‏إظهار الرسائل ذات التسميات السداسي التالث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السداسي التالث. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 11 فبراير 2013

المغرب بلد المائة ألف ولي

لمغرب بلد 100 الف ولي

قصة الأولياء الصالحين وتاريخهم من الأمور التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال.ويحتل الأولياء مكانة سامية لدى عموم المغاربة نظرا لما يتصل بهؤلاء من مكرمات وخصال وقيم . وقد شكل ضريح الولي أو المزار أو كومة الحجر فضاء لانتعاش كثير من المعتقدات والممارسات .
 ومن أجل إضاءة جوانب من حياة هؤلاء الفاعلين الدينيين ، كان قد أصدرالباحث والصحفي محمد جنبوبي الطبعة الأولى من كتاب "الأولياء في المغرب : الظاهرة بين التجليات والجذور التاريخية والسوسيوثقافية : حياة وسير بعض مشاهير أولياء المغرب".ومنذ سنة صدرت له الطبعة الثانية  ضمن منشورات "كنال أوجوردوي ".ويأخذ الكتاب أهميته من كونه أول كتاب جامع للظاهرة رغم غياب عناصر توضيحية كالخرائط والصور .

يقول صاحب الكتاب :"في المغرب لايشكل مرأى ضريح أو مزار شيئا غير عاد أو مثير للانتباه ، فحيثما ولى المرء وجهه إلا ويصادفه قبَّةٌ  أو "كركورا" أو "حوش مزارة""(ص 8) .والحقيقة أن وجود قبور لأولياء حقيقيين أو خياليين هو ظاهرة تندرج ضمن معتقدات شعبية  تعود إلى ما قبل الفتح الإسلامي للمغرب . ويتصل هذا المعتقد بأهمية "الوسيط" في معتقدات المغاربة ، وتصور أناسها أن ثمة قوى " فوق حسية "  تخضع  الوجود لإرادتها . ومزارات الأولياء ، كما يقول محمد جنبوبي ، قد تكون مثالاً للتعايش " على مستوى  اللاشعور الثقافي والجمعي بين آلهة ومعتقدات ما قبل الإسلام وبين مقدس الدين الجديد"(ص 9)، ذلك " أن شواهد  الآلهة  القديمة  ومواقع المعابد منذ العصر الوثني " قد تحولت إلى " مزارات وأضرحة  بعد دخول الإسلام "( ن.ص). ومن هنا يستمد موضوع الكتاب أهميته . فالمغرب هو بلد 100.000 ولي (ص10) الذين خلفوا  جملة من المناقب والكتابات المتداولة في محيط الولي أو في المغرب كله (ص11). والولي هو إنسان مميز لكونه قادرا على قهر نفسه والقسوة على جسده  حد لا يطاق ولا يحتمل (ص13).

 وتشكل الزوايا التي شكلها  متصوفة العهد المريني مظهرا دينيا واجتماعيا زاحم فضاءات المساجد إلى الحد الذي دفع بعض سلاطين المغرب إلى محاربتها والتقليص من عددها لكونها كانت مدار استقطاب شعبية  . ومع انتشار المذهب الوهابي بالمغرب على عهد محمد بن عبد الله والمولى سليمان تعرضت الزوايا لحروب إبادة حقيقية .
 
لم يعرف المغرب ظاهرة الزوايا ، بشكل ملفت، إلا في القرن 5 هـ، "حيث انتقل اسمها من "دار الكرامة" إلى " دار الضيافة" ثم اسمها المعروف حاليا"(ص15). وسيزاحم عدد الزوايا والأضرحة عدد المساجد ، خاصة ما بين القرن 10هـ (ق 16 م) ، والقرن 11هـ (ق17م). واختلط فيها الصالحون وغير ذلك ؛ غير أن الزوايا  لعبت دورا كبيرا في الجهاد خاصة حينما تكالبت على المغرب الدول الاستعمارية الأجنبية (صص15  ، 16  ، 17) .

 ويتكون كتاب محمد جنبوبي من مقدمة وثلاثة مداخل تحت عناوين : المغرب بلد المائة ألف ولي – كرامات الأولياء- نماذج من كرامات الأولياء . أما الجزءالأكبر من الكتاب فقد خصَّهُ صاحبه  لحياة بعض مشاهير أولياء المغرب .
 
وفي ما يلي لائحة بأسماء بعضهم الحقيقية والواقعية :

 
اسم الشهرة
إسم الولي
طير الجبال
إبراهيم المغاري
سيدي بلعباس( مول العباسية)
أو العباس السبتي
سيدي بنعاشر
ابن عاشر
مولاي بوشعيب
أو شعيب أيوب السارية
مولاي بوعزة
أبو يعزى يلنور
سيدي بليوط
أو الليوث
مول الصبيان(الوازيس)
سيدي مومن
مول لحنش(بحي سيدي مومن)
سيدي مومن
مول المدينة القديمة
سيدي فاتح
سيدي عبد الرحمن مول لمجمر(الجمار)
عبد الرحمن بن الجيلالي
احماد اوموسى
حماد أوموسى
ضوان الجنوي
أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي
لالة عيشة /عائشة الإدريسية/عائشة أم بن عسكر.
عائشة أم ابن عسكر
طائر جبالة
عبد السلام بن مشيش
سيدي عبد الله بن حسون
عبد الله بن حسون
مولاي بوسلهام
أبو سعيد عثمان المصري المكنى بأبي سلهامة
لالة تاجة
لالة تاجة
لالة عيشة البحرية
عائشة البغدادية
مولاي يوسف بن علي
أبو يعقوب يوسف بن علي
الشيخ الجزولي
محمد الجزولي
مولاي عبد الله
أبو عبد الله امغار

http://atmanimiloud.blogspirit.com/archive/2005/11/25/eaf841a1430494e95d88668b462cbe0c.html

الزوايا، المجتمع والسلطة بالمغرب (مقاربة سوسيو - أنثروبولوجية)

أنثروبولوجية)
محمد جحاح:     
يتركز موضوع هذا البحث-الذي يقع في 820 صفحة (بجزءيه الأول والثاني)- حول ظاهرة الزوايا بالمجتمع المغربي، وهي ظاهرة لها أهميتها بالطبع وأصالتها التي تستمدها من عمق تجذرها في بنيات هذا المجتمع، وفي تاريخه الديني والسياسي. وانسجاما مع الإشكالية المطروحة للبحث، فإن أهمية الزوايا تتأكد بالنظر إلى ما اضطلع به هذا التنظيم الديني-السياسي من أدوار اجتماعية وسياسية حاسمة، في سياق مغرب ما قبل المرحلة الكولونيالية. هذه الفترة من تاريخ المغرب، التي ستعرف- وكما تطلعنا المصادر التاريخية- مجموعة من الأحداث والوقائع السياسية التي تشهد  بتأزم العلاقة، وعلى مستويات عدة، بين السلطة والمجتمع. وهنا بالذات ومن هذا المنطلق، سيرتبط تاريخ الزوايا وبشكل وثيق، بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للمغرب الماقبل كولوينالي، بحيث شكلت في هذا الإطار قوة سياسية وازنة، استطاعت أن تفرض نفسها على المخزن (كسلطة محلية قائمة بذاتها) تسندها قاعدة قبلية عريضة. وقد استفادت الزوايا في ذلك-وعلاوة على تنظيماتها المتجذرة من ذلك الامتياز الإيديولوجي القوي الذي كانت تمنحه إياها فكرة الانتماء الشرفاوي، ولا يخفى في هذا الإطار ما كانت تشكله من خطورة حقيقية على المخزن،  باعتبارها القوة السياسية الوحيدة التي كانت تنافسه في إحدى أهم رموز مشروعيته السياسية؛ ونعني بالطبع  (الإيديولوجية الشرفاوية) القائمة على فكرة الانتساب إلى آل البيت : (فكل من السلطان وشيخ الزاوية يعتبر شريفا، تربطه قرابة دموية بنبي الأمة).
لعل هذا ما يمكن التأكد منه على ضوء التجربة التاريخية للزاوية الخمليشية (موضوع دراستنا)، والتي نرى فيها نموذجا لغيرها من الزوايا في هذا الإطار. فقد شكلت هذه الأخيرة، منذ تأسيسها على يد الشيخ "سيدي يحيى خمليش" أواخر القرن 17م وإلى حدود الربع الأول من القرن 20م أكبر قوة روحية وسياسية على مستوى المجتمع الريفي؛ ولا أدل على ذلك من كونها كانت تؤطر إحدى أوسع وأقوى التكتلات القبلية بالمنطقة، والأمر يتعلق بكونفدرالية قبائل "صنهاجة السراير" التي كانت تشغل بقبائلها معظم مجال الريف الأوسط. وفي هذا الإطار، فقد كان شيخ الزاوية الخمليشية، وعلاوة على وضعه الروحي المتميز، بمثابة القائد السياسي والعسكري لهذه الكونفدرالية، ولعل هذا ما أعطى للزاوية خصوصيتها وتميزها، ولنشاطاتها بعدا سياسيا قويا وواضح المعالم، وربما هذا ما شجعنا أكثر على دراسة هذه الزاوية، وكان الدافع الأكبر نحو اختيار إشكالية البحث.

في الواقع، إن أهمية موضوع الزوايا وقيمته العلمية في اعتقادنا، تتأكدان أكثر بالنظر طبعا إلى راهنية بعض الأسئلة والقضايا الأساسية التي طرحت وماتزال على مستوى إشكالية السلطة، وطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في مغرب الأمس واليوم. وإذا كنا قد حددنا إشكالية هذا البحث-(كإشكالية سلطة بالأساس)-، وحصرناها في نطاق واقع العلاقة بين الزوايا (كسلطة محلية) والمخزن (كسلطة مركزية) في مجتمع المغرب الماقبل كولونيالي؛ فهذا لا يعفينا بالطبع من إبراز بعض الجوانب والقضايا النظرية والسياسية التي قد يثيدها – تصورنا– موضوع الزوايا على مستوى الراهن السياسي، والتي لا يمكن فهمها وتأطيرها إلا على ضوء الإشكالية المطروحة في إطار هذا البحث. ونكتفي هنا بتسجيل بعض الملاحظات التي تدعم بشكل أو بآخر ما قلناه.
فمن جهة قد تبدو ضرورة البحث في موضوع الزوايا، وأهميته النظرية والسياسية اليوم، كلما تأملنا الحقل السياسي المغربي بإمعان، وحاولنا الوقوف عن قرب على حقيقة ذلك الإرث التاريخي- الذي ما تزال تمثله امتداداتها الإيديولوجية والتنظيمية- على مستوى تقاليد اللعبة السياسية بالمغرب. ولعل هذا ما تعكسه بصدق تركيبة النسق السياسي المغربي، وطبيعته المزدوجة (تقليدي/ حداثي) : سواء تعلق الأمر بآليات وميكانيزمات اشتغال هذا النسق، أو بمصادر الشرعية والمشروعية السياسية، أو على مستوى سلوكات الفاعلين السياسيين إلخ. وفي هذا الإطار، لا يمكن نفي أو تجاهل ذلك الإرث التاريخي الثقيل والمزعج : فسواء تعلق الأمر بالأحزاب السياسية، حيث يرى البعض بأنها مجرد امتداد طبيعي لتنظيم الزوايا : (أطروحةP.Rizitte  حول الأحزاب السياسية بالمغرب). أو تعلق الأمر بالمؤسسة الملكية التي تستمد معظم رموز شرعيتها ومشروعيتها أيضا، من صلب هذا التنظيم : (الإيديولوجية الشرفاوية، الطبيعة التحكيمية لشخص الملك إلخ). وفي نفس السياق أيضا، فقد شبه (جون واتربوري) في أطروحته حول (المؤسسة الملكية والنخبة السياسية بالمغرب)، وضعية الملك في إطار علاقته بالأحزاب السياسية، برئيس  زاوية كبرى مهمته "التحكيم" بين الفرقاء  السياسيين، وضبط التوازنات العامة داخل البلاد. وحتى على مستوى تنظيمات الإسلام السياسي أيضا : (جماعة العدل والإحسان نموذجا)، قد نجد هناك استمرارية قوية لبعض الثوابت التنظيمية والإيديولوجية المتوارثة عن تنظيم الزوايا (الزاوية البودشيشية تحديدا)، خاصة فيما يتعلق  بطبيعة العلاقة بين (الشيخ ومريديه). بل أكثر من ذلك، فهناك من الباحثين من يسحب هذه الخطاطة (شيخ/ مريد) على كل النسق السياسي المغربي، كنسق سلطة قائم على مفاهيم : (البركة، الطاعة، الخدمة والولاء)؛ وهي مفاهيم لها تجذرها من داخل المرجعية الصوفية (نعني هنا أطروحة عبد الله حمودي : "الشيخ والمريد").
بعد تسجيل هذه الملاحظات، ما الذي يمكن قوله إذن، بخصوص الإشكالية التي يتناولها هذا البحث.
1-إشكالية البحث.
تعتبر إشكالية الدولة في علاقتها بالمجتمع، من أعقد وأوسع الإشكاليات التي يطرحها واقع البحث في التاريخ السياسي للمغرب، خاصة إذا كان الأمر يتعلق- وكما هو الشأن بخصوص إشكالية هذا البحث- برصد واقع وتجليات هذه العلاقة في سياق مغرب ما قبل الاستعمار. وتبدو أهمية البحث في هذه المرحلة من تاريخ المغرب السياسي، في كونها تشكل المدخل لفهم ما جرى ويجري من علائق وتفاعلات بين الدولة كجهازسلطة مركزي وبين باقي القوى المحلية والجهوية. وفي هذا الإطار، فقد شكل سؤال العلاقة بين الزوايا والمخزن-وبالنسبة إلى كثير من الباحثين- منطلقا لصياغة الفروض حول طبيعة الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وذلك على خلفية تناولهم لإشكالية العلاقة بين القبيلة والدولة بالمغرب الماقبل كولنيالي. ولعل هذا مايؤكده ذلك الكم الهام من الأبحاث والدراسات المنوغرافية والتركيبية، التي تم إنجازها حول أهم الزوايا بالمغرب- سواء من قبل باحثين مغاربة أو جانب-. وفي هذا الإطار اختلفت المقاربات وتعددت، باختلاف وتعدد التخصصات المعرفية : (تاريخ، أنثروبولوجيا، سوسيولوجيا) وباختلاف الرؤى وتعارض الإيديولوجيات أيضا، وهنا بالذات يأتي تمييزنا بين (إيديولوجيتين)  أو بالأحرى (أطروحتين) : "الأطروحة الكلونيالية"، و"الأطروحة الوطنية" التي جاءت كنقد لها. صحيح أن الإشكالية التي تؤطر دراستنا هذه حول الزاوية الخمليشية تحكمها نفس الخلفية : (خلفية السؤال) حول طبيعة العلاقة بين "المحلي والمركزي"، أو لنقل بين (القبيلة) (الدولة) بالمغرب الماقبل كولونيالي. فما هو الوضع الفعلي لهذه الزاوية إذن، في إطار نفس العلاقة؟ هل كانت حقا تمثل سلطة سياسية مضادة لسلطة المخزن، ورافضة أن يشاركها مجال نفوذها السياسي على (قبائل الريف) : مما قد يؤكد (أطروحة الصراع بين القبيلة والدولة)، كما تدافع عنها الأطروحة الكولونيالية؟ (هونري طيراس، ر. مونطاني، مولييراس، م. بيلير، جورج دراك وآخرين). أم  بالعكس ليست الزاوية سوى مجرد أداة سياسية من صنع المخزن، أو على أقل تقدير، فهي موجهة من قبله لخدمة سياسته على مستوى القبيلة، كما تدافع عن ذلك الأطروحة الوطنية في شخص (عبد الله العروي، علي المحمدي، عبد اللطيف أكنوش…)؟ أم أن واقع العلاقة بين الزوايا والمخزن يظل أعقد مما تصوره هؤلاء، وأبعد من أن يختزل في إطار إحدى المقولتين (صراع) أو (إخضاع)؟
في الواقع، هذا هو تصورنا للمسألة، فوضع الزوايا في إطار هذه العلاقة، يظل وضعا معقدا؛ وهو وضع ظل يتحدد أساسا بطبيعة علاقتها بكتلتها القبلية أولا، وبمجموعة من العوامل والمحددات التاريخية والسوسيولوجية. وعلى ضوء الفرضية العامة التي توجه هذا البحث، فإننا ننطلق من أن علاقة الزوايا بالمخزن هي علاقة ظلت متغيرة باستمرار، ومحكومة بمجموعة من التناقضات؛ بحيث لا يمكن استيعابها وتأطيرها إلا وفق تصور جدلي يفترض الصراع كما يفترض الخضوع والتعاون. وهي في ذلك تشكل جزءا لا يتجزأ من جدلية العلاقة بين القبيلة والدولة، في مغرب ما قبل مرحلة الاستعمار؛ مع ما يميز هذه العلاقة في سيرورتها التاريخية من لبس وتناقضات.
وإذا حاولنا تصور أنماط هذه العلاقة هندسيا على ضوء : "فرضية المجال وهندسة السلطة" يمكننا تسجيل ما يلي :
- بخصوص الطرح الكولونيالي، يتم تقسيم المجال السياسي المغربي هندسيا عبر خطين منفصلين : (خط القبيلة) وتسوده سلطة الزاوية، و(خط الدولة) وتسوده سلطة المخزن، ويصر الكولونياليون على أن هناك حدودا قارة وثابتة تفصل بين الخطين، مما يكرس وضع "الانفصال"  و"القطيعة" بين مجالي القبيلة والدولة.
- أما بخصوص الطرح الوطني، فنجده يكرس هندسة مجالية نقيضة، تتأسس  على مفهوم "الاتصال" بدل "الانفصال". وهو بذلك يتصور المجال السياسي المغربي كخط متصل، يمتد من الدولة إلى القبيلة- مع ما يعنيه ذلك من اندماج وانسجام تامين بين مكونات هذا المجال- وبخصوص سلطة الزوايا هنا، فهي لا تعدو أن تكون سوى مجرد امتداد أو تمثيل لسلطة المخزن على مستوى محلي لا غير.
- إننا لا نتفق بالطبع مع أي من التصورين، على اعتبار أن الزاوية لا تمثل خط القبيلة ضد خط الدولة، مما يفيد واقع (الانفصال) أو (القطيعة) بين المجالين. وبالمثل، فهي لا تمثل خط المخزن من داخل القبيلة، مما قد يفيد وضع (الاتصال). عكس  ذلك تماما فإننا نفترض بأن الزاوية تجسد وضع المحور(Axe) الذي يتقاطع عنده الخطان، مع ما يعنيه ذلك طبعا من استقلالية نسبية لهذا المحور عن الخطوط التي تتقاطع عنده. ولعل هذا ما يفترضه المفهوم (الرياضي- الهندسي) أيضا للزاوية،  باعتبارها نتاج تقاطع خطين أو أكثر، فعلى الأقل لا يمكن تصور زاوية ضمن خط (منفصل) أو (متقطع)، كما  لا يمكن تصورها أيضا ضمن خط (متصل). وهنا بالذات تتأكد القيمة الإجرائية لمفاهيم : (التواصل) بدل (الاتصال)، (التمفصل) بدل (الانفصال) و(التقاطع) بدل (القطيعة)، وعلى ضوء هذه المفاهيم إذن، وما تكثفه من دلالات ومضامين سوسيولوجية، يأتي تصورنا لعلاقة الزوايا بالمخزن. بحيث شكلت الزوايا في هذا الإطار، ومن موقع استقلاليتها النسبية طبعا-(وهذا ما تؤكده تجربة الزاوية الخمليشية)- عنصرا أساسيا من عناصر التوازن السياسي، وأداة لعبت دور المحور في إحقاق ذلك التواصل المبحوث عنه بين مجالي (القبيلة) و(الدولة) بالمغرب الماقبل كولنيالي. وذلك في إطار جدلية معقدة، هي،  في آخر المطاف، جزء لا يتجزأ من جدلية الدولة والمجتمع.
فما هي أهم النتائج والخلاصات الأساسية التي انتهى إليها هذا البحث؟
2. أهم نتائج البحث.
 كما حللنا ذلك جيدا – (في إطار مقاربة سوسيو-تاريخية لعلاقة السلطة بالمجتمع في مغرب ما قبل المرحلة الكولونيالية)- فقد شكلت القبيلة بالمغرب، ومنذ القرن 16م، مجال نفوذ مشترك بين قوى سياسية ثلاث:
- فمن جهة هناك سلطة الزاوية كسلطة محلية، ويمثلها (الشريف/ شيخ الزاوية).
- ومن جهة ثانية هناك سلطة العامل أو (القائد المخزني) كممثل للسلطة المركزية على مستوى محلي.
- هذا دون أن ننسى-بالطبع- سلطة المجالس القبلية –"الجماعات"، ممثلة في شخص الـ (أمغار) أو شيخ القبيلة.
وعلى هذا الأساس، كان لابد من التعريف أولا بمجتمع القبيلة  والقبيلة الريفية تحديدا، وبالتالي تقديم نموذج للبناء الاجتماعي والسياسي لهذه القبيلة، وكيف كانت هذه الأخيرة تدبر شأنها السياسي من داخل، وفي إطار، تجربة "المجالس القبيلية". بحيث ما كان يعنينا هو الوقوف على كيفية اشتغال السلطة من داخل هذه المجالس؛ وبالتالي رصد ميكانيزماتها وقنوات تسريبها. وهنا بالذات كان ينبغي الوقوف عند نموذج الـ (أمغار) أو شيخ القبيلة، باعتباره يجسد السلطة العليا من  داخل هذه المجالس.
وفي هذا الإطار، كان سؤالنا يتركز بالأساس حول مدى فعالية سلطة الـ (أمغار) هذه، مما سيقودنا -(وعلى ضوء  تجربة المجالس القبلية "الجماعات" بمجتمع الريف الأوسط)- إلى التأكد من حدود هذه السلطة وأيضا عدم قدرتها على تأطير المجتمع القبلي خارجا عن إطار الدولة. فسلطة المجالس القبلية، وعلى أهميتها تظل عاجزة عن ضمان الاستقرار والأمن  اللازمين؛ بل غالبا ما كانت هي ذاتها تقف وراء العديد من النزاعات القبلية والحروب الأهلية التي طبعت مرحل هامة من مراحل التاريخ الاجتماعي والسياسي بالريف. وقد أعطينا المثال هنا بظاهرة "اللف" كشكل من أشكال التحالفات الحربية، ويكفي التذكير هنا بأن عجز تلك المجالس عن حل نزاع ما على مستويات أدنى : (الفرقة، الدوار، أو القسمة القبلية "الربع" أو "الخمس") كان يدفع منطقيا إلى تعميم حالة الحرب؛ بحيث يصبح الخيار الوحيد والمتاح  وفق ذات المنطق القبلي– هو ما تسمح به آليات "اللف" و"اللف المضاد". وهكذا تتوسع رقعة الحرب، لتشمل القبيلة برمتها أو مجموعة من القبائل.
لكن، وإذا كان هذا هو وضع وحقيقة السلطة كما تفرزها وتمارسها المجالس القبلية، في إطار القانون العرفي (أزرف)، فهل هذا يعني أن البديل هو ما تمثله سلطة المخزن؟ هنا بالذات كان علينا مساءلة ذلك الحضور المخزني-(والذي لا ننفيه بالطبع)- من داخل مجتمع الريف والريف الأوسط تحديدا، كحضور ممثل في شخص (القائد، العامل، ناظر الأحباس والجابي). فإلى أي حد وكيف كان هذا الحضور فاعلا؟
لقد قادنا البحث حول ذلك أيضا، إلى تأكيد حقيقة العجز البنيوي والتاريخي للمخزن عن تأطير المجتمع بمفرده، ودون إشراك لباقي القوى المحلية الأخرى. بحيث ظل حضوره في شخص القائد والعامل (القصبة)، حضورا اسميا أكثر منه تأكيدا لوجود سلطة مركزية فعلية . وقد فسرنا كيف ساهم بدوره-وبشكل كبير- في تدعيم وضع "السيبا" أو ما يصطلح عليه محليا بـ "الريفوبليك"، أكثر من مواجهته لذلك الوضع، وأعطينا المثال على ذلك بالسياسات الضريبية المجحفة، التي ما فتئ المخزن ينهجها -على الأقل- منذ هزيمة (حرب تطوان 1860م)، وما كانت تقتضيه "معاهدة الصلح" من التزامات مالية ثقيلة كان على الدولة الوفاء بها لصالح الإسبان. لا يخفى إذن، ما شكلته تلك السياسة الضريبية-في هذا الإطار- من استنزاف حقيقي للرعايا؛ ناهيك عن واجبات أخرى أثقلت بدورها كاهل القبائل، بما في ذلك واجب (الجندية، السخرة، والمؤونة) وغيرها من لوازم الخدمة المخزنية التي كانت تقتضيها مسألة تجهيز "الحركات المخزنية" الموجهة لقمع الانتفاضات والتمردات القبلية والحركات الانفصالية أيضا : (حركة بوحمارة) و(الريسوني). وتتأكد مسؤولية المخزن كذلك عن هذا الوضع المتفجر- (والذي تم تأطيره ضمن مقولة "السيبا" الأكثر رواجا من  داخل الأدبيات الكولونيالية والانقسامية، ومن داخل الخطابات المخزنية حول القبائل)- من خلال طبيعته البيروقراطية، والتي يعكسها بشكل جيد عجزه عن الاندماج من داخل هذه المجتمعات القبلية، ونهجه إزاءها سياسة قائمة-في معظمها- على كثير من القوة والعنف (الحركة والمحلة) وقليل من السياسة والديبلوماسية.
لقد أثبت المخزن عجزه إذن، واتضح لنا بأن سلطة العامل و"القائد المخزني" ليست بأحسن حال  سلطة الـ (أمغار)، وما بالك أن تمثل البديل عنها. وهنا بالضبط يأتي دور الزاوية (كسلطة سياسية محلية)، أكدت قوتها ونفوذها من داخل  مجتمع القبيلة الذي شكل ومنذ القرن 16م، كما أشرنا، مجال نفوذ مشترك بين هذه القوى السياسية الثلاثة : المخزن ممثلا في (القائد المخزني)، ال (أمغار) شيخ القبيلة و(الشريف) شيخ الزاوية.
إن سلطة الزاوية إذن -وعلى مستوى محلي- تبدأ عند حدود سلطة الـ (أمغار) وعجز سلطة (القائد المخزني)، وهي بذلك الأقوى والأكثر تجذرا واندماجا. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهي سلطة تختلف عن كليهما من حيث مرجعياتها وأسس مشروعيتها  وطرق وأشكال تسريبها وممارستها. فسلطة الشريف (شيخ الزاوية)، كما حللنا ذلك جيدا، لا يستمدها من الأعراف القبلية أو القانون العرفي (أزرف)-كما هو الشأن بالنسبة لشيخ القبيلة (أمغار)- كما يدعي الطرح الكولونيالي. وبالمقابل أيضا، فإن أساس سلطة الشريف ليس هو المخزن أو (الظهير السلطاني)- كما يوحي بذلك الطرح الوطني، إذ لم يكن شيخ الزاوية موظفا مخزنيا (قائدا أو عاملا)، وإلا لاستغنى به  المخزن عن كليهما. فصحيح أن شيخ الزاوية كان يحصل هو الآخر على ظهائر سلطانية (ظهائر التوقير والاحترام)، لكن ذلك لا ينبغي أن يذهب بنا الى اعتبار الظهير هو مصدر سلطة هذا الأخير وأساس شرعيتها ومشروعيتها. لقد ميزنا بشكل دقيق إذن، بين سلطة الـ(أمغار) وسلطة (القائد المخزني) وسلطة (الشريف)، وانتهينا إلى أن سلطة هذا الأخير لا يمكن فهمها إلا بالرجوع الى الحقل الصوفي ذاته، كحقل ممارسة تاريخية؛ وما يكثفه هذا الأخير من مرجعيات ومن أنماط سوسيو-تاريخية يتقاطع من داخلها الديني بالميثولوجي والقداسي بالسياسي. وفي هذا الإطار، ميزنا بين المرجعيات الثلاث التي شكلت بالنسبة لتنظيم الزاوية ذلك الأساس الإيديولوجي المتين، في بناء التنظيم وفي سيرورة تبلور وتطور السلطة من داخله؛ ونعني هنا بالطبع : المرجعية الصلحاوية- Maraboutisme، المرجعية الطرقية- Confrérisme والمرجعية الشرفاوية- Chérifisme.
في صلب هذه المرجعيات الثلاث، وارتباطا بإشكالية السلطة من داخل تنظيم الزاوية، حاولنا إذن، أن نقف على أصل الظاهرة وجوهرها (السلطة). وهنا بالذات تأتي قيمة (البركة)، التي اعتبرناها بمثابة "البنية التحتية لهذه السلطة- (كسلطة روحية/ رمزية) تكتسي مع الزمن طابعا سياسيا بحتا-. إن التحول من الروحي إلى الزمني ومن القداسة إلى السياسة، بخصوص نشاط واشتغال سلطة الشيخ/ الشريف، هو تحول يبقى محكوما بمجموعة من العوامل والمحددات. ولعل هذا ما حاولنا أن نقرأه على ضوء العلاقة التاريخية بين الزاوية وكتلتها القبلية، كعلاقة هبة متبادلة –( كما صاغها الأنثربولوجي الفرنسي مارسيل موس)- وقد قادنا التحليل في هذا الاتجاه إلى أن علاقة التبادل هذه، تكرس لمفهوم خاص من السلطة وتدعمها أكثر فأكثر، بحيث يصبح الإقرار ببركة الشيخ/ الشريف هو اعتراف مسبق بسلطته أو بالأحرى (هيبته)، وهذا ما أطرناه ضمن هذا العنوان العريض : (منطق الهبة وأسس الهيبة). لقد اعتبرنا بأن نموذج العلاقة القائمة بين الزاوية والقبيلة، كعلاقة "هبة"، هو نموذج  يتأسس في جوهره على مفهوم خاص للخدمة، أقرب ما يكون إلى مفهوم (الخدمة المطلقة)  التي يكرسها نموذج (الشيخ والمريد) من داخل أدبيات الممارسة الصوفية. فبمثل ما يخدم المريد شيخه ويسعى إلى إرضائه، من خلال سلوكات تكرس نحوه قمة الخضوع والطاعة والإذعان، نجد القبيلة تخدم زاويتها أيضا مكرسة إزاءها نفس السلوكات. وفي هذا الإطار، اعتبرنا بأن النموذج الثاني (زاوية/ قبيلة) هو بمثابة إعادة إنتاج موسعة لنموذج (شيخ/ مريد) على مستوى المجتمع؛ وهنا تأتي قيمة (البركة) التي توجد في أساس علاقة الخدمة تلك، بل هي الدينامو المحرك لها. وقد فسرنا كيف تترجم هذه البركة سوسيولوجيا- (في إطار علاقة الزاوية بكتلتها القبلية)- إلى أشكال من التدخلات تتراوح بين المعقول والامعقول، الأفقي والعمودي، البسيط والمعقد… وهو ما تلخصه وظائف الزاوية المختلفة، والتي تأتي هنا كتفعيل لهذه البركة التي يمنحها الشريف لمجتمعه. فهو يمنح : (العلم، الأمن، الرخاء، الاستقرار، الحماية، وسبل الخلاص المادي والروحي) وبالمقابل- واعترافا ببركته هذه– تتحدد كافة أشكال الخدمة التي تقدمها القبيلة لزاويتها. فهي الأخرى تمنح : (الأرض، المال وقوة العمل)، بل أكثر من ذلك تمنح عقلها لزاويتها، وهنا مكمن السيطرة من حيث إن أساس أية سلطة هو السيطرة على العقول.
إن أساس سلطة الزاوية إذن، تستمده من وضعها الروحي المتميز (البركة) ومن عمق وقوة ارتباطها وتلاحمها الجدلي بكتلتها القبلية. وهو ارتباط يبقى مرهونا بمدى استجابة الزاوية لمتطلبات وإكراهات الوسط القبلي الذي تنشط فيه وتؤطره. إذن، ليس المخزن هو من يقف وراء هذه السلطة ويدعمها (عن طريق الظهير)، وليست الأعراف القبلية (القانون العرفي) كذلك، بل إن سلطة الزاوية (كسلطة سياسية محلية) تحتفظ باستقلاليتها النسبية عن كليهما؛ رغم أنها تلعب هنا دور المحور الذي يتقاطع عنده خط القبيلة بخط الدولة. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال كون الزاوية تستغل وضعها هذا وعلاقاتها الملتبسة، كي تتوسع على حساب كل منهما (القبيلة والمخزن). وارتباطا دائما بما هو سياسي من داخل  نشاط وتحركات الزاوية، فقد خلصنا إلى الاستنتاج التالي : وهو أنه لا يمكن فهم الدور السياسي لأية زاوية، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار واقع الاستقلالية النسبية  التي تميزها كتنظيم. وهنا بالذات يتحدد الدور السياسي الخطير الذي اضطلعت به الزاوية الخمليشية بالريف الأوسط، فقد شكلت  في هذا الإطار عنصرا أساسيا من عناصر التوازن والاستقرار السياسيين، من داخل مجتمع قبلي "بربري" ظلت علاقته بالسلطة المركزية علاقة غير مستقرة دائما. وقد حللنا  بشكل دقيق، كيف –نجحت وإلى حد بعيد- في ضبط التوازنات العامة من داخل هذا المجتمع، وفي إطار علاقته بالسلطة المركزية، وذلك حتى في أشد فترات ضعف هذه السلطة بل وغيابها التام. خاصة إثر وفاة السلطان الحسن الأول، وما أعقب ذلك من أحداث تراجيدية وتداعيات تم تأطيرها ضمن مقولة (الريفوبليك) : -كتعبير محلي عن حالة الفوضى السياسية الناجمة عن تعطل الأحكام العرفية وغياب سلطة المخزن. لقد لعبت الزاوية الخمليشية إذن، كغيرها من الزوايا، دورها التاريخي كمحور لإحقاق ذلك التواصل المبحوث عنه، بين مجالي القبيلة والدولة. ولعل هذا ما حاولنا- (وعلى ضوء التجربة التاريخية لهذه الزاوية)- تحليله وتأطيره، ضمن رؤية وتصور جدليين : (جدلية المحلي والمركزي). بحيث قادنا التحليل  في هذا الاتجاه إلى  أن استمرار هذه الزاوية وقوتها، ظلا رهينين بمدى قدرتها على المناورة واحترام التوازنات الضرورية بين قطبي هذه الجدلية : (قطب المحلي          و(قطب المركزي)؛ لأن التضحية بأحدهما لصالح الآخر تعني القضاء على  بنية التنظيم وضربه في أساسه.
لعل هذا ما سيحدث فعلا مع هذه الزاوية، وإن بأشكال "لينة" بطيئة وغير مكشوفة دائما؛ لكنها ستثبت فعاليتها على المدى البعيد. وفي هذا الإطار تقدم الزاوية الخمليشية (نموذجا) للزاوية التي تحولت تدريجيا إلى جهاز (شبه ممخزن)، بحيث يمكننا التأريخ هنا لبدايات تفكك الزاوية وبالتالي انهيارها كتنظيم، من خلال مسلسل "المخزنة" الطويل المدى الذي تعرضت  له هذه الزاوية، في إطار علاقتها بالمخزن. لقد قمنا في هذا الإطار، بتحليل دقيق للمتن الوثائقي (حوالي 200 وثيقة غير منشورة)، خاصة الأرشيف الخاص بالمراسلات المتبادلة بين (الزاوية) و(المخزن)، والمتعلقة أساسا بمسألة الضرائب والجبايات : (تفويض سلطة الجباية لشيخ الزاوية)، والامتيازات المخزنية الأخرى التي كانت تضمنها(ظهائر التوقير والاحترام) الموجهة إليه. ولعل هذا ما قادنا بالفعل إلى رسم صورة واضحة حول سياسة المخزن تجاه الزاوية، واستراتيجياته التي كانت تهدف في العمق إلى عزلها- تدريجيا- عن كتلتها القبلية، بضرب الأسس الروحية والرمزية  لسلطتها وتجذرها من داخل مجالها القبلي، لصالح الأساس المادي (الاقتصادي).
هذا الوضع إذن، سيكرس تبعية "الزاوية" أكثر فأكثر للمخزن، مما سيمكن هذا الأخير من توظيف سلطاتها في اتجاه ولصالح سياسته العامة تجاه القبائل : بحيث أصبح "الشريف" هنا يتصرف بمنطق "القائد المخزني" و "الجابي" أكثر منه بمنطق "شيخ الزاوية" كما حددنا معالمه من قبل.
على ضوء هذه المعيطات إذن، ينبغي أن نقرأ مسار تفكك وانحلال "الزاوية الخمليشية" كتنظيم قائم بذاته.
أخيرا، بقي أن نثير الانتباه إلى إحدى  المفارقات، التي تشكل خصوصية بارزة بالنسبة إلى هذه الزاوية، خاصة إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار تجربتها الغنية وتاريخها الاجتماعي والسياسي الطويل. ولعل هذا ما نلخصه في السؤال التالي : لماذا ظلت هذه الزاوية حبيسة حدودها المحلية (قبائل الريف الأوسط وصنهاجة السراير)، مع العلم أن نشاطها كان يتجاوز بكثير هذه الحدود الضيقة؟
في الواقع، هذا وضع يوحي بكثير من التناقض والاستغراب؛ وقد بينا في هذا الإطار كيف كانت الزاوية- في تحركاتها ونشاطاتها السياسية والعسكرية (الجهادية)- تتجاوز بالفعل هذه الحدود المحلية إلى ما هو وطني. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بالدور السياسي والجهادي للزاوية، والذي تبلور منذ "التجربة المرابطية" للخمالشة (ق16م)، وتعزز أكثر مع تأسيس الزاوية. فسواء في مشاركة هذه الأخيرة  في حربي (إيسلي 1844) و(تطوان 1860)، أو في دورها الفعال في دعم السلطة المركزية ومساندتها في مواجهة أخطر "حركة انفصالية" شهدها المغرب قبيل فترة ما يعرف بـ (الحماية)- ونعني هنا حركة الجيلالي الزرهوني الملقب بـ"بوحمارة" (1902- 1909)-. وفي نفس السياق، وباسم نفس الشعور (الديني-الوطني)، سوف تقدم هذه الزاوية مساندتها ودعمها اللامشروطين لكل من حركة (الشريف سيدي محمد أمزيان) وحركة (الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي) التحريريتين؛ وهذا ما تؤكده العديد من وثائق الزاوية المعتمدة في البحث. فلماذا هذا الانكماش إذن، وذلك التقوقع في "المحلية" كما تجسدا في تجربة الزاوية الخمليشية من داخل الريف الأوسط؟
في تقديرنا يمكن تفسير هذا الوضع بمجموعة من الأسباب والعوامل، بعضها يعود إلى تاريخ الزاوية ذاتها ووضعها الداخلي الخاص، والبعض الآخر يمكن أن نعزوه إلى طبيعة علاقتها بكل من المخزن وباقي الزوايا الأخرى، التي كانت تتقاسم معها نفس المجال  أو بعضه. وفيما يلي نكتفي بتسجيل أبرز هذه العوامل وأكثرها دلالة بخصوص هذا الوضع.
1-لقد ارتبط تاريخ الزاوية الخمليشية -وبشكل وثيق- بتاريخ (كونفدرالية صنهاجة السراير)، فشيخها كان بمثابة القائد السياسي والعسكري لهذه "الاتحادية القبلية" -كما تقدم- وهذا ما جعل  الزاوية، في اعتقادنا، تصر على احترام حدودها القبلية حفاظا منها على ذلك الأساس السوسيو-مجالي الضامن لاستمراريتها كسلطة قوية ومندمجة.
2-واقع التبعية الروحية من قبل الزاوية الخمليشية للطريقة الناصرية والتقيد بمسألة توزيع المجال ما بين الزوايا التابعة-روحيا لهذه الطريقة الصوفية. وفي هذا الإطار- وكما تفيدنا وثائق الزاوية- فقد كان بإمكان "الخمالشة" أن يؤسسوا زوايا لهم بجهات أخرى غير الريف الأوسط، إلا أن وجود زوايا ناصرية هناك جعل شيخ الطريقة يكتفي بذلك، حتى لا تقع صراعات بين زوايا تنتمي روحيا إلى نفس الطريقة الصوفية.
3-الصراع ضد زوايا أخرى، خاصة "الوزانية" التي كانت تشاطرها نفس المجال القبلي الريفي، و"الدرقاوية" التي كان لها نفوذ واسع على قبائل الجبل واغمارة، إلى جانب زوايا أخرى ك"الريسونية" و"البقالية".
4-لا نستبعد أيضا دور المخزن في هذا الإطار، بما كان ينهجه من سياسات براغماتية تجاه الزوايا-(بما تعنيه من مؤامرات)- ترمي على المدى البعيد إلى إضعاف الزاوية أو إلى تدجينها و"مخزنتها". وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم كيف كان المخزن يسعى إذكاء الصراعات بين الزوايا المتواجدة بنفس المجال القبلي، بل أكثر من ذلك إثارة عوامل الصراع والتمزق من داخل نفس الزاوية : (مناصرة فرع ضد فروع أخرى، أو دعم شيخ ضد شيخ آخر من نفس الفرع…).
5-لا يخفى بالطبع ما عانت منه الزاوية الخمليشية من صراعات داخلية، كانت تدفع نحو واقع التجزئة والانقشاشات التي تؤثر لا محالة على قوتها وحجم نفوذها السياسي، فقد بدأ الصراع يستحكم من داخل "الأسرة الخمليشية" على الأقل منذ بداية القرن 19م، ليتعزز أكثر مع نهاية القرن 19م، وبداية القرن 20م، بظهور فروع جديدة تتنافس على زعامة الزاوية.
ــــــــــ
هذا المقال في الأصل، هو تلخيص مركز لأطروحة دكتوراه في علم الاجتماع ناقشها الباحث بكلية آداب فاس:2001.

المصدر:أنفاس
http://abooba.maktoobblog.com/1620133/%D8%A7%D9%84%D8%B2


الجمعة، 4 يناير 2013

جدول المراقبة النهائية للدورة الخريفية 2012/2013 السداسي الثالث مع متمنياتي بالتوفيق للجميع


الانتروبولوجيا الاجتماعية



تعرّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّها : دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتّخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات. (بريتشارد، 1975، ص13) ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميّز بين عبارة " ثقافة " وعبارة " مجتمع " المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما،

تعرّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّها : دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتّخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات. (بريتشارد، 1975، ص13) 

ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميّز بين عبارة " ثقافة " وعبارة " مجتمع " المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما، أمّا المجتمع فهو تكتّل منظّم لعدد من الأفراد، يتفاعلون فيما بينهم ويتبعون طريقة حياة معيّنة .. وبعبارة أبسط : المجتمع مؤلّف من أناس، وطريقة سلوكهم هي ثقافتهم . 

وهنا تعدّ تصنيفات المؤسّسات والأنظمة الاجتماعية، أدوات نافعة للأغراض الوصفية، كما أنّ التعميمات بالنسبة للعلاقات المتداخلة والمتبادلة بين النماذج والمؤسّسات، تساعد في الاهتداء إلى نوع من النظام وسط أوضاع تبدو مشوّشة وغامضة، وفي زيادة الفهم الحقيقي للعمليات الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، يعتمد هذا الفهم على دراسة النسق الكلّي الذي يؤلّف النظام الاجتماعي جزءاً منه. ويضمّ هذا النسق ثلاثة عناصر متميّزة، هي : شخصيّات الأفراد الذين يؤلّفون المجتمع، والبيئة الطبيعية التي يتعيّن على المجتمع أن يكيّف حياته وثقافته معها، وأخيراً المجموعة الكاملة من الوسائل الفنيّة اللازمة للمعيشة، التي تضمن استمرار بقاء المجتمع عن طريق نقلها من جيل إلى جيل. (لينتون، 1964، ص 357 ) 

ولكن، هل يمكن أن نفصل على هذا الشكل بين الإنسان كحيوان اجتماعي، والإنسان كمخلوق ذي ثقافة؟ أليس السلوك الاجتماعي في الواقع سلوكاً ثقافياً؟ ألم نرَ أنّ الحقيقة الكبرى في دراسة الإنسان ، هي الإنسان نفسه أكثر ممّا هي مُثُل الإنسان أو نظمه، أو حتى الأشياء المادية التي نجمت عن ارتباطه بتكتّلات نسمّيها " مجتمعات "؟ 

فالنظام الاجتماعي إذن، هو التعبير التقني الأنثروبولوجي الذي يدلّ على المظهر الأساسي في حياة الجماعة الإنسانية، وهو يشمل النظم التي تؤلّف إطاراً لأنواع السلوك جميعها، سواء كان فردياً أو اجتماعياً. (هرسكوفيتز، 1974، ص 20-21) 

إنّ اللغة والحياة الاجتماعية المنظّمة، زوّدتا الإنسان بأدوات لنقل الثقافات، مهما بلغت من التعقيد، والمحافظة على تراثها بصورة غير إيجابية. وعملت الحياة الاجتماعية أيضاً على جعل الإنسان في حاجة إلى إرث اجتماعي، يفوق في ثروته ما تحتاج إليه الحيوانات. وتمّت المحافظة على المجتمعات البشرية، بتدريب أجيال متلاحقة من الأفراد .. ولذا كانت المجتمعات، هي نفسها، حصيلة الثقافة. (لينتون، 1964، ص 119 ) 

وبناء على ذلك، تهدف دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه النظم، سواء في المجتمعات القديمة التي تدرس من خلال آثارها المادية والفكرية، أو في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، التي تدرس من خلال الملاحظة المباشرة لمنجزاتها وتفاعلاتها الخاصة والعامة. 

ثانياً- نشأة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وتطوّرها 
يعدّ اهتمام الأنثروبولوجيا عامة، والأنثروبولوجيا الاجتماعية خاصة، بدراسة المجتمعات الإنسانية، وعلى المستويات الحضارية كافة، منطلقاً أساسيّاً من فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافها، ولا سيّما دراسة أساليب حياة المجتمعات المحلية، إلى جانب دراسات ما قبل التاريخ، ودراسات اللغات واللهجات المحلية .. وهذا ما يميّز الأنثروبولوجيا من العلوم الإنسانية / الاجتماعية الأخرى، ولا سيّما علم الاجتماع . 

ويوصف علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّه علم حديث العهد، لا بل من أكثر العلوم الاجتماعية حداثة. فقد استخدم مصطلح (الانثروبولوجيا الاجتماعية) للمرّة الأولى في عام /1980/ عندما كرّمت جامعة ليفربول في بريطانيا السيد / جيمس فريزر/ ومنحته لقب الأستاذ. 

ومماّ يدلّ على حداثة هذا العلم الذي يدرس الجانب الطبيعي / التطبيقي، من البنى الاجتماعية، ذلك الاختلاف الذي ما يزال قائماً بين علماء الاجتماع حول هذه التسمية : (الأنثروبولوجيا الاجتماعية ). ولكن على الرغم من حداثة هذا العلم، فقد مرّ بمراحل متعدّدة أسهمت في نشوئه وتطوّره واستكمال عناصره إلى حدّ بعيد، بدءاً من القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر. 

1 القرن الثامن عشر : 
تعدّ الدراسات التي أجريت في القرن الثامن عشر حول الأبنية الاجتماعية، وأنساق القيم السائدة فيها، من أهمّ الدراسات التي مهّدت لظهور الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وكان في مقدّمتها كتاب " روح القوانين " الذي ألّفه / مونتسيكو / عالم الاجتماع الفرنسي، والذي أكّد فيه أنّ المجتمع البشري وما يحيط به، يتكوّن من مجموع نظم مترابطة، بحيث لا يمكن فهم القوانين عند أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درست العلاقات التي تحكم هذا النظام أو ذاك، بما فيها البيئة والحياة الاقتصادية، والسكان والمعتقدات والأخلاق السائدة، حيث ميّز الفيلسوف الفرسي /مونتسيكو/ بين البناء الاجتماعي والنظام القيمي، على الرغم من العلاقة بينهما. وأوضح أنّ المجتمع ذاته وما يحيط به، يتكوّن من نظم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاّ وظيفيّاً، وبالتالي لا يمكن فهم القانون العام لدى أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درسنا العلاقات بين هذه القوانين كلّها، ومن ثمّ دراسة علاقة تلك القوانين بالبيئة الطبيعيّة والحياة الاقتصادية، وعدد السكان والأعراف والتقاليد السائدة أو التي كانت سائدة .( الجباوي، 1982، ص101) 

ولكن / سان سيمون / عالم الاجتماع الفرنسي أيضاً، يعدّ أول من رأى ضرورة إنشاء علم للمجتمع، واقترح إنشاء علم وضعي للعلاقات الاجتماعية. واعتبر أنّ مهمّة علماء الاجتماع لا تقتصر على دراسة المفاهيم والتصوّرات الاجتماعية فحسب، وإنّما يجب أن تشمل تحليل الوقائع والحقائق التي تعزّزها. 

وإذا كان/ سيمون / لم يقصد تماماً إنشاء علم / الأنثروبولوجيا الاجتماعية/ وإنّما قصد إيجاد علم خاص يدرس النظم الاجتماعية وعلاقاتها دراسة موضوعيّة، فإنّ ذلك تحقّق فعلاّ بجهود تلميذه / أوغست كونت / . 

هذا في فرنسا .. أمّا في إنكلترا، فقد ظهرت دراسات تمهيدية لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما أبحاث / دافيد هيوم وآدم سميث/ حيث نُظر إلى كلّ مجتمع إنساني على أنّه نسق طبيعي ينشّأ من الطبيعة البشرية، وليس عن طريق التعاقد. ولذلك انتشرت مفاهيم جديدة، مثل : الأخلاق الطبيعية والدين الطبيعي. واعتبر المجتمع (أي مجتمع إنساني) ظاهرة طبيعية، لا بدّ من استخدام المنهج التجريبي والاستقرائي، عند دراسته بدلاّ من المناهج العقلية / الفلسفية . 

وظهرت في هذه المرحلة التمهيديّة بوادر الاهتمام بالمجتمع البدائي، اعتماداً على رحلات الاستكشاف للآثار والمتاحف والمصادر المختلفة. وقد نُظر إلى الإنسان البدائي على أنّه متوحّش في مجتمعه، وهمجي في سلوكاته .. يتناقض كليّة مع إنسان المجتمع المتمدّن والمتقدّم. وخير مثال على ذلك، ما كتبه / جون لوك / عن الهنود الحمر في أمريكا، حيث أصدر أحكاماً عامة وغير دقيقة، عن هذه الشعوب البدائية . 

والخلاصة، إنّ علماء القرن الثامن عشر وفلاسفته، مهما تكن آراؤهم، مهّدوا بشكل أساسي لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وذلك نتيجة لاهتمامهم بالنظم الاجتماعية من جهة، واعتبارهم المجتمعات الإنسانية أنساقاً طبيعية، في إطار (الطبيعة البشرية) من جهة أخرى يجب أن تدرس من خلال المناهج التجريبية، على الرغم من أنّ دراسات هؤلاء المعنيين كانت بعيدة عن طبيعة هذه المناهج، وكانت تعتمد على التحليل الصوري (الشكلي ). 

2-القرن التاسع عشر : 
يعدّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة نشوء الأنثروبولوجيا كعلم معترف به .. وقد أسهم في ذلك صدور العديد من الدراسات والكتب التي بحثت في هذا العلم وحدّدت معالمه الأساسية، ولا سيّما مؤلّفات كلّ من (تايلور وماكلينان) في إنكلترا، و (بافوفين) في سويسرا، حيث اهتمّ هؤلاء بجمع المعلومات عن الشعوب البدائية، وأبرزوها بصورة منهجية منظّمة، من خلال دراسة النظم الاجتماعية، وفي حدود الأبنية الاجتماعية لهذه المجتمعات، وليس في حدود الفلسفة وعلم النفس. فوضعوا بذلك أسس علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية. 

فقد فسّر / ماكلينان / مثلا : تحريم زواج المحارم في بعض هذه المجتمعات البدائية (نظام الزواج الأكسوجامي )، استناداً إلى ظواهر اجتماعية أو عقائد خاصة بتلك المجتمعات، رافضاً إرجاعه إلى أسباب بيولوجية أو نفسية. كما أنّ طريقة الزواج التي تتمثّل في عملية خطف العروس، لم تستند إلى نظريات نفسية أو فلسفية، وإنّما ترجع إلى عادات مترسّبة من الماضي في ممارسة السبي والاغتصاب. (لطفي، 1979، 82) 

ولم يكن رواد الأنثروبولوجيا الاجتماعية في القرن التاسع عشر، يستخدمون الدراسات الميدانية، بل اعتمدوا على أقوال الرحالة والمستكشفين ورجال الإدارة .. ولذلك، تعدّ هذه المرحلة فترة نشوء هذا العلم، وليست فترة كماله ونضجه، لأنّ الدراسات الميدانية / التطبيقية تعدّ من الركائز الأساسية لتكامل هذا العلم، بطبيعته ومنهجيّته . 

وقد تميّزت هذه المرحلة بظهور مدرستين متداخلتين، هما : النشوئية والتطوريّة. ويعود تداخلهما إلى أنّ العالِم الأنثروبولوجي، أو العالم الاجتماعي عندما يقوم بتفسير عمليّة التطوّر في أي نظام اجتماعي، من الماضي إلى الحاضر، لا بدّ أن يعمد إلى تحديد نشأة هذا النظام، وذلك بالعودة إلى المجتمعات البدائية لدراستها واستخلاص صفاتها وعلاقاتها، باعتبارها تمثّل التاريخ المبكر للجنس البشري . 

مثال ذلك : (نشأة الأسرة وتطورها) من حيث الإباحية الجنسية، وتعدّد الزوجات وصولاً إلى وحدانية الزوجة. وكذلك الانتساب إلى الأم ومن ثمّ إلى الأب. وهذه العودة إلى الشعوب البدائية، لا تقتصر على الأنثروبولوجيا فحسب، بل تشمل سائر فروع المعرفة الخاصة بالعلوم الإنسانية . 

وقد تأثّر رواد هذه المدرسة، وفي مقدّمتهم / إدوارد تايلور/ بنظرية / داروين، في تطوّر الحياة الطبيعيّة للكائنات البشرية، وتستند هذه النظرية إلى أنّ العناصر المركبّة في الحضارة الإنسانية، تتطوّر باستمرار من الأشياء البسيطة إلى الأشياء المعقّدة، وهذا ما ينسحب على تطوّر النظم الاجتماعية. 

ويرتبط اسم / داروين / على الأقلّ في أذهان عامة المثقفين في العالم، بأنّه الرجل الذي نادى بنظرية التطوّر متحدّيا فكرة الخلق، وذهب في ذلك إلى حدّ القول بانحدار البشر من القردة العليا. ولكنّ الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك، حسب تعبير الأستاذ / كريستوفر بوكر /. فلم يكن داروين هو مؤسّس تلك النظرية، إذ سبقه إليها عدد كبير من العلماء الطبيعيين الذين كانوا يرون أنّ صور الحياة المختلفة، تطوّرت كلّها على شكل واحد بسيط، أي أنّ هذه الأشكال لم تخلق خلقاً مستقلاًّ ومتميّزاً كلّ منها عن الآخر . 

وقد انتشرت هذه الأفكار قبل ظهور كتاب داروين عن " أصل الأنواع " بسبعين سنة على الأقلّ. وكان كلّ ما فعله / داروين، هو أنّه قام بتجميع تلك الأفكار والآراء المبعثرة والمتناثرة، وتحليلها بطريقة منهجية، فيها قدر كبير من محاولة الفهم والتعمّق. ومن هنا ساعد كتاب " أصل الأنواع " في توطيد فكرة التطوّر وترسيخها. ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنّ الكتاب يقدّم نظرية متماسكة عن الطريقة التي حدث فيها التطوّر، ووضع في ذلك مبدأه الشهير عن " الانتخاب الطبيعي " الذي فسّر به استمرار بعض الأنواع في الحياة ، واختفاء بعضها الآخر في معركتها الكبرى وصراعها من اجل الحياة. 

وعلى الرغم من أنّه مبدأ بيولوجي في الأصل، إلاّ أنّه كان مفيداً للأنثروبولوجيين. وفي ذلك يقول الأستاذ / ألفريد كروبر/ وهو من أكبر علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين : " إنّ هناك نوعاً من عدم التناسب بين الإسهام المحدود الذي أسهم به داروين في العلم، والذي ينحصر في وضع مبدأ الانتخاب الطبيعي وتجسيده، وبين كلّ ذلك التأثير الهائل الذي تركه تأسيس المبدأ البيولوجي على العلم الكلّي ". فقد دفع هذا المبدأ علماء القرن التاسع عشر، إلى البحث عن أصول الأشياء. وظهرت بذلك كتابات كثيرة تتناول أصل اللغة وأصل الحضارة، وأصل المجتمع والعائلة والدين، وما إلى ذلك بالطريقة نفسها التي تناول بها داروين مشكلة أصل الأنواع. (أبو زيد، 2001، 23-24 ) 

ولذلك ركّز العلماء التطوّريون، على موضوعات معيّنة : كالدين والعائلة، والنسب، واعتبروا أنّ الحضارات البدائية المعاصرة، تمثّل شواهد دالّة على مراحل التطوّر الاجتماعي التي مرّت بها الحضارة الحالية المتقدّمة . 

ولكن ثمّة صعوبات قابلتهم، في دراسة التطوّر في العصور القديمة جدّاً، ولا سيّما عصور ما قبل التاريخ، فعمدوا إلى دراسة علم الآثار أو التخمين والافتراض من أجل إثبات نظريتهم ...