كلُّ شِعرٍ نَظيرُ قائلهِ المتنبي.
1
كآبة الشاعر…
كل شيء، في شعر محمد الماغوط، فيه كآبة الشعر. من أي الطرق كان الشاعر يذهب إلى كآبته؟ وهل كان يرى الأشياء بعين القلب كما يقول الشعراء، أم بعين النص والحياة والتجربة؟ كان يتبخّر وهو يكتب النص بسيل الكلمات وحرارة الألم، وهل نستطيع اليوم أن نقرأ ما كتبه الماغوط دون كآبة؟ نرى في كآبة الماغوط قريناً ونديماً، يسكنها وتؤانسه مثلما تأخذ بيده إلى دروب ضبابية متصلة بالمعنى الشعري كقوله هنا: (في فمي فمٌ آخر وبين أسناني أسنانٌ أخرى)، (أصابعي ضجرةٌ من بعضها وحاجباي خصمان متقابلان)، أو (وألتفُّ حول قصائدي كالذيل)، (إنني أحلم أكثر مما أكتب، ولكنها أحلام تتطور ليلة بعد ليلة إلى كوابيس رائدة).
نستعيد من جديد روح الماغوط بنبض الحياة، فتنضج اللحظة الشعرية المستعادة التي نرى بها أنفسنا، كقراء، نتذكر الماغوط من حيث نعلن أننا نريد توديعه أو نسيانه، كمن يوقظنا من حيث يريدنا، النص، أن ننام على نغمة الكتابة الشعرية الأولى لتشكل كل الأسئلة النقدية بمضامينها اللغوية والفنية المختلفة طريقة للاتصال بالماغوط وانبعاثه حياً من حيث تريد القراءة المستعادة التأكد من غيابه الآن، فيكون هنا من جديد من حيث لا يعود زمنه، المتصل بالنص، قائماً هنا لنعلن من جديد أن القراءة لا تستعيد الأسئلة النقدية وحسب، بل تتحول إلى سؤال نقدي جديد، والأسئلة النقدية لا تملأ فضاء القراءة، ولا تسد جوع القارئ ولا تبدد إلحاحه أو بحثه الجمالي.
وإذ قدمت شعرية الماغوط بتأويلاتها المتعددة أجوبة ذاتية على أسئلة موضوعية متصلة بالحياة إلا أنها لم تستطع ردم الهوّة بين الذات والموضوع، بين الحرية والعبودية أو بين الواقع والحلم لتتحول هي ذاتها من جديد إلى موضوع للسؤال النقدي الموازي للقراءة، لنقرأ هذه الجمل من قصيدته المعنونة: (القتل: وأنا أسير أمام الرؤوس المطرقة منذ شهور، والعيون المبلَّلة منذ بدء التأريخ، ماذا تثير بي؟ لاشيء، انني رجلٌ من الصفيح).
ثمة نصوص، للماغوط، ذرائعية قابلة لكل أنواع الإسقاطات ولكل أنواع الأسطرة والأدلجة، فتعددت القراءات النقدية والتأويلات التي تشكل الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية عاملاً حاسماً في تحديد منهجية القراءة والتأويل إضافة إلى ذات القارئ والشاعر. فيمكن القول أن لكل تأويل منهجه ومقصده (الايديولوجي) أي أنه خاضع لإشكالياته وشروطه الموضوعية والذاتية فهو بما معناه قراءة ايديولوجية للنص ومهما ادعى، الناقد العقائدي، التحرر من الايديولوجيا والتمسك بفنية النص ودلالاته فالبراءة، هنا، ليست من مملكة النقد أو القارئ، وإلا فنحن خارج النص والمعنى واللغة، ويمكن لنا أن نشير هنا إلى البعض من عناوين النصوص الذرائعية: (الأعداء، وجه بين حذاءين، بكاء الثعبان، النسور العالية تفترق بغضب، الغجري المعلَّب، بدوي يبحث عن بلاد بدوية). عندما تضع الكتابة الشعرية نفسها موضوعاً لذاتها وسؤالاً وجودياً يبحث باستمرار عن الإجابة فهذا دليل على حيوتها المعرفية بالرغم من اندراج هذه الأسئلة في سياق غياب المعنى ليعود السؤال من جديد حول الكتابة في منظور الماغوط طريقة للإتصال بهذا المعنى وطريقة شعرية للتأكد بأنه ما زال غائباً، وعندما نستعيد قراءة نصوص الماغوط فهذا يعني البحث عن تأويلٍ ما للكتابة والقراءة، مُرتبط بأسئلة نقدية جديدة وبمعطيات فنية لغوية بعينها، لنتأمل هذه العبارات: (كنت أفكر بأنني سأكتسح العالم بعيني الزرقاوين ونظراتي الشاعرية).
2
شاعر لم يوارَ الثرى بعـدُ…
الشعر الذي يستلهم الحرية ويُلهمها أو الذي يستلهم التحرر ويُلهمه، من هنا يمكننا القول: محمد الماغوط، شاعر باسل، حافل في حياة وطن، وحافل في حياة الفرد منّا فقبل أن يشهق القارئ شهقة الاستغراب العجيبة لغيابه أريد أن أقول له ما مفاده: حين يأتي الموت سيُقضي على الشاعر ويُبقي الشعر وهذا الأمر خارج أحتمال الموت ومعادلته اللاعادلة لذلك لم يفكر في النيّل منه فالشاعر دوماً محكوم بالبحث عن الكتابة الشعرية التي تعيد إلى حركة الحياة حركية الاحتجاج وديمومتها ضد الظلم والقهر، ذلك أن حلم الشعراء هو أن يتمكّنوا من جعل الحياة بكل معانيها ورموزها هدفاً بذاتها ولذاتها وأن يزيلوا من طريق الحياة كل الفواصل التي تجعل منها مجّرد عبور مأساوي إلى ما لا يعرفون من نهايات، وإذ نطرح اليوم على أنفسنا السؤال الوجودي الكبير: هل للموت من نهاية؟ فإننا نضع أنفسنا حيث يجب أن نكون، أي في موقع التحدي الكبير في الإجابة عن هذا السؤال بالشعر لا بالفلسفة أو التفخيم البلاغي، وهنا بالذات تبدأ عملية البحث بضراوة فائقة عن هذه الـ(تسمى) الحداثة الشعرية التي لا ننطلق فيها من الشعر بل من حيث تأتي القصيدة محملة بالمعنى الجمالي أو الموقف الأخلاقي، وعلينا أن ندرك بوعي نقدي أن عملية البحث هذه إنما تتم في ظل متطلبات مقاومة الموت والتردد والخوف لا خارج هذه المتطلبات التي ستجعل بحثنا عقيماً لا يوصلنا إلى أي من اغراضنا النقدية المبتغاة وفي مقدمتها المعنى المتصل بالنص الشعري . بقيّ الماغوط يشدو حَنِينْاً لموطنه منذ أول قصيدة، ولعل أكثر ما يجلب الانتباه في تفاصيل حياته هي موضوعة الاسلوب الهوميري في قصيدته الشعرية أو التقاطاته الشذرية التي تشبه إلى حد ما حياته وهذه الفقرة حصراً لا تخفى على أي قارئ أو دارسٍ لنصوصه، إنني لا أسعى من خلال هذه الملاحظات النقدية المبتسرة إلى تقويم التجربة الشعرية للماغوط فمثل هذا العمل يستدعي الاعتماد على متن كبير ومتنوع من المراجع والهوامش والتأمل النقدي، لنطلع على بعض الالتقاطات المشاكسة: (جميع الحقوق محفوظة ويكفلها القانون، قانون الطوارئ طبعاً) (لا أراهن على نفاذ الخبز أو الماء أو الوقود بل على نفاذ الصبر) (مدينتي محجبة، ولكن بالياسمين) (لا أريد من مدينتي الحديثة سوى أرصفتي القديمة) (ألقى أحدهم قصيدة وقد أقتصرت الأضرار على الماديات) (هناك تعتيم إعلامي واضح عليك حسناً يفعلون، إنني لا أشع إلا في الظلام) (لن أحلق بوطني على علو مرتفع حتى لا يصيبه الدوار).
موت شاعر بمواصفات الماغوط لا اعتبره موتاً، بل هو وقارٌ في حضرة الغياب بمعنى آخر، هو موت لم يوارَ الثرى بعدُ وهكذا يختزن الاحساس الجّواني لدى القارئ أو الناقد كارتداد وجودي يحبسه الدمع إذا ما كفكَفتُه العين اليمنى وتبعتها أختها اليسرى من نوازل الأسى بفقد شاعر مهم . لقد رحل الماغوط لكنه في ذات الوقت ترك وراءه إرثاً شعرياً غنياً ومثيراً للجدل، فهل رحل الشاعر على حين غرّة ولم يكمل قصيدته الأخيرة؟ فقد كان يكتب الشعر بكل ما تمليه البساطة التي هي مُلكه وحده، لهذا بقيّ صادقاً على تطبيقها في حياته، كان يجاهر بالقصيدة مثلما يجاهر بالبساطة، يحمل كل الأشياء الحميمة منذ خروجه من (السلمية) حيث مسقط الرأس والتي قال عنها: (سلمية، الدمعة التي ذرفها الرومان على أوّلِ أسير فكَّ قيوده بأسنانه ومات حنيناً إليها)، (سلمية: من استغل غيابي واشبعك ضرباً ولكماً ورفساً وتمزيقاً؟)، فقد تبين لنا من خلال شعره إن شاعراً بحجم الضوء والحزن الذي نادى به كبديل للفرح لم يكن عابراً، ألم يقل ذات مرة: (الفرح ليس مهنتي) وعلى مثل هذا الشعور سار بنا إلى عوالمه الجميلة الساخطة، إنه ثورة شعرية جامحة قادرة على امتلاك الأشياء، فسلطة الشعر هي الأجدى ومثلما يقال أن السياسية هي فن الممكن هكذا هو الشعرأيضاً فن الممكنات عِبْرَ التأويل، الترميز، الإيقاع والمخيلة ومُوحيات أخرى لا نهاية لها.
الشاعر لا يتلون حسب الفصول، إنه يملك استراتيجية شعرية حتى وأن مات هكذا على أريكته، فنراه تارة يحاذر وأخرى يكابر حتى يعتزل الناس لذلك نرى دائماً في شعر الماغوط شيئاً ما تفوح منه رائحة التمرد والتحريض، اليأس والثورة، الحب والحرب، السجن والحرية ومآسٍ أخرى لا تعّد، ومن خلال شعره أيضاً نقفز من فوق سياج العلة كي يتسنى لنا رؤية المعلول، لنصغي إلى ما قاله في قصيدته المعنونة (ترميم قصيدة أو مجد الصغائر) وبها يتنبأ بموته في الربيع: (آخر أخباري مثل أولها، إنني مثل رومل أقاتل على عدة جبهات الشعر، المسرح، الصحافة، الأصدقاء، الأعداء، خائضاً حتى الركبتين في مستقع الفقر والفقراء، على كل حال جهزي إطاراً أخضر لصورتي لأنني سأموت في الربيع)، وحتى في كتابه الأخير (البدوي الأحمر) بقي يعيش على هواه الشعري تنعشه الكلمات المتحررة من التطريز اللفظي، فيتنفس الشعر من خلالها بعد أن يتناول الواقع، بتناقضاته وتقلباته، مع وجباته الشعرية اليومية، بغيته الأولى الصدق، صدقه الذي أودى به وجعله يكتب ذات مرة (سأخون وطني) ومع هذا بقيّ أيضاً يستّل من الحياة موضوعاته الشعرية الأثيرة إلى روحه ليداوي أوجاعاً مقيمة فينا وافراحاً غائبة عنا منذ لحظة العناق الأولى مع تلك القصيدة العصية على الامتثال والترويض، لنقرأ ما كتبه في هذا النص: (طريق الحرير: كل يوم اكتشف في وطني مجداً جديداً وعاراً جديداً، اخباراً ترفع الرأس وأخرى ترفع الضغط).
3
خاتمة..
بموت الماغوط يكون شعره قد ردَّ جزءاً كبيراً من الجميل الذي أبى على نفسه أن يظلَّ ديناً عليه لما قدمته حكومة هذا البلد العربي أو ذاك خصوصاً حين اعتبر الأسنان حسب قوله وأعني مزاحه الشعري: (الأسنان فائض قيمة أو انتاج يجب أن تزول وقد حقق لي القضاة العرب هذه الأمنية باستجواب واحد) شاء أن يرينا جحود البلاد وجميل الشعر، ولا يسعنا المقال هنا لكل ما يدفعنا الألم لعرضه، لكننا كلّما توغّلنا أكثر في حياته وشعره كلما تعرفنا أكثر على حزنه ـ كآبته وأدركنا مع من كان يتحاور في شعره خصوصاً وهو يردد على مسامعنا بلا تحفظات سوى تحفظاته المقصودة على القصيدة: (كنت بذيئاً بالسليقة، ثرثاراً بالفطرة وفي عالم تتازعه أوتار شوبان وأكلة لحوم البشر، كلما قضى أحد خصيانه بسبب التعذيب، صار الخبز والسيف والتغوّط محور الشر في حياتي) وكذلك في قصيدته المعنونة: (النخاس: الأسم، حشرة، اللون، أصفر من الرعب، الجبين، في الوحل، مكان الأقامة، المقبرة أو سجلات الأحصاء، المهنة، نخاس)، فلا أظنُّ أن حواره هذا ومحتواه الساخر أقل وهجاً من ثورته الشعرية النقية، هذه هي الرؤيا الماغوطية الصادقة التي اختتمها قبل موته، أجل هكذا أراد شاعرنا أن يكون أو يموت لا فرق بين الحالتين، الهوميري العريق أو البدوي الأحمر.
هكذا شاء الماغوط أن ينقح بموته أحزاننا ولغتنا، أن أهمية الشاعر تتجلى بالصدى الشعري الذي يخلّفه وراءه، خصوصاً في هذه اللحظة الزمنية الحرجة، ذاك لأن مراحل حياته ستبقى متلونة بألوان القصيدة . لو قيّض له أن يعيش أكثر، هل سيكمل قصيدته الأخيرة كما أراد ويراد لها حتى ولو تباعدت المسافات الضوئية بين أمنيتين تجمعهما وحدة الشعر؟ هل سيضحك مما قاله ذات قصيدة بحق صديقه السياب: (تشبث بموتك أيها المغفل) من سيغافل الكآبة أو الحزن المقيم فينا بغيابك؟ من سيستبيح الفرح العابر بالكلمات ليحلم باحثاً في حلمه عن الحلم؟ ما الذي سيقوله اليوم وهو يرى البلاد ومدنها وريفها غارقة بالدم والموت؟ هل سيسهم الشاعر في اكتشاف معالم الحزن القديم مرة أخرى، محمد الماغوط لا يكترث بالقبر والموت والاسئلة لكونه دائم الصراخ والتجديد، المشاكسة والأمل، الحلم والتحليق كقوله هنا: (كلما شربت كأساً نبت لي جناح) وكأنه يصرخ بنا، ثمة زمن آخر سيأتي يحرر الثقافة من قيودها، كي تكون ثقافة، هو: زمن الحرية، وهذا الزمن الجديد الذي يحرر الثقافة ويعطي المثقف تعريفاً جديداً هو الذي يفصل بين المثقفين والكهنة، وهو يفصل بين العقائديين والمقهورين أو بين الربيع الذي تحدث عنه (البحتري) أو الذي قال عنه الماغوط في قصيدته: (الربيع: كلما كتبت كلمة جديدة تنفتح أمامي نافذة جديدة حتى أنتهي في العراء) كأن التأريخ لا يحرر الثقافة إلاّ وهو يحرّر المقهورين الذين يعيدون صياغة الثقافة والذين يخلقون، وقد أصبحوا مثقفين من طراز جديد، عالماً جديداً لا كهنوت فيه.
يكتب الماغوط: (رقصة الحرب؟ كل شئ إلاّ هذا، فاكسسواراتها ولوازمها مكلفة، سيوف تروس، أوسمة، شعراء، مطربون، كيف أتحمّل أعباءها؟ وأنا أحمل سبع هزائم متوالية على ظهري ونفقات أيتامها وأراملها تكفيني أجرة المقرئين، إذاً لنرقص، لنجن، لنقم بأي شئ غير معقول، حتى (بيكيت) صار متخلفاً وكلاسيكياً في هذه الأيام إذاً لننتحر، الأنتحار حرام وهل الشقاء حلال؟) إن كانت الأرواح المغتطبة لا تعرف الصمت، فإن الماغوط عاش متمرداً، ولعل دراسة أسلوبه الشعري تكشف عن مستويين لا يتصالحان بالضرورة، مستودى ذاتي يبني القصيدة على المغايرة والمشاكسة ومستوى آخر، تحدده البنية الاخلاقية والمعرفية والاسلوبية، إذ المفردات تتزاحم والجمل تتراكم في حركة شعرية لا تتوقف، حركة تطالب بالحرية وتمارس، في الوقت نفسه، ثورة ذاتية صاخبة، وأخيراً، الشاعر لا ينأى عن عوالم هذه المشاكسات الشعرية، هو داخلها باستظهارات وأساليب مختلفة أيضاً، فلا فصل بين المعنى والدلالة، لأن الثنائية لا تستوي إلا في حضور طرفيها معاً، ثنائية قائمة على الالتحام والتوحّد .
هامش:
1ـ محمد الماغوط، الأعمال الشعرية الطبعة الثانية دار المدى 2006/ شرق عدن غرب الله الطبعة الأولى دار المدى 2005/ سياف الزهور الطبعة الأولى دار المدى 2001/ البدوي الأحمر الطبعة الأولى دار المدى
بقلم عبد الكريم كاظم
المصدر موقع الامبراطور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق