كينيث تاينان يكتب عن "في انتظار جودو"
الأوبزرفر 7 أغسطس 1955
عن كتاب: التراث النقدي الخاص بصمويل بيكيت
ترجمة أمير زكي
ديسمبر 2013
* كينيث تاينان (1927-1980) ناقد دراما ومستشار أدبي ومدير سابق للمسرح الوطني الإنجليزي. في الخمسينيات من القرن الماضي كان واحدا من أبرز نقاد المسرح في إنجلترا. من ضمن كتبه "الستائر" (1961)، و"تاينان على اليمين واليسار" (1967)، و"صوت يدين تصفقان" (1976).
ومقال تاينان التالي متعلق بعرض المسرحية في مسرح الفنون بلندن؛ في أول عرض باللغة الإنجليزية للمسرحية وكان من إخراج بيتر هول.
***
هناك فضيلة خاصة مرتبطة بالمسرحيات التي تُذَكِّر الدراما كيف يمكن أن تمضي بدونها وتظل المسرحية متحققة. بكل المعايير المعروفة فمسرحية "في انتظار جودو" لصمويل بيكيت عبارة عن خواء درامي. نشفق على الناقد الذي يبحث عن الفراغات فيها، لأنها كلها عبارة عن فراغ. بدون حبكة، بدون ذروة، بدون لحظة كشف؛ بدون بداية، بدون وسط، بدون نهاية. ولكن بشكل لا يمكن تجنبه، لديها موقف، وربما تُتَّهَم إنها تتضمن إثارة، طالما أنها تدور حول صعلوكين غير صبورين، ينتظران تحت شجرة شخصا غامضا يدعى السيد جودو، ليفي بموعده معهما: ولكن الموقف لا يتطور، وبنظرة لكتيب العرض نعرف أن السيد جودو لن يظهر. تتخلى "في انتظار جودو" بوضوح عن كل شيء نعرفه كمسرح؛ مثلها مثل شخص يصل للجمارك بدون حقائب أو جواز سفر أو أي شيء ليسافر به، إلا إنها تتحرك كمهاجر يصل من المريخ، إنها تقوم بمثل هذا الشيء كما أعتقد، بالارتباط بتعريف للدراما أكثر أساسية من أي التعريفات الموجودة بالكتب. مسرحية تؤكد وتدعم طريقة أساسية لقضاء ساعتين في الظلام بدون أن تشعر بالضجر.
كاتبها أيرلندي يعيش في فرنسا؛ وهذه حقيقة يجب أن تؤهلنا للخدعة المضاعفة والحقيقية والغريبة التي يلعبها علينا الآن. قضاء الوقت في الظلام كما يشير ليس فقط ما تدور حوله الدراما بل ما تدور حوله الحياة. الوجود يعتمد على هؤلاء المتصعلكين ميتافيزيقيا الذين يعتمدون على الانتظار، في مواجهة كل الجدل العقلاني، انتظار شيء ربما يظهر في يوم من الأيام لتفسير غرض الحياة. من عشرين سنة، جعلنا السيد أوديتس ننتظر ليفتي[i]، المسيا الاجتماعي؛ بشكل أقل سذاجة، يطلب بيكيت منا أن ننتظر جودو؛ المقصد الروحي. صعلوكاه يقضيان وقت النهار كما نقضيه نحن الجمهور في الليل؛ إن لم نكن في المسرح سنكون مثلهما نقضي الوقت في التهريج والشجار، نتخاصم بدون هدف ونختلق الأشياء بدون هدف، كما قال واحد منهما: "لنصل لإحساس أننا موجودون".
لا يتحدث صعلوكا بيكيت عادة بهذه الطريقة، لأنهما في معظم الوقت يتحدثان بجمل تحمل معنيين على طريقة الفودفيل: أحدهما يتحدث بثقة بوستر كيتون، بينما يتحدث الآخر بطريقة شابلن في قمة مرحه وبهائه. حديثهما يشبه الأحاديث التي تدور على الطاولة الجانبية التي يمكن أن تستمتع إليها ولكنك لا تفهمها كلية – حديث إنساني غير مسموع تمام ويعاد إنتاجه بعدم ترابطه الكامل والعبثي. تتدخل شخصيات أخرى من آن لآخر؛ بوتسو البدين؛ في هيئة هامتي دامتي وفي قبضته سوط، يدخن في المكان مع لاكي؛ العبد الصامت. كما هو واضح فهما يمضيان إلى مكان ما في عجلة من أمرهما: ربما يعرفان أين هو جودو؟ ولكن اللقاء يتقلص إلى الفراغ اللويس كارولي. كل ما يظهر هو أن السيد يحتاج إلى العبد كما يحتاج العبد إلى السيد؛ هذا يعطي لكليهما غرضا زائفا؛ ويفكر المرء في لوريل وهاردي كممثلان مثاليان للدورين. عندما يُؤمَر بالتفكير؛ يسرع لاكي بالحديث في خطبة روحية مقززة وبلا نهاية، مكونة من الكليشيهات والثرثرة، وإن كان مضمونها العام هو انه على الرغم من التقدم المادي و"كل أنواع التنس"، فالإنسان يتقلص روحيا. هذا الأسلوب يجبرنا على تذكر أن السيد بيكيت عمل سابقا مع جيمس جويس. في الفصل التالي يعود بوتسو ولاكي ويتحركان بقصد نحو الاتجاه الآخر. يقرر الصعلوكان أن يبقيا مكانهما. يأتي طفل يقدم تحيات السيد جودو ويأسف لأنه غير قادر على المجيء اليوم، وهي نفس رسالة الأمس؛ كل الأشياء كما هي، وينتظران. بطل "الجريمة والعقاب" يفكر في أنه لو كان هناك رجل محكوم عليه بالإعدام "عليه أن يظل واقفا في مساحة صغيرة كل حياته، لألف عام، للأبد، سيكون من الأفضل أن يعيش هكذا على أن يموت على الفور... الإنسان مخلوق حقير! وحقير مَن يقول عليه حقير بسبب". شيء من هذا القبيل دار بعقلي مع نزول الستائر على رواقيي السيد بيكيت الرثين.
ترى المسرحية الوضع الإنساني بمصطلحات البناطيل الفضفاضة والأنوف الحمراء. سريعا ما عبَر جمهور الليلة الأولى عن تقززه القَلِق وزعم أن المسرحية مدعية. ولكن أين يكمن بالضبط ادعائها؟ أن تقول إن البشرية تنتظر إشارة تتأخر على المجيء هو ابتذال لا يمكن لأحد سوى الجاهل أن يفسره على أنه ادعاء بالعمق. ما أظن أنه ضايق أعداء المسرحية هو العكس: إنها ليس مدعية بما يكفي لتُمَكِّنَهم من السخرية منها. أنا لا أهتم كثيرا بنجاحها المبهر في أوروبا في السنوات الثلاث الماضية، ولكن أهتم أكثر بالطريقة التي بها آثارتني وحفزت جهازي العصبي. إنها تستدعي المسرح الهزلي والأمثولات لتقديم رؤية للحياة تنفي انفعالات المسرح الهزلي والسمو المبالغ فيه للأمثولات. جعلتني أعيد النظر في القواعد التي تحكم الدراما؛ ولأنها قامت بذلك فأن تذكر القواعد هنا ليس أمرا مرنا بما يكفي. إنها جديدة بالفعل، وبالتالي أعلن نفسي - بالطريقة التي يقولها الأسبان - جودوتيستا[ii].
أخرج بيتر هول المسرحية بإحساس رائع بإيقاعها المتهرب، وبيتر وودثروب وبول داينمان أعطيا الصعلوكين جنونا متعاطفا لا يستطيع أن يتفوق فيه سوى المهرجين الحقيقيين. بشكل جثماني كان بيتر بول هو بوتسو على المسرح؛ وإن كان يفرط في تحريك يديه أثناء حديثه. تيموثي بيتسون في دور لاكي جعل الألم كوميديا، وكان هذا إنجازا ممتازا، وهو حافظ بشكل منضبط على روح المسرحية.
[i] الإشارة لمسرحية كليفورد أوديتس "في انتظار ليفتي".
[ii] Godotistaفيما معناه متحمس أو مؤمن بهذا الاتجاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق