتس.
وعليه؛ فإن الفكاهة بهذا المعنى هي جزء من ماهية الرواية وجوهرها، الرواية فكاهية أو لا تكون. يضرب لنا كونديرا هذا المثال من رواية جارجانتويا للروائي المؤسس فرانسوا رابلييه: عندما يريد البطل بانورج أن ينتقم لنفسه من تاجر الخراف، الذي سخر منه، وهم على متن السفينة في عرض البحر، فيقوم بالآتي: “يشتري منه خروفًا ويلقي به إلى البحر، وبما أن الخراف معتادة على اتباع أولها، فإنها عمدت جميعًا إلى القفز إلى الماء. يُجن التجار وهم يمسكون بها تارة من صوفها وتارة من قرونها ويُجَرّون هم أيضًا إلى البحر. كان بانروج يمسك مجدافًا بيده، لا لإنقاذهم، بل ليمنعهم من التسلق إلى السفينة، وهو يعظهم بفصاحة مبيّنًا لهم بؤس هذا العالم وخير الحياة الآخرة وسعادتها، مؤكدًا لهم أن الموتى أسعد من الأحياء. على أنه يتمنى لهم في حال أرادوا الاستمرار في العيش بين البشر، أن يلتقوا حوتًا ما على شاكلة ما جرى للنبي يونس” (نفسه: 172).
ما الذي علينا فعله ككقراء أمام هذا المشهد؟ هل نجتهد في تأويل تصرف بانورج الرهيب هذا؟ لا، لا ينبغي، إنه مشهد مستحيل، ولا يمكن أن يكون ثمة حكم ما واضح ووحيد، يمكن أن نطلقه على بانورج، إن الحكم معلق هنا للأبد، وهذه هي عين الفكاهة. علينا فقط أن نتذوق جمالية هذا المشهد، وأن لا نحمله على محمل الجد مهما بدا لنا رهيبًا.
في حفلة التفاهة، اختارَ كونديرا للقسم الرابع هذا العنوان: “الجميع يبحثون عن الفكاهة“. إنه ينعي روح الفكاهة التي ولدت مع رابلييه، ويرى أنها قد رحلت عن فن الرواية، وعن هذا العالم برمته: “صديقي العزيز: ثمة شيء واحد أفتقده: روح الفكاهة” (كنونديرا 2014: 77). يقول رامون لصديقه كاليبان. “روح الفكاهة! هذا هو المراد ولا شيء آخر” (ص 56)، يقول رامون أيضًا، ولكن لصديقه كاكوليك هذه المرة.
للتدليل على انصرام عصر الفكاهة، ابتكر كونديرا مشهدًا لا يقل أبدا ًفتنة عن مشهد بانورج وهو يصد تجار الخراف عن الصعود إلى السفينة. إنها حكاية ستالين ورفاقه وطيور الحجل: فلقد قص ستالين على رفاقه يومًا ما، أنه خرج مرة للصيد، وسار مسافة 13 كيلو مترًا، فوجد شجرة عليها 24 من طيور الحجل، ولكنه لسوء الحظ لم يكن يملك في جعبته سوى 12 طلقة، فماذا يفعل؟ لقد أطلق طلقاته عليهم فاصطاد 12 طائرًا، ثم قفل عائدًا لبيته وأحضر 12 طلقة أخرى واجتاز الـ13 كيلو مترًا مرة ثانية، ليجد باقي طيور الحجل جاثمة في مكانها على نفس الغصن من الشجرة، فيصطادها جميعًا ويعود. فماذا كان رد فعل رفاق ستالين على هذه الحكاية؟ لم يضحك أحد منهم أبدًا، فقط اشمأزوا من كذب ستالين عليهم، وراحوا يصرخون في الحمامات، ظنًّا منهم أنه المكان الوحيد الذي لا يراقبهم فيه الزعيم: “ونحن نغسل أيدينا في صالة الحمامات، رحنا نقذف بالشتائم: إنه يكذب إنه يكذب” (ص 23)، يحكي لنا خروتشوف عنه هو ورفاقه.
إن المثير بالنسبة لكونديرا في هذه الحكاية، هو أنه لا أحد من رجال ستالين تصور أنه يمزح معهم، لقد أخذوا كلامه على محمل الجد تمامًا، رأوه كذبًا فجًّا لا يليق بالزعيم، لم يجرؤا على الاعتراض عليه في حضرته، فقط راحوا يصرخون في الحمامات كالمجانين بشتمه وتكذيبه، وهو يتلصص عليهم بدوره ويسمع صراخ أبطال المكتب السياسي ويقهقه كالمجنون. لقد صارحهم بعد ذلك قائلًا: “كنت أتسلى كثيرًا في الممر وأنا أصغي إليكم تصرخون، لكنني كنت أقول في سري في الوقت ذاته: ألأجل هؤلاء المغفلين بدّدتُ كل قواي؟ ألأجلهم عشت؟ ألأجل هؤلاء الرثين؟ لأجل هؤلاء المخبولين المبتذلين؟ لأجل فلاسفة المباول؟” (ص 90).
إن هذه اللحظة بالنسبة لكونديرا، اللحظة التي لم يعد فيها أي من رجال ستالين “يعرف ما هو المزاح، وما هي المزحة” (ص 23). هي لحظة تأبين لروح الفكاهة، وتدشين لعصر جديد تمامًا؛ “عصر أفول الفكاهات، عصر ما بعد المزحات” (ص 76).
في مديح التفاهة
ما علاقة الرواية كفن بالتفاهة؟ إذا كانت الرواية بما هي كذلك هي بحث في الوجود، فعليها إذن أن تهتم بالتافه وتبجله، لماذا؟ لأن التفاهة ليست شيئًا عرضيًا في هذا العالم، وإنما هي على العكس شيء جوهري تمامًا: “التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب. وهذا غالبًا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف درامية للغاية ولتسميتها باسمها. لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، يجب أن نتعلم حب التفاهة” (ص 108).
إن كونديرا يدعونا ألا نخجل من تفاهتنا؛ فهي “ليست استثناءً، صدفة، عيبًا، إنها ليست ظاهرة كمية إن صح القول، نقصًا في معدل الذكاء، يمكن شفاؤه بالتعلم، إنها لا تُشفى، وهي حاضرة في كل مكان، في فكر الحمقى مثلما هي في فكر العباقرة، إنها جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية” (كونديرا 2007: 524).
من هنا كان على الرواية أن تهتم بالتافه كما يليق به، لننظر مثلًا إلى ما فعله فولبير مع تفاصيل حياة السيدة بوفاري، أو إلى ما فعله بشكل أعظم جيمس جويس في عوليس؛ عدد مهول من الصفحات في فحص أكثر الأشياء ابتذالًا في يوم من أيام بطله بلوم، تسجيل لكل خاطرة تجول برأسه مع كل التفاتة وكل فعل تافه.
أو لننظر إلى كونديرا في حفلة التفاهة وهو يعنون فصل فيها بـ”ريشة تحلق تحت السقف“، إنه يفحص تفاعل المدعوين في حفلة دارديلو (الذي كان قاب قوسين من أن يشهد عيدًا مزدوجًا؛ ذكرى ميلاده التي صارت بعيدة وذكرى موته الذي أصبح وشيكًا، ولكن الموت ألغى دعوته في آخر لحظة)، مع ريشة تتسكع في الهواء، كيف وقف شارل متجمدًا كصنم يأس من أن يُعبد يحدق فيها، وكيف كانت فرانك (التي كانت في غاية المرح يوم مات زوجها الذي كانت تحبه بحق)، “ترفع ذراعها إلى أعلى ما يمكن، كقائدة أوركسترا تقود الإيقاعات الأخيرة لسمفونية عظيمة” (كونديرا 2014: 78)؛ طمعًا في أن ترسو الريشة بين إصبعيها.
مغرقًا في مديح التفاهة، يكمل لنا كونديرا حكايته عن ستالين ورفاقه (فلاسفة المباول)، حكاية هي تجسيد فاتن لـ”روح الفكاهة اللانهائية” التي تحدث عنها هيجل: لماذا سُميت كونجسبرج (تلك المدينة الألمانية التي عاش فيها كانط عمره بأكمله) باسم كالينينجراد؟ يتعلق الأمر ببساطة في رغبة الروس في أن يظل أثرهم في هذا العالم باقيًا إلى الأبد؛ إذ أصابتهم حمى تغيير أسماء المدن التي يسيطرون عليها بأسماء روسية، “ولكن ليس أي اسم! لا بد أن أن تستند التسمية الجديدة إلى اسم مشهور في أرجاء الكوكب وأن يُخرس ألقه الأعداء. ولدى الروس وفرة من مثل هذه الأسماء العظيمة، بوشكين، تشايكوفيسكي، تولوستوي” (ص 31). ولكن الواقع أن ستالين لم يختر لبلد كانط أي اسم من هذه الأسماء الفخمة، وإنما اختار اسم شخص عديم الأهمية: كالينين، فلماذا اختار ستالين، هذا الرفيق، التافهة تحديدًا ليخلد اسمه؟
يحكي لنا كونديرا أن ستالين كان مفتونًا بتكرار قصته مع طيور الحجل على رفاقه، ولكن لماذا؟ إنه كالينين؛ فلقد كان هذا الأخير مصابًا بتضخم البروستاتا، ومن ثم كان مرغمًا على التبول في أغلب الأحيان، ولكنه عندما يكون جالسًا على المائدة أمام ستالين، لم يكن يجرؤ أن يزعجه ويذهب للمرحاض ويعود مرارًا. وكان ستالين يعلم ذلك جيدًا، وكان وهو يروي حكايته في كل مرة: “يركز نظره عليه، وعلى وجهه الذي يزداد شحوبًا وتعلوه تكشيرة متشنجة، وهذا ما كان يحرض ستالين على التمهل في سرده، وعلى إضافة أوصاف واستطرادات وإرجاء الخاتمة إلى اللحظة التي يسترخي فيها فجأة وجه كالينين المتوتر… فيعرف أنه قد فقد مقاومته مرة أخرى، فينتقل بسرعة إلى الخاتمة، وينهي الجلسة” (ص 29).
إنه مشهد مستحيل، خفيف، عبثي، فكاهي، تمامًا كحكاية رابلييه عن بانورج وهو يسوق الخراف إلى الماء. حكاية مرحة، علينا أن نتذوقها ونضحك لا أن نجتهد في إيجاد تأويل لقسوة ستالين غير المبررة بالمرة، أو لخنوع كالينين المذل للزعيم الروسي. ولكن مهلًا، فلم تقف شاعرية (جمالية) كونديرا عند هذا الحد، لنتساءل مرة ثانية: لماذا اختار ستالين رفيقه البائس هذا ليظل اسم كانط مرتبطًا باسمه إلى الأبد؟ إنه الحنان! نعم لقد كان ستالين “إبليس القرن” هذا يكنّ حنانًا استثنائياً لكالينين؛ فمن بين كل الآلام التي تسبب فيها على هذه الأرض، كان ألم كالينين وهو يضبط نفسه أمامه (وتعلو وجهه التكشيرة المتشنجة) “ألمًا مختلفًا تمامًا، ألمًا ضئيلًا، ملموسًا، فريدًا، مفهومًا. كان ينظر إلى رفيقه المتألم، وبدهشة عذبه، يحس أن شعورًا باهتًا ومتواضعًا وحتى مجهولًا ومنسيًا على أية حال يستيقظ فيه: حب لإنسان يتألم. كانت هذه اللحظة في حياته العنيفة (المترعة بالمؤامرات والخيانات والمجازر) بمثابة راحة. لقد كان الحنان يزداد في قلب ستالين بمعدل ازدياد ضغط البول على مثانة كالينين” (ص 31).
لقد اعطى ستالين لكونجسبرج اسم رفيقه إذن؛ لأنه “كان يشعر بالحنان حيال رجل تألم لأجله، وأمام ناظريه. هو يريد أن يشكره على وفائه، وأن يسعده لقاء تفانيه وإخلاصه” (ص 32).
لماذا خُلد اسم كالينين “شهيد النظافة” هذا إذن؟ إنها التفاهة، إنه لم يصبح مشهورًا بفضل طموحه السياسي وغروره وصلفه، وإنما “وحده من سيظل اسمه بالذاكرة، يُذّكر بمعاناة اختبرها كل كائن إنساني، ويذكر بمعركة يائسة لم تسبب البؤس لأحد إلا لنفسه” (ص 32، 33).
كذلك هو كاكوليك، صديق رامون، كيف كان يفوز بالنساء؟ إنها التفاهة، هو لم يكن يحاول أن يكون شخصًا لامعًا كدارديلو الذي “لم يزل حتى اليوم لا يفهم شيئًا عن قيمة التفاهة” (ص 17)، وإنما هو على العكس، شخص حريص كل الحرص على ألا يلفت الانتباه إليه. فهو يعلم أنه من غير المجدي أن يكون المرء لامعًا، في هذا السياق تحديدًا؛ “فحين يحاول رجل لامع إغواء امرأة، يتولد لديها انطباع أنها تدخل في منافسة، وتضطر هي أيضًا للتألق، ولا تمنح نفسها دون مقاومة. بينما التفاهة تحررها، تجردها من حذرها. لا تتطلب أي حضور للنباهة، تجعلها لا مبالية ومن ثم سهلة المنال” (ص 18).
ما الذي كان يشغل فكر بطل روايتنا ألان؟ إنّه شيء تافه ولا شك، إنه السرة، السرة العارية للحسنوات اللواتي يتجولن من حوله في الشوارع وفي حديقة اللكسومبورج. يبتدأ كونديرا حفلة التفاهة بتساؤل ألان العميق عن الدلالة الأيروتيكية لسرة المرأة وينهي الرواية بالإجابة عليه. لقد “ظل هذا اللغز يشغله، كما ينشغل بالكم أنتم أيضًا (نحن القراء يقصد)، شهورًا، إن لم يكن سنوات، بمشاكلكم ذاتها، والتي هي بالتأكيد أتفه بكثير من المشكلة التي تستحوذ على تفكير ألان” (ص 37).
ذلك الفخ الذي يُسمى العالم
ربما كانت هذه الرواية، هي الرواية الأولى لكونديرا، التي تغيب عنها التشيك، إنها رواية فرنسية تمامًا. أشخاصها وأحداثها (أو لا أحداثها إن شئنا الدقة). هل نسي كونديرا العجوز مآسي بلده الأم، وصار لا يرى في نفسه إلا رجلًا فرنسيًّا؟ من غير المرجح حدوث ذلك، ما يبدو لي أنه لما كانت التفاهة واللامعنى هي ثيمة هذه الرواية الأساسية، أراد أن يجعلها رواية متساوقة مع موضوعها، لقد أرادها فارغة من كل القضايا الكبرى. ربما كانت تشيكية كونديرا أعمق من أن توجد في قلب حفلة للتفاهة. فقط هو لم يغفل عن جعل أبطال روسيا الستالينية مسخرة لكل العصور.
إذا كانت حفلة التفاهة بمثابة تكثيف لهذه الثيمة “جوهرية التفاهة “، والتي هي مبحوثة بدرجات متفاوتة في مجمل مُبدعًه، فما هي الوصفة التي يقدمها لنا كونديرا للتعاطي مع هذه “الحقيقة”؟ لا شيء في واقع الأمر، فلقد “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد” (ص 75).
إن كونديرا يبدو في هذا العمل “سيورانيًا” أكثر من سيوران نفسه، الذي لم يكل من التحسر على كون البشر قد جاءوا إلى هذا العالم، العالم هنا بوصفه فخًا قد علقنا فيه. يقول على لسان خيال أم ألان: “ما تمنيته هو الاختفاء الكلي للبشر مع مستقبلهم وماضيهم، مع بدايتهم ونهايتهم، مع كل فترة وجودهم، مع ذاكرتهم برمتها، مع نيرون ونابليون، مع بوذا والمسيح. تمنيت الفناء الكلي لشجرة متجذرة في بطن صغير بلا سرة لأول امرأة حمقاء لم تكن تعرف ما تفعله، وأي أهوال كلفنا جماعها البائس الذي لم يمنحها أية متعة بالتأكيد…” (ص 80).
جوهرية التفاهة، ورثاء الفكاهة، هما الثيمتان اللتان تُبنى عليهما هذه الرواية. إنها موعظة كونديرا المحببة لديه: فلنتوقف ولو قليلًا عن النظر بجدية إلى جدية البشر.
1- كونديرا، ميلان، 2014، الخلود، ت: محمد التهامي العماري، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
2- كونديرا، ميلان، 2014، حفلة التفاهة، ت: معن عاقل، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
3- كونديرا، ميلان، 2007، ثلاثية حول الرواية، ت: بدر الدين عرودكي، القاهرة: المركز القومي للترجمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق