‏إظهار الرسائل ذات التسميات احمد الشافعي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات احمد الشافعي. إظهار كافة الرسائل

السبت، 19 يوليو 2014

طرف مما تقوله أنثى الإنسان في الحب

طرف مما تقوله أنثى الإنسان في الحب
 

ولدت "سارة تريفور تيسديل" في سانت لويس بولاية ميزوري الأمريكية عام 1884 لأسرة عريقة، فدرست في بيت الأسرة حتى بلغت التاسعة من العمر، وكانت تكثر من السفر إلى مدينة شيكاغو، حيث أصبحت من الشعراء الذين تحلقوا حول مجلة "شعر" الأمريكية في بداياتها. أصدرت أول ديوان لها عام 1907 بعنوان "سونيتات إلى ديوز"، ثم أتبعته بديوان "هيلانة طروادة" في عام 1911.
في عام 1914 تزوجت، بعد رفض الكثير من الخطاب، وانتقلت إلى نيويورك في عام 1916، وبعد سنتين من ذلك فازت بجائزة جمعية الشعر في جامعة كولمبيا، وهي الجائزة التي تحولت لاحقا إلى أهم جائزة للشعر في الولايات المتحدة وباتت تحمل اسم بوليتزر. كان فوزها بهذه الجائزة عن ديوان صدر لها عام 1917 بعنوان "أغنيات حب". وبعد ذلك الديوان أصدرت سارة تريفور تيسديل ثلاثة دواوين أخرى هي "لهب وظل" عام 1920 و"القمر المعتم" عام 1926 و"نجوم الليلة" عام 1930.
انفصلت عن زوجها في عام 1929، وعاشت بقية حياتها شبه مقعدة بسبب المرض. وفي أحد أيام عام 1933، وبعد نوبة عنيفة من الصراع مع الالتهاب الرئوي، انتحرت سارة تريفور تسديل بتناول كمية كبيرة من الحبوب المنومة.
***
بعد الحب
ذهب السِّحرُ
لم يبق منه شيء
وصرت وإياك نلتقي
مثلما الناس تلتقي
لا أنت معجزة لي
ولا أنا لك.

كنتَ لي الريحَ
والبحرُ
كنته أنا لك
والآن
لم يبق من بهاء لدينا
صرتُ بِرْكَةً
فاترة الموج.

ربما البركة آمنة من العواصف
ربما البركة آمنة من المد والجزر
لكنها برغم الوداعة
تبقى أمرَّ من البحر.
***
السِّحرُ ـ الريح والبحر ـ المرارة. ذلك ما نريد أن نكتب عنه في السطور التالية.
في كثير من الحكايات الشعبية، نجد المصابين بالسحر، يناضلون من أجل التخلص منه، أو ينيبون من يسعون إلى تخليصهم منه، على أن يكافئوهم لاحقا بقصور، أو بممالك، أو بأنفسهم عبر زيجات ملكية. هنا، في قصيدة سارة تيسديل، حسرة على تبدد السحر. فالسحر هنا إذن ليس السحر الذي يعرفه الناس ويخشونه. وتلك مشكلة الشعر، والحب: كلاهما يضعان المرء في حالة تشكك في الكلام، وفي قدرة اللغة على التعبير ، كلاهما يشعران المرء أنه يمر بما لا يمكن للغة أن تصفه، فيلجأ إلى المجاز، وإلى تحميل الكلمات ما لا تحمله بطبيعتها.
تساعدنا القصيدة في أبيات تالية على تفهم المقصود تحديدا بالسحر. لقد كانت وإياه في حالة غريبة، كان هو الريح وكانت هي البحر. ليس المقصود هنا أنهما مسخا إلى شيئين، بل ربما المقصود أنهما صارا بالحب، أكبر، أو أقوى، صارا غير قابلين للاحتواء، فأي شيء ذلك الذي يحتوي البحر أو الريح. لقد صارا مهمين، عظيمين جدا، ريحا وبحرا. ثم حدث ما لا نعرفه، مصيبة نزلت على الحبيبين، فإذا هي بركة، وإذا هو عدم، فلو تحول من ريح إلى أي شيء غير العدم لكانت القصيدة اهتمت بذكره.
والآن إلى المرارة. البركة أهدأ موجا من البحر، وأكثر أمنا لكنها أكثر ملوحة. عفوا، أكثر مرارة. هذا ما تقوله القصيدة. لقد أصبحت أنثى الإنسان تلك بسبب الحب بحرا، وبسبب الهجر على الأرجح أصبح البحر بركة، وبسبب فقدان الحب، أو خسران رتبة بالتحول من بحر إلى بركة، أصبحت البركة تشعر بالمرارة. بينما تحول ذكر الإنسان إلى ريح ثم عدم.
هناك خياران: إما أن الحب شيء جميل، لأنه يجعل الناس يشعرون أنهم صاروا أكبر وأقوى وأعظم وأبهى بحيث لا يمكن أن يوصفوا بأنهم مجرد بشر. والخيار الثاني أن الحب شيء غير جميل، لأنه يجعل الإنسان في مهب تحولات تعجزه عن فهم ماهيته، وتنتهي به وقد ازدرى نفسه بحيث يراها بركة بعد بحر، مريرة بعد عذوبة، فالحب يجعل الإنسان بحرا عذبا فيما يبدو. هناك خيار ثالث، ولكنه ربما لا يكون شعريا، ربما لا يستدعي من الصور ما يحترمه الشعراء المخلصون للحب: خيار احترام الإنسان لنفسه كفرد، خيار نظر المرء إلى نفسه بوصفه كائنا قادرا على تحقيق احتياجاته. وبالطبع، ستبقى أنثى الإنسان بحاجة إلى ذكر الإنسان، والعكس بالعكس. ولكن من منا يزعم أنه واقع في غرام الهواء لمجرد احتياجنا إليه، من من الشعراء كتب قصيدة حب في حذاء، أو مديحا في شجرة نحتاج إليها ظلا وثمرا وخشبا، من من الشعراء يشعر بالمرارة حين تهجره الشجرة؟ لا أحد. فهل ذلك لأن الشجرة لا تملك أن تهجر الإنسان؟ نعم. وهل ذلك لأن الإنسان يملك الشجرة؟ نعم. جميل، عرفنا إذن أشياء قيمة عن الحب والملكية والحرية والشجرة. ولنا في الشعر منافع أخرى!
 
 
كل الحقوق محفوظة لمدونة احمد الشافعي 2014 . اصوات من هناك .

الخميس، 10 يوليو 2014

الدخول في التجربة تشارلز سيميك

الدخول في التجربة

قدمنا هنا من قبل قصيدة للشاعر الأمريكي "تشارلز سيميك" عنوانها اسمعوا، عن رجل يقول لحياته، أو لذاته "نحن أشبه باثنين يعملان في وردية الليل، في مصنع  للقنابل. "تعالي معي بهدوء" هكذا يقول لها وهو يأخذ بيدها إلى سطح يطل على المدينة" إلى آخر القصيدة التي يقفز في نهايتها طفل من شباك وقد شبت النار في ثيابه، وكأنما لم يعد مكان للبراءة في العالم، والبراءة هنا لا تغيب بغياب الطفل المحترق فقط، وإنما بحضور ذلك الصمت المطبق اللامبالي بعد احتراقه أيضا.
كنا في ذلك الموضع قد أشرنا إلى قصيدة للشاعر الأمريكي "روبرت بلاي"، عن رجل وامرأة يجلسان متجاورين. وقلنا إننا سوف نتناولها عما قريب، وقد يكون تناولنا لها من خلال قصيدة سيميك. وها نحن نفعل.
***
ولد الشاعر الأمريكي "روبرت بلاي" في غرب ولاية مينيسوتا الأمريكية عام 1926 لأبوين من أصول نرويجية. انضم إلى البحرية عام 1944 حيث قضى فيها سنتين ثم التحق بجامعة هارفرد لينضم إلى مجموعة من الطلبة الذين سيصبحون فيما بعد من ألمع الكتاب والشعراء الأمريكيين: "جون آشبري" مثلا و"دونالد هول" و"آدرين ريتش"، وغيرهم. تخرج عام 1950، والتحق بورشة الكتابة الإبداعية في جامعة أيوا حيث تزامل مع الشاعر "دونالد جاستس"، وفي عام 1956 حصل على منحة من مؤسسة فولبرايت للسفر إلى النرويج لترجمة الشعر النرويجي، وهناك تعرف على عدد من الشعراء غير المشهورين ـ آنذاك ـ في الولايات المتحدة مثل "بابلو نيرودا" و"جورج تراكل" و"سيزر باييخو"، فقرر إنشاء مجلة لترجمة الشعر، فكانت مجلةٌ اسمها "الخمسينيات" ثم تغير اسمها ليصبح "الستينيات" ثم تغير أخيرا ليصبح "السبعينيات" والتي قدم فيها إلى جانب هؤلاء الشعراء وغيرهم من شعراء العالم شعراءَ أمريكيين كثرا أيضا.
شارك "روبرت بلاي" في عام 1966 في تأسيس جبهة الكتَّاب الأمريكيين المناهضين لحرب فييتنام، وحينما حصل على الجائزة الوطنية للكِتاب عن ديوانه "نور حول الجسد" تبرع بقيمتها للمقاومة. أنتج في السبعينيات سبعة كتب بين الشعر والترجمة، وتوالت كتبه بعد ذلك وحتى اليوم، لتطول قائمتها كثيرا، وتطول معها قائمة الجوائز والتكريمات التي نالها عنها.
***
رجل وامرأة يجلسان متجاورين

رجل وامرأة يجلسان متجاورين.
لا يشتهيان أن يكونا أكبر، أو أصغر،
لا يتمنيان لو كانا وُلدا في أي بلد آخر
أو أي زمن آخر.
راضيان بوجودهما حيث هما، يتكلمان أو لا يتكلمان.
أنفاسهما معا تطعم شخصا نحن لا نعرفه.
يرى الرجل طريق إبهاميه نحو أصابعها
يرى أصابعها حول كتاب تناوله إياه.
كلاهما يطيعان شخصا ثالثا يشتركان فيه،
وبينهما عهد على محبته.
قد يرقّ الحال، قد يحلّ الفراق، أو الموت.
رجل وامرأة يجلسان متجاورين،
وأنفاسهما معا تطعم شخصا ما نحن لا نعرفه
فقط نعرف بأمره
غير أننا قط لم نره.
***
تختلف قصيدتا سيمك وروبرت بلاي اختلافا كبيرا. ففي حين تنشق ذات في قصيدة سيميك، لتصبح ذاتين، نجد هنا ذاتين يفعلان شيئا آخر لا نستطيع أن نعتبره ببساطة العكس. في قصيدة سيميك ثمة إشارة إلى أن هذين الاثنين الذين تنشق إليهما الذات، هما أشبه بعاملين في مصنع للقنابل، بما يشي به ذلك من إحساس بالخطر والحذر من العالم، وثمة أيضا رغبة في تجاهل هذا الخطر المحدق والاستمتاع. فنحن نرى هذين الاثنين يتجاهلان المصنع وقنابله ودواعي العمل فيه، ويصعدان كأنهما حبيب وحبيبته إلى سطح يطل على المدينة كلها. ثمة حضور للعالم طاغٍ في قصيدة سيميك. أما في قصيدة بلاي، فلا يكاد يوجد هذا العالم إلا من خلال ضمير المتكلم الدال على الجمع. منذ بداية القصيدة ثمة هذا الحضور، يقول الشاعر: أنفاسهما معا تطعم شخصا نحن لا نعرفه.
ولكن ما شأننا نحن بهما من الأساس؟ الشاعر هنا يتكلم عن اثنين في حالة (من الحب؟) تجعل منهما معا شخصا اعتباريا لو جاز القول. تجعل منهما معا كيانا ثالثا. لماذا يتشتت انتباه الشاعر هنا ليتكلم عن "نحن" هذه، نحن التي تشير إلى فاعل حاضر فقط بعدم فعله أي شيء. تشير إلى حاضر ليس هناك من مبرر لوجوده إلا عدم معرفته بأمر ذلك الشخص الثالث.
لقد قال ذات يوم "بيلي كولينز" إنه لا يقرأ شعر "إميلي ديكنسن" لكي يعرف شيئا عنها، بل عن نفسه. هنا يبدو "روبرت بلاي" وكأنه يقول ما هو أكثر، يبدو كمن يقول إنه لا يكتب الشعر لكي يعرف أن ثمة رجلا وامرأة يبلغ الحب بهما حد أن يكُونا أو يكَوِّنا معا شخصا ثالثا. بل ليعرف أنه لم ير قط ذلك الشخص الثالث. لم تسنح له قط تلك الفرصة ليكوِّن مع آخر كيانا مشتركا يكونان جزءا منه. وإنما سنحت له فرصة أن يعرف بالوجود المحتمل لذلك الشخص أو الكيان.
من الأدعية الأثيرة لدى المسيحيين دعاؤهم بألا يدخلهم الرب في التجربة. ألا يضعهم في الامتحان عرضة للخطأ والصواب. ولكن البعض يسعون سعيا إلى التجارب، إن لم يكن في الواقع، فبالخيال والتأمل، فينالون عناءها دون أن ينالوا متعتها. يعرفون جيدا إحساس رجل وامرأة يجلسان متجاورين، دون أن يجربا دفء المجاورة، أو حتى راحة الجلوس. لا نحب أن نقول إن هؤلاء هم الشعراء فقط، بل كل من نرى الفضاء حول رءوسهم، لا بين آذانهم.
 
ترجمة احمد الشافعي ، كل الحقوق محفوظة للمترجم ولمدونته : http://aswaaaat.blogspot.com