تعرّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّها : دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتّخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات. (بريتشارد، 1975، ص13) ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميّز بين عبارة " ثقافة " وعبارة " مجتمع " المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما،
تعرّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّها : دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتّخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات. (بريتشارد، 1975، ص13)
ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميّز بين عبارة " ثقافة " وعبارة " مجتمع " المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما، أمّا المجتمع فهو تكتّل منظّم لعدد من الأفراد، يتفاعلون فيما بينهم ويتبعون طريقة حياة معيّنة .. وبعبارة أبسط : المجتمع مؤلّف من أناس، وطريقة سلوكهم هي ثقافتهم .
وهنا تعدّ تصنيفات المؤسّسات والأنظمة الاجتماعية، أدوات نافعة للأغراض الوصفية، كما أنّ التعميمات بالنسبة للعلاقات المتداخلة والمتبادلة بين النماذج والمؤسّسات، تساعد في الاهتداء إلى نوع من النظام وسط أوضاع تبدو مشوّشة وغامضة، وفي زيادة الفهم الحقيقي للعمليات الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، يعتمد هذا الفهم على دراسة النسق الكلّي الذي يؤلّف النظام الاجتماعي جزءاً منه. ويضمّ هذا النسق ثلاثة عناصر متميّزة، هي : شخصيّات الأفراد الذين يؤلّفون المجتمع، والبيئة الطبيعية التي يتعيّن على المجتمع أن يكيّف حياته وثقافته معها، وأخيراً المجموعة الكاملة من الوسائل الفنيّة اللازمة للمعيشة، التي تضمن استمرار بقاء المجتمع عن طريق نقلها من جيل إلى جيل. (لينتون، 1964، ص 357 )
ولكن، هل يمكن أن نفصل على هذا الشكل بين الإنسان كحيوان اجتماعي، والإنسان كمخلوق ذي ثقافة؟ أليس السلوك الاجتماعي في الواقع سلوكاً ثقافياً؟ ألم نرَ أنّ الحقيقة الكبرى في دراسة الإنسان ، هي الإنسان نفