ابراهيم الموسوي
مقدمة
لاشك ان العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانيّة لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم مذهل إلاّ بعد ما قامت بتطوير نظريات خاصة، ولم تحقق دقة القياس وموضوعية التفسير والتحليل والقدرة على الضبط والتنبؤ إلاّ بعد اعتمادها على اطار نظري ووضوح الاطار النظري لكل دراسة يُعد مطلباً ضرورياً لانجاحها وشرطا اساسيا لاكتسابها صفة العلمية والموضوعية.
وتختلف العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية في وضوح النظرية وصفة التراكمية، ففي العلوم الطبيعية تكون حدود التجربة واضحة والنظريات يستند بعضها على بعض تصحح وتوسع وتنقي النظريات القديمة، اما العلوم الاجتماعية فأول ما يواجه الباحث فيها ذلك التنوع والتباين بين ما يقدمه علماء الاجتماع من آراء وتعريفات وتفسيرات وما يتبنونه من مداخل وأطر تصورية وما يستخدمونه من اجراءات ووسائل منهجية حتى عندما يقبلون على دراسة نفس الحقيقة.
ان تعدد النظريات وتنوع ما ينطوي عليه كل منها من اتجاهات قد تخضع في اغلب الاحيان لتوجيهات ايديولوجية ثم تباين ما يرتبط بكل نظرية أو اتجاه من مفاهيم وتصورات وقضايا. كل ذلك يمثل عائقاً لمحاولة تصنيف النظريات السيولوجية أو لمقارنتها أو حتى لمجرد عرضها بشكل واضح. ذلك ان كل نظرية اجتماعية تقف نداً لنظرية اخرى وتكون مساوية لها ومعتمدة على منهاجية خاصة. فالنظريات الاجتماعية قاماتها متساوية ولا تستند احداها على الاخرى ولا تمت لها بصلة من قريب أو بعيد، فلكل نظرية منهج ومقدمات تصل إلى نتائج مغايرة لنتائج النظريات الاخرى. من هنا تبدو صعوبة التنظير في علم الاجتماع الحضري، والافتقاد إلى التكامل النظري في هذا الفرع من علم الاجتماع.
ان تعدد المداخل النظرية و المناهج المعرفية التي عالجت مسائل التحضر والحضرية وانتمائها في اغلب الاحيان إلى فروع معرفية اخرى تبتعد عن مجال علم الاجتماع كالجغرافية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة زاد من صعوبة التنظير أو تصنيف النظريات السيولوجية مما جعل البعض يعتقد ان علم الاجتماع الحضري المقارن لم يولد بعد أو ان الجانب النظري في هذه الدراسات لا زال ناقصاً إلى درجة كبيرة.(1)
وفي الواقع ان مسار التطور في نتائج العلوم التجريبية يقوم على فكرة الاستمرار والاتصال والتراكم، بمعنى انّه موصول الحلقات. كل واحدة منها تترتب على ما يسبقها وتفضي إلى ما يليها وكل نتيجة جديدة في العلم تستوعب وتشمل ما سبقها وتضيف اليها جديداً.
اما التطور في العلوم الإنسانيّة فيتم بدرجة كبيرة في البطء، وغالباً ما تكون التعميمات الجديدة فيها اشبه بوجهات نظر مختلفة أو نظريات مختلفة، لا تضيف إلى ما سبقها جديداً بقدر ما تقدم رأيا بديلا لرأي آخر أو نظرية مغايرة لنظرية اخرى. والباحث في العلوم الطبيعية لا يستطيع ان يبدأ من الصفر، بل لابد وان يدخل في اعتباره النتائج والتعميمات العلمية السابقة، لكي يبدأ من حيث انتهى غيره.
اما الباحث في العلوم الإنسانيّة فمن الممكن ان يرفض كثيراً من النظريات المختلفة الموجودة في العلم، ويبدأ من جديد مقدما نظرية جديدة أو وجهة نظر مختلفة. وهذا واضح في كثرة المدارس والمذاهب والاتجاهات في العلوم الإنسانيّة. فكـل نظرية لا تضيف جديداً إلى ماسبقها بقـدر ما تكون بديلاً مقترحاً لها.(2)
وهناك نقطة اخرى جديرة بالملاحظة وهي ان العلوم الاجتماعية تتكامل من زاوية افقية، بمعنى ان البحث في احدها يتطلب استخدام نتائج علوم اخرى غيرها، فلا يمكن مثلا دراسة مشكلة اجتماعية مثل مشكلة الطلاق، بدون اعتبار عوامل تنتمي إلى علوم اخرى غير علم الاجتماع، مثل التوافق السيكولوجي بين الزوجين وهي ينتمي إلى مجال علم النفس، أو مثل انخفاض مستوى الدخل عن الحد الادنى لمتطلبات المعيشة وهو عامل ينتمي إلى الاقتصاد وغير ذلك. وهكذا، بدأت تظهر فروع جديدة في العلوم الإنسانيّة المختلفة تؤكد على وجود هذا التكامل وعلى ضرورة الربط الوثيق بينها وبين علوم اخرى من جانب آخر. كما هو الحال في «علم الاجتماع الطبي»، «علم الاجتماع السياسي»، «علم الاجتماع اللغوي»، «الجغرافيا الاقتصادية»، «علم الاجتماع الحربي»، وغير ذلك.
ويمكن تعريف النظريات على انها «تنظيمات من التعميمات والمفاهيم التي تكون على علاقة مع بعضها بعض، انها الافكار المعقدة التي تتكون من عدد من الافكار الاقل ترابطا، انها تعمل على تجميع اجزاء المعرفة التي تشكل معا وحدة ذات معنى(1).
ويؤكد البعض ان النظريات أو المبادىء تمثل اعلى درجات التجرد المعرفي، واكثرها بعدا عن البيانات أو المعلومات التي اعتمدت في الاساس.
والنظريات الجيدة في العلوم الاجتماعية تتصف بما يلي:
(1) توضح العلاقة بين المتغيرات التي تم تحديدها من قبل.
(2) تشكل نظاما استنتاجيا، وتكون منطقية التنسيق ويتم اشتقاق المبادىء المجهولة فيها من المبادىء المعروفة.
(3) ان تكون مصدرا للفرضيات القابلة للاختيار.
وتثور هنا قضية مدى حياد العلوم الاجتماعية ومدى حياد الباحث الاجتماعي، بمعنى مدى ارتباط البحث العلمي في ميادين العلوم الاجتماعية بالايديولوجية التي يتبناها مجتمع ما أو حتى مدى تأثيره بأيديولوجية الباحث نفسه. ولا شك في ان حسم هذه القضية يرتبط بالموقف الفلسفي اما موقف مثالي أو موقف مادي. ويتعين تجنب الخلط بين «النظريات الاجتماعية» وهي نظريات مشروعة يحكم الواقع لها أو عليها و«النظريات الفلسفية والسياسية» للمجتمع الامثل. فالماركسية مثلاً والبنيوية تحاولان الجمع بينهما، بل لا تميزان بين العقيدة الفلسفية أو السياسية والدينية الخاصة بأي باحث ما وحقيقة العلاقات الاجتماعية، كما تتجلى من خلال الواقع ذاته بما في ذلك العقائد، ولكن باعتبارها شيئاً اجتماعياً(2).
ويرتبط بالايديولوجية مصداقية البحوث الاجتماعية من المجتمعات العربية ذلك انها لم تكن دائماً عربية لا من حيث الباحثين ولا من حيث التوجهات ولا من حيث اللغة. فالذين كتبوا علمياً في بداية هذا القرن عن العرب كانوا ينتمون إلى مجتمعات تستخدم المعرفة الاجتماعية للسيطرة على العرب ولدعم نفوذ الغرب عليهم(3).
وارتبطت البحوث الاجتماعية بالنزعة الاستعمارية الانجليزية والفرنسية خاصة. وبديهي انّه ليس من المفروض ان يكون الاجنبي اكثر قدرة على البحث لتخلصه من الماقبليات ولتجرده، لان ذلك قد يعرضه إلى تجاهل امور من الاهمية بمكان فينقل ما تجمعت لديه من افكار وأحكام يسلطها على الموضوع. وهذا لا يعني ان الباحث العربي لابد له ان يصد عن النظريات الغربية السائدة، وانما نعني ذلك ان عليه ان يسعى دوماً الا تطغى النظريات على المنهاجية الا آلات مسح ووسائل تحليل عليه نقدها هي على ضوء الواقع الاجتماعي العربي لا نقد المجتمع العربي على ضوئها هي، كما هو حاصل في كثير من البحوث الاجتماعية التي يلهث فيها الباحث لاثبات بديهيات ثابتة منذ عهد بعيد، أونقل استنتاجات قد تكون تحققت فعلاً في مجتمعات اخرى، ولكن في ظروف مغايرة. فنراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات ويسلطونها من اعلى على الاوضاع الاجتماعية العربية. والحال ان تلك المفاهيم والنظريات وان كانت طريفة في حد ذاتها وجديرة بالاهتمام والدرس والعناية فانها اصلاً وليدة المجتمع الاوروبي واستخدامها باسم عالمية المعرفة العلمية امر غير مشروع لانها لم تأخذ بعين الاعتبار كل الاوضاع والظروف الممكنة انسانياً. ونقلها بتلك السهولة والبساطة إلى المجتمع العربي يدل على التقليد والتبعية للغرب ويدل على الهزيمة الحضارية.
ولذا نلاحظ ان كثيراً من البحوث الاجتماعية لا مبرر لها سوى ارادة اثبات صحة النظرية اياً كانت. فتكون بمثابة تصريف النظريات على حساب المنهاجية وعلى حساب الواقع الاجتماعي العربي.
الوطن العربي في حاجة إلى ابراز خصوصياته عن طريق البحث الميداني وعن طريق التنظير اكثر مما هو في حاجة إلى تجاوز تلك الخصوصيات نحو معرفة في نهاية التجرد كما تدعونا إلى ذلك اتجاهات البحث الغربية.
علينا ان نركز على منهاجيات تساعد على مزيد من التعرف على الذات.
المدينة في ضوء معطيات علم الاجتماع الحضري:
ان معظم الدراسات المبكرة التي عالجت موضوع المدين كانت تنتمي لعلوم اخرى غير علم الاجتماع الحضري، كالتاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والسياسة والآثار والفلسفة، حتى الدراسة الاولى التي قدمه احد علماء الاجتماع كانت معالجة اقتصادية، فقد كتب رينيه موريه كتابه: «نشأة المدن ووظائفها الاقتصادية» سنة 1910 وكانت دراسته للمدينة دراسة اقتصادية بعيدة عن الحضرية والتحضر(1).
وقد كانت البداية الحقيقية لنشأة وتطور علم الاجتماع كمجال متميز للبحث والدراسة على يد العالم الامريكي روبرت بارك R. Park الذي كانت مقالته عن المدينة سنة 1915، ايذاناً ببدء مرحلة جديدة لقيام فرع جديد ومستقل من فروع علم الاجتماع يوجه اساساً لدراسة المدينة (علم الاجتماع الحضري) ومع ان الاهتمام السوسيولوجي بدراسة المدينة والحياة الحضرية بصفة عامة لم يكن مقصوراً على ما قامت به جامعة شيكاغو ـ التي انتمى لها كل من بارك وييرجسي وتلاميذهما ـ في دراسات وبحوث وجهت اساساً لدراسة مدينة شيكاغو. ومع ان الاصول الفكرية والنظرية لتلك المدرسة كانت تتفق مع الكثير من الافكار التي ساقها دور كايم وفيير. الا ان هناك اجماعاً بين المهتمين بالتاريخ لعلم الاجتماع الحضري على ان هذا الفرع من علم الاجتماع كان في البداية علماً امريكياً(2).
وبلغ علم الاجتماع الحضري الذروة من الأهمية في اواخر العشرينات واوائل الثلاثينات تحت تاثير البرنامج الدراسي الذي وضعه بارك وييرجسي وزملاؤهما في جامعة شيكاغو. وفي نفس الوقت لعبت ظروف العصر حينذاك دوراً هاماً في تحديد الموجهات النظرية والتصورية لهذه المدرسة. فقد ظلت التناقضات واضحة بين (المدينة) و(الريف) في الولايات المتحدة مما سهل النظرة إلى المستوطنات الحضرية على انها تمثل شكلاً متميزاً وفريداً من نوعه عن اشكال التنظيم الاجتماعي.
ومثلت النظر إلى المدينة على انها شكل متميز من اشكال المجتمعات المحلية الإنسانيّة اتجاهاً اساسياً في تراث علم الاجتماع الحضري، حتى التعديلات التي لحقت مجال العلم ومداخل دراسته واساليب بحثه كانت انعكاساً واضحاً لما طرأ على هذه النظرة من تعديل مستمر. وشهدت دراسة المدينة مداخل نظرية عديدة، كان من ابرزها واكثرها ارتباطاً بالاطار العام للتحليل السوسيولوجي مرحلتان متميزتان هما المدخل الايكولوجي والمدخل التنظيمي أو السلوكي، ولقد كان مدخل المتصل الريفي ـ الحضري بمثابة رد الفعل أو التعديل المباشر للمدخلين السابقين. ويستند هذا المدخل إلى فكرة ان اي خاصية للظاهرة بدرجة معينة وان هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى التجريبي أو الواقعي. ومن ثم يشير المتصل الريفي ـ الحضري إلى وجود نوع من التدرج بين خصائص الريفية والحضرية اشبه بخط مستقيم. حيث تتزايد درجة اي خاصية أو تقل بنسب متفاوتة تُمكن من تصنيف المجتمعات وفقاً لوقوع خصائصها على نقطة معينة على طول هذا المتصل. وتسهل بالتالي من تفسير الاختلاف والتنوع في انماط السلوك وأساليب الحياة(1).
وذهب عدد من الباحثين القدامى والمحدثين ــ سواء من كان منهم من المؤرخين الاجتماعيين أو من علماء الاجتماع ذي النزعة التاريخية ـ إلى ان ظواهر التحضر والحضرية وان كانت تمثل تغيراً ثورياً في النمط الكلي للحياة الاجتماعية، فانها لابد وان تكون نتاجاً لتطورات مجتمعية، بحيث لا يمكن فصلها عن السياق التاريخي الذي مهد لها أو دعمها، وانّه إذا كانت العملية تحدث وتزداد نمواً بمعدلات هائلة في كل انحاء العالم في الوقت الحاضر الا انها تختلف في صورتها ومداها واتجاهاتها باختلاف الزمان والمكان ايضاً. انها عملية لا تزال واقعة ومستمرة لم تتوقف بعد. وما زال الكثير من مصاحباتها ونتائجها ومشكلاتها تمثل واقعاً حياً تعيشه اجزاء عدة من ارجاء المعمورة. الامر الذي يجعل من الصعب التكهن باتجاهاتها المستقبلية ولقد ساعدت هذه الدراسات التاريخية لظواهر التحضر على دراسة المدينة في ضوء النماذج المجتمعية وفي تتبع نموها ومعرفة خصائصها في الثقافات المختلفة وخاصة التاريخية منها ومكنت من تجنب التصور الخاطىء: «بأن الحياة الحضرية بخصائصها المعروفة نتاج للثقافة المعاصرة» ذلك التصور الذي من شأنه أن يعزل الطابع الحقيقي للحياة الحضرية عن السياق التاريخي الذي دعمها وجعلها تتخذ اتجاهات محددة. ولعل من اهم ما اسهمت به هذه الدراسات التاريخية انها مهدت الطريق لتحليل عمليات التحديث في دول العالم الثالث وتوجيهها، حيث تبذل في الوقت الحاضر جهوداً مكثّفة نحو محاولة اختبار مدى صدق النظرية الغربية بتطبيقها على واقع الدول النامية باستخدام المنهج المقارن.
الاتجاهات النظرية الكلاسيكية ودراسة المدينة:
ويمكن عرض الاتجاهات النظرية الكلاسيكية التي تتناول موضوع المدينة، وتعطي تفسيراً لنشأة المدن ولظاهرة التحضر. ثم تقييمها وهل يمكن تطبيقها على واقع المدينة العربية الإسلامية وتبدأ بالاتجاه التاريخي
(1) الاتجاه التاريخي
يعتبر الاتجاه التاريخي احد اتجاهات علم الاجتماع الحضري وهو يصور تطور اشكال المجتمعات المحلية الحضرية الاولى. ويهتم هذا الاتجاه كذلك بدراسة تحول المناطق الريفية إلى مناطق حضرية، ويتناول التطور والانتشار الثقافي والحضري(2).
ويتمثل هذا الاتجاه في كتابات ن. س. ب. جراس N.S.B. Grass (1922) ولوتش Loche (1937) وهاريس واولمان Harris g Olman (1945). فقد ناقش هؤلاء العلماء الجذور التاريخية للمناطق الحضرية وطبيعتها وتنوعها وخصائصها. ومن اشهر محاولات الاتجاه التاريخي تلك التي قدمها جوردن تشيلد Child حيث يحدد ملامح ما اطلق عليه (الثورة الحضرية المبكرة) ومن بين هذه الملامح الاستيطان الدائم في صورة تجمعات كثيفة، وبداية العمل بالنشاطات غير الزراعية، وفرض الضرائب وتراكم رؤوس الاموال، واقامة المباني الضخمة وظهور طبقة حاكمة مسيطرة، وتطور فنون الكتابة، وتعلم مبادىء الحساب، والهندسية، والفلك، واكتساب القدرة على التعبير الفني ونمو التجارة(1).
وتناول فوستيل دي كلانج Fustel de Couange تاريخ المدينة العتيقة وارجعها إلى نفوذ الدين الحضري، وعرض لويسى ممفورد المدينة من جهة نظر تاريخية والقى الضوء على نموها وكبر حجمها واشار إلى انها تمر بمراحل ونماذج معينة هي:
1 ـ مرحلة النشأة Eopolis.
2 ـ مرحلة المدينة Polis.
3 ـ مرحلة المدينة الكبيرة Metropolis.
4 ـ مرحلة المدينة العظمى Megalopolis.
5 ـ مرحلة المدينة التيرانوبوليس Tyrannopolis.
6 ـ مرحلة المدينة النكروبوليس Nekopolis.
مرحلة النشأة: ويقصد بها المدينة في فجر قيامها، وتتميز بانضمام بعض القرى إلى بعضها واستقرار الحياة الاجتماعية إلى حد ما، وقد قامت المدينة في هذه المرحلة بعد اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان، وقيام الصناعات اليدوية والحرفية.
مرحلة المدينة: وتمتاز بوضوح التنظيم الاجتماعي والاداري والتشريع، وتتفشى فيها التجارة، وتتسع الاسواق للمبادلة، وتتنوع الاعمال والوظائف والاختصاصات وتتميز بالتمييز الطبقي بين مختلف الفئات، واتساع اوقات الفراغ، وظهور الفلسفات، ومبادىء العلوم النظرية والاهتمام بالفلك والرياضيات وقيام المؤسسات والفنون ونشأة المدارس، وعقد حلقات المناظرات.
مرحلة المدينة الكبيرة: وتعرف بالمدينة الام، ويتكاثف فيها عدد السكان، ويتوفر فيها الطرق السهلة وتربطها بالريف شبكة من المواصلات السريعة. وتهتم الحكومة فيها بتحقيق مطالب سكانها، وتنفرد بمميزات خاصة كالتجارة أو الصناعة. وتتنوع الوظائف وتعدد المهن والتخصص ونشأة المعاهد الفنية العليا.
مرحلة المدينة العظمى: وتتمثل في انبثاق المدن العظمى في القرن التاسع عشر، ويبدو في هذه المدن التنظيم الآلي والتخصص وتقسيم العمل. وظهور الفردية وتنتشر النظم البيروقراطية في الادارة واجهزة الحكم، ويظهر الصراع الطبقي بين العمال واصحاب الاعمال، مما يؤدي إلى تناقضات اجتماعية وفساد في الادارة، وتنتشر الانحرافات والجرائم في محيط الاحداث.
مرحلة المدينة التيرانوبوليس: وتمثل اعلى درجات الهيمنة الاقتصادية للمدينة، فيها تعتبر مسائل (الميزانية والضرائب والنفقات) من اهم الميكانيزمات المسيطرة، كما تظهر المشكلات الادارية والفيزيقية والسلوكية الناجمة عن كبر الحجم.
ويشهد المجتمع حركة واسعة النطاق للرجوع إلى الريف أو إلى مناطق الضواحي والاطراف هرباً من ظروف العيش غير المرغوبة.
مرحلة المدينة النيكروبوليس: ويمثل هذا النموذج الحضري نهاية المطاف في مراحل التطور التاريخي، ومع انّه لم يتحقق بعد، الا انّه آت لا محالة ـ في نظر ممفورد ـ عندما يصل الانحلال إلى ذروته مقترناً بافول الحضرية، واحياء جديد للريفية، وظهور مدن الاشباح.
ويؤخذ على نظرية ممفورد انها تعمل على تحطيم الحضارة والفنون والعلوم وتدعو إلى الحروب(1).
وتناول يوسكوف الاشكال الحضرية التي ظهرت في العالم منذ فترة تمتد إلى ما قبل الميلاد، وتصل إلى العصر الحديث، وحدد هذه الاشكال في ثلاث موجات حضرية تتلخص في الآتي:
الموجة الحضرية الاولى (سنة 4500 قبل الميلاد ـ سنة 500 بعد الميلاد) وهي الفترة الكلاسيكية للتحضر، حيث ظهرت المراكز الحضرية حول احواض الانهار واوديتها التي استخدمت لزيادة انشطة الزراعة ونقل المحاصيل، ونشأت هذه المدن تؤدي وظيفتها الدفاعية لصد هجمات المغيرين.
الموجة الحضرية الثانية (سنة 1000 ـ 1800 بعد الميلاد) وتميز هذه الفترة بامتداد المراكز الحضرية واتساع نطاقها، وارتباطها بالنمو الصناعي المكثف(2).
لقد استعرض يوسكوف الفترات التاريخية لعملية التحضر التي ميزت المجتمع العالمي. اما ايريك لامبارد E.Lampard فقد اهتم بتوضيح اشكال التحضر التي مرت بالعالم فرأى انّه يمكن التمييز بين اربعة اشكال هي(3):
التحضر البدائي Primordial Urbanzation وتحدث فيه محاولات عديدة من قبل الإنسان ساكن المركز العمراني بصفة عامة لاحداث التكيف مع البيئتين الفيزيقية والاجتماعية.
التحضر المميز المحدد Defintive Urbanization ويبدأ في هذا الشكل ظهور المدن وتتحدد وظائفها وتستبين خصائصها، وتبرز مشكلاتها ورغم ان هذا الشكل قد ساد مناطق العالم بصفة عامة الا انّه كان اوضح بالنسبة لمناطق بذاتها وهي تلك التي شهدت مولد المدن الاولى بالعالم (مصر، والعراق).
التحضر الكلاسيكي Classic Urbanization وهو المرحلة الاخيرة التي بدأت تتضح معالمها مع بدايات القرن العشرين حيث سعى سكان المناطق المجاورة للمدينة إلى الهجرة اليها والاستقرار بها سعياً وراء فرصة عمل متاحة بدرجة اكثر في المجال الصناعي وتدر دخلاً اكبر وتحقق في ذات الوقت مستوى معيشياً اعلى. ولم يخل هذا الشكل من الظواهر التي ترتبت على تركز العمال بالمدن وارتبطت بعلمهم مثل الغياب، والانحراف والسكن، وقضاء وقت الفراغ.. الخ.
(2) الاتجاه التنظيمي
ينظر الاتجاه التنظيمي إلى المدينة باعتبارها شكلاً فريداً من النسق الاجتماعي أو التنظيم يشتمل على تطوير وسائل الاتصال والميكانيزمات الاجتماعية والسياسية بما يسمح بانتقال المجتمع من الشكل البسيط إلى صورة اكثر تعقيداً. كما ان التحضر معناه تراكم التطور والتعقد النظامي. ويحتوي ذلك التعقيد النظامي تاريخياً على تطور الحكومات المركزية القوية. وتطوير الاسواق المحلية والاقليمية والعالمية. وانتشار الاشكال المختلفة للتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، كالنقابات واتحادات العمال وروابط اصحاب العمل.. الخ فضلاً عن التغييرات التي لحقت ببناء وحدات التنظيم القائمة ووظائفها كالاسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية، واتساق المكانة، والتدرج الطبقي والتكامل المعياري وبناء القوة وطبيعة الضبط الاجتماعي والبيروقراطية.
وفيما يرى «ويرث» فكلما زاد عدد الكسان، وارتفعت معدلات كثافتهم وعظم تباينهم، عبر ذلك عن المظاهر الحضرية، تلك التي تتمثل في ضعف الروابط القرابية، واختفاء روابط الجيرة وانهيار الاسس التقليدية للتماسك الاجتماعي، وتصبح العلاقات الاجتماعية علاقات غيرشخصية، وانتقالية، ومؤقتة، وعابرة، وجزئية، مما يؤدي إلى افول العلاقات الاولية، ليحل محلها العلاقات الثانوية، ويحل الضبط الرسمي محل روابط التضامن.
اما متغير اللاتجانس فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغير «الحجم» و«الكثافة» وهو يؤدي إلى سلسلة من الظروف الاجتماعية لعل من اهمها ظهور نسق اكثر تعقيداً للتدرج الطبقي، وزيادة معدلات الحراك باشكاله الفيزيقية والاجتماعية، وتكوين شخصية «عالمية كوزموبوليتية».
وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التمايز إلى نوع من الجمود يسيطر على حياة المدينة مما يعمل على وجود نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية.
كما ان تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به في تفكك الشخصية وزيادة معدلات الجريمة والانتحار والمرض العقلي.
كما اشار روبرت إلى ان التغيرات التي ترتبط بالتحضر قابلة للانشار إلى خارج المدينة.
ويؤخذ على نظرية لويس ويرث انّه استهدف اطلاق تعميمات تنطبق على جميع المدن، مع ان استنتاجاته لا تنطبق الا على المدن الصناعية وحدها. كذلك فان وضع نتائجه في ضوء ظروف حياة المدينة في فترة العشرينات والثلاثينات من هذا القرن. وهي فترة تميزت بمعدلات انتاجية منخفضة، وانهيار اصحاب المناطق الداخلية في شيكاغو. وندلل على ذلك بان كثيراً من المثقفين الامريكيين ابدوا قلقهم البالغ على ظروف التفكك الاجتماعي والتباين الثقافي والكساد الاقتصادي الذي تعرضت له الولايات المتحدة. اما المناطق الخارجية فقد خرجت من مجال دراسته. يضاف إلى ذلك ان المدن الامريكية خلال الفترة التي وضع فيها نظريته تميزت بالهجرة اليها من بلدان اقل حضارة. اما الانتاج فقد بدأ بالارتفاع بعد ظهور هذه النظرية. ويظهر خطأ نظرية ويرث في انّه اعتبر ان العلاقات الثانوية قد حلت محل العلاقات الدولية بينما تبين من نظريات اخرى ان العلاقات الاولية والجيرة تعد من مظاهر الحياة اليومية بين ساكن المدن. ومن ناحية اخرى فقد اكتشف علماء الاجتماع ان المناطق الريفية في انجلترا تتسم العلاقات الاجتماعية فيها بالتنوع والتعقيد. وتتجلى هذه العلاقات في صور متعددة تتمثل في الجيرة، والنسب، والزواج، والعضوية في الكنيسة، والعضوية في جماعات عمرية متقاربة، وفي النوادي الاجتماعية. وقد اكد مان هذا المعنى، فالتنقل من المجتمع الريفي إلى المجتمع الحضري في رأيه لا يؤدي بالضرورة إلى التغير في العلاقات الاجتماعية من علاقات اولية إلى علاقات ثانوية.
وقد اعترض اوسكار لويس في كتابه ثقافة الفقر Cluture of Poverty على نظرية ويرث. وقال ان المهاجرين من ريف المكسيك إلى مدنه قد احتفظوا بعائلاتهم الممتدة، وتبدو اهمية الجماعات الاولية للانسان الحضري مثلما تبدو اهميتها للانسان الريفي.
ويذكر ويرث ان الضبط الرسمي يسود بين سكان المدن. ومع ذلك يلاحظ قلة اهمية الضبط الرسمي في النسق الحضري. وتبدو اهمية الضبط غير الرسمي. هذا ولم يقتنع علماء النفس بالخصائص التي ذكرها ويرث للحياة الحضرية.
ففي رأيهم ان الحجم والثقافة والكثافة واللاتجانس وهي حقائق ديموجرافية لا تمت بصلة إلى الجانب السيكولوجي، واخيراً يؤخذ على لويس ويرث انّه لم يضع تحت الاختبار اكثر من الخصائص التي ذكرها وهي الحجم والكثافة واللاتجانس، وأغفل ذكر المراحل الهامة التي تؤثر بها الخصائص الحضرية على الشخصية والاتجاهات.
وبالرغم من النقد الذي وجه إلى نظرية ويرث، فلم تقدم نظريات اخرى في الفكر الغربي أو علم الاجتماع الكلاسيكي تصوراً وادراكاً شاملاً لطبيعة حياة المدينة كما فعلت نظرية ويرث.
(3) الاتجاه السيكولوجي
الاتجاه السيكولوجي يحاول ان يفسر المجتمع في ضوء علم النفس الاجتماعي، وذلك بالتركيز على الذات واتجاهات الفرد وعواطفه ودوره في العقل الجمعي، وبمعنى آخر كيف يفسر الفرد الجماعة؟ في ضوء هذا التصور فان الجماعات ليست موجودة فيزيقياً وانما هي مجرد حصيلة جمع عدد من الافراد يلعب فيها الفرد دوراً.
ويلجا الاتجاه السيكولوجي في مجال التنمية الحضرية إلى اكتشاف الضغوط السيكولوجية ومواقف الافراد في محاولة لفهم الظروف الإنسانيّة المعقدة، في المناطق الحضرية على وجه الخصوص ويعتبر ماكس ويبر Max Weberمن انصار اعلى درجات الفردية/التفرد.
وبعيداً عن محاولة تصور المجتمع المحلي الحضري في ضوء ثنائية متعارضة الاطراف أو في ضوء متصل تتدرج على طوله خصائص كلا المحورين أو القطبين الريفي والحضري برزت محاولات اهتمت بتحليل المجتمع الحضري كظاهرة تستحق الدراسة لذاتها ودون حاجة إلى مقارنتها بظواهر اخرى معارضة. وقد عرفت هذه المحاولات بالتصورات الاستنباطية. وسبب هذه التسمية ان اصحابها كانوا يستدلون على صحة نظرياتهم بالاسلوب المنطقي فكانوا يبدأون تصورهم للمجمع الحضري ـ والمدينة بصفة خاصة ـ ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات أو مصادرات في غير حاجة إلى برهان، ثم ينتقلون عنها إلى استنباط قضايا اخرى غيرها تمثل خصائص مميزة لحياة الحضرية. ويتوقف صحة النتائج على صحة المقدمات وسلامة التسلسل المنطقي. ومن هذه المحاولات كانت نظرية لويس ويرث التي سبق ذكرها.. وتبعه في نفس الاسلوب جورج زيمل G. Simmel لكنه بدأ في تصوره للحياة الحضرية بخصائص اجتماعية ـ وليست ايكولوجية كالحجم والكثافة واللاتجانس. كبديهيات يستنبط منها مختلف الخصائص والنتائج السيكولوجية، وشرع في تحديد ما يمكن ان يترتب على التعقيد النظامي غير المحدود للمدن الكبرى من نتائج على سيكولوجية الافراد. وانتهى زيمل إلى نفس النتائج التي توصل اليها ويرث على اساس متغيرات الحجم والكثافة واللاتجانس. مثال ذلك ان زيمل كان على يقين بان ساكني الحضر بحاجة ماسة إلى مزيد من الدقة والتوقيت ليتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم وسط هذه الشبكة المعقدة للوظائف الحضرية، وان من اهم نتائج هذا التعقيد تطوير اقتصاد السوق والتنظيمات البيروقراطية الكبرى، وسيطرة روح العقلانية والعلاقات اللاشخصية، وهذا ينعكس بدوره على شخصية الحضري. فلكي يتوافق الحضري مع هذا التعقيد النظامي عليه ان يكون اكثر عقلانية واحساساً بالكم والوقت ان «المال» و«العقل» وليس «الروح» اول «القلب» يصبحان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان في المدينة يشعر انّه في حالة ضياع نظراً لتعدد جوانب الحياة فيها، هذه الحالة النفسية هي التي تجعل الناس يبتعدون عن الاستجابة العاطفية نتيجة لتعقد الحياة الحضرية الامر الذي تصبح معه العلاقات بين الإنسان واقرانّه وبينه وبين البيئة عموماً علاقات جزئية.
وبالمثل تابع كنجز دافز K. Davis نفس الطريقة الاستنباطية في حديثه عن المجتمع الحضري اذ استطاع ان يتوصل إلى استنتاج عدد كبير من الخصائص الحضرية التي تترتب على «زيادة الحجم» المرتبطة بعملية التحضر كمقومات مسلم بها. وتختلف هذه الخصائص كثيراً عن نتائج ويرث، حيث اشار دافيز إلى ان اهم النتائج التي تترتب على الحجم هي زيادة التغير الاجتماعي وانتشار العلاقات السطحية الثانوية وتطوير الروابط الطوعية، كما ان تزايد الكثافة يعني في نظره زيادة الاتجاه نحو العزل المكاني وانتشار الفردية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة سيطرة وسائل الضبط الرسمي.. الخ.(1)
ويؤخذ على الاتجاه السيكولوجي انّه في تحليله للظواهر الاجتماعية يرجعها إلى ظواهر نفسية من صنع الافراد وكأن المجتمع ليس له وجود والحق انّه تحدث في المجتمع امور لا يصح ان ننسبها إلى افراد معينين، وذلك لانها تنشأ من علاقات الاراد في حالة الاجتماع وتبادل وجهات نظرهم وتفاعل افكارهم واحتكاك مشاعرهم وتوحد مواقفهم. هذا بالاضافة إلى ما يحيط بهم من ظروف طبيعية وبيئية وتاريخية تصهرهم جميعاً في بوتقة جمعية وتؤدي إلى ظهور عقل جديد للجماعة وهو ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميته بالعقل الجمعي. وهذا العقل مستقل عن الافراد، وله منطق خاص ومظاهر للسلوك تختلف عن مظاهر السلوك الفردي.
كذلك فان المدرسة النفسية ترفض مشاركة الفرد في حياة المجتمع وحاجياته في حالة احتياج الفرد للمساعدة.(2)
(4) اتجاه التوجه القيمي والثقافيValue - Orientation
تؤكد هذه الدراسة على متغير القيم الثقافية أو الاجتماعية كمتغير محوري عند دراسة انماط استخدام الارض والبنيات الحضرية الاجتماعية. وتدخل كتابات ماكس فيبر في اطار تراث هذه المدرسة فقد اعتبر فيبر قيم الإنسان الاجتماعية الثقافية المتغير المفسر المستقل على حين اعتبر البناء الاجتماعي للمدينة متغيراً تابعاً.(3)
ورغم ما تعرضت له مدرسة القيم من وجوه نقد عديدة فان كثيراً من العلماء الاجتماعيين اكدوا ان القيم لا يمكن تجاهلها.
ودليل ذلك ان كل من ديكسون في كتابه «مدينة الغرب الاوروبي» وجونز في كتابه «الجغرافيا الاجتماعية للبلفاست» وفون جروندام في مقال عن المدن الإسلامية اجمعوا على اهمية القيم الثقافية وتأثيرها على الايكولوجيا الحضرية. ففي المدن الإسلامية تحدد القيم الدينية الانشطة الموسمية لدرجة كبيرة. فعندما ينادي المؤذن للصلاة تتوقف بعض الانشطة، وفي شهر رمضان تتغير ساعات العمل ومواقيت الانشطة اليومية وتتعرض بعض الانشطة الاخرى في مجالات التجارة والصناعة لبعض التقلصات الوقتية مما يوضح اهمية القيم في تفسير بعض الانماط الاكولوجية من هذا النوع.
ويكاد يقر كثير من علماء الاجتماع ان القيم تتدخل في تشكيل كثير من الظواهر الاجتماعية داخل المراكز الحضرية. فقد وظف فيبر في كتابه عن المدينة فكرة ان القيم تعد عنصراً مسؤولاً عن كثير من وجوه التباين القائمة بين المدن في العديد من الوضعيات الثقافية المميزة.
ولقد سيطرت هذه الفكرة كذلك على اتجاهات الباحثين الذين يدرسون التنظيم الاجتماعي من خلال الرؤية الحضارية المقارنة.
(5) التطور الاقتصادي
تمثل الحضر فيه وفقاً لهذا التصور مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاقتصادي البشري وبالتالي ارتبط التحضر والنمو الحضري، بحركة الانتقال والتحول إلى التنظيمات الاقتصادية الاكثر تعقيداً أو بمعنى ابسط الانتقال من حالة تقوم فيها الحياة الاجتماعية على اساس العمل أو الانتاج الاولي كالصيد والزراعة إلى حالة تقوم فيها الحياة عى اساس العمل الصناعي والتجاري والخدمات، أو هي بعبارة ثالثة حالة الانتقال من اقتصاد المعيشة إلى اقتصاد السوق، والواقع لقد ترجم هذا التصور في صياغات وعبارات مختلفة، اكدت كلها الاتجاه الذي غلب على معظم الدراسات الحضرية الغربية والاميركية بصفة خاصة التي اكدت الارتباط بين عمليتي التصنيع والتحضر.(1)
لاشك ان عملية الانتاج الزراعي والصناعي في تطور وتحول اساسي دائم، وفقاً لنمو العلم وعمقه، فبينما كان يستخدم الإنسان في انتاجه المحراث اصبح يستخدم الكهرباء والذرة كما ان النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض بما فيها علاقات التوزيع ـ هو الآخر أيضاً لم يتخذ صيغة ثابتة في تاريخ الإنسان بل اتخذ الواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.
والاقتصاد الماركسي يرى ان كل تطور في عمليات الانتاج واشكاله يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية وعلاقات التوزيع خاصة، فلا يمكن ان يتغير شكل الانتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم، كما لا يمكن أيضاً ان تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الانتاج في تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك ان المستحيل ان يحتفظ نظام اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن أو ان يصلح للحياة الإنسانيّة في مراحل متعددة من الانتاج لان اشكال الانتاج تتطور خلال التجربة البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية.
فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية، ما ذام شكل الانتاج مختلفاً في المجتمعين، وعلى هذا الاساس تقدم الماركسية المذهب الاشتراكي باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للانتاج في تلك المرحلة.(2)
واما الاقتصاد الاسلامي فهو يرفض هذه الصلة الحتمية بين تطور الانتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى ان للانسان حقلين يمارس في احدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله ان يستثمرها ويسخرها لاشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الافراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، واشكال الانتاج هي حصيلة الحقل الاول، والانظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين ـ بوجوده التاريخي ـ تعرض لتطورات كثيرة في شكل الانتاج. أو في النظام الاجتماعي ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات اشكال الانتاج وتطورات النظم الاجتماعية، ولاجل ذلك فهو يعتقد ان بالامكان ان يحفظ نظام اجتماعي واحد بكيانه وصلاحياته على مر الزمن مهما اختلفت اشكال الانتاج.
وعلى اساس هذا المبدأ «مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الانتاج» يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي بوصفه نظاماً اجتماعياً صالحاً للامة في كل مراحل انتاجها. وقادراً على اسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الارض بيدها.(1)
وان قيام المدن الإسلامية في القرن السابع الميلادي لم يكن بسبب التغير والتطور في وسائل الانتاج ولم يكن بسبب التطور الاقتصادي والنشاط التجاري القائم في مكة اهم مدن الجزيرة العربية، بل كانت هناك حضارات ومدن اكثر اهمية من الناحية التجارية والاقتصادية والحضارية. ومع ذلك تعرضت للذبول والانهيار وانتظرت الدور القيادي للمدينة العربية.
وانبثقت الثورة الحضرية من الجزيرة العربية لتمتد وتنتشر في كل مدن الشرق الاوسط حتى شمل مدن الامبراطورية الرومانية والمدن اليونانية والبيزنطية.
النظرية الايكولوجية ودراسة المدينة:
تشير هذه التسمية في علم الاجتماع الحضري إلى اعمال مدرسة شيكاغو أو المدرسة الاميركية التي عرفت باعمال ثلاثة من رواد علم الاجتماع في أميركا هم روبرت بارك وارنست بيرجي ورودريك كينزي، تلك الاعمال التي وضعت منذ البداية الاطال النظري العام الذي انطلقت من خلال العديد من الدراسات اللاحقة التي كانت لها مكانتها العلمية واهميتها النظرية في تاريخ العلم مثل دراسات لويس ويرث وروبرت دوفيلد وميلتون سينجر وغيرهم.
اما بارك فقد صاغ الاطار العام للنظرية، حين ذهب إلى اعتبار المدينة (مكاناً طبيعياً لاقامة الإنسان المتحضر) وعندما صورها على انها «منطقة ثقافية» لها انماط ثقافية خاصة بها، ان المدينة في نظره «تيار طبيعي» يخضع لقوانين خاصة به، ولانها كذلك فانه من الصعب تجاوز هذه القوانين لاجراء اي تعديلات في بنائها الفيزيقي أو نظامها الاخلاقي وهي ـ اي المدينة ـ بناء متكامل ـ بمعنى ان ما يصدق عليها ينسحب على كل قسم من اقسامها الفرعية ـ بحيث تصبح لكل محاورة من محاوراتها خصائص مميزة استمدتها من خصائص سكانها، لتكشف عن استمرار تاريخي خاص بها ـ وعلى هذا الاساس فان المدينة تمثل وحدة على درجة عالية من التنظيم من حيث المكان، انبثقت وفقاً لقوانينها الخاصة. عند هذا الحد يأتي دور ارنست برجسي ورودريك ماكينزي، حيث يرجع الفضل إلى اولهما في تحديد التنظيم الخارجي للمدينة من حيث المكان ذلك التنظيم الذي اصبح سمة مميزة للنظرة الايكولوجية بينما يهم ماكينزي بدوره في ابراز القوانين الداخلية والعمليات التي تسيطر على هذا التنظيم.
ان سيطرة التوجيه البيولوجي كان واضحاً على النظرية الايكولوجية في صورتها الاولية. غير ان ذلك لا يعني ان بارك حاول ان يطور نظرية اجتماعية للمماثلة العضوية شأنه شأن سبنسر وغيره من علماء الاجتماع الاوائل. وانما عنى في الاساس بالبحث على عدد من المبادىء أو الاسس التي تبسط دراسة التنظيم الاجتماعي وتجعله اكثر قابلية للتحليل بمعنى انّه اي بارك عني بصياغة ايكولوجية حاول بعدها توضيح مدى ملائمتها أو كفاءتها للمعالجة السوسيولوجية للمجتمع الحضري.
ولقد حقق بارك هذا الهدف من خلال تحليله النظري للتنظيم الاجتماعي إلى مستويين: مستوى حيوي وآخر ثقافي. اما المستوى الاول فيمثل البناء الاساسي أو التحتي للتنظيم، فيه تكون المنافسة هي العملية الاساسية والموجهة. ويكون البقاء للاقوى هو القانون المسيطر وفي مقابل ذلك يمثل المستوى الثقافي بناء فوقياً، يكون فيه الاتساق والتماثل والاتصال اهم العمليات المنظمة وتكون التقاليد والنظام الاخلاقي هو القانون المسيطر.
ويمثل المستوى الاول المجتمع المحلي، بينما يعبر المجتمع عن المستوى الثقافي بالمعنى الذي يفرض فيه «البناء الفوقي» ذاته على البناء «التحتي أو الحيوي» اما الايكولوجيا فتعنى في الاساس بدراسة وتحليل المستوى الاول بينما تخرج تركيبات النظام الثقافي عن دائرة اهتمام البحث الايكولوجي.
فالايكولوجيا توجه في الاساس لتوضيح وبحث العمليات والعوامل التي تحقق التوازن الحيوي في المجتمع. فهي اذاً دراسة وصفية وتحليلية لكل مظاهر التركيب المادي والحيوي للبيئة الحضرية.
ويتحقق اكبر انجاز للنظرية الايكولوجية في صورتها الاولى على يد ارنست بيرجي E. Burgess، وبخاصة فيما قدمه من تصور نظري للنمط الايكولوجي للمدينة. وتعرف هذه النظرية باسم نظرية الدوائر المتمركزة أو بالتصور الحلقي. ويطلق بيرجسي اقرب الحلقات إلى الداخل أو المركز «حي الاعمال المركزي» وهو يقع في قلب المدينة، وفي الحلقات المحيطة بذلك المركز تتحرك حلقات اخرى تجاه الحافة الخارجية للمدينة. تمثل الحلقة الاولى منطقة الاعمال المركزية. وفيها تدور اكثر نشاطات المدينة كثافة، وتقع على اطرافها حلقة ثانية هي منطقة التحول والانتقال التي تتعرض باستمرار للتغير نتيجة اتساع ونمو الحلقة الاولى، كما تتميز بكثافتها السكانية العالية وظهور التفكك الاجتماعي. اما الحلقة الثالثة فتضم منطقة سكنى الطبقات العاملة، ويليها منطقة الفيلات وفي النهاية تقع الحلقة الخاصة خارج حدود المدينة، حيث تشكل الضواحي والاطراف مناطق سكنية لذوي الدخل المرتفع. وقد عالج بيرجسي نمو المدينة في ضوء امتدادها الفيزيقي وتمايزها في المكان. ان هذه الحلقات الخمس تمثل في نظره مناطق متتابعة من الامتداد الحضري. وهو في تأكيده لهذا الوصف الفيزيقي، ذهب إلى ان ظاهرة النمو الحضري هي نتيجة لازمة لعمليات التنظيم والتفكك في نفس الوقت تشبه تماماً عمليات الهدم والبناء في الكائن العضوي.
وإذا كان كل من بارك وبيرجي قد صورا المدينة ككيان فيزيقي يتميز بحلقاته ودوائره الخمسة، فان ماكينزي جاء بدوره ليوضح القوانين والعمليات التي تعمل داخل هذا الكيان وتفسر بالتالي وجود هذه المناطق المميزة. وذلك من خلال عمليات كالمنافسة والتركز والتركيز والعزل والغزو والتتابع.
وقد تعرضت النظرية الايكولوجية الحضرية لنقد حاد وكان عامل الزمن والظروف المجتمعية هو اكبر نقد حقيقي وجه للنظرية فقد عجزت عن مواجهة التغييرات التي مرت بها المدينة، واصبح من الصعب تطبيقها لتفسير هذه التغيرات. لقد اكدت التجارب ان كثيراً من الدراسات الوصفية والقضايا النظرية التي عرضتها مدرسة شيكاغو في صورتها المبكرة، كانت عبارة عن تصوير وتفسير لحال مدينة شيكاغو في فترة معينة من تاريخها، بحيث يصبح من الصعب تطبيقها لتفسير الحياة الحضرية بوجه عام، بل لتفسير مدينة شيكاغو ذاتها في مرحلة ما بعد التغيير ـ ولعل اهم ما وصفت به النظرية الايكولوجية المبكرة، انها كانت تسير في طريق خاطىء في تحليلها لظاهرة الحضرية، وذلك عندما وجهت كل اهتمامها إلى الجوانب الجيوفيزيقية Geophysieal للمدينة، دون ان تهتم بحياتها الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ـ على حد تبير دون مارتندال(1) هي بناء التفاعل وليست بناء الحجر والصلب والاسمنت والاسفلت.
ولقد كان من اهم ما انتقدت بشأنه النظرية ذلك الفصل الحاد بين المجتمع Societyوالمجتمعت المحلي. وحصر التحليل الايكولوجي في نطاق المجتمع المحلي وحده. ان محاولة بارك هذه كانت تعني تجاهلاً واضحاً لاهمية العوامل الثقافية، الامر الذي جعل النظرية تواجه بنفس الانتقادات التي وجهت للحتمية الجغرافية. ولم يكن تركيز بارك وبيرجسي على البناء الفيزيقي للمدينة كما لم يكن تأكيدهما على القوانين الخاصة للمدينة «كبيئة طبيعية» يقلل من اثر النقد الحاد الموجه للنظرية لتجاهلها دور العوامل الثقافية.
فالمكان الحضري ليس مجرد موقع فيزيقي طبيعي، بل يستخدم دائماً وفقاً لحاجات ثقافية تتحدد من خلال المشاعر والقيم والافكار ومن ثم فان النظرية الايكولوجية عندما تقوم باغفال العوامل الثقافية بهدف تبسيط مشكلة البحث، فانها تسلب البيئة الإنسانيّة أو تجردها من كل معنى.
ان النظرية الايكولوجية بهذا المعنى قامت على تصورات غير كافية لصياغة نظرية محددة المعالم في المدينة يمكن ان تتميز عن نظرية اخرى تعالج موضوعاً آخر في اطار النظرية السوسيولوجية. واكثر من ذلك فان هذه التصورات لم تكن من الكفاءة بحيث تميز النظرية السوسيولوجية والاقتصادية.
الاتجاهات النظرية ودراسة المدينة العربية الاسلامية
(تحليل نقدي)
تستند الاتجاهات النظرية لدراسة ظاهرة التحضر وتفسيرها على التجارب التي شهدتها المدن الغربية في التحضر، وهي تعبر عن واقع تلك المجتمعات وما شهدت من صراع طبقي وتناقضات اجتماعية وكذلك تعبر عن اثر الثورة الصناعية التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر. وتعبر عن الحضارة الغربية بكل ابعادها وخصائصها.
وتلك النظريات كانت تعتمد على معايير غربية في التحضر وتستند على مفاهيم ومصادرات وتعميمات نابعة من واقع تلك المجتمعات وما شهدته من تقدم صناعي وتكنولوجي وتقدم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كان الامر كذلك فهل تصلح تلك النظريات لدراسة ظاهرة التحضر في كل مكان وزمان؟ وهل يمكن دراسة المدينة العربية الإسلامية في ضوء تلك المداخل المعرفية والاتجاهات النظرية؟
ان الاجابة على هذا السؤال تعتمد اولاً على تقييم المفاهيم والتعميمات التي قامت عليها تلك الاطر النظرية ـ ولابد من اعطاء تعريف للمفاهيم والتعميمات، ان تحديد المفاهيم بدقة ضرورة تحتمها الموضوعية للوصول إلى نتائج سليمة في البحث. ولتجنب اعطاء اراء مسبقة لا يدعمها الدليل لابد من تقييم المفاهيم بعد تعريفها للنظر في امكانية قبولها في البحث.
خاصة واننا لا زلنا نستعمل معظم تلك المفاهيم الاجتماعية كما وردت في الدراسات الغربية، الامر الذي قد يساعد على خروج دراسات سطحية تزيف الواقع بدل توضيحه وتفسيره وذلك لعدم مطابقة المفهوم للواقع، وما هذا الا جزء ولكنه هام من الاخطاء الشائعة في دراساتنا الاجتماعية العربية.وللتعميمات اثرها واهميتها في هذا الخصوص وفي هذه النقطة بالذات والتعميمات هي:
عبارات تربط بين مفهويمن أو اكثر من المفاهيم. اي انها عبارات توضح العلاقة بين المفاهيم، وبما انها تعمل على ربط فكرة مجردة بغيرها فهي اكثر تجرداً منها، وتتضمن كلمة تعميم المعنى الذي يرى انّه يمكن تطبيق تلك العبارة عالمياً أو بصورة عامة. والتعميمات في الوقت نفسه عبارات افتراضية يعتقد بانها حقيقة True لان الادلة تعمل على تدعيمها.(1)
وما زالت التعميمات تمثل عبارات قوية ومختصرة تدور حول الخبرة البشرية. وفوق هذا كله فهي تركز على العلاقات بين الاشياء، وانّه يمكن تطبيقها في مواقف عديدة وتمثل هذه التعميمات بجانب المفاهيم، اهم دعائم تنظيم المحتوى الاساسي لمنهج العلوم الاجتماعية. لذا يفضل البعض ان يطلق على التعميمات اسم «عبارات المفاهيم Concepgt Statement» أو الافكار الاساسية وفي العلوم الطبيعية قد لا يثور اي اشكال يتعلق بتحديد المفاهيم أو المصادرات والفرضيات والقوانين وان كان ذلك وارداً فيما يتعلق بالتطبيق اي في مجالات التقنية واستخداماتها ذلك ان حدود التجربة الفيزياوية أو الكيمياوية وابعادها واضحة محددة، لكن الامر يختلف بشكل حاد إذا تعلق البحث العلمي بحياة البشر وسلوكهم ومجتمعاتهم، حيث تتداخل وتتشابك عوامل كثيرة تجعل من التعميم في المنهج وفي المضمون خروجاً على قواعد العلم ودخولاً في متاهات وتناقضات مما يؤدي إلى نتائج مبتسرة بعيدة عن الواقع.
وقد يكون للوضع الراهن في العلوم الاجتماعية ما يبرره من حداثة النشأة وعدم استقرار التقاليد العلمية، وظروف وتاريخ بزوغ هذه العلوم في المجتمعات الغربية المتقدمة صناعياً.
ان المفاهيم التي هي اهم اسس البناء المعرفي سواء من حيث البناء النظري، أو المنهجية أو حتى الاستخدامات للعلم. ولعل التوصل إلى القوانين يعتمد في اساسه والى حد كبير على دقة المفاهيم وتطابقها مع الواقع. فاذا استطعنا ان ندقق في معاني المفاهيم بما يتناسب والواقع العربي وخصوصيته، تمكنا عندئذ من بناء نماذج نظرية علمية تساعد في دراسة وفهم المجتمع العربي وفي اعطاء تفسير للظواهر الاجتماعية ومنها ظاهرة التحضر.
والمفاهيم ينطبق عليها نفس الكلام الذي ينطبق على النظرية وهي مشتقة من وقائع معينة ومن تجارب تاريخية خاصة على سبيل المثال مفهوم أو مصطلح القرون الوسطى الذي سبق النهضة، هذا التقسيم للتاريخ تقسيم اوروبي. فقد ارتبط تطور الشعوب الاوروبية بهذا التقسيم ولكن بقية اجزاء العالم لم تمر به ولم تعرفه والقرون الوسطى الاوروبية بدأت بما يعرف بالعصور المظلمة التي بدأت مع انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوط روما على يد القوط سنة 476 م ثم تلاه افول الغرب لمدة تزيد عن ستة قرون. ولكن هذه الفترة بالذات كانت شيئاً مختلفاً بالنسبة للمدن العربية ففي القرن السابع الميلادي شهدت المجتمعات العربية ثورة حضرية ادت إلى تطوير المدن في العالم العربي وظهور مدن جديدة. ومع بداية ظهور الإسلام بدأ العرب في انشاء المدن التي شهدت نمواً حضرياً لم يسبق له مثيل. وكانت المدن الإسلامية العربية تمثل درجة عالية من التحضر.
وبما ان مفهوم العصور الوسطى مرتبط بالمجتمعات الغربية فانه ليس صالحاً لتطبيقه عالمياً. ولا يقتصر الامر طبعاً على هذا المفهوم الذي يرتبط بالبحث بشكل مباشر، ولكنه ينسحب على كثير من المفاهيم المرتبطة بالتحضر، كالتحديث والتغيير الاجتماعي.
بالتحليل الموضوعي لعملية التحديث (Modernization Process) يجد الدارس:
انها عملية انسانية مستمرة ترتبط ارتباطاً مباشراً باستخدام وتطوير الإنسان الدائم للجانب المادي من المعرفة الإنسانيّة التراكمية واستقلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها ايجابياً لتحقيق التقدم الإنساني بصورة مستمرة.
وتؤدي اضطرارية عملية التحديث الإنساني الكلية لان يكون مفهوم العصرية متغيراً تبعاً لتغير في عامل الزمن. ففي اي حقبة زمنية يكون المجتمع أو المجتمعات التي تمتلك اكثر المعرفة المادية تقدما واكبر مقدرة على التحكم بالبيئة هي الاكثر عصرية من غيرها من المجتمعات المزامنة لها.
فالعصرية اذاً هي مفهوم نسبي يعكس اكبر مقدرة للانسان على التفاعل واستخدام البيئة في مرحلة معينة. وليس بمفهوم مطلق ينطبق على كل العصور، فلكل عصر عصريته، ولكل حقبة زمنية مواصفات ونموذج للعصرية.
فعصرية العصور الوسطى تختلف بالتأكيد عن عصرية وقتنا الحاضر، وهذه بالطبع ستختلف عن عصرية مستقبل ما بعد مئات السنين.
ولهذا السبب يجب ان يكون تحليل ظاهرة العصرية مشروطاً بالحقبة الزمنية التي يجري دراستها، وذلك لتلافي الوقوع في الالتباس بأن العصرية هي ظاهرة مطلقة من جهة، وحتى لا يتم استخدام اسس حديثة في المقارنة بين عصرية حقبة سابقة مع عصرية الوقت الحاضر بدون الاخذ بعين الاعتبار التغير الحاصل في عامل الزمن من جهة اخرى.
وإذا كانت عملية التحديث تهدف إلى التفاعل مع البيئة واستخدامها للرقي بالحياة الإنسانيّة. فان التاريخ قد شهد تطور عدة حضارات سابقة حاولت جاهدة وبقدر استيعابها وتطويرها للمعرفة الإنسانيّة التراكمية، استخدام البيئة بهذه الغاية، ونجحت بذلك ضمن المعطيات التاريخية التي وجدت فيها وبقدر الامكانيات التي اتيحت لها. وفي الحقيقة مثلت كل حضارة من تلك الحضارات الرائدة عصرية عصرها. فالحضارة الإسلامية كانت الاكثر عصرية قبل تطور الحضارة الغربية. وقبل ذلك كانت هناك الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والتي مثل كل منها عصرية الحقبة الزمنية التي سادت فيها. هذه النقطة غير واضحة في معظم الكتابات الغربية المتعلقة بالتحديث والتي ترى عصرية الغرب بدون سوابق، وكأن العالم لم ير أي نوع من العصرية سوى الغربية فعملية التحديث اقدم من عملية الغربنة من الناحية التاريخية.(1)
وفي هذه النقطة بالذات هناك تناقض واضح في الكتابات الغربية ويرجع هذا التناقض إلى انّه على الرغم من ايمان المختصين بفكرة ظاهرة العصرية بالمقدرة على التحكم بالبيئة، وانهم يتفقون على اعتبار عمية التحديث في المجتمع الإنساني عملية تاريخية عامة ابتدأت مع ظهور الإنسان واستمرت باستمرار محاولاته التفاعل مع البيئة المحيطة به واستخدامها لخدمة منافعه، على رغم ذلك فهم يؤكدون ان عملية التحديث ابتدأت مع بداية تبلور اسس الحضارة الغربية واقتصرت على المنهاج الذي تطورت من خلاله النظم السياسية الاقتصادية، والاجتماعية السائدة في الغرب. وكأن الإنسان لم يبدأ في التفاعل مع البيئة إلاّ منذ بداية تبلور اسس الحضارة الغربية، فبالرغم من ايمان دانكوارترستو بان التحكم بالبيئة هو اساس عملية التحديث، نجده يؤكد بان هذه العملية بدأت في اوروبا اثناء عصر النهضة، وامتدت إلى ما وراء البحار مع ابتداء التوسع الاوروبي، ويدعم س، ايزنستادت (S.N. Eisenstadt) هذه الفكرة فيذكر في كتاباته بأن عملية التحديث هي التغير نحو تلك الاشكال من النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطورت في اوروبا الغربية واميركا الشمالية منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر.
يقدم لنا كل من رأى دستور وايزتستادت مثالاً جلياً عن عدم وجود تمييز واضح عند الغربيين بين الغربنة والتحديث كعمليتين تاريخيتين منفصلتين ومما يثير الاهتمام بهذا الشأن اعتبار هؤلاء المختصين ان النقلة النوعية في المعرفة الإنسانيّة والتي استطاع الاوروبيون تحقيقها في عصر نهضتهم كانت الاولى من نوعها في التاريخ الإنساني وانها هي النقلة الوحيدة التي مكنت الإنسان من بسط نفوذه على البيئة.
ولم يعتبر هؤلاء ان النقلات المعرفية عبر العصور كانت ركائز اساسية اعتمد عليها الغرب في احداث نقلته الجديدة في المعرفة الإنسانيّة.
وبمعنى آخر تناسى هؤلاء بان تفاعل الإنسان مع البيئة ابتداء منذ وجد الإنسان وان التحكم بالبيئة الذين يعزون بدايته لعصر النهضة الاوروبي ما هو إلاّ حلقة متطورة من مسيرة الإنسان الطويلة في تفاعله مع بيئته. وما يثير الاهتمام بالفعل في هذه النظرة الغربية هو ليس كونها مغلوطة تماماً، ولكن كونها جزئية منتقاة للتاريخ الإنساني هدفها المحافظة على استمرار هيمنة النفوذ الغربي على بقية العالم.
فالادعاء بأن الغرب عصري في وقتنا الحاضر هو ادعاء صحيح وواقعي وليس لدينا أي دليل علمي يدحضه، ولكن الادعاء بأن التاريخ الإنساني لم يشهد عصرية قبل ظهور الحضارة الغربية هو ليس فقط ادعاء خاطئاً وانما يدل على عدم الموضوعية والتحيز الايديولوجي وروح الاستعلاء لدى الكتاب الغربيين.
ان تقييم النظريات الغربية في التحضر للنظر في مدى امكانية تطبيقها لفهم وتفسير ظاهرة نشأة المدن الإسلامية يحتاج إلى بحث مستقل.
والتوسع في تقييم ونقد المداخل النظرية الغربية وما تشتمل من مفاهيم وتعميمات ترتبط بالبناء المنهجي يتطلب دراسة متأنية، وفي هذا الحيز المتاح لا يمكن سوى الاثارة السريعة إلى ان دراسة المدينة العربية الإسلامية بمعايير غربية وفي ضوء النظريات الغربية للتحضر يؤدي إلى نتائج مبتسرة في البحث، ومحاولة تفسير ظاهرة التحضر في المجتمع العربي اعتماداً على الاطر الغربية يؤدي إلى تزييف الواقع ويؤدي إلى الغموض بدل الوضوح، ويؤدي إلى سطحية الدراسة.
منقووووووول
مقدمة
لاشك ان العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانيّة لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم مذهل إلاّ بعد ما قامت بتطوير نظريات خاصة، ولم تحقق دقة القياس وموضوعية التفسير والتحليل والقدرة على الضبط والتنبؤ إلاّ بعد اعتمادها على اطار نظري ووضوح الاطار النظري لكل دراسة يُعد مطلباً ضرورياً لانجاحها وشرطا اساسيا لاكتسابها صفة العلمية والموضوعية.
وتختلف العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية في وضوح النظرية وصفة التراكمية، ففي العلوم الطبيعية تكون حدود التجربة واضحة والنظريات يستند بعضها على بعض تصحح وتوسع وتنقي النظريات القديمة، اما العلوم الاجتماعية فأول ما يواجه الباحث فيها ذلك التنوع والتباين بين ما يقدمه علماء الاجتماع من آراء وتعريفات وتفسيرات وما يتبنونه من مداخل وأطر تصورية وما يستخدمونه من اجراءات ووسائل منهجية حتى عندما يقبلون على دراسة نفس الحقيقة.
ان تعدد النظريات وتنوع ما ينطوي عليه كل منها من اتجاهات قد تخضع في اغلب الاحيان لتوجيهات ايديولوجية ثم تباين ما يرتبط بكل نظرية أو اتجاه من مفاهيم وتصورات وقضايا. كل ذلك يمثل عائقاً لمحاولة تصنيف النظريات السيولوجية أو لمقارنتها أو حتى لمجرد عرضها بشكل واضح. ذلك ان كل نظرية اجتماعية تقف نداً لنظرية اخرى وتكون مساوية لها ومعتمدة على منهاجية خاصة. فالنظريات الاجتماعية قاماتها متساوية ولا تستند احداها على الاخرى ولا تمت لها بصلة من قريب أو بعيد، فلكل نظرية منهج ومقدمات تصل إلى نتائج مغايرة لنتائج النظريات الاخرى. من هنا تبدو صعوبة التنظير في علم الاجتماع الحضري، والافتقاد إلى التكامل النظري في هذا الفرع من علم الاجتماع.
ان تعدد المداخل النظرية و المناهج المعرفية التي عالجت مسائل التحضر والحضرية وانتمائها في اغلب الاحيان إلى فروع معرفية اخرى تبتعد عن مجال علم الاجتماع كالجغرافية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة زاد من صعوبة التنظير أو تصنيف النظريات السيولوجية مما جعل البعض يعتقد ان علم الاجتماع الحضري المقارن لم يولد بعد أو ان الجانب النظري في هذه الدراسات لا زال ناقصاً إلى درجة كبيرة.(1)
وفي الواقع ان مسار التطور في نتائج العلوم التجريبية يقوم على فكرة الاستمرار والاتصال والتراكم، بمعنى انّه موصول الحلقات. كل واحدة منها تترتب على ما يسبقها وتفضي إلى ما يليها وكل نتيجة جديدة في العلم تستوعب وتشمل ما سبقها وتضيف اليها جديداً.
اما التطور في العلوم الإنسانيّة فيتم بدرجة كبيرة في البطء، وغالباً ما تكون التعميمات الجديدة فيها اشبه بوجهات نظر مختلفة أو نظريات مختلفة، لا تضيف إلى ما سبقها جديداً بقدر ما تقدم رأيا بديلا لرأي آخر أو نظرية مغايرة لنظرية اخرى. والباحث في العلوم الطبيعية لا يستطيع ان يبدأ من الصفر، بل لابد وان يدخل في اعتباره النتائج والتعميمات العلمية السابقة، لكي يبدأ من حيث انتهى غيره.
اما الباحث في العلوم الإنسانيّة فمن الممكن ان يرفض كثيراً من النظريات المختلفة الموجودة في العلم، ويبدأ من جديد مقدما نظرية جديدة أو وجهة نظر مختلفة. وهذا واضح في كثرة المدارس والمذاهب والاتجاهات في العلوم الإنسانيّة. فكـل نظرية لا تضيف جديداً إلى ماسبقها بقـدر ما تكون بديلاً مقترحاً لها.(2)
وهناك نقطة اخرى جديرة بالملاحظة وهي ان العلوم الاجتماعية تتكامل من زاوية افقية، بمعنى ان البحث في احدها يتطلب استخدام نتائج علوم اخرى غيرها، فلا يمكن مثلا دراسة مشكلة اجتماعية مثل مشكلة الطلاق، بدون اعتبار عوامل تنتمي إلى علوم اخرى غير علم الاجتماع، مثل التوافق السيكولوجي بين الزوجين وهي ينتمي إلى مجال علم النفس، أو مثل انخفاض مستوى الدخل عن الحد الادنى لمتطلبات المعيشة وهو عامل ينتمي إلى الاقتصاد وغير ذلك. وهكذا، بدأت تظهر فروع جديدة في العلوم الإنسانيّة المختلفة تؤكد على وجود هذا التكامل وعلى ضرورة الربط الوثيق بينها وبين علوم اخرى من جانب آخر. كما هو الحال في «علم الاجتماع الطبي»، «علم الاجتماع السياسي»، «علم الاجتماع اللغوي»، «الجغرافيا الاقتصادية»، «علم الاجتماع الحربي»، وغير ذلك.
ويمكن تعريف النظريات على انها «تنظيمات من التعميمات والمفاهيم التي تكون على علاقة مع بعضها بعض، انها الافكار المعقدة التي تتكون من عدد من الافكار الاقل ترابطا، انها تعمل على تجميع اجزاء المعرفة التي تشكل معا وحدة ذات معنى(1).
ويؤكد البعض ان النظريات أو المبادىء تمثل اعلى درجات التجرد المعرفي، واكثرها بعدا عن البيانات أو المعلومات التي اعتمدت في الاساس.
والنظريات الجيدة في العلوم الاجتماعية تتصف بما يلي:
(1) توضح العلاقة بين المتغيرات التي تم تحديدها من قبل.
(2) تشكل نظاما استنتاجيا، وتكون منطقية التنسيق ويتم اشتقاق المبادىء المجهولة فيها من المبادىء المعروفة.
(3) ان تكون مصدرا للفرضيات القابلة للاختيار.
وتثور هنا قضية مدى حياد العلوم الاجتماعية ومدى حياد الباحث الاجتماعي، بمعنى مدى ارتباط البحث العلمي في ميادين العلوم الاجتماعية بالايديولوجية التي يتبناها مجتمع ما أو حتى مدى تأثيره بأيديولوجية الباحث نفسه. ولا شك في ان حسم هذه القضية يرتبط بالموقف الفلسفي اما موقف مثالي أو موقف مادي. ويتعين تجنب الخلط بين «النظريات الاجتماعية» وهي نظريات مشروعة يحكم الواقع لها أو عليها و«النظريات الفلسفية والسياسية» للمجتمع الامثل. فالماركسية مثلاً والبنيوية تحاولان الجمع بينهما، بل لا تميزان بين العقيدة الفلسفية أو السياسية والدينية الخاصة بأي باحث ما وحقيقة العلاقات الاجتماعية، كما تتجلى من خلال الواقع ذاته بما في ذلك العقائد، ولكن باعتبارها شيئاً اجتماعياً(2).
ويرتبط بالايديولوجية مصداقية البحوث الاجتماعية من المجتمعات العربية ذلك انها لم تكن دائماً عربية لا من حيث الباحثين ولا من حيث التوجهات ولا من حيث اللغة. فالذين كتبوا علمياً في بداية هذا القرن عن العرب كانوا ينتمون إلى مجتمعات تستخدم المعرفة الاجتماعية للسيطرة على العرب ولدعم نفوذ الغرب عليهم(3).
وارتبطت البحوث الاجتماعية بالنزعة الاستعمارية الانجليزية والفرنسية خاصة. وبديهي انّه ليس من المفروض ان يكون الاجنبي اكثر قدرة على البحث لتخلصه من الماقبليات ولتجرده، لان ذلك قد يعرضه إلى تجاهل امور من الاهمية بمكان فينقل ما تجمعت لديه من افكار وأحكام يسلطها على الموضوع. وهذا لا يعني ان الباحث العربي لابد له ان يصد عن النظريات الغربية السائدة، وانما نعني ذلك ان عليه ان يسعى دوماً الا تطغى النظريات على المنهاجية الا آلات مسح ووسائل تحليل عليه نقدها هي على ضوء الواقع الاجتماعي العربي لا نقد المجتمع العربي على ضوئها هي، كما هو حاصل في كثير من البحوث الاجتماعية التي يلهث فيها الباحث لاثبات بديهيات ثابتة منذ عهد بعيد، أونقل استنتاجات قد تكون تحققت فعلاً في مجتمعات اخرى، ولكن في ظروف مغايرة. فنراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات ويسلطونها من اعلى على الاوضاع الاجتماعية العربية. والحال ان تلك المفاهيم والنظريات وان كانت طريفة في حد ذاتها وجديرة بالاهتمام والدرس والعناية فانها اصلاً وليدة المجتمع الاوروبي واستخدامها باسم عالمية المعرفة العلمية امر غير مشروع لانها لم تأخذ بعين الاعتبار كل الاوضاع والظروف الممكنة انسانياً. ونقلها بتلك السهولة والبساطة إلى المجتمع العربي يدل على التقليد والتبعية للغرب ويدل على الهزيمة الحضارية.
ولذا نلاحظ ان كثيراً من البحوث الاجتماعية لا مبرر لها سوى ارادة اثبات صحة النظرية اياً كانت. فتكون بمثابة تصريف النظريات على حساب المنهاجية وعلى حساب الواقع الاجتماعي العربي.
الوطن العربي في حاجة إلى ابراز خصوصياته عن طريق البحث الميداني وعن طريق التنظير اكثر مما هو في حاجة إلى تجاوز تلك الخصوصيات نحو معرفة في نهاية التجرد كما تدعونا إلى ذلك اتجاهات البحث الغربية.
علينا ان نركز على منهاجيات تساعد على مزيد من التعرف على الذات.
المدينة في ضوء معطيات علم الاجتماع الحضري:
ان معظم الدراسات المبكرة التي عالجت موضوع المدين كانت تنتمي لعلوم اخرى غير علم الاجتماع الحضري، كالتاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والسياسة والآثار والفلسفة، حتى الدراسة الاولى التي قدمه احد علماء الاجتماع كانت معالجة اقتصادية، فقد كتب رينيه موريه كتابه: «نشأة المدن ووظائفها الاقتصادية» سنة 1910 وكانت دراسته للمدينة دراسة اقتصادية بعيدة عن الحضرية والتحضر(1).
وقد كانت البداية الحقيقية لنشأة وتطور علم الاجتماع كمجال متميز للبحث والدراسة على يد العالم الامريكي روبرت بارك R. Park الذي كانت مقالته عن المدينة سنة 1915، ايذاناً ببدء مرحلة جديدة لقيام فرع جديد ومستقل من فروع علم الاجتماع يوجه اساساً لدراسة المدينة (علم الاجتماع الحضري) ومع ان الاهتمام السوسيولوجي بدراسة المدينة والحياة الحضرية بصفة عامة لم يكن مقصوراً على ما قامت به جامعة شيكاغو ـ التي انتمى لها كل من بارك وييرجسي وتلاميذهما ـ في دراسات وبحوث وجهت اساساً لدراسة مدينة شيكاغو. ومع ان الاصول الفكرية والنظرية لتلك المدرسة كانت تتفق مع الكثير من الافكار التي ساقها دور كايم وفيير. الا ان هناك اجماعاً بين المهتمين بالتاريخ لعلم الاجتماع الحضري على ان هذا الفرع من علم الاجتماع كان في البداية علماً امريكياً(2).
وبلغ علم الاجتماع الحضري الذروة من الأهمية في اواخر العشرينات واوائل الثلاثينات تحت تاثير البرنامج الدراسي الذي وضعه بارك وييرجسي وزملاؤهما في جامعة شيكاغو. وفي نفس الوقت لعبت ظروف العصر حينذاك دوراً هاماً في تحديد الموجهات النظرية والتصورية لهذه المدرسة. فقد ظلت التناقضات واضحة بين (المدينة) و(الريف) في الولايات المتحدة مما سهل النظرة إلى المستوطنات الحضرية على انها تمثل شكلاً متميزاً وفريداً من نوعه عن اشكال التنظيم الاجتماعي.
ومثلت النظر إلى المدينة على انها شكل متميز من اشكال المجتمعات المحلية الإنسانيّة اتجاهاً اساسياً في تراث علم الاجتماع الحضري، حتى التعديلات التي لحقت مجال العلم ومداخل دراسته واساليب بحثه كانت انعكاساً واضحاً لما طرأ على هذه النظرة من تعديل مستمر. وشهدت دراسة المدينة مداخل نظرية عديدة، كان من ابرزها واكثرها ارتباطاً بالاطار العام للتحليل السوسيولوجي مرحلتان متميزتان هما المدخل الايكولوجي والمدخل التنظيمي أو السلوكي، ولقد كان مدخل المتصل الريفي ـ الحضري بمثابة رد الفعل أو التعديل المباشر للمدخلين السابقين. ويستند هذا المدخل إلى فكرة ان اي خاصية للظاهرة بدرجة معينة وان هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى التجريبي أو الواقعي. ومن ثم يشير المتصل الريفي ـ الحضري إلى وجود نوع من التدرج بين خصائص الريفية والحضرية اشبه بخط مستقيم. حيث تتزايد درجة اي خاصية أو تقل بنسب متفاوتة تُمكن من تصنيف المجتمعات وفقاً لوقوع خصائصها على نقطة معينة على طول هذا المتصل. وتسهل بالتالي من تفسير الاختلاف والتنوع في انماط السلوك وأساليب الحياة(1).
وذهب عدد من الباحثين القدامى والمحدثين ــ سواء من كان منهم من المؤرخين الاجتماعيين أو من علماء الاجتماع ذي النزعة التاريخية ـ إلى ان ظواهر التحضر والحضرية وان كانت تمثل تغيراً ثورياً في النمط الكلي للحياة الاجتماعية، فانها لابد وان تكون نتاجاً لتطورات مجتمعية، بحيث لا يمكن فصلها عن السياق التاريخي الذي مهد لها أو دعمها، وانّه إذا كانت العملية تحدث وتزداد نمواً بمعدلات هائلة في كل انحاء العالم في الوقت الحاضر الا انها تختلف في صورتها ومداها واتجاهاتها باختلاف الزمان والمكان ايضاً. انها عملية لا تزال واقعة ومستمرة لم تتوقف بعد. وما زال الكثير من مصاحباتها ونتائجها ومشكلاتها تمثل واقعاً حياً تعيشه اجزاء عدة من ارجاء المعمورة. الامر الذي يجعل من الصعب التكهن باتجاهاتها المستقبلية ولقد ساعدت هذه الدراسات التاريخية لظواهر التحضر على دراسة المدينة في ضوء النماذج المجتمعية وفي تتبع نموها ومعرفة خصائصها في الثقافات المختلفة وخاصة التاريخية منها ومكنت من تجنب التصور الخاطىء: «بأن الحياة الحضرية بخصائصها المعروفة نتاج للثقافة المعاصرة» ذلك التصور الذي من شأنه أن يعزل الطابع الحقيقي للحياة الحضرية عن السياق التاريخي الذي دعمها وجعلها تتخذ اتجاهات محددة. ولعل من اهم ما اسهمت به هذه الدراسات التاريخية انها مهدت الطريق لتحليل عمليات التحديث في دول العالم الثالث وتوجيهها، حيث تبذل في الوقت الحاضر جهوداً مكثّفة نحو محاولة اختبار مدى صدق النظرية الغربية بتطبيقها على واقع الدول النامية باستخدام المنهج المقارن.
الاتجاهات النظرية الكلاسيكية ودراسة المدينة:
ويمكن عرض الاتجاهات النظرية الكلاسيكية التي تتناول موضوع المدينة، وتعطي تفسيراً لنشأة المدن ولظاهرة التحضر. ثم تقييمها وهل يمكن تطبيقها على واقع المدينة العربية الإسلامية وتبدأ بالاتجاه التاريخي
(1) الاتجاه التاريخي
يعتبر الاتجاه التاريخي احد اتجاهات علم الاجتماع الحضري وهو يصور تطور اشكال المجتمعات المحلية الحضرية الاولى. ويهتم هذا الاتجاه كذلك بدراسة تحول المناطق الريفية إلى مناطق حضرية، ويتناول التطور والانتشار الثقافي والحضري(2).
ويتمثل هذا الاتجاه في كتابات ن. س. ب. جراس N.S.B. Grass (1922) ولوتش Loche (1937) وهاريس واولمان Harris g Olman (1945). فقد ناقش هؤلاء العلماء الجذور التاريخية للمناطق الحضرية وطبيعتها وتنوعها وخصائصها. ومن اشهر محاولات الاتجاه التاريخي تلك التي قدمها جوردن تشيلد Child حيث يحدد ملامح ما اطلق عليه (الثورة الحضرية المبكرة) ومن بين هذه الملامح الاستيطان الدائم في صورة تجمعات كثيفة، وبداية العمل بالنشاطات غير الزراعية، وفرض الضرائب وتراكم رؤوس الاموال، واقامة المباني الضخمة وظهور طبقة حاكمة مسيطرة، وتطور فنون الكتابة، وتعلم مبادىء الحساب، والهندسية، والفلك، واكتساب القدرة على التعبير الفني ونمو التجارة(1).
وتناول فوستيل دي كلانج Fustel de Couange تاريخ المدينة العتيقة وارجعها إلى نفوذ الدين الحضري، وعرض لويسى ممفورد المدينة من جهة نظر تاريخية والقى الضوء على نموها وكبر حجمها واشار إلى انها تمر بمراحل ونماذج معينة هي:
1 ـ مرحلة النشأة Eopolis.
2 ـ مرحلة المدينة Polis.
3 ـ مرحلة المدينة الكبيرة Metropolis.
4 ـ مرحلة المدينة العظمى Megalopolis.
5 ـ مرحلة المدينة التيرانوبوليس Tyrannopolis.
6 ـ مرحلة المدينة النكروبوليس Nekopolis.
مرحلة النشأة: ويقصد بها المدينة في فجر قيامها، وتتميز بانضمام بعض القرى إلى بعضها واستقرار الحياة الاجتماعية إلى حد ما، وقد قامت المدينة في هذه المرحلة بعد اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان، وقيام الصناعات اليدوية والحرفية.
مرحلة المدينة: وتمتاز بوضوح التنظيم الاجتماعي والاداري والتشريع، وتتفشى فيها التجارة، وتتسع الاسواق للمبادلة، وتتنوع الاعمال والوظائف والاختصاصات وتتميز بالتمييز الطبقي بين مختلف الفئات، واتساع اوقات الفراغ، وظهور الفلسفات، ومبادىء العلوم النظرية والاهتمام بالفلك والرياضيات وقيام المؤسسات والفنون ونشأة المدارس، وعقد حلقات المناظرات.
مرحلة المدينة الكبيرة: وتعرف بالمدينة الام، ويتكاثف فيها عدد السكان، ويتوفر فيها الطرق السهلة وتربطها بالريف شبكة من المواصلات السريعة. وتهتم الحكومة فيها بتحقيق مطالب سكانها، وتنفرد بمميزات خاصة كالتجارة أو الصناعة. وتتنوع الوظائف وتعدد المهن والتخصص ونشأة المعاهد الفنية العليا.
مرحلة المدينة العظمى: وتتمثل في انبثاق المدن العظمى في القرن التاسع عشر، ويبدو في هذه المدن التنظيم الآلي والتخصص وتقسيم العمل. وظهور الفردية وتنتشر النظم البيروقراطية في الادارة واجهزة الحكم، ويظهر الصراع الطبقي بين العمال واصحاب الاعمال، مما يؤدي إلى تناقضات اجتماعية وفساد في الادارة، وتنتشر الانحرافات والجرائم في محيط الاحداث.
مرحلة المدينة التيرانوبوليس: وتمثل اعلى درجات الهيمنة الاقتصادية للمدينة، فيها تعتبر مسائل (الميزانية والضرائب والنفقات) من اهم الميكانيزمات المسيطرة، كما تظهر المشكلات الادارية والفيزيقية والسلوكية الناجمة عن كبر الحجم.
ويشهد المجتمع حركة واسعة النطاق للرجوع إلى الريف أو إلى مناطق الضواحي والاطراف هرباً من ظروف العيش غير المرغوبة.
مرحلة المدينة النيكروبوليس: ويمثل هذا النموذج الحضري نهاية المطاف في مراحل التطور التاريخي، ومع انّه لم يتحقق بعد، الا انّه آت لا محالة ـ في نظر ممفورد ـ عندما يصل الانحلال إلى ذروته مقترناً بافول الحضرية، واحياء جديد للريفية، وظهور مدن الاشباح.
ويؤخذ على نظرية ممفورد انها تعمل على تحطيم الحضارة والفنون والعلوم وتدعو إلى الحروب(1).
وتناول يوسكوف الاشكال الحضرية التي ظهرت في العالم منذ فترة تمتد إلى ما قبل الميلاد، وتصل إلى العصر الحديث، وحدد هذه الاشكال في ثلاث موجات حضرية تتلخص في الآتي:
الموجة الحضرية الاولى (سنة 4500 قبل الميلاد ـ سنة 500 بعد الميلاد) وهي الفترة الكلاسيكية للتحضر، حيث ظهرت المراكز الحضرية حول احواض الانهار واوديتها التي استخدمت لزيادة انشطة الزراعة ونقل المحاصيل، ونشأت هذه المدن تؤدي وظيفتها الدفاعية لصد هجمات المغيرين.
الموجة الحضرية الثانية (سنة 1000 ـ 1800 بعد الميلاد) وتميز هذه الفترة بامتداد المراكز الحضرية واتساع نطاقها، وارتباطها بالنمو الصناعي المكثف(2).
لقد استعرض يوسكوف الفترات التاريخية لعملية التحضر التي ميزت المجتمع العالمي. اما ايريك لامبارد E.Lampard فقد اهتم بتوضيح اشكال التحضر التي مرت بالعالم فرأى انّه يمكن التمييز بين اربعة اشكال هي(3):
التحضر البدائي Primordial Urbanzation وتحدث فيه محاولات عديدة من قبل الإنسان ساكن المركز العمراني بصفة عامة لاحداث التكيف مع البيئتين الفيزيقية والاجتماعية.
التحضر المميز المحدد Defintive Urbanization ويبدأ في هذا الشكل ظهور المدن وتتحدد وظائفها وتستبين خصائصها، وتبرز مشكلاتها ورغم ان هذا الشكل قد ساد مناطق العالم بصفة عامة الا انّه كان اوضح بالنسبة لمناطق بذاتها وهي تلك التي شهدت مولد المدن الاولى بالعالم (مصر، والعراق).
التحضر الكلاسيكي Classic Urbanization وهو المرحلة الاخيرة التي بدأت تتضح معالمها مع بدايات القرن العشرين حيث سعى سكان المناطق المجاورة للمدينة إلى الهجرة اليها والاستقرار بها سعياً وراء فرصة عمل متاحة بدرجة اكثر في المجال الصناعي وتدر دخلاً اكبر وتحقق في ذات الوقت مستوى معيشياً اعلى. ولم يخل هذا الشكل من الظواهر التي ترتبت على تركز العمال بالمدن وارتبطت بعلمهم مثل الغياب، والانحراف والسكن، وقضاء وقت الفراغ.. الخ.
(2) الاتجاه التنظيمي
ينظر الاتجاه التنظيمي إلى المدينة باعتبارها شكلاً فريداً من النسق الاجتماعي أو التنظيم يشتمل على تطوير وسائل الاتصال والميكانيزمات الاجتماعية والسياسية بما يسمح بانتقال المجتمع من الشكل البسيط إلى صورة اكثر تعقيداً. كما ان التحضر معناه تراكم التطور والتعقد النظامي. ويحتوي ذلك التعقيد النظامي تاريخياً على تطور الحكومات المركزية القوية. وتطوير الاسواق المحلية والاقليمية والعالمية. وانتشار الاشكال المختلفة للتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، كالنقابات واتحادات العمال وروابط اصحاب العمل.. الخ فضلاً عن التغييرات التي لحقت ببناء وحدات التنظيم القائمة ووظائفها كالاسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية، واتساق المكانة، والتدرج الطبقي والتكامل المعياري وبناء القوة وطبيعة الضبط الاجتماعي والبيروقراطية.
وفيما يرى «ويرث» فكلما زاد عدد الكسان، وارتفعت معدلات كثافتهم وعظم تباينهم، عبر ذلك عن المظاهر الحضرية، تلك التي تتمثل في ضعف الروابط القرابية، واختفاء روابط الجيرة وانهيار الاسس التقليدية للتماسك الاجتماعي، وتصبح العلاقات الاجتماعية علاقات غيرشخصية، وانتقالية، ومؤقتة، وعابرة، وجزئية، مما يؤدي إلى افول العلاقات الاولية، ليحل محلها العلاقات الثانوية، ويحل الضبط الرسمي محل روابط التضامن.
اما متغير اللاتجانس فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغير «الحجم» و«الكثافة» وهو يؤدي إلى سلسلة من الظروف الاجتماعية لعل من اهمها ظهور نسق اكثر تعقيداً للتدرج الطبقي، وزيادة معدلات الحراك باشكاله الفيزيقية والاجتماعية، وتكوين شخصية «عالمية كوزموبوليتية».
وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التمايز إلى نوع من الجمود يسيطر على حياة المدينة مما يعمل على وجود نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية.
كما ان تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به في تفكك الشخصية وزيادة معدلات الجريمة والانتحار والمرض العقلي.
كما اشار روبرت إلى ان التغيرات التي ترتبط بالتحضر قابلة للانشار إلى خارج المدينة.
ويؤخذ على نظرية لويس ويرث انّه استهدف اطلاق تعميمات تنطبق على جميع المدن، مع ان استنتاجاته لا تنطبق الا على المدن الصناعية وحدها. كذلك فان وضع نتائجه في ضوء ظروف حياة المدينة في فترة العشرينات والثلاثينات من هذا القرن. وهي فترة تميزت بمعدلات انتاجية منخفضة، وانهيار اصحاب المناطق الداخلية في شيكاغو. وندلل على ذلك بان كثيراً من المثقفين الامريكيين ابدوا قلقهم البالغ على ظروف التفكك الاجتماعي والتباين الثقافي والكساد الاقتصادي الذي تعرضت له الولايات المتحدة. اما المناطق الخارجية فقد خرجت من مجال دراسته. يضاف إلى ذلك ان المدن الامريكية خلال الفترة التي وضع فيها نظريته تميزت بالهجرة اليها من بلدان اقل حضارة. اما الانتاج فقد بدأ بالارتفاع بعد ظهور هذه النظرية. ويظهر خطأ نظرية ويرث في انّه اعتبر ان العلاقات الثانوية قد حلت محل العلاقات الدولية بينما تبين من نظريات اخرى ان العلاقات الاولية والجيرة تعد من مظاهر الحياة اليومية بين ساكن المدن. ومن ناحية اخرى فقد اكتشف علماء الاجتماع ان المناطق الريفية في انجلترا تتسم العلاقات الاجتماعية فيها بالتنوع والتعقيد. وتتجلى هذه العلاقات في صور متعددة تتمثل في الجيرة، والنسب، والزواج، والعضوية في الكنيسة، والعضوية في جماعات عمرية متقاربة، وفي النوادي الاجتماعية. وقد اكد مان هذا المعنى، فالتنقل من المجتمع الريفي إلى المجتمع الحضري في رأيه لا يؤدي بالضرورة إلى التغير في العلاقات الاجتماعية من علاقات اولية إلى علاقات ثانوية.
وقد اعترض اوسكار لويس في كتابه ثقافة الفقر Cluture of Poverty على نظرية ويرث. وقال ان المهاجرين من ريف المكسيك إلى مدنه قد احتفظوا بعائلاتهم الممتدة، وتبدو اهمية الجماعات الاولية للانسان الحضري مثلما تبدو اهميتها للانسان الريفي.
ويذكر ويرث ان الضبط الرسمي يسود بين سكان المدن. ومع ذلك يلاحظ قلة اهمية الضبط الرسمي في النسق الحضري. وتبدو اهمية الضبط غير الرسمي. هذا ولم يقتنع علماء النفس بالخصائص التي ذكرها ويرث للحياة الحضرية.
ففي رأيهم ان الحجم والثقافة والكثافة واللاتجانس وهي حقائق ديموجرافية لا تمت بصلة إلى الجانب السيكولوجي، واخيراً يؤخذ على لويس ويرث انّه لم يضع تحت الاختبار اكثر من الخصائص التي ذكرها وهي الحجم والكثافة واللاتجانس، وأغفل ذكر المراحل الهامة التي تؤثر بها الخصائص الحضرية على الشخصية والاتجاهات.
وبالرغم من النقد الذي وجه إلى نظرية ويرث، فلم تقدم نظريات اخرى في الفكر الغربي أو علم الاجتماع الكلاسيكي تصوراً وادراكاً شاملاً لطبيعة حياة المدينة كما فعلت نظرية ويرث.
(3) الاتجاه السيكولوجي
الاتجاه السيكولوجي يحاول ان يفسر المجتمع في ضوء علم النفس الاجتماعي، وذلك بالتركيز على الذات واتجاهات الفرد وعواطفه ودوره في العقل الجمعي، وبمعنى آخر كيف يفسر الفرد الجماعة؟ في ضوء هذا التصور فان الجماعات ليست موجودة فيزيقياً وانما هي مجرد حصيلة جمع عدد من الافراد يلعب فيها الفرد دوراً.
ويلجا الاتجاه السيكولوجي في مجال التنمية الحضرية إلى اكتشاف الضغوط السيكولوجية ومواقف الافراد في محاولة لفهم الظروف الإنسانيّة المعقدة، في المناطق الحضرية على وجه الخصوص ويعتبر ماكس ويبر Max Weberمن انصار اعلى درجات الفردية/التفرد.
وبعيداً عن محاولة تصور المجتمع المحلي الحضري في ضوء ثنائية متعارضة الاطراف أو في ضوء متصل تتدرج على طوله خصائص كلا المحورين أو القطبين الريفي والحضري برزت محاولات اهتمت بتحليل المجتمع الحضري كظاهرة تستحق الدراسة لذاتها ودون حاجة إلى مقارنتها بظواهر اخرى معارضة. وقد عرفت هذه المحاولات بالتصورات الاستنباطية. وسبب هذه التسمية ان اصحابها كانوا يستدلون على صحة نظرياتهم بالاسلوب المنطقي فكانوا يبدأون تصورهم للمجمع الحضري ـ والمدينة بصفة خاصة ـ ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات أو مصادرات في غير حاجة إلى برهان، ثم ينتقلون عنها إلى استنباط قضايا اخرى غيرها تمثل خصائص مميزة لحياة الحضرية. ويتوقف صحة النتائج على صحة المقدمات وسلامة التسلسل المنطقي. ومن هذه المحاولات كانت نظرية لويس ويرث التي سبق ذكرها.. وتبعه في نفس الاسلوب جورج زيمل G. Simmel لكنه بدأ في تصوره للحياة الحضرية بخصائص اجتماعية ـ وليست ايكولوجية كالحجم والكثافة واللاتجانس. كبديهيات يستنبط منها مختلف الخصائص والنتائج السيكولوجية، وشرع في تحديد ما يمكن ان يترتب على التعقيد النظامي غير المحدود للمدن الكبرى من نتائج على سيكولوجية الافراد. وانتهى زيمل إلى نفس النتائج التي توصل اليها ويرث على اساس متغيرات الحجم والكثافة واللاتجانس. مثال ذلك ان زيمل كان على يقين بان ساكني الحضر بحاجة ماسة إلى مزيد من الدقة والتوقيت ليتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم وسط هذه الشبكة المعقدة للوظائف الحضرية، وان من اهم نتائج هذا التعقيد تطوير اقتصاد السوق والتنظيمات البيروقراطية الكبرى، وسيطرة روح العقلانية والعلاقات اللاشخصية، وهذا ينعكس بدوره على شخصية الحضري. فلكي يتوافق الحضري مع هذا التعقيد النظامي عليه ان يكون اكثر عقلانية واحساساً بالكم والوقت ان «المال» و«العقل» وليس «الروح» اول «القلب» يصبحان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان في المدينة يشعر انّه في حالة ضياع نظراً لتعدد جوانب الحياة فيها، هذه الحالة النفسية هي التي تجعل الناس يبتعدون عن الاستجابة العاطفية نتيجة لتعقد الحياة الحضرية الامر الذي تصبح معه العلاقات بين الإنسان واقرانّه وبينه وبين البيئة عموماً علاقات جزئية.
وبالمثل تابع كنجز دافز K. Davis نفس الطريقة الاستنباطية في حديثه عن المجتمع الحضري اذ استطاع ان يتوصل إلى استنتاج عدد كبير من الخصائص الحضرية التي تترتب على «زيادة الحجم» المرتبطة بعملية التحضر كمقومات مسلم بها. وتختلف هذه الخصائص كثيراً عن نتائج ويرث، حيث اشار دافيز إلى ان اهم النتائج التي تترتب على الحجم هي زيادة التغير الاجتماعي وانتشار العلاقات السطحية الثانوية وتطوير الروابط الطوعية، كما ان تزايد الكثافة يعني في نظره زيادة الاتجاه نحو العزل المكاني وانتشار الفردية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة سيطرة وسائل الضبط الرسمي.. الخ.(1)
ويؤخذ على الاتجاه السيكولوجي انّه في تحليله للظواهر الاجتماعية يرجعها إلى ظواهر نفسية من صنع الافراد وكأن المجتمع ليس له وجود والحق انّه تحدث في المجتمع امور لا يصح ان ننسبها إلى افراد معينين، وذلك لانها تنشأ من علاقات الاراد في حالة الاجتماع وتبادل وجهات نظرهم وتفاعل افكارهم واحتكاك مشاعرهم وتوحد مواقفهم. هذا بالاضافة إلى ما يحيط بهم من ظروف طبيعية وبيئية وتاريخية تصهرهم جميعاً في بوتقة جمعية وتؤدي إلى ظهور عقل جديد للجماعة وهو ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميته بالعقل الجمعي. وهذا العقل مستقل عن الافراد، وله منطق خاص ومظاهر للسلوك تختلف عن مظاهر السلوك الفردي.
كذلك فان المدرسة النفسية ترفض مشاركة الفرد في حياة المجتمع وحاجياته في حالة احتياج الفرد للمساعدة.(2)
(4) اتجاه التوجه القيمي والثقافيValue - Orientation
تؤكد هذه الدراسة على متغير القيم الثقافية أو الاجتماعية كمتغير محوري عند دراسة انماط استخدام الارض والبنيات الحضرية الاجتماعية. وتدخل كتابات ماكس فيبر في اطار تراث هذه المدرسة فقد اعتبر فيبر قيم الإنسان الاجتماعية الثقافية المتغير المفسر المستقل على حين اعتبر البناء الاجتماعي للمدينة متغيراً تابعاً.(3)
ورغم ما تعرضت له مدرسة القيم من وجوه نقد عديدة فان كثيراً من العلماء الاجتماعيين اكدوا ان القيم لا يمكن تجاهلها.
ودليل ذلك ان كل من ديكسون في كتابه «مدينة الغرب الاوروبي» وجونز في كتابه «الجغرافيا الاجتماعية للبلفاست» وفون جروندام في مقال عن المدن الإسلامية اجمعوا على اهمية القيم الثقافية وتأثيرها على الايكولوجيا الحضرية. ففي المدن الإسلامية تحدد القيم الدينية الانشطة الموسمية لدرجة كبيرة. فعندما ينادي المؤذن للصلاة تتوقف بعض الانشطة، وفي شهر رمضان تتغير ساعات العمل ومواقيت الانشطة اليومية وتتعرض بعض الانشطة الاخرى في مجالات التجارة والصناعة لبعض التقلصات الوقتية مما يوضح اهمية القيم في تفسير بعض الانماط الاكولوجية من هذا النوع.
ويكاد يقر كثير من علماء الاجتماع ان القيم تتدخل في تشكيل كثير من الظواهر الاجتماعية داخل المراكز الحضرية. فقد وظف فيبر في كتابه عن المدينة فكرة ان القيم تعد عنصراً مسؤولاً عن كثير من وجوه التباين القائمة بين المدن في العديد من الوضعيات الثقافية المميزة.
ولقد سيطرت هذه الفكرة كذلك على اتجاهات الباحثين الذين يدرسون التنظيم الاجتماعي من خلال الرؤية الحضارية المقارنة.
(5) التطور الاقتصادي
تمثل الحضر فيه وفقاً لهذا التصور مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاقتصادي البشري وبالتالي ارتبط التحضر والنمو الحضري، بحركة الانتقال والتحول إلى التنظيمات الاقتصادية الاكثر تعقيداً أو بمعنى ابسط الانتقال من حالة تقوم فيها الحياة الاجتماعية على اساس العمل أو الانتاج الاولي كالصيد والزراعة إلى حالة تقوم فيها الحياة عى اساس العمل الصناعي والتجاري والخدمات، أو هي بعبارة ثالثة حالة الانتقال من اقتصاد المعيشة إلى اقتصاد السوق، والواقع لقد ترجم هذا التصور في صياغات وعبارات مختلفة، اكدت كلها الاتجاه الذي غلب على معظم الدراسات الحضرية الغربية والاميركية بصفة خاصة التي اكدت الارتباط بين عمليتي التصنيع والتحضر.(1)
لاشك ان عملية الانتاج الزراعي والصناعي في تطور وتحول اساسي دائم، وفقاً لنمو العلم وعمقه، فبينما كان يستخدم الإنسان في انتاجه المحراث اصبح يستخدم الكهرباء والذرة كما ان النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض بما فيها علاقات التوزيع ـ هو الآخر أيضاً لم يتخذ صيغة ثابتة في تاريخ الإنسان بل اتخذ الواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.
والاقتصاد الماركسي يرى ان كل تطور في عمليات الانتاج واشكاله يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية وعلاقات التوزيع خاصة، فلا يمكن ان يتغير شكل الانتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم، كما لا يمكن أيضاً ان تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الانتاج في تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك ان المستحيل ان يحتفظ نظام اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن أو ان يصلح للحياة الإنسانيّة في مراحل متعددة من الانتاج لان اشكال الانتاج تتطور خلال التجربة البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية.
فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية، ما ذام شكل الانتاج مختلفاً في المجتمعين، وعلى هذا الاساس تقدم الماركسية المذهب الاشتراكي باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للانتاج في تلك المرحلة.(2)
واما الاقتصاد الاسلامي فهو يرفض هذه الصلة الحتمية بين تطور الانتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى ان للانسان حقلين يمارس في احدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله ان يستثمرها ويسخرها لاشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الافراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، واشكال الانتاج هي حصيلة الحقل الاول، والانظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين ـ بوجوده التاريخي ـ تعرض لتطورات كثيرة في شكل الانتاج. أو في النظام الاجتماعي ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات اشكال الانتاج وتطورات النظم الاجتماعية، ولاجل ذلك فهو يعتقد ان بالامكان ان يحفظ نظام اجتماعي واحد بكيانه وصلاحياته على مر الزمن مهما اختلفت اشكال الانتاج.
وعلى اساس هذا المبدأ «مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الانتاج» يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي بوصفه نظاماً اجتماعياً صالحاً للامة في كل مراحل انتاجها. وقادراً على اسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الارض بيدها.(1)
وان قيام المدن الإسلامية في القرن السابع الميلادي لم يكن بسبب التغير والتطور في وسائل الانتاج ولم يكن بسبب التطور الاقتصادي والنشاط التجاري القائم في مكة اهم مدن الجزيرة العربية، بل كانت هناك حضارات ومدن اكثر اهمية من الناحية التجارية والاقتصادية والحضارية. ومع ذلك تعرضت للذبول والانهيار وانتظرت الدور القيادي للمدينة العربية.
وانبثقت الثورة الحضرية من الجزيرة العربية لتمتد وتنتشر في كل مدن الشرق الاوسط حتى شمل مدن الامبراطورية الرومانية والمدن اليونانية والبيزنطية.
النظرية الايكولوجية ودراسة المدينة:
تشير هذه التسمية في علم الاجتماع الحضري إلى اعمال مدرسة شيكاغو أو المدرسة الاميركية التي عرفت باعمال ثلاثة من رواد علم الاجتماع في أميركا هم روبرت بارك وارنست بيرجي ورودريك كينزي، تلك الاعمال التي وضعت منذ البداية الاطال النظري العام الذي انطلقت من خلال العديد من الدراسات اللاحقة التي كانت لها مكانتها العلمية واهميتها النظرية في تاريخ العلم مثل دراسات لويس ويرث وروبرت دوفيلد وميلتون سينجر وغيرهم.
اما بارك فقد صاغ الاطار العام للنظرية، حين ذهب إلى اعتبار المدينة (مكاناً طبيعياً لاقامة الإنسان المتحضر) وعندما صورها على انها «منطقة ثقافية» لها انماط ثقافية خاصة بها، ان المدينة في نظره «تيار طبيعي» يخضع لقوانين خاصة به، ولانها كذلك فانه من الصعب تجاوز هذه القوانين لاجراء اي تعديلات في بنائها الفيزيقي أو نظامها الاخلاقي وهي ـ اي المدينة ـ بناء متكامل ـ بمعنى ان ما يصدق عليها ينسحب على كل قسم من اقسامها الفرعية ـ بحيث تصبح لكل محاورة من محاوراتها خصائص مميزة استمدتها من خصائص سكانها، لتكشف عن استمرار تاريخي خاص بها ـ وعلى هذا الاساس فان المدينة تمثل وحدة على درجة عالية من التنظيم من حيث المكان، انبثقت وفقاً لقوانينها الخاصة. عند هذا الحد يأتي دور ارنست برجسي ورودريك ماكينزي، حيث يرجع الفضل إلى اولهما في تحديد التنظيم الخارجي للمدينة من حيث المكان ذلك التنظيم الذي اصبح سمة مميزة للنظرة الايكولوجية بينما يهم ماكينزي بدوره في ابراز القوانين الداخلية والعمليات التي تسيطر على هذا التنظيم.
ان سيطرة التوجيه البيولوجي كان واضحاً على النظرية الايكولوجية في صورتها الاولية. غير ان ذلك لا يعني ان بارك حاول ان يطور نظرية اجتماعية للمماثلة العضوية شأنه شأن سبنسر وغيره من علماء الاجتماع الاوائل. وانما عنى في الاساس بالبحث على عدد من المبادىء أو الاسس التي تبسط دراسة التنظيم الاجتماعي وتجعله اكثر قابلية للتحليل بمعنى انّه اي بارك عني بصياغة ايكولوجية حاول بعدها توضيح مدى ملائمتها أو كفاءتها للمعالجة السوسيولوجية للمجتمع الحضري.
ولقد حقق بارك هذا الهدف من خلال تحليله النظري للتنظيم الاجتماعي إلى مستويين: مستوى حيوي وآخر ثقافي. اما المستوى الاول فيمثل البناء الاساسي أو التحتي للتنظيم، فيه تكون المنافسة هي العملية الاساسية والموجهة. ويكون البقاء للاقوى هو القانون المسيطر وفي مقابل ذلك يمثل المستوى الثقافي بناء فوقياً، يكون فيه الاتساق والتماثل والاتصال اهم العمليات المنظمة وتكون التقاليد والنظام الاخلاقي هو القانون المسيطر.
ويمثل المستوى الاول المجتمع المحلي، بينما يعبر المجتمع عن المستوى الثقافي بالمعنى الذي يفرض فيه «البناء الفوقي» ذاته على البناء «التحتي أو الحيوي» اما الايكولوجيا فتعنى في الاساس بدراسة وتحليل المستوى الاول بينما تخرج تركيبات النظام الثقافي عن دائرة اهتمام البحث الايكولوجي.
فالايكولوجيا توجه في الاساس لتوضيح وبحث العمليات والعوامل التي تحقق التوازن الحيوي في المجتمع. فهي اذاً دراسة وصفية وتحليلية لكل مظاهر التركيب المادي والحيوي للبيئة الحضرية.
ويتحقق اكبر انجاز للنظرية الايكولوجية في صورتها الاولى على يد ارنست بيرجي E. Burgess، وبخاصة فيما قدمه من تصور نظري للنمط الايكولوجي للمدينة. وتعرف هذه النظرية باسم نظرية الدوائر المتمركزة أو بالتصور الحلقي. ويطلق بيرجسي اقرب الحلقات إلى الداخل أو المركز «حي الاعمال المركزي» وهو يقع في قلب المدينة، وفي الحلقات المحيطة بذلك المركز تتحرك حلقات اخرى تجاه الحافة الخارجية للمدينة. تمثل الحلقة الاولى منطقة الاعمال المركزية. وفيها تدور اكثر نشاطات المدينة كثافة، وتقع على اطرافها حلقة ثانية هي منطقة التحول والانتقال التي تتعرض باستمرار للتغير نتيجة اتساع ونمو الحلقة الاولى، كما تتميز بكثافتها السكانية العالية وظهور التفكك الاجتماعي. اما الحلقة الثالثة فتضم منطقة سكنى الطبقات العاملة، ويليها منطقة الفيلات وفي النهاية تقع الحلقة الخاصة خارج حدود المدينة، حيث تشكل الضواحي والاطراف مناطق سكنية لذوي الدخل المرتفع. وقد عالج بيرجسي نمو المدينة في ضوء امتدادها الفيزيقي وتمايزها في المكان. ان هذه الحلقات الخمس تمثل في نظره مناطق متتابعة من الامتداد الحضري. وهو في تأكيده لهذا الوصف الفيزيقي، ذهب إلى ان ظاهرة النمو الحضري هي نتيجة لازمة لعمليات التنظيم والتفكك في نفس الوقت تشبه تماماً عمليات الهدم والبناء في الكائن العضوي.
وإذا كان كل من بارك وبيرجي قد صورا المدينة ككيان فيزيقي يتميز بحلقاته ودوائره الخمسة، فان ماكينزي جاء بدوره ليوضح القوانين والعمليات التي تعمل داخل هذا الكيان وتفسر بالتالي وجود هذه المناطق المميزة. وذلك من خلال عمليات كالمنافسة والتركز والتركيز والعزل والغزو والتتابع.
وقد تعرضت النظرية الايكولوجية الحضرية لنقد حاد وكان عامل الزمن والظروف المجتمعية هو اكبر نقد حقيقي وجه للنظرية فقد عجزت عن مواجهة التغييرات التي مرت بها المدينة، واصبح من الصعب تطبيقها لتفسير هذه التغيرات. لقد اكدت التجارب ان كثيراً من الدراسات الوصفية والقضايا النظرية التي عرضتها مدرسة شيكاغو في صورتها المبكرة، كانت عبارة عن تصوير وتفسير لحال مدينة شيكاغو في فترة معينة من تاريخها، بحيث يصبح من الصعب تطبيقها لتفسير الحياة الحضرية بوجه عام، بل لتفسير مدينة شيكاغو ذاتها في مرحلة ما بعد التغيير ـ ولعل اهم ما وصفت به النظرية الايكولوجية المبكرة، انها كانت تسير في طريق خاطىء في تحليلها لظاهرة الحضرية، وذلك عندما وجهت كل اهتمامها إلى الجوانب الجيوفيزيقية Geophysieal للمدينة، دون ان تهتم بحياتها الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ـ على حد تبير دون مارتندال(1) هي بناء التفاعل وليست بناء الحجر والصلب والاسمنت والاسفلت.
ولقد كان من اهم ما انتقدت بشأنه النظرية ذلك الفصل الحاد بين المجتمع Societyوالمجتمعت المحلي. وحصر التحليل الايكولوجي في نطاق المجتمع المحلي وحده. ان محاولة بارك هذه كانت تعني تجاهلاً واضحاً لاهمية العوامل الثقافية، الامر الذي جعل النظرية تواجه بنفس الانتقادات التي وجهت للحتمية الجغرافية. ولم يكن تركيز بارك وبيرجسي على البناء الفيزيقي للمدينة كما لم يكن تأكيدهما على القوانين الخاصة للمدينة «كبيئة طبيعية» يقلل من اثر النقد الحاد الموجه للنظرية لتجاهلها دور العوامل الثقافية.
فالمكان الحضري ليس مجرد موقع فيزيقي طبيعي، بل يستخدم دائماً وفقاً لحاجات ثقافية تتحدد من خلال المشاعر والقيم والافكار ومن ثم فان النظرية الايكولوجية عندما تقوم باغفال العوامل الثقافية بهدف تبسيط مشكلة البحث، فانها تسلب البيئة الإنسانيّة أو تجردها من كل معنى.
ان النظرية الايكولوجية بهذا المعنى قامت على تصورات غير كافية لصياغة نظرية محددة المعالم في المدينة يمكن ان تتميز عن نظرية اخرى تعالج موضوعاً آخر في اطار النظرية السوسيولوجية. واكثر من ذلك فان هذه التصورات لم تكن من الكفاءة بحيث تميز النظرية السوسيولوجية والاقتصادية.
الاتجاهات النظرية ودراسة المدينة العربية الاسلامية
(تحليل نقدي)
تستند الاتجاهات النظرية لدراسة ظاهرة التحضر وتفسيرها على التجارب التي شهدتها المدن الغربية في التحضر، وهي تعبر عن واقع تلك المجتمعات وما شهدت من صراع طبقي وتناقضات اجتماعية وكذلك تعبر عن اثر الثورة الصناعية التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر. وتعبر عن الحضارة الغربية بكل ابعادها وخصائصها.
وتلك النظريات كانت تعتمد على معايير غربية في التحضر وتستند على مفاهيم ومصادرات وتعميمات نابعة من واقع تلك المجتمعات وما شهدته من تقدم صناعي وتكنولوجي وتقدم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كان الامر كذلك فهل تصلح تلك النظريات لدراسة ظاهرة التحضر في كل مكان وزمان؟ وهل يمكن دراسة المدينة العربية الإسلامية في ضوء تلك المداخل المعرفية والاتجاهات النظرية؟
ان الاجابة على هذا السؤال تعتمد اولاً على تقييم المفاهيم والتعميمات التي قامت عليها تلك الاطر النظرية ـ ولابد من اعطاء تعريف للمفاهيم والتعميمات، ان تحديد المفاهيم بدقة ضرورة تحتمها الموضوعية للوصول إلى نتائج سليمة في البحث. ولتجنب اعطاء اراء مسبقة لا يدعمها الدليل لابد من تقييم المفاهيم بعد تعريفها للنظر في امكانية قبولها في البحث.
خاصة واننا لا زلنا نستعمل معظم تلك المفاهيم الاجتماعية كما وردت في الدراسات الغربية، الامر الذي قد يساعد على خروج دراسات سطحية تزيف الواقع بدل توضيحه وتفسيره وذلك لعدم مطابقة المفهوم للواقع، وما هذا الا جزء ولكنه هام من الاخطاء الشائعة في دراساتنا الاجتماعية العربية.وللتعميمات اثرها واهميتها في هذا الخصوص وفي هذه النقطة بالذات والتعميمات هي:
عبارات تربط بين مفهويمن أو اكثر من المفاهيم. اي انها عبارات توضح العلاقة بين المفاهيم، وبما انها تعمل على ربط فكرة مجردة بغيرها فهي اكثر تجرداً منها، وتتضمن كلمة تعميم المعنى الذي يرى انّه يمكن تطبيق تلك العبارة عالمياً أو بصورة عامة. والتعميمات في الوقت نفسه عبارات افتراضية يعتقد بانها حقيقة True لان الادلة تعمل على تدعيمها.(1)
وما زالت التعميمات تمثل عبارات قوية ومختصرة تدور حول الخبرة البشرية. وفوق هذا كله فهي تركز على العلاقات بين الاشياء، وانّه يمكن تطبيقها في مواقف عديدة وتمثل هذه التعميمات بجانب المفاهيم، اهم دعائم تنظيم المحتوى الاساسي لمنهج العلوم الاجتماعية. لذا يفضل البعض ان يطلق على التعميمات اسم «عبارات المفاهيم Concepgt Statement» أو الافكار الاساسية وفي العلوم الطبيعية قد لا يثور اي اشكال يتعلق بتحديد المفاهيم أو المصادرات والفرضيات والقوانين وان كان ذلك وارداً فيما يتعلق بالتطبيق اي في مجالات التقنية واستخداماتها ذلك ان حدود التجربة الفيزياوية أو الكيمياوية وابعادها واضحة محددة، لكن الامر يختلف بشكل حاد إذا تعلق البحث العلمي بحياة البشر وسلوكهم ومجتمعاتهم، حيث تتداخل وتتشابك عوامل كثيرة تجعل من التعميم في المنهج وفي المضمون خروجاً على قواعد العلم ودخولاً في متاهات وتناقضات مما يؤدي إلى نتائج مبتسرة بعيدة عن الواقع.
وقد يكون للوضع الراهن في العلوم الاجتماعية ما يبرره من حداثة النشأة وعدم استقرار التقاليد العلمية، وظروف وتاريخ بزوغ هذه العلوم في المجتمعات الغربية المتقدمة صناعياً.
ان المفاهيم التي هي اهم اسس البناء المعرفي سواء من حيث البناء النظري، أو المنهجية أو حتى الاستخدامات للعلم. ولعل التوصل إلى القوانين يعتمد في اساسه والى حد كبير على دقة المفاهيم وتطابقها مع الواقع. فاذا استطعنا ان ندقق في معاني المفاهيم بما يتناسب والواقع العربي وخصوصيته، تمكنا عندئذ من بناء نماذج نظرية علمية تساعد في دراسة وفهم المجتمع العربي وفي اعطاء تفسير للظواهر الاجتماعية ومنها ظاهرة التحضر.
والمفاهيم ينطبق عليها نفس الكلام الذي ينطبق على النظرية وهي مشتقة من وقائع معينة ومن تجارب تاريخية خاصة على سبيل المثال مفهوم أو مصطلح القرون الوسطى الذي سبق النهضة، هذا التقسيم للتاريخ تقسيم اوروبي. فقد ارتبط تطور الشعوب الاوروبية بهذا التقسيم ولكن بقية اجزاء العالم لم تمر به ولم تعرفه والقرون الوسطى الاوروبية بدأت بما يعرف بالعصور المظلمة التي بدأت مع انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوط روما على يد القوط سنة 476 م ثم تلاه افول الغرب لمدة تزيد عن ستة قرون. ولكن هذه الفترة بالذات كانت شيئاً مختلفاً بالنسبة للمدن العربية ففي القرن السابع الميلادي شهدت المجتمعات العربية ثورة حضرية ادت إلى تطوير المدن في العالم العربي وظهور مدن جديدة. ومع بداية ظهور الإسلام بدأ العرب في انشاء المدن التي شهدت نمواً حضرياً لم يسبق له مثيل. وكانت المدن الإسلامية العربية تمثل درجة عالية من التحضر.
وبما ان مفهوم العصور الوسطى مرتبط بالمجتمعات الغربية فانه ليس صالحاً لتطبيقه عالمياً. ولا يقتصر الامر طبعاً على هذا المفهوم الذي يرتبط بالبحث بشكل مباشر، ولكنه ينسحب على كثير من المفاهيم المرتبطة بالتحضر، كالتحديث والتغيير الاجتماعي.
بالتحليل الموضوعي لعملية التحديث (Modernization Process) يجد الدارس:
انها عملية انسانية مستمرة ترتبط ارتباطاً مباشراً باستخدام وتطوير الإنسان الدائم للجانب المادي من المعرفة الإنسانيّة التراكمية واستقلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها ايجابياً لتحقيق التقدم الإنساني بصورة مستمرة.
وتؤدي اضطرارية عملية التحديث الإنساني الكلية لان يكون مفهوم العصرية متغيراً تبعاً لتغير في عامل الزمن. ففي اي حقبة زمنية يكون المجتمع أو المجتمعات التي تمتلك اكثر المعرفة المادية تقدما واكبر مقدرة على التحكم بالبيئة هي الاكثر عصرية من غيرها من المجتمعات المزامنة لها.
فالعصرية اذاً هي مفهوم نسبي يعكس اكبر مقدرة للانسان على التفاعل واستخدام البيئة في مرحلة معينة. وليس بمفهوم مطلق ينطبق على كل العصور، فلكل عصر عصريته، ولكل حقبة زمنية مواصفات ونموذج للعصرية.
فعصرية العصور الوسطى تختلف بالتأكيد عن عصرية وقتنا الحاضر، وهذه بالطبع ستختلف عن عصرية مستقبل ما بعد مئات السنين.
ولهذا السبب يجب ان يكون تحليل ظاهرة العصرية مشروطاً بالحقبة الزمنية التي يجري دراستها، وذلك لتلافي الوقوع في الالتباس بأن العصرية هي ظاهرة مطلقة من جهة، وحتى لا يتم استخدام اسس حديثة في المقارنة بين عصرية حقبة سابقة مع عصرية الوقت الحاضر بدون الاخذ بعين الاعتبار التغير الحاصل في عامل الزمن من جهة اخرى.
وإذا كانت عملية التحديث تهدف إلى التفاعل مع البيئة واستخدامها للرقي بالحياة الإنسانيّة. فان التاريخ قد شهد تطور عدة حضارات سابقة حاولت جاهدة وبقدر استيعابها وتطويرها للمعرفة الإنسانيّة التراكمية، استخدام البيئة بهذه الغاية، ونجحت بذلك ضمن المعطيات التاريخية التي وجدت فيها وبقدر الامكانيات التي اتيحت لها. وفي الحقيقة مثلت كل حضارة من تلك الحضارات الرائدة عصرية عصرها. فالحضارة الإسلامية كانت الاكثر عصرية قبل تطور الحضارة الغربية. وقبل ذلك كانت هناك الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والتي مثل كل منها عصرية الحقبة الزمنية التي سادت فيها. هذه النقطة غير واضحة في معظم الكتابات الغربية المتعلقة بالتحديث والتي ترى عصرية الغرب بدون سوابق، وكأن العالم لم ير أي نوع من العصرية سوى الغربية فعملية التحديث اقدم من عملية الغربنة من الناحية التاريخية.(1)
وفي هذه النقطة بالذات هناك تناقض واضح في الكتابات الغربية ويرجع هذا التناقض إلى انّه على الرغم من ايمان المختصين بفكرة ظاهرة العصرية بالمقدرة على التحكم بالبيئة، وانهم يتفقون على اعتبار عمية التحديث في المجتمع الإنساني عملية تاريخية عامة ابتدأت مع ظهور الإنسان واستمرت باستمرار محاولاته التفاعل مع البيئة المحيطة به واستخدامها لخدمة منافعه، على رغم ذلك فهم يؤكدون ان عملية التحديث ابتدأت مع بداية تبلور اسس الحضارة الغربية واقتصرت على المنهاج الذي تطورت من خلاله النظم السياسية الاقتصادية، والاجتماعية السائدة في الغرب. وكأن الإنسان لم يبدأ في التفاعل مع البيئة إلاّ منذ بداية تبلور اسس الحضارة الغربية، فبالرغم من ايمان دانكوارترستو بان التحكم بالبيئة هو اساس عملية التحديث، نجده يؤكد بان هذه العملية بدأت في اوروبا اثناء عصر النهضة، وامتدت إلى ما وراء البحار مع ابتداء التوسع الاوروبي، ويدعم س، ايزنستادت (S.N. Eisenstadt) هذه الفكرة فيذكر في كتاباته بأن عملية التحديث هي التغير نحو تلك الاشكال من النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطورت في اوروبا الغربية واميركا الشمالية منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر.
يقدم لنا كل من رأى دستور وايزتستادت مثالاً جلياً عن عدم وجود تمييز واضح عند الغربيين بين الغربنة والتحديث كعمليتين تاريخيتين منفصلتين ومما يثير الاهتمام بهذا الشأن اعتبار هؤلاء المختصين ان النقلة النوعية في المعرفة الإنسانيّة والتي استطاع الاوروبيون تحقيقها في عصر نهضتهم كانت الاولى من نوعها في التاريخ الإنساني وانها هي النقلة الوحيدة التي مكنت الإنسان من بسط نفوذه على البيئة.
ولم يعتبر هؤلاء ان النقلات المعرفية عبر العصور كانت ركائز اساسية اعتمد عليها الغرب في احداث نقلته الجديدة في المعرفة الإنسانيّة.
وبمعنى آخر تناسى هؤلاء بان تفاعل الإنسان مع البيئة ابتداء منذ وجد الإنسان وان التحكم بالبيئة الذين يعزون بدايته لعصر النهضة الاوروبي ما هو إلاّ حلقة متطورة من مسيرة الإنسان الطويلة في تفاعله مع بيئته. وما يثير الاهتمام بالفعل في هذه النظرة الغربية هو ليس كونها مغلوطة تماماً، ولكن كونها جزئية منتقاة للتاريخ الإنساني هدفها المحافظة على استمرار هيمنة النفوذ الغربي على بقية العالم.
فالادعاء بأن الغرب عصري في وقتنا الحاضر هو ادعاء صحيح وواقعي وليس لدينا أي دليل علمي يدحضه، ولكن الادعاء بأن التاريخ الإنساني لم يشهد عصرية قبل ظهور الحضارة الغربية هو ليس فقط ادعاء خاطئاً وانما يدل على عدم الموضوعية والتحيز الايديولوجي وروح الاستعلاء لدى الكتاب الغربيين.
ان تقييم النظريات الغربية في التحضر للنظر في مدى امكانية تطبيقها لفهم وتفسير ظاهرة نشأة المدن الإسلامية يحتاج إلى بحث مستقل.
والتوسع في تقييم ونقد المداخل النظرية الغربية وما تشتمل من مفاهيم وتعميمات ترتبط بالبناء المنهجي يتطلب دراسة متأنية، وفي هذا الحيز المتاح لا يمكن سوى الاثارة السريعة إلى ان دراسة المدينة العربية الإسلامية بمعايير غربية وفي ضوء النظريات الغربية للتحضر يؤدي إلى نتائج مبتسرة في البحث، ومحاولة تفسير ظاهرة التحضر في المجتمع العربي اعتماداً على الاطر الغربية يؤدي إلى تزييف الواقع ويؤدي إلى الغموض بدل الوضوح، ويؤدي إلى سطحية الدراسة.
منقووووووول