مقابلة توم درايفر* مع صمويل بيكيت، صيف 1961
قدمت فى ملتقى جامعة كولومبيا
عن كتاب التراث النقدى المتعلق بصمويل بيكيت Samuel Beckett: The Critical Heritage
ترجمة: أمير زكى
أغسطس 2011
* توم درايفر (ولد عام 1925)، أستاذ الأدب واللاهوت فى معهد الاتحاد اللاهوتى، يهتم فى كتاباته بالمسرح الحديث.
***
ليس مثل جودو، فقد حضر قبل موعده، خطابه كان يقول إننا سنتقابل فى الفندق الذى أقيم به ظهر الأحد، وصلت الردهة عندما دقت الساعة الثانية عشر، وقد كان ينتظر.
رغبتى فى مقابلة صمويل بيكيت كان دافعها الفضول الشديد والاهتمام بأعماله. النقاد بالصحف الأمريكية يميلون لوصف أعماله بالعدمية. فهم يجدون تشاؤما عميقا فيها. حتى أن ناقد حاذق مثل هارولد كلورمان فى (ذا نيشن) قال عن (فى انتظار جودو) أنها "عصارة شعور اليأس فى أوروبا المعاصرة". ولكن بالنسبة لى فكتابات بيكيت تبدو ممتلئة بالحب للبشر وبحس من الفكاهة لا أستطيع أن أربطه باليأس أو بالعدمية. هل يمكن أن تكون عيناى وأذناى قد خدعتانى؟ هل أدبه هو أدب انهزامى غير ملائم للأزمات الاجتماعية التى نواجهها؟ أم أنه ملائم لأنه يعلمنا شيئا مفيدا لنعرفه عن أنفسنا؟
كنت أعرف أن الحوار مع الكاتب لن يجيب على مثل هذه الأسئلة، لأن الشخص يختلف عن كتاباته، وفى الحقيقة فهذه الأسئلة ينبغى أن يجاب عليها عن طريق الكتابات نفسها، ولكنى مع ذلك ظللت فضوليا.
فضولى احتد من يوم أو يومين قبل المقابلة عن طريق حوار دار بينى وبين مدرس مثقف للأدب، أب يسوعى، فى مؤتمر عن الدراما الدينية بالقرب من باريس. عندما ذُكر اسم بيكيت فى الحوار احتد القس وقال لى: "إن بيكيت يكره الحياة". فكرت بالتالى أن هذا، على الأقل، أمر يمكننى اكتشافه من المناقشة.
مظهر بيكيت أيرلندى قاس، ملامحه مميزة ولكنها ليست جميلة. تبدو وكأنها قد نحتت بإزميل غير حاد. شعر غير مهذب يرتفع من أعلى جبينه، ليقف عاليا، أما أقصاه فيسقط إلى الوراء بلطف وكأن ذلك ليظهر على أنه شعر حقا وليس فرشاة. ربما يمكن أن نقول إن مظهره يجمع بين غرور المرء واتضاعه، فلديه غرور نابع من قبوله لذاته، واتضاع ربما نابع من نفس المصدر، ولا يفرض نفسه على آخر. أما عيناه الزرقاوان الفاتحتان فتغوصان عميقا داخل وجهه، وهما ينظران بنشاط وبشكل دائم. ويبدو أنه أعطى لعينيه هذه الوظيفة وحدها دون غيرها، حيث قسم العمل بشكل لا شعورى، فترك لبقية وجهة مهمة التواصل. فمه كثيرا ما يعبر عن ابتسامة جذابة. الصوت حاد فى جرسه ولكنه ينتهى بغلظة ملائمة لملامح وجهه. اللهجة الأيرلندية مختلطة، كما يمكن أن تتوقع، بالتواء فرنسى خفيف. بدلته التويد واسعة رمادية وخضراء، وقميص رياضى منسوج وبنى اللون بلا رابطة عنق.
مشينا فى شارع دى لاركيد، بعدها مشينا إلى جانب كنيسة المادلين ثم اتجهنا للمقهى الموجود على الرصيف المقابل للكنيسة. الحوار الذى تم ربما يكون قد استغرقنى ولكنى بالكاد أستطيع أن أقول إنه نثار بالنسبة للعالم، لسبب وحيد هو أن العالم الذى يراه بيكيت هو أصلا متناثر. حديثه انتقل إلى ما يسميه "الفوضى"، أو أحيانا "هذا االتشوش الطنّان". أعدت تجميع جمله من الملاحظات التى كتبتها فورا بعد لقاءنا. ما يبدو هنا أقصر مما قاله بالفعل، ولكنه قريب جدا من كلماته.
"التشوش ليس من اختراعى. لا يمكننا متابعة حديث لخمس دقائق بدون أن نلاحظ التشوش بوضوح. إنه حولنا فى كل مكان وفرصتنا الوحيدة الآن هو أن نتقبله. فرصتنا الوحيدة للإصلاح هو أن نفتح أعيننا لنرى الفوضى. إنها ليست فوضى من الممكن أن نتعقلها".
أشرت إلى أنه ينبغى أن نتقبلها لأنها الحقيقة، ولكن بيكيت لم يقبل بكلمة الحقيقة.
"ما هو الأكثر حقيقة من الآخر؟ أن تسبح هى حقيقة، وأن تغرق هى حقيقة. لا يوجد شىء أكثر حقيقية من الآخر. المرء لا يستطيع أن يتحدث مجددا عن الوجود، المرء عليه فقط أن يتحدث عن الفوضى. عندما يتحدث هايدجر وسارتر عن الفرق بين الوجود والكينونة ربما يكونان على حق، أنا لا أعرف، فلغتهم فلسفية جدا بالنسبة لى. أنا لست فيلسوفا. المرء يستطيع فقط أن يتحدث عما هو أمامه، وما أمامى الآن ببساطة هو الفوضى".
بعدها بدأ فى الحديث عن الصراع الذى ينشأ فى الفن بين الفوضى والشكل. حتى وقت متأخر، صمد الفن أمام ضغط الأشياء الفوضوية، حيث ظلت تحت السيطرة. كان الاعتقاد هو أن الاعتراف بها يعنى المخاطرة بالشكل. "كيف يُسمح بالاعتراف بالفوضى، خاصة وهى تظهر كمضادة للشكل وبالتالى فهى تهدم كل شىء يحاول الفن أن يكونه؟" ولكننا الآن لا نستطيع أن نهملها لأننا وصلنا للوقت الذى "تغزو فيه خبرتنا فى كل لحظة، إنها هنا ويجب أن نسمح لها بالدخول".
ربما يمكننى أن أسلم بذلك ولكننى أجد أن النتيجة تصبح هى الاهتمام بالشكل أكثر من الوضع السابق، ولم لا؟ سألته، كيف نسمح للفوضى أن تدخل إلى الفوضى؟ ألا يؤدى ذلك إلى نهاية التفكير ونهاية الفن؟ إذا نظرنا إلى الفن مؤخرا سنجد أنه مستغرق فى الشكل. أعمال بيكيت نفسها مثال، من الصعب أن تجد مسرحيات مشكّلة بحرص أكثر من (فى انتظار جودو) و(لعبة النهاية) و(شريط كراب الأخير).
"ما أقوله لا يعنى بالتالى ألا يكون هناك شكل فى الفن. إنه يعنى فحسب وجود شكل جديد، وهذا الشكل سيكون من النوع الذى يسمح بوجود الفوضى، ولا يحاول أن يقول إن الفوضى فى الحقيقة هى شىء آخر. الشكل والفوضى ما زالا منفصلين. والأخيرة ليست أقل من الأولى. السبب فى الاستغراق فى الشكل هو كونه موجود كمشكلة منفصلة عن المادة التى يتعامل معها. أن تجد شكلا ملائما للفوضى، هذه هى مهمة الفنان حاليا".
أجبت؛ ولكن أليست هناك أشياء متشابهة تقال عن الفن فى الماضى؟ أليست من صفات الفن العظيم أنه يواجهنا بشىء لا يمكن توضيحه، هذا الذى يتطلب من المتلقى أن يستجيب له بطريقة لا يمكن توقعها؟ ما هو تاريخ النقد إن لم يكن هو تاريخ البشر الذين يحاولون إدراك العناصر المتنوعة فى الفن بطريقة لا يسمحون لأنفسهم بها أن يختصروه فى فلسفة واحدة أو نظرية استطيقية بعينها؟ أليس الفن كله غامضا؟
"ليس هذا". قال ونظر نحو كنيسة المادلين.
تصميم الكنيسة الكلاسيكى، التى اعتبرها نابليون معبد المجد، كان مسيطرا على المشهد الذى كنا نجلس أمامه. شارع دى لا مادلين وشارع مالزيرب وشارع رويال زود المكان بإطراء جذاب، حاملا ملامح عصر العقل. "ليس هذا. هذا واضح. هذا لا يسمح للغوامض بأن تسيطر علينا. مع الفن الكلاسيكى، كل شىء مستقر. ولكن الأمر يختلف فى كاتدرائية شارتر[1]. هناك تجد غير المفسر، وتجد الفن الذى يطرح أسئلة لا يحاول الإجابة عليها".
سألته عن المعركة بين الحياة والموت فى مسرحياته. ديدى وجوجو[2] على حافة الانتحار. عالم هام هو الموت وكلوف ربما - وربما لا - يخرج ليشارك الطفل الحى بالخارج[3]. هل سؤال الحياة/الموت ذلك هو جزء من الفوضى؟
"نعم، إن لم تعرض الحياة والموت نفسيهما علينا لما كان هناك غموض. لو لم يكن هناك سوى الظلام لكان كل شىء واضحا، ولكن لأنه ليس الظلام الموجود فقط بل النور أيضا لذلك يبقى موقفنا غير مفهوم. خذ عندك نظرية أوغسطين عن العناية المعطاة والعناية الممتنعة، هل تأملت المميزات الدرامية فى هذه العقيدة؟ لصان صلبا مع المسيح، أحدهما تم له الخلاص وأحدهما لُعن، كيف يمكننا أن نعقلن هذه القسمة؟ فى الدراما الكلاسيكية لا تظهر هذه المشكلات، فمصير فيدرا عند راسين[4] محدد منذ البداية، سوف تتقدم نحو الظلمات، أثناء سيرها سيتضح الأمر لها هى نفسها، فى بداية المسرحية يكون لديها وضوح جزئى، ومع النهاية يتضح لها الأمر تماما، فلا يوجد هناك سؤال، فهى تتقدم نحو الظلمات، هذه هى المسرحية. داخل هذه الفكرة يصبح الوضوح ممكنا، ولكن بالنسبة لنا، ونحن لسنا يونانيين ولا جانسينيين[5] فلا يتوفر لنا مثل هذا الوضوح. السؤال سيتلاشى أيضا لو آمنا بالعكس – بالخلاص الكامل. ولكن طالما لدينا الظلمة والنور معا فلدينا أيضا غير المفهوم. الكلمة المفتاحية فى مسرحياتى هى (ربما)".
اتجاهه للحديث فى اللاهوت جعلنى أسأله عما يعتقده عن اللذين يجدون دلالات دينية فى مسرحياته.
"حسنا، فى الحقيقة فليست هناك دلالات دينية على الإطلاق. فليست لدىّ مشاعر دينية، كان لدىّ عاطفة دينية فى الماضى، كان ذلك عند تلقىّ الأول للمقدسات[6]، ولكن ليس بعد ذلك. أمى كانت متدينة جدا، وكذلك أخى؛ كان يركع بجانب سريره طالما كان يستطيع الركوع، أبى لم تكن لديه مشاعر دينية، الأسرة كانت بروتستانتية، ولكن بالنسبة لى كان هذا الأمر مثيرا للضيق وتركته يمضى. أمى وأخى لم يفدهم الدين حينما ماتوا. فى وقت الأزمات لا يكون للدين عمقا أكثر من رابطة للطلبة القدامى. الكاثوليكية الأيرلندية ليست جذابة ولكنها أعمق، عندما تمر بكنيسة وأنت فى أوتوبيس أيرلندى ترى كل الأيادى وهى ترسم علامة الصليب، فى يوم من الأيام ستفعل كلاب أيرلندا الشىء نفسه، وربما الخنازير أيضا".
ولكن هل المسرحيات تناقش حتما نفس أوجه الخبرة التى يناقشها الدين؟
"نعم، لأنهما يناقشان الأحزان، بعض الناس يعترضون على ذلك فى كتاباتى، فى حفلة ما كان هناك مثقف إنجليزى – يقال عنه كذلك – سألنى لماذا أكتب دوما عن الأحزان، كأنه من الضلال أن أفعل ذلك، كان يريد أن يعرف إن كان أبى قد اعتاد على ضربى أو أن أمى قد هربت لتتركنى لطفولة تعيسة، أخبرته أن لا، فقد عشت طفولة سعيدة جدا. ساعتها تضاعف شعوره بضلالى. تركت الحفل فى أقرب فرصة وركبت تاكسى، على الحاجز الزجاجى الذى كان يفصل بينى وبين السائق كانت هناك ثلاث لافتات: واحدة تطلب المساعدة للعميان، وأخرى للأيتام، وثالثة لمساعدة لاجئى الحرب. أنت لست بحاجة للبحث عن الأحزان، فهى تصرخ فى وجهك حتى فى تاكسيات لندن".
انتهى الغداء، عدنا للفندق وأضواء وظلمات باريس تصرخ فينا. الميزة الشخصية لصمويل بيكيت تشبه الميزات التى وجدتها فى مسرحياته، هو لا يقول شيئا يجعل الخبرة موضوعة داخل نموذج مغلق، (ربما) عنده توضع موضع الالتزام، وفى نفس الوقت من البين أنه متعاطف ومن البين أنه ودود، لو لم يكن هناك سوى الفوضى لكان كل شىء واضحا، ولكن هناك الشفقة أيضا.
كمسيحى أعرف أننى لا أقف موقف بيكيت، ولكننى أرى الكثير مما يراه. وككاتب للمسرح، اهتممت كثيرا بمسرحياته. هارولد كلورمان كان على حق عندما قال إن (فى انتظار جودو) هى تأمل (قال إنها تأمل مشوه) "لمأزق واضطراب سياسات وأخلاقيات وأسلوب حياة أوروبا المعاصرة". ولكن ليست أوروبا فقط التى تشير إليها المسرحية. (فى انتظار جودو) تبيع فى أمريكا أكثر من فرنسا. فالوعى الذى تعكسه تصل إليه كل المجتمعات (الناضجة) عندما توصلهم نجاحاتهم فى التنظيمات التكنولوجية والاقتصادية إلى الوقت الذى يسألون فيه عن النهايات غير المفيدة جدا للثقافة. أمريكا الآن تشارك أوروبا فى هذه المرحلة (الناضجة) من التطور. معرفة أيا منا سيظل فى هذه المرحلة لوقت أطول سوف يعتمد على ما سيحدث كنتيجة للثورات الاقتصادية والتكنولوجية التى تتم الآن فى بلاد آسيا وأفريقيا، وأيضا بالطبع ستعتمد على الوقت الذى ستظل الحرب الباردة فيه باردة. حاليا لا يبدو أنه يوجد حزب فى أوروبا الغربية أو أمريكا يملك فلسفة للتغيير الاجتماعى ملائمة لضغوط التاريخ الحالية.
فى مسرحيات بيكيت، الزمن لا يتحرك للأمام. نحن دائما عند النهاية، حيث تكرر الأحداث نفسها (فى انتظار جودو)، أو يتأرجحون على حافة اللا شىء (لعبة النهاية)، أو يعودون للحظة بعيدة حيث الحياة الفعالة (شريط كراب الأخير). التراجع عن الفعل ربما يحبط هؤلاء الذين يؤمنون أن أحداث العالم الواقعى ما زال يمكن التعامل معها. ولكن مع ذلك فمن الخاطئ أن نستنتج أن أعمال بيكيت (متشائمة)، فأن تقول (ربما) كما تقول المسرحيات يختلف عن أن تقول (لا). المسرحيات لا تقول إنه ليس هناك مستقبل، ولكنها تقول إننا لا نراه، ولا نثق فيه، ونقترب منه ونحن يائسين. بعيدا عن الماركسية بوعودها، أين نجد الآن عقيدة تؤكد أن العكس هو الذى سينجح فى تشكيل الثقافة؟
الجدران التى تحيط بشخصيات بيكيت ليست جدران بنتها الطبيعة والتاريخ بالرغم من قرارات البشر، إنها جدران التصرف الإنسانى تجاه موقفه. المسرحيات نفسها دليل على قدرة الإنسان على رؤية موقفه وعن طريق هذه الحقيقة أن يتعالى عليه. هذا هو السبب الذى يجعل بيكيت يقول إن السماح بدخول (الفوضى) من الممكن أن يجلب معه (فرصة الإصلاح). وهذا هو السبب فى كونه مخطئا من وجهة نظر الفلسفة لأنه يقول إنه لا يوجد سوى (الفوضى)، فلو لم يكن سواها لما استطاع أن يدركها كما هى، ولكن مسرحياته ورواياته تحتوى على ما هو أكثر، وهذا الأكثر يتعالى على الذات وعلى الموقف.
فى (فى انتظار جودو) بيكيت كان لديه وصف بسيط ومؤثر عن التعالى الإنسانى على الذات. فلاديمير واستراجون (ديدى وجوجو) يناقشان وضع الإنسان الذى يحمل (صليبه الصغير) حتى يموت ويُنسى. فى مقطع جميل وهو عبارة عن حوار ثنائى مكون من عبارات قصيرة تنتقل من شفتى الواحد إلى الآخر، يتحدث الصعلوكان عن عدم قدرتهما على البقاء صامتين. وكما يقول جوجو: "وهكذا لن نستطيع أن نسمع.. كل الأصوات الميتة". أصوات الموتى تصدر ضوضاء مثل الأجنحة والرمل وأوراق الشجر، كلها تتحدث فى نفس الوقت، كل صوت إلى نفسه، يصدرون الهمسات والحفيف والتمتمات.
فلاديمير: ماذا يقولون؟
إستراجون: يتحدثون عن حياتهم.
فلاديمير: كونهم عاشوا ليس كافيا بالنسبة لهم.
إستراجون: عليهم أن يتحدثوا عن ذلك.
فلاديمير: كونهم موتى ليس كافيا بالنسبة لهم.
إستراجون: ليس كافيا. (صمت)
فلاديمير: إنهم يصدرون ضوضاء كالريش.
إستراجون: كأوراق الشجر.
فلاديمير: كالرماد.
إستراجون: كأوراق الشجر.
فى هذا المقطع، ديدى وجوجو مثلهم مثل الموتى، والموتى مثلهم مثل الأحياء، لأنهم جميعا غير قادرين على البقاء صامتين، وصف أصوات الموتى هو نفسه وصف أصوات الأحياء، فى الحالتين لا الحياة ولا الموت كافيين. وعلى المرء أن يتكلم عن ذلك، الوضع الإنسانى عبارة عن تأمل للذات وتعالى على الذات. مسرحيات بيكيت هى همسات وحفيف وتمتمات إنسان رافض ببساطة لأن يوجد.
ليس حقيقيا أن التعالى على الذات يتضمن الحرية، والحرية هى إما أكثر الحقائق جلالة أو أكثرها رعبا، هذا يعتمد على قوة الروح التى تتأملها؟ من المهم أن نلاحظ أن نقد (اليأس) عند بيكيت يأتى غالبا من دوجماطيقيى الليبرالية الإنسانية، الذين نكتشف، كما يعبرون غالبا عن ذلك، أنهم يرغبون فى التأكيد على اليقينيات أكثر من حبهم للحرية. بإدراكهم أن الحياة ليست كافية، فهم يريدون تحديد دوجما على اعتبار أن هذه هى الحياة التى ينبغى أن تعاش. بيكيت يقدم شيئا أكثر حرية، هذه الحياة التى ينبغى أن نشاهدها ونتحدث عنها، والطريقة التى تعاش بها لا يمكن أن تُحدَد بدون غموض، ولكن يجب أن تأتى كرد فعل للقاء المرء بـ (الفوضى). هو كتب أعماله بطريقة تجعل هؤلاء من يعلقون عليها يعلقون فى الحقيقة على أنفسهم. لا يستطيع المرء أن يقول: "بيكيت قال هذا وذاك". لأن بيكيت قال: "ربما"، فإذا رأى النقاد والجمهور صور من اليأس، فيمكننا أن نستنتج بالتالى أنه يأسهم هم.
بيكيت نفسه، أو هذا هو ما أعتقده، تخلى عن الرغبة فى إدراك اليقين. ولكن هناك ملامح إيجابية تجدها عنده، وتلك غالبا ما لا يدركها مفسروه. تلك الملامح التى تجعل الضحك فى مسرحياته دافئا، واهتمامه بالشخصيات متعاطف. فكاهته أو تعاطفه الدافئان لا يتعلقان بالانهزام، وإنما هما ناتجان عما يطلق عليه بول تيليتش "شجاعة أن توجد".
[4] مسرحية (فيدرا) للكاتب الفرنسى راسين (1639-1699) يستعيد فيه شخصية فيدرا من الميثولوجيا اليونانية، تدور المسرحية المأساوية عن حب فيدرا المحرم لهبوليتوس ابن زوجها ثيسيوس، الحب المحرم المحكوم عليه بالفشل، يؤدى فى النهاية لانتحار فيدرا.
[5] الجانسينية حركة لاهوتية مسيحية ظهرت فى فرنسا فى القرن السابع عشر وكانت نابعة من أعمال اللاهوتى الهولندى كورنيليوس جانسن، تعتقد الحركة فى أفكار (الخطيئة الأصلية) و(فساد الإنسان) و(الجبرية) والحاجة إلى (العناية الإلهية)، ميل الجانسينية لفكر أوغسطين جعل أتباعها يعتقدون أن العناية الإلهية فقط هى التى يمكن أن تخلص جزء من البشر، وقد كان راسين من أتباع هذا الفكر.
[6] The first communion وهو التلقى الأول للإفخارستيا الذى يتم فى الكنائس كرمز لعشاء المسيح الأخير، أو كرمز لتلقى جسد المسيح ودمه، ويتم بتلقى خبز غير مخمر ونبيذ أو عصير عنب.