‏إظهار الرسائل ذات التسميات اقتباسات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اقتباسات. إظهار كافة الرسائل

السبت، 27 يوليو 2013

أفول الأصنام – فريدريك نيتشه - اقتباسات

"هذا فنان كما أحب أن يكون الفنانون.. متواضع في ضرورته الطبيعية. في الأصل، لا يطلب إلا شيئين اثنين: خبزه وألعابه".

***

"عندما تكون للمرأة فضائل ذكورية يجب تجنبها. وعندما لا تكون لها فضائل ذكورية، فهي التي تهرب".

***

"هناك نوع من كره الكذب والرياء نابع من معنى حاد للشرف. غير أن نفس الكره يمكن أن يكون محض جبن، عندما يكون الكذب محرما بأمر إلهي. من فرط جبنه لا يكذب..."

***

"(لا يمكن أن نفكر ونكتب إلا جالسين – جوستاف فلوبير) تمكنت منك، أيها العدمي! أن تكون ذا مؤخرة ثقيلة فتلك، بامتياز، خطيئة في حق العقل. وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما".

***

"لقد كانوا بالنسبة لي عبارة عن أدراج استعملتها لكي أرتقي – كان لزاما عليّ، من أجل هذا، أن أعبر فوقهم، أن أتجاوزهم. غير أنهم كانوا يظنون أنني سأستريح فوقهم".

***

"غير مهم أن ينتهي الأمر بالناس إلى تصويبي، فأنا على صواب قليل. والذي يضحك اليوم جيدا سيكون آخر من يضحك".

***

"ما أطلبه من الفيلسوف معلوم: أن يتموضع ما وراء "خير" و"شر"، أن يكون فوق وهم الحكم الأخلاقي. هذا الطلب نابع من استنتاج كنت أول من صاغه: ليست هناك حقائق أخلاقية. يشترك الحكم الأخلاقي مع الحكم الديني في الإيمان بحقائق ليست في شيء. ليست الأخلاق إلا تفسيرا – أو بتعبير أدق، تفسيرا خاطئا لبعض الظواهر. يوصل الحكم الأخلاقي، مثله مثل الحكم الديني، إلى جهل ينعدم فيه مفهوم الواقعي نفسه، ينعدم فيه التمييز بين الواقع والمتخيل، بحيث أن "الحقيقة" لا تمثل، على هذا المستوى سوى أشياء نسميها اليوم "أوهاما"..."

***

"الثقافة والدولة نقيضان – لا نخطئن في ذلك -: إن فكرة دولة خالقة للثقافة فكرة حديثة. تحيا الواحدة على حساب الأخرى، تزدهر الواحدة على حساب الأخرى. كل العصور المزدهرة للثقافة هي عصور انحطاط سياسي، كل ما هو عظيم في جانب الثقافة كان دائما غير سياسي، بل ومضادا للسياسة".

***

"الآن وقد تخلصوا من الإله المسيحي، فإنهم يعتقدون أنهم ملزمون باحترام الأخلاقية المسيحية بشكل دقيق: هذا منطق إنجليزي محض... مقابل كل تحرر بسيط من اللاهوت يجب أن يسترد الناس حقوقهم بتطرف أخلاقي مريع. تلك هي الذعيرة التي يجب أداؤها. الأمر بخلاف ذلك بالنسبة لنا نحن المغايرين. فحين نتخلى عن العقيدة المسيحية، فأننا ننزع عنا في نفس الوهلة كل حق في الأخلاقية المسيحية... المسيحية نظام، رؤية شاملة ومتماسكة للأشياء. إذ نحن نزعنا منها فكرة أساسية، وهي الإيمان بالله، فإننا نهدم الصرح كله في نفس الوهلة: ولا يتبقى بين أيدينا آنذاك شيء له أدنى لزوم. تفترض المسيحية في المطلق أن الإنسان لا يعلم، لا يستطيع أن يعلم، ما هو خير له وما هو شر له: إنه يؤمن بالإله الذي وحده يعرف ذلك. الأخلاقية المسيحية أمر قطعي: أصله متعال، فهي فوق كل نقد، فوق كل حق في النقد. ليس لها من حقيقة إلا إذا كان الإله هو الحقيقة – إنها لا تستمر إلا ما دام الإيمان بالله مستمرا".

***

"لكي يكون هناك فن، لكي يكون هناك فعل ونظرة جماليان، لا بد من شرط فزيولوجي: الانتشاء. لا بد أولا أن تكون انفعالية كل الآلة قد كثفتها النشوة. كل أنواع النشوة مهما يكن مصدرها، لها هاته القدرة خصوصا نشوة التهيج الجنسي، أقدم أشكال النشوة وأشدها بدائية. ثم تليها النشوة التي تسببها كل الرغبات الكبرى، كل الانفعالات الشديدة. نشوة العيد، نشوة المبارزة، نشوة الإقدام، نشوة النصر، نشوة كل تهيج عنيف: نشوة الفظاظة، نشوة الهدم – النشوة الناتجة عن بعض الأحوال الجوية (الاضطراب الربيعي مثلا)، أو تحت تأثير المخدرات، أخيرا تأتي نشوة الإرادة، نشوة إرادة تم كبحها طويلا، وهي متأهبة للانفجار. – الأساسي في النشوة هو الإحساس، هو تكثيف القوة، تكثيف الكمال. هذا الإحساس هو الذي يدفع الإنسان إلى وضع شيء من ذاته في الأشياء، إلى إرغامها على احتواء ما يضعه فيها، إلى التعسف في حقها: هذا ما يسمى الأًمثًلَة. لنتخلص هنا من حكم مسبق: أن الأًمثًلُة لا تقتضي إطلاقا، مثلما يعتقده الناس عادة، أن نغض الطرف عما هو حقير وثانوي – أو أن نتملص منه-".

أفول الأصنام
فريدريك نيتشه
ت: حسان بورقية – محمد الناجي



الثلاثاء، 4 يونيو 2013

ديوان نيتشه - اقتباسات


أقيم في بيتي
أبدا، بأحد ما اقتديت
ولقد سخرت، فوق ذلك، من كل معلم
ما سخر من ذاته أولا.

***

في الجنة

"الخير والشر انحياز الإله"
يقول الثعبان ويسرع هاربا.

***

عن العلماء

بينما كنت نائما، إذ بشاة تقلقل تاج اللبلاب الذي يزيّن رأسي، قالت وهي تقلقل: "ما عاد زرادشت عالما".

قالت ذلك وذهبت في ازدراء وتعال. أعلمني صبي بذلك.

أحب أن أكون مستلقيا حيث الأطفال يلعبون قرب الجدار المتداعي، تحت أكمة الأشواك والخشخاش الأحمر.

ما زلت عالما في نظر الأطفال، وأيضا في نظر الأشواك والخشخاش الأحمر.

إنهم أبرياء حتى في إيذائهم.

لكنني ما عدت كذلك في نظر النعاج: ذاك حظي: فليبارك!

لأن هذه هي الحقيقة: تركت بيت العلماء وأطبقت الباب ورائي.

طويلا جلست روحي جائعة على مائدتهم، لست، مثلهم، مروَّضا على البحث عن المعرفة كمن يكسّر الجوز.

أعشق الحرية والهواء على الأرض البليلة؛ وأفضِّل النوم على جلود البقر، على النوم على أمجادهم وألقابهم.

متقد جدا بأفكاري ومحترق جدا بها: غالبا ما يقطع ذلك عليّ أنفاسي، لذلك عليّ الذهاب إلى الفضاء الأرحب، بعيدا عن كل الغرف المُغبرة.

لكنهم يتفيّئون الظلال الندية: إنهم لا يريدون، إجمالا، أن يكونوا إلا مجرد متفرجين ويحذرون جيدا الجلوس حيث الشمس تُحرق بلهيبها درجات السلم.

أمثال الذين يقفون في الشارع وينظرون فاغرين أفواههم إلى المارة: هكذا هم ينظرون وينظرون فاغري الأفواه إلى الأفكار التي أدركها غيرهم.

تلمسهم فيرسلون بالغبار عن غير قصد كما أكياس الطحين: فمن سيظن أن غبارهم يأتي من القمح ومن بهجة حقول الصيف المذهبة؟

وإذا بدوا في هيئة الحكماء، فإنني أقشعرّ من أمثالهم الصغيرة ومن حقائقهم الصغيرة: لحكمتهم، غالبا، رائحة المستنقعات، ولطالما استمعت إلى نقيق الضفادع في كلاهم ذاك.

إنهم مهرة، أصابعهم لبقة: ما قدرة بساطتي إلى جانب تعقيدهم! أصابعهم تتوافق في النظم والعقد والنسج: هكذا ينسجون للعقل جوارب!

إنهم حركات جيدة في صناعة الساعات: يكفي أن نُتقن ضبط رقّاصها، حتى تعلن عن الوقت بنزاهة مُسمِعة إيانا غوغاء خافتة.

كالطواحين يعملون وكالمدقات – وكيفي أن نرمي إليهم بالقمح! – إنهم على وفاق في طحن القمح وجعله غبارا أبيض.

يتبادلون مراقبة أصابعهم ويتبارزون في ذلك. ماهرون في الرداءات الصغيرة، يتربصون بمن علمهم يعرج – كما العناكب يتربصون.

طالما رأيتهم يحضّرون سمومهم في حذر؛ وعلى الدوام ساترين أصابعهم بقفازات من بلور.

أيضا يعرفون اللعب بالنرد المزيف، ولقد رأيتهم يلعبون بالكثير من الحماس حتى أنهم كانوا مكسيين عرقا.

لا مشترك بيني وبينهم، وما يقززني أكثر من ريائهم ونرودهم المزيفة: فضائلهم.

عندما كنت بينهم، كنت فوقهم أقيم، لذلك حقدوا عليّ.

لا يقبلون أن يمشي أحد فوق رؤوسهم: هكذا وضعوا أخشابا وأتربة وقذرات بين رؤؤسهم وبيني.

هكذا خنقوا صوت أقدامي؛ وإلى الآن لمّا يزل أكثرهم علما أقلهم استماعا إليّ.

لقد وضعوا بيني وبينهم كل الأخطاء وصنوف الضعف الإنساني: - في بيوتهم يسمون هذا "سقفا مزيفا".

ولكن على الرغم من ذلك فأنا أمشي بأفكاري فوق رؤوسهم، وحتى لو أردت السير فوق عيوبي، فسأظل فوقهم وفوق رؤوسهم.

لأن الناس غير متساوين: هكذا تقول العدالة.

وما أريده، لن يكون لهم حق إرادته.

هكذا تكلم زرادشت.

***

سعادتي

منذ صرت من البحث متعبا
تعلمت أن أجد.
منذ أن وقفت لي ريح بالضد
صرت أبحر مع كل الرياح.

***

حوار

أ: هل كنت مريضا؟ هل شُفيت؟
ولكن من كان طبيبي؟
كيف استطعت نسيان هذا!
ب: الآن فقط، أظنك شفيت.
لأن من ينسى، في صحة جيدة يكون.

***

تعال معي – تعال معك

هيأتي ولغتي تجذبانك،
أتقتفي أثري، أتريد أن تتبعني؟
اتبع ذاتك بأمانة: -
ورويدا رويدا ستتبعني!

***

ورودي

نعم! سعادتي تريد أن تُسعِد!
كل سعادة ترغب أن تُسعِد!
هل تريدون قطف ورودي؟

وجب عليكم الانحناء والاختفاء
وسط العوسج والصخور
وغالبا لعق الأصابع!

سعادتي ساخرة!

سعادتي خؤونة!
هل تريدون قطف ورودي؟

***

قول مأثور يقول

صارم وطيّع، غليظ ولطيف،
مألوف وغريب، قذر وصاف
موعد المجانين والعقلاء:
أكون، أريد أن أكون هذا كله،
في الآن ذاته ثعبانا وخنزيرا ويمامة.

***

المقدام

عداوة بسيطة أفضل
من صداقة الخشب المعاد إلصاقه.

***

صدأ

لا بد أيضا من الصدأ: السلاح الحاد لا يكفي
وإلا ظلوا يقولون عنك: "ما زال جِدُّ صغيرا"!

***

نحو الأعالي

"كيف أرتقي الجبال أفضل؟"
إصعد دوما
دون أن تَشغل ذاتك، بذلك.

***

حكمة الرجل العنيف

لا تطلب شيئا أبدا! ما جدوى التأوّه!
بل خُذ، أرجوك، وعلى الدوام.

***

الخاضع

أ: يقف ويستمع: مَن الذي استطاع أن يخدعه؟
ما الذي سمعه يطنّ في أذنيه؟
ما الذي استطاع هدّه إلى هذه الدرجة؟
ب: ككل الذين حملوا أغلالا،
ضجة الأغلال أنّى كان تتبعه.

***

نصيحة

أطامح إلى المجد أنت؟
إليك إذن بالنصيحة:
كن حرا، وفي الوقت المناسب،
تنازل عن المجد!

***

إلى قارئي

فكُّ جيّد ومعدة جيدة –
هذا ما أرجوه لك!
وحين تكون هضمت كتابي، حينها
تكون على اتفاق معي!

***

"المعرفة لأجل المعرفة" – ذاك هو الشرك الأخير الذي تنصبه الأخلاق، ونحن مرة أخرى واقعون تماما في أحابيله.

***

الذي يحتقر ذاته يفرط أيضا في تمجيد احتقاره لذاته.

***

الغريزة – عندما البيت يحترق، نحن ننسى حتى العشاء.
-         نعم، لكننا نستدرك الأمر بعد ذلك، على الرماد.

***

مستاء يتكلم: "تمنيت صَدِّي، فما سمعت غير المديح".

***

توفر الموهبة لا يكفي؛ وجب أيضا توفر الإذن من قبلكم – أليس الأمر كذلك أيها الأصحاب؟

***

فكرة الانتحار تعزية قوية، إنها تساعد على تمضية أكثر من ليلة رديئة.

***

نكف عن محبة معارفنا حالما نُبلِّغها.

***

أن تتكلم كثيرا عن نفسك، فذلك يمكن أن يكون أيضا وسيلة للتخفي.

***

غرور الآخر لا يصدم ذائقتنا إلا عندما يصدم غرورنا الخاص.

***
"هو لا يعجبني" – ولماذا؟ "لأنه يتجاوزني" هل أجبتم أبدا هذا الجواب؟

***

أنتم جميعا يا من تغرقون، أتظنون أني جاهل بما تتمنون؟ أن تتعلقوا بسباح قوي، الذي أنا ذاته.

أتظنون أني راغب في أن أجعل الأشياء أكثر سهولة للراقي، وأن أدله على دروب أكثر إمتاعا؟ وجب لذلك أن يندثر على الدوام أكبر عدد من جنسكم، وأن أرغب في تعلم السخرية منكم أكثر.

بإمكانكم أيضا أن تقودوا أقوى البشر إلى الهاوية: بكل العماء وكل التبلد، هكذا تتعلقون بمنقذ!

تعلمت رؤية أشد الآلام ولست غاضبا من رؤيتكم تولولون.

وما همني بؤسكم! ولتكن خطيئتي أني أشفقت عليكم!

***

من يقدر
على إعطائك قدر حقك؟
إذن خذ حقك بيديك!


ديوان نيتشه
فريدريك نيتشه
ت: محمد بن صالح
منشورات الجمل

الاثنين، 18 فبراير 2013

في قبوي – دوستويفسكي – اقتباسات



"أنا... رجل مريض... أنا إنسان خبيث. لست أملك شيئا مما يجذب أو يفتن. أحسب أنني أعاني مرضا في الكبد، على أنني لا أفهم من مرضي شيئا على الإطلاق ولا أعرف على وجه الدقة أين وجعي وأنا لا أداوي نفسي، ولا داويت نفسي في يوم من الأيام، رغم أنني أحترم الطب والأطباء. وأني من جهة أخرى أؤمن بالخرافات إلى أقصى حد، أو قولوا إنني أؤمن بها إلى الحد الذي يكفي لاحترام الطب (إنني أملك من الثقافة ما يكفي لأن لا أكون من المؤمنين بالخرافات، ولكني أؤمن بها مع ذلك). لا، لا! لئن كنت لا أداوي نفسي، أن مرد ذلك إلى خبث وشر! لا شك أنكم لا تتنازلون إلى حيث تفهمون هذا، ولكني أنا أفهمه".

***

"لم أستطع أن أصبح أي شيء، لم أستطع أن أصبح حتى شريرا. ولا خبيثا ولا طيبا، ولا دنيئا ولا شريفا، لا بطلا، ولا حشرة، وأنا اليوم في هذا الركن الصغير، أختم حياتي، محاولا أن اواسي نفسي بعزاء لا طائل فيه، قائلا أن الرجل الذكي لا يفلح قط في أن يصبح شيئا، وأن الغبي وحده يصل إلى ذلك".

