السبت، 27 نوفمبر 2010

مختارات من أحلام فترة النقاهة - نجيب محفوظ


حلم 8

عندما أقبلت على مسكنى وجدت الباب مفتوحا على ضلفتيه على غير عادة، وجاءتنى من الداخل ضوضاء وأصداء كلام.
دق قلبى متوقعا شرا، ورأيت من أحبابى ابتسامات مشفقة، وسرعان ما عرفت كل شىء، خلت الشقة من الأثاث الذى كوم فى ناحية داخل المكان.. عمال من متفاوتى الأعمار، منهم من دهن الجدران ومنهم من يعجن المونة ومنهم من يحمل المياه.. وهكذا نفذت المكيدة فى أثناء غيابى وذهبت توسلاتى فى الهواء.
وهل أطيق هذا الانقلاب وأنا على تلك الحال من الإرهاق؟
وصحت بالعمال من أذن لكم ذلك، ولكنهم استمروا فى عملهم دون أن يعيرونى أى اهتمام، وقهرنى الغضب فغادرت الشقة وأنا أشعر بأننى لن أرجع إليها مدى عمرى وعند مدخل العمارة رأيت أمى مقبلة بعد رحيلها الطويل وبدت مستاءة وغاضبة وقالت لى:
أنت السبب فيما حصل!
فثار غضبى وصحت:
بل أنت السبب فيما حصل وما سوف يحصل..
وسرعان ما اختفت وأمضت فى الهرب.

***

حلم 15

بهو رصت على جوانبه المكاتب.. إنه مصلحة حكومية أو مؤسسة تجارية والموظفون بين السكون وراء مكاتبهم أو الحركة بين المكاتب.
وهم خليط بين الجنسين والتعاون فى العمل واضح والغزل الخفيف غير خاف وأنا فيما بدا من الموظفين الجدد ومرتبى على قد حاله وشعورى بذلك عميق ولكنه لم يمنعنى من طلب يد فتاة جميلة وهى كموظفة أقدم وأعلى. والحق أنها شكرتنى ولكنها اعتذرت عن عدم الاستجابة لطلبى قائلة:
لا نملك ما يهيئ لنا حياة سعيدة
وتلقيت بذلك طعنة نفذت إلى صميم وجدانى.
ومن يومها تحسبت مفاتحة أى زميلة فى هذا الشأن على الرغم من إعجابى بأكثر من واحدة وعانيت مر المعاناة من العزلة والكآبة.. وألحقت بالخدمة فتاة جديدة فوجدت نفسى فى مكانة أعلى لأول مرة فأنا مراجع وهى كاتبة على الآلة الكاتبة ومرتبى ضعف مرتبها إلا أنها لم تكن جميلة بل الأدهى من ذلك أنى سمعت همسا يدور حول سلوكها وبدافع من اليأس قررت الخروج من عزلتى فداعبتها فإذا بها تداعبنى، ومن شدة فرحى فقدت وعيى وطلبت يدها وقالت لى:
آسفة!
فلم أصدق أذنى وقلت وأنا أتهادى
مرتبى لا بأس به بالإضافة إلى مرتبك.
فقالت بجدية:
المال لا يهمنى
وهممت أن أسألها عما يهمها ولكنها ذهبت قبل أن أنطق..

***

حلم 24

قررت إصلاح شقتى بالأسكندرية بعد غياب ليس بالقصير، وجاء العمال وفى مقدمتهم المعلم وبدأ العمل بنشاط ملحوظ، وحانت منى التفاتة إلى شاب منهم فشعرت بأننى لا أراه لأول مرة، وسَرَت فى جسدى قشعريرة عندما تذكرت أننى رأيته يوما فى شارع جانبى يهاجم سيدة ويخطف حقيبتها ويلوذ بالفرار، ولكنى لم أكن على يقين وسألت المعلم عن مدى ثقته بالشاب دون أن أشعر الشاب بذلك فقال لى المعلم:  إنه مضمون كالجنيه الذهب فهو ابنى وتربية يدى.
 واستقر قلبى إلى حين، وكلما وقع بصرى على الشاب انقبض صدرى، وطلبا للأمان فتحت إحدى النوافذ المطلة على الشارع الذى يعمل فيه كثيرون مما أعرفهم ويعرفوننى ولكنى رأيت حارة الجراج التى تطل عليها شقتى بالقاهرة فعجبت لذلك وازداد انقباضى، وجرى الوقت واقترب المساء فطالبتهم بإنهاء عمل اليوم قبل المساء لعلمى بأن الكهرباء مقطوعة بسبب طول غيابى عن الشقة.
فقال الشاب: "لا تقلق.. معى شمعة".. فساورنى شك بأن الفرصة ستكون متاحة لنهب ما خف وزنه وبحثت عن المعلم فقيل لى إنه دخل الحمام وانتظرت خروجه وقلقى يتزايد، وتصورت أن غيابه فى الحمام مؤامرة وأننى وحيد وسط عصابة، وناديت على المعلم ونُذر المساء تتسلل إلى الشقة.

***

حلم 29

المكان جديد لم أره من قبل. لعله بهو فى فندق وقد جلس الحرافيش حول مائدة. وكانوا يناقشوننى حول اختيار أحسن كاتبة فى مسابقة ذات شأن. وبدا واضحا أن الكاتبة التى رشحتها لم تحز أى قبول. قالوا إن ثقافتها سطحية. وأن سلوكها غاية فى السوء. وعبثا حاولت الدفاع. ولاحظت أنهم ينظرون إلىّ بتجهم غير معهود وكأنهم نسوا عشرة العمر. وتحركت لمغادرة البهو فلم يتحرك منهم أحد وأعرضوا عنى بغضب شديد، سرت نحو المصعد ودخلت وأنا أكاد أبكى. وانتبهت إلى أنه توجد معى امرأة فى ملابس الرجال ذات وجه صارم. قالت إنها تسخر بما يسمونه صداقة وأن المعاملة بين البشر يجب أن تتغير من أساسها . وقبل أن أفكر فيما تعنيه استخرجَت مسدسا من جيبها ووجهته إلىّ مطالبة إياى بالنقود التى معى. وتم كل شيء بسرعة ولما وقف المصعد وفتح بابه أمرتنى بالخروج، وهبط المصعد ووجدتنى فى طرقة مظلمة وقهرنى شعور بأننى فقدت أصدقائى وأن حوادث كالتى وقعت لى فى المصعد تتربص بى هنا أو هناك .

***

حلم 50

كنت أتطلع إلى امرأة فاتنة تسير فى الطريق فاقترب منى بجرأة وهمس فى أذنى إنها تحت أمرى إذا أمرت. كان برّاق العينين منفَّرا ولكنى لم أصده. واتفقنا على مبلغ وأصرّ على أن يأخذ نصفه مقدما فأعطيته النصف. وضرب لى موعدا ولكن عند اللقاء كان بمفرده واعتذر بتوعك المرأة وكان على أتم استعداد لرد المقدم ولكنى صدقته وأبقيته معى. وكان يقابلنى فى حلى وترحالى ويطالبنى بالصبر. وخشيت أن تسئ هذه المقابلات سمعتى فأخبرته أننى عدلت عن رغبتى ولن أسترد المقدم ولكن عليه أن لا يقابلنى. ولم يعد يقابلنى ولكنه كان يلوّح بها فى أكثر الأماكن التى أذهب إليها.
وضقت به كما كرهته وقررت الانتقال إلى الإسكندرية. وفى محطة سيدى جابر رأيته واقفا وكأنه ينتظر.

***

حلم 75

أمى ترحب بجارة عزيزة وكريمتها الحسناء فى حجرة المعيشة بالدور الثالث فى بيتنا القديم. ودعيت للجلوس معهن ثقة فى الألفة بين الأسرتين.
وفى أثناء الحوار استرقت إلى الفتاة نظرة واسترقت إلىّ نظرة دون أن يغيب هذا عن أم الفتاة، فلما ذهبت فى الابتعاد عن الغرفة همست لنا الجارة أن انزلا إذا شئتما إلى الدور التحتانى الآن كعادة من أهل البيت، وتلقيت الدعوة بذهول وبفرح شامل. وما أن دخلنا الدور التحتانى حتى جذبتها إلى صدرى. ولكنى لم أخط الخطوة التالية لسماع ضجة غريبة واقتحم المكان نساء ورجال وشباب، وتفرقوا فى الحجرات؛ ثم جاء رجل من رجال الأمن ووقف عند الباب زاعما الحفاظ على القانون وكدت أفقد عقلى من الذهول وضاعف من ذهولى أنى رأيتهم يغنون فى حجرة، كما رأيتهم يرقصون فى حجرة أخرى. ونظرت إلى فتاتى مستغيثا بها فوجدتها هادئة باسمة.. وعند ذلك قررت الهرب، غير أنى رأيت رجل الأمن عند الباب فتسمرت فى وضعى فريسة للذهول وخيبة الأمل.

***

حلم 93

على سطح بيت قريب رأيت أثاثا يرتب وينمق فسألت قيل لى إن صاحب ذلك البيت حوّل بيته إلى معهد ثقافى بالمجان قانعا بالمعيشة فوق السطح فأعجبت به وأكبرته وعزمت على حضور بعض دروسه ووجدت المكان غاصا بالبشر وقال الرجل إن درس اليوم سيكون عن الثور الذى يحمل على قرنه الأرض وصدمنى قوله بشدة ففرت منى ضحكة ساخرة فاتجهت نحوى الوجوه شاخصة بالغضب. أما الرجل فرمانى بتظرة عابسة وهو يشير صامتا إلى باب الخروج.

***

حلم 100

هذه محكمة وهذه منضدة يجلس عليها قاض واحد وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقا لمعرفة المسئول عما حاق بنا، ولكنى أحبطت عندما دار الحديث بين القاضى والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل حتى اعتدل القاضى فى جلسته استعدادا لإعلان الحكم باللغة العربية فاسترددت للأمام، ولكن القاضى أشار إلىّ أنا ونطق بحكم الإعدام فصرخت منبها إياه بأننى خارج القضية وإنى جئت بمحض اختيارى لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخى.

***

حلم 104

رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل، وهناك رحبت بها بقلب مشوق واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأول، وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم ورحب بنا غير أنه عتب على المرحومة طول غيابها، فقالت إن الذى منعها عن الحضور الموت فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة.

***

حلم 113

أخيرا حضر الوزير الجديد فقدمت له نفسى باعتبارى سكرتيره البرلمانى، ولكنه لم يفهم كلمة من كلامى فحاولت شرح عملى ولكنه نهرنى بحدة وأمر بنقلى من وظيفتى، وهكذا بدأت المعاناة فى حياتى، ثم شاء القدر أن يجمع بينى وبين الوزير فى مكان خير متوقع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولى أخذت أذكره بلقائنا الأول وما جرى فيه حتى تذكر وتأسف واعتذر، وانتهزت وجودنا فى مكان واحد كى أشرح له عمل السكرتير البرلمانى.


نجيب محفوظ
أحلام فترة النقاهة
دار الشروق 2005