***

"ماذا أقول؟ إن جميع الناس يفعلون ذلك. إن الناس يزدهون بأمراضهم؛ وأنا أزدهي بأمراضي أكثر من أي إنسان آخر، أعترف بذلك. على أنني مقتنع اقتناعا جازما بأن زيادة الوعي ليس وحدها مرضا، بل بإن كل وعي مرض".

***

"أواه! ليتني لم أكن إلا كسولا! لشد ما كنت سأحترم نفسي عندئذ! لأنني كنت سأرى أنني قادر على أن أكون كسولا في أقل تقدير، أن تكون لي على الأقل ميزة محددة معينة أنا منها على يقين. سؤال: من أنت؟ جواب: كسول! ما كان أحلى أن أراني أُسمَّى هكذا! أنا إذن مُعرَّف تعريفا إيجابيا. أنا إذن يمكن أن أوصف بنعت، أن يقال عني شيء... (كسول) - هذا لقب، هذه وظيفة، هذه يا سادتي مهنة! لا تضحكوا! الأمر كذلك كان سيحق لي عندئذ أن أكون عضوا في أول نادي بالعالم، وكنت سأقضي وقتي كله في احترام نفسي".

***

"غاية الغايات يا سادتي أن لا يفعل المرء شيئا البتة. إن القعود عن الفعل والخلود إلى التأمل مفضلان على أي شيء آخر. عاش القبو إذن! فرغم ما قلته منذ قليل من أنني أحسد الإنسان السوي الطبيعي أشد الحسد، فإنني حين أراه على ما هو عليه، أتنازل عن أن أكون إنسانا سويا طبيعيا (مع استمراري على حسده)".

***

"تزعم أنك لا تخشى أحدا ولكنك تلتمس رضا الناس وتنشد عطفهم. تؤكد أنك تصرف بأسنانك غيظا، ولكنك في الوقت نفسه تمزح وتتندر لتضحكنا. تعلم أن أقوالك الجميلة ليست جميلة، ولكنك تبدو شديد الرضا عن كلامك، كثير الإعجاب بأدبك. جائز أن تكون قد تألمت، ولكنك لا تحترم ألمك أي احترام. في أقوالك شيء من حقيقة، ولكن يعوزها الحياء والخفر. غرورك التافه المسكين يجعلك تحمل حقيقتك إلى الميدان وتعرضها في السوق، وتلقيها أمام الناس عرضة للسخريات. في نفسك شيء تريد أن تقوله، ولكن الخشية تجعلك تبلع الكلمة الأخيرة، لأنك تملك وقاحة ولكنك لا تملك شجاعة. أنت تمدح وعيك، ولكنك غير قادر إلا على التردد، ذلك لأنك، رغم أن عقلك يعمل، متسخ القلب بالفحش ملوث النفس من الفجور، وما لم يكن القلب صافيا طاهرا فلا يمكن أن يكون الوعي بصيرا ولا كاملا! يا لك من مشعبذ مهرج! كذب كل هذا! كذب! كذب!".

***

"كنت أتساءل في بعض الأحيان: لماذا أنا الشخص الوحيد الذي يتخيل أن الناس ينظرون إليه نظرة فيها نفور وكراهية؟ كان أحد الموظفين قبيح الوجه والبشرة، وكأنه لص من قطاع الطرق، فلو كان وجهي دميما دمامة وجهه إذن لما تجرأت حتى على أن أظهر للناس، وكانت بزة موظف ثان من الموظفين تبلغ من الاتساخ أن المرء يشعر برائحتها الكريهة متى كان على مقربة منه. ومع ذلك لم يكن يبدو على أحد من هؤلاء السادة أنه يشعر بخجل لا من وجهه ولا من بزته ولا من طبعه. كانوا لا يتخيلون أن من الممكن أن ينظر إليهم أحد نظرة فيها اشمئزاز، وهبهم تخيلوا ذلك، فإنهم لا يأبهون له ولا يكترثون به".

***

"ليس الآخرون خيرا مني، ولكنهم يمتازون عني بأنهم لا يفقدون ثقتهم ورباطة جأشهم، الشيطان وحده يعلم لماذا! أما أنا فسأظل طوال حياتي أتلقى ضربات من أتفه هذه الحشرات التي تملأ الأرض".

***

"... إن الحب إنما يعني في نظري الاستبداد والتسلط الروحي. إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيل الحب في صورة غير هذه الصورة، وقد بلغت من ذلك أنني ما زلت حتى الآن أرى في بعض الأحيان أن قوام الحب هو أن يهب المحبوب للمحب حق الاستبداد به. إنني في أحلام قبوي لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيل الحب إلا في صورة صراع: صراع يبدأ بكره وينتهي بعبودية روحية".

***

"إن كتابة رواية من الروايات لا بد لها من بطل، أما أنا فقد جمعت، كأنما على عمد، جميع الصفات التي يتصف بها (نقيض البطل). ثم إن هذا كله سيحدث في النفس أثرا كريها، لأننا جميعا قد فقدنا عادة الحياة، لأننا جميعا نعرج كثيرا أو قليلا، حتى لقد بلغنا من فقدان تعود الحياة أننا نشعر تجاه الحياة الواقعية، تجاه (الحياة الحية) بما يشبه أن يكون اشمئزازا، وذلكم هو السبب في أننا لا نحب أن يذكرنا بها أحد؛ وقد وصلنا في هذا الطريق إلى حيث صرنا نعد الحياة الواقعية، (الحياة الحية) محنة أليمة أو جهدا شاقا. ونحن جميعا متفقون على أن الأفضل لنا أن نقرأ هذه الحياة في كتاب. علام هذه الاضطرابات التي نتخبط فيها، علام هذه الاندفاعات الجنونية التي نستسلم لها؟ ما الذي نطلبه؟ إننا نحن أنفسنا نجهل ذلك. ولو قد استجيبت دعواتنا الحمقاء لكنا أول من يتألم من ذلك".

***

"... إننا اليوم لا نعرف حتى أين هي الحياة، وما هي، وما صفتها. فيكفي أن نُترَك وشأننا، يكفي أن تُسحَب الكتب من بين أيدينا، حتى نرتبك فورا، وحتى تختلط علينا جميع الأمور، فإننا حتى لا ندري أين نسير، وكيف نتجه، وماذا يجب أن نحب وأن نكره. وماذا يجب أن نحترم أو نحتقر. حتى أنه ليشق علينا أن نكون بشرا، بشرا يملكون أجسادا هي لهم حقا، أجسادا تجري فيها دماء. إننا نخجل أن نكون كذلك، ونعد هذا عارا، ونحلم في أن نصبح نوعا من كائنات مجردة، عامة. نحن مخلوقات (ولدت ميتة)، ثم أننا قد أصبحنا منذ زمن طويل لا نولد من آباء أحياء، وهذا يرضينا ويعجبنا كثيرا. إنه يلقى في نفوسنا هوى. وقريبا سنجد السبيل إلى أن نولد رأسا من فكرة".

في قبوي (مذكرات من العالم السفلي)
فيودور دوستويفسكي
ت: سامي الدروبي
مكتبة الأسرة 2009

الأحد، 4 نوفمبر 2012

لا تولد قبيحا – رجاء عليش – اقتباسات


"أنا رجل بلا امرأة.. بلا حقل للقمح.. بلا كرة للعب.. بلا ذكريات مضيئة.. بلا طريق للمستقبل".

***

"أصبحت أؤمن أن القبح ربما كان أفظع العاهات وأكثرا إيلاما وتدميرا للنفس الإنسانية على الإطلاق فالإنسان القبيح لا يثير إشفاق أحد من الناس أو إحساسه بالعطف عليه أو الرثاء له.. القبح يستفز مشاعر الآخرين العنيفة.. كل حاستهم النقدية الساخرة، فيوجهونها بضراوة عنيفة ناحية الإنسان القبيح قاصدين إهانته وتدمير معنوياته".

***

"لكن إن قلنا إن القبح هو إحدى العاهات التي تدمر حياة الإنسان القبيح فالغريب أن الإنسان القبيح لا يحس بأي عجز جسماني يمنعه من الاستمتاع الكامل بالحياة كالآخرين.. إنه فقط يحس بحاجز شفاف وغير مرئي يحول بينه وبين الاندماج في الحياة.. حاجز من صنع الآخرين الذين يضمرون له الكراهية والشر لمجرد أنه إنسان مختلف قبيح".

***

"مشكلة الإنسان القبيح في رأيي ليست هي إحساسه بالاختلاف عن الآخرين لكن في ذلك التربص القائم به من جانب هؤلاء الآخرين.. تضخيم المشكلة أمامه بصورة تدعو إلى اليأس المطلق وإلقاء السلاح.. تدعو إلى كراهية الناس واعتبارهم مصدر تعاسته الحقيقية.
المشكلة هي الإذلال الدائم له.. تذكيره دائما بناحية قصوره الخاصة.. النظر إليه باستغراب شديد إذا ما حاول أن يمارس الحياة كشخص عادي متمالك لحواسه الخمسة وهنا يقع الناس في أغرب تناقض متصور.. إنهم يعتبرون القبيح إنسانا عاديا تماما ولكنهم في نفس الوقت يستنكرون منه بشدة أن يمارس حياة الإنسان العادي".

***

"الغريب أن الناس يعاقبون الإنسان القبيح على جريمة لم يتركبها هو بل ارتكبت في حقه من جانب قوى مجهولة شيطانية كان يمكن أن تنكل بهم مثله لكنهم أفلتوا بمعجزة، بمجرد صدفة حسنة في حياتهم.. يعاقبونه جميعا.. يعاقبونه طول الوقت.. يعاقبونه حتى نهاية حياته".

***

"أتصور لو أنني رأيت الإله في لحظات الحزن الفظيعة في حياتي لما ترددت في إطلاق الرصاص عليه، فما صنعه هذا الإله بي يعتبر جريمة لا يمكن اغتفارها.. لو أن الغزاة قدموا إلى مدينتي الميتة القلب لفتحت لهم الأبواب.. لما رفعت سلاحا ضدهم لا لشيء إلا لأنهم يحملون الإذلال والعار للناس الذين أكرههم من أعماقي".

***

"في حياته كلها لم يشعر أنه ند للآخرين الذين يهزأون به طول الوقت.. يعذبونه باستمتاع شديد مذهل... ليس فقط لأنه ضئيل الحجم مشوه الخلقة بصورة مروعة بل لأنه يشعر في أعماقه بالضآلة أمامهم.. بأن الصراع غير موجود على الإطلاق بالنسبة له أو غير عادل على الأقل. يشعر بأن الهزيمة هي قدره المحتوم في الحياة.. عيون الآخرين تسلط عليه آشعة ساخنة تذيب جدرانه الخارجية المصنوعة من الصفيح.. يحس أنه عار أمامها.. مجرد من الحماية.. أن مصيره معلق برغبتهم في المسالمة أو الصراع لكنهم وكما عودوه دائما يجنحون إلى الصراع لأنهم متأكدون أنهم سيكسبون المعركة منذ اللحظة الأولى لبدايتها ولأن المعركة والنتيجة المروعة التي تنتهي إليها تسبب لهم سعادة تهز قلوبهم من الأعماق".

***

"... هذه إحدى ميزات الوسامة الشديدة.. أن يصدقك كل الناس بينما أنت تكذب عليهم أما هو الإنسان القبيح المكروه من كل الناس فإن أحدا لن يصدقه حتى لو قال الصدق.. إنه متهم من كل الناس بالكذب.. مشكوك فيه دائما لأنه غريب وقبيح".

***

"يقولون عن العالم رغم ذلك إنه عادل ورحيم وإن الناس بسطاء متسامحون.. هؤلاء الناس الطيبون لديهم القدرة الفائقة على تبرير كل جرائم العالم الوحشية.. بالذات جريمة قتل معنويات إنسان من حقه أن يعيش كالآخرين.. عندما يعجزون عن إقناعك بمنطقهم المتخاذل الشرير يقولون لك ببساطة شديدة مقززة: نصيبك ستناله في العالم الآخرحيث كل أنهار العسل واللبن وحيث تستلقي هناك حول شطآنها الدافئة كل حثالة الأرض المنكوبة التي لم تنل حقها في الحياة".

***

"للوهلة الأولى أدرك أنه أمام إنسان محطم تماما.. إنسان خلق ليتعذب حتى الموت.. لا يصادفه المرء كثيرا في الحياة.. خيل إليه أن هذا الإنسان ملحوم في أكثر من مكان لأن به عديدا من الشروخ وانه يمكن أن يتفسخ بين أصابعه بسهولة شديدة إذا لم يمسكه بحذر تام، لكنه لم يستطع للحظة خاطفة أن يقاوم رغبة شريرة آثمة في أن يضحك من هذا الإنسان الغريب الملامح كأي رجل آخر في العالم.. هذه الرغبة التي لا يمكن مقاومتها.. الإنسانية تماما".

***

"أحيانا يحس أنه حيوان ذو خلية واحدة بالغة الحساسية يعيش داخل قوقعة مغمورة تحت مياه سحيقة.. يعذبه إحساسه الفظيع بالوحدة.. بالحنين للجنس الآخر.. للمس المرأة الناعم المثير.. لرائحة عرقها.. لفحشها.. لبذائتها.. لذلك العالم الخرافي الذي تعيش فيه والذي لم يقدر له رغم سنوات عمره الطويلة أن يقترب منه بالقدر الذي يريد.. لا يجد حرجا وهو يعبر جسر الأربعين "جسر اللا عودة بين الشباب والشيخوخة" في أن يصرخ بأعلى صوته طالبا الحصول على امرأة.. امرأة واحدة فقط.. حاجته الحميمة أقوى بكثير من كرامته.. من اعتزازه بنفسه، لكن هذه المرأة الوحيدة لم توجد أبدا في حياته".

رجاء عليش
لا تولد قبيحا

الأحد، 12 أغسطس 2012

الأخوة كارامازوف – دوستويفسكي - اقتباسات


"إنني أحب الإنسانية، غير أن هناك شيئا في نفسي يدهشني: كلما ازداد حبي للإنسانية جملة واحدة، نقص حبي للبشر أفرادا... إنه ليتفق لي كثيرا أثناء اندفاعي في الأحلام أن تستبد بي حماسة شديدة ورغبة عارمة جامحة في خدمة الإنسانية، حتى لقد أرتضي أن أصلب في سبيلها إذا بدا هذا ضروريا في لحظة من اللحظات. ومع ذلك لو أريد لي أن أعيش يومين متتاليين في غرفة واحدة مع إنسان، لما استطعت أن أحتمل ذلك، إنني أعرف هذا بتجربة، فمتى وجدت نفسي على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتي وتجور على حريتي، إنني قادر في مدى أربع وعشرين ساعة أن أكره أحسن إنسان. فهذا في نظري يصبح إنسانا لا يطاق لأنه مسرف في البطء في تناوله الطعام على المائدة، وهذا يصبح في نظري إنسانا لا يطاق لأنه مصاب بالزكام فهو لا ينفك يمخط، إنني أصبح عدوا للبشر متى اقتربت منهم... ولكنني لاحظت في كل مرة أنني كلما ازددت كرها للبشر أفرادا، ازدادت حرارة حبي للإنسانية جملة".

***

"لم أعبث إلا نصف عبث، لم أمزح إلا نصف مزاح".

***

"إنني أشعر كلما دخلت على بعض الناس أنني أسوأ من الآخرين، وأن الجميع يعدونني مهرجا! فأقول لنفسي عندئذ، فليكن! سأقوم بدور المهرج، لأنكم جميعا أكثر مني غباوة، وأخبث سريرة".

***

"إن الرب قد خلق الضياء في اليوم الأول، وفي اليوم الرابع خلق الشمس والقمر والنجوم، فمن أين جاء الضياء إذن في اليوم الأول".

***

" – سؤال آخر يا إيفان: هل هناك شيء بعد الموت؟ هل هناك حياة أخرى، أية حياة أخرى، ولو شبح حياة أخرى، شبح صغير، صغير جدا؟
- لا شيء بعد الموت!
- لا شيء البتة؟
- البتة.
- أهو العدم المطلق إذن؟ أم يوجد شيء ما رغم كل شيء؟ ربما وجد قليل من حياة مع ذلك! لقليل خير من لا شيء..
- لا شيء إلا العدم الكامل! صفر.. لا شيء أكثر من ذلك!"

***

"... أنا من جهتي لا أقبل في حياتي أن تستطيع امرأة أن لا تعجبني.. تلكم هي مبادئي! أأنتم قادرون على أن تفهموا هذا؟ ولكن أنى لكم أن تفهموه! إن عروقكم ليس فيها بعد إلا لبن... إنكم لم تنضجوا بعد! إن القاعدة التي ألتزمها في سلوكي هي أن في كل امرأة شيئا خاصا شائقا لا يمكن أن يوجد في امرأة أخرى.. وإنما المهم أن يستطيع المرء اكتشافه.. وذلك فن.. ذلك فن يحتاج إلى موهبة! ما من امرأة يمكن أن تكون في نظري دميمة أو باعثة على الاشمئزاز في يوم من الأيام. حسبها أن تكون امرأة.. هذا وحده نصف الحب.. حتى العوانس لا بد أن يكتشف المرء فيهن متى عرضت الفرصة أشياء يذهله أن يتصور أن هناك أناسا أغبياء حمقى تركوا لهن أن يشخن دون أن يلاحظوهن. وأول شيء يجب أن يعمد إليه الرجل مع هاته الصغيرات الرثات الوسخات هو أن يدهشهن. بهذه الوسيلة إنما يجب التوسل إليهن. ألم تكن تعرف ذلك؟ يجب أن تبلغ بهن الدهشة حد النشوة والوجد، حد الألم والعذاب، حد الشعور بالخزي والعار من أن سيدا أنيقا أمكن أن يتوله حبا بدمامة كهذه الدمامة".

***

"إن إيفان إنسان متبجح. ليس هو بالعالِم قط. بل إنه ليس على شيء من ثقافة حقيقية. إنه لا يزيد على أن يسكت، وأن يسخر من الجميع صامتا. ذلك كل ما يعرف أن يفعله إيفان هذا".

***


"... إن علينا أن ننتظر قليلا فيما يتعلق بالقبلات يا أليوشا. نحن لا نعرف حتى الآن كيف نتدبرها، لا أنا ولا أنت. لا بد أن ننتظر زمنا طويلا أيضا".

***

"... في رأيي أن أقرب الناس إلينا يصعب علينا أن نحبهم أكثر مما يصعب علينا أن نحب غيرهم. إن الإنسان لا يحب إلا من بعد... إننا لا نستطيع أن نحب إنسانا إلا إذا ظل مختفيا عن نظرنا. فمتى لمحنا وجهه تبدد الحب".

***

"... لنفرض مثلا أنني قادر على أن أتألم كثيرا. إن من الصعب على شخص غيري أن يعرف عمق الألم الذي أعانيه، وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس أنا بل آخر، ثم أنه يعز على المرء دائما أن يسلم بألم غيره (كما لو كان ذلك عزة وإباء!) فهل تعلم لماذا يعز عليه دائما أن يسلم بألمي؟) ربما لأن رائحة فمي كريهة، أو لأن وجهي غبي أو لأنني دست على قدمه في يوم من الأيام!"

***

"... إن الإنسان يحلو له أن يرى سقوط الرجل الصالح وتلطخ شرفه بالعار".

***

"عزيزي أليوشا، أبلغ أخاك دمتري تحيتي، وقل له ألا يحقد على هذه الوغدة؛ أنا. كرر على مسامعه هذه الكلمات على لساني: "وهبت جروشنكا نفسها لرجل بائس، لا لك أنت النبيل"؛ قل له أيضا أنني أحببته ساعة واحدة، فليتذكر تلك الساعة مدى الحياة، إن جروشنكا هي التي تأمره بذلك".

***

"...إنه ينتمي إلى هذه الفئة من الغيورين الذين يتخيلون أفظع الأشياء متى ابتعدوا عن المرأة المحبوبة، ويعانون عذابا رهيبا من تصور "خيانتها" لهم أثناء غيابهم. ولكن ميتيا كان متى التقى بجروشنكا مرة أخرى مضطربا قلقا يائسا معذب النفس من يقينه بأنها خانته، لا يلبث أن يسترد شجاعته حين يرى وجهها الضاحك الرقيق المرح، فإذا هو يطرد من فكره كل شيء، ويشعر بالخجل من غيرته، ويلوم نفسه على قلة الثقة".

***

"الغيرة! "ليس عطيل غيورا، إنه واثق" كذلك قال بوشكين. إن هذه الملاحظة البسيطة تشهد بعمق عبقرية شاعرنا القومي. إن ما عاناه عطيل من قلق النفس واضطراب الأفكار ناشيء عن إنه "فقد إيمانه بمثله الأعلى". ولكن عطيل ما كان له أبدا أن يرضى لنفسه هوان المرابطة في مكان ما من أجل أن يتجسس ويترصد ويترقب: إنه أكثر ثقة من أن يفعل ذلك. بالعكس: كان لا بد من دفعه ومن تقديم البراهين له، ومن تحريضه بالأدلة الدامغة لحمله على تصور الخيانة. ولا كذلك الغيور الحق. لا يستطيع المرء أن يتخيل مدى ما يمكن أن يهوى إليه الغيور من درك الدناءة والحطة دون أن يشعر بأي خجل من ذلك. وليس معنى هذا أن الغيورين يتصفون بحقارة النفس حتما. لا... رب رجل نبيل القلب نقيّ الحب مخلص العاطفة، يرتضي مع ذلك أن يختبي تحت السرر، وأن يرشي أناسا قذرين، وأن يستخدم أحط أنواع التجسس! وما كان لعطيل أبدا أن يذعن للخيانة – أقول يذعن للخيانة ولا أقول يغفرها – رغم أن له نفسا رقيقة بريئة كنفس طفل صغير. ولا كذلك الغيور الحق! ما من شيء إلا ويمكن أن يذعن له الغيور وما من شيء إلا ويمكن أن يغفره عند الحاجة. إن الغيورين أسرع الناس إلى الغفران، والنساء يعرفن هذا! هم قادرون – مثلا – على أن يمسحوا خيانة مشهودة (بعد أن يثوروا ثورة عنيفة في البداية طبعا)، وقبلات وعناقات رأوها بأعينهم، شريطة أن يستطيعوا أن يقولوا لأنفسهم "إن هذه آخر مرة" وأن الغريم سيغيب وأنه سيرحل إلى بلد في آخر العالم، أو أنهم سيمضون هم أنفسهم بحبيبتهم إلى منطقة نائية لا يستطيع الخصم الكريه أن يدركها فيها يوما. ثم لا تدوم المصالحة أكثر من ساعة طبعا. ذلك أنهم، ولو اختفى الخصم، ما يلبثون أن يكتشفوا خصما جديدا منذ الغد، فإذا هم يستأنفون عذاب أنفسهم بسبب هذه "الخيانة" الجديدة. رب متسائل يتسائل: ما في نظرهم قيمة حب يقتضي هذه الاحتياطات كلها، ويتطلب هذه المراقبة الدائمة المتصلة، وهل المرأة التي يتصورون خيانتها تستحق منهم هذا الحب كله. إلا أن هذا السؤال بعينه هو ما لا يلقيه الغيورون الحقيقيون على أنفسهم، مع أن منهم أناسا لهم نفوs سامية رفيعة، وهناك أمر جدير بالملاحظة أيضا: إن ذوي العواطف النبيلة من هؤلاء الغيورين يستطيعون، وهم مختبئون في ركن من الأركان للتجسس والمباغتة، يستطيعون أن يفهموا تماما، "لنبل قلوبهم" أنهم ينحدرون من الخزي والعار، ولكنهم مع ذلك لا يشعرون بشيء من عذاب الضمير، ما ظلوا مختبئين في أوكارهم على الأقل".

***

"يا رب! اقبلني رغم حطتي، ولكن لا تحكم عليّ. اللهم اسمح لي أن أجيء إليك دون أن أمثل أمام محكمتك... لا تحكم عليّ، ما دمت قد حكمت على نفسي بنفسي.... لا تحكم عليّ، لأنني أحبك يا رب! اللهم إنني خبيث دنيء، ولكني أحبك، وحتى في الجحيم، إذا أنت أرسلتني إلى الجحيم، سأظل أحبك، وسأظل أهتف لك بحبي إلى الأبد، ولكن دع لي أن أحب حبي الأرضي حتى النهاية.. إسمح لي أن اظل أحب، في هذه الحياة الدنيا، خمس ساعات أخرى، إلى أن تطلع شمسك الدافئة.. إنني أحب ملكة قلبي، ولا أملك أن أمتنع عن حبها، اللهم إنك تراني كلي في هذه اللحظة، سوف أهرع إليها، فأرتمي عند قدميها، وأقول لها: لقد كنت على حق حين نبذتيني، وداعا.. إنسي ضحيتك، ولا تدعي لذكراي أن تعذبك يوما".

***

"إنني أدرك اليوم أن رجالا مثلي يحتاجون إلى أن يضربهم القدر، يحتاجون إلى أن يضربهم القدر ضربة تدمر كيانهم وتوقظ في أنفسهم قوى الحقيقة العليا. ما كان لي أبدا، أبدا، أن أستطيع النهوض من تلقاء نفسي".

***

"هناك أمور يصعب شرحها. إن هذا الفلاح يتصور أن التلاميذ يُجلدون في المدرسة، وأن الأمور يجب أن تكون كذلك. ما تلميذ لا يُجلد. فلو قلت له بفظاظة إننا لا نُجلد في المدرسة لما فهم شيئا ولأحزنه ذلك".

***

"... إنني قد أُلهمت حقا حين نكلت عن وعدي ورفضت أن أصبح زوجتك. أنت زوج لا يطاق. هبني تزوجتك، ثم كلفتك بأن تحمل رسالة إلى عشيقي: لسوف تقوم بهذه المهمة، ولن تقتصر على حمل الرسالة إليه بل ستجيئني بالرد أيضا".

***

"... لقد استشرت عددا كبير من الأطباء: إنهم يملكون قدرة هائلة على تشخيص المرض، ويشرحونه بأدق التفاصيل.. أما أن يشفوه فهذا أمر يعجزون عنه. حتى لقد أتيحت لي فرصة التحدث مع طالب متحمس من طلاب الطب، فقال لي فرحا: "هبك مت من هذا المرض.. لسوف يتيح لك ذلك في أقل تقدير أن تعرف على وجه اليقين حقيقة الداء الذي أماتك". وانظر بعد ذلك إلى طريقتهم تلك في إرسالك إلى أخصائيين حين يقولون لك: "مهمتنا نحن تقتصر على تشخيص المرض. بقى عليك الآن أن تذهب إلى الأخصائي فلان أو فلان، فهو الذي سيشفيك". واحسرتاه! إن الطبيب الجيد القديم الذي عرفناه في الزمان الماضي وكان يداوي من جميع العلل والأسقام قد اختفى تماما، تماما، أؤكد لك!.. لم يبق اليوم إلا الأخصائيون، والصحف ملأى بالإعلانات عنهم، إذا شعرت بآلام في الأنف، أرسلوك إلى باريس: يظهر أن في باريس أخصائيا له شهرة في أوروبا كلها، يعرف معرفة رائعة كيف يعالج كل ما له علاقة بالأنف، وتذهب إلى باريس فيفحص الأخصائي أنفك، فيقول لك: "أنا لا أستطيع أن أشفي إلا منخرك الأيمن، لأنني لا أهتم أبدا بالمنخر الأيسر فهو لا يدخل في دائرة اختصاصي، فعليك بعد اتباع معالجتي أن تذهب إلى فيينا حيث يوجد أخصائي حاذق جدا سيفعل لك ما يجب فعله لمعالجة منخرك الأيسر".

***

"إن الإيمان بالله هو الذي يمكن أن يعد شيئا رجعيا في زماننا هذا، أما أنا الشيطان، فإنه مباح تماما أن أُصَدَّق".


الأخوة كارامازوف
فيودور دوستويفسكي
ت: سامي الدروبي
مكتبة الأسرة 2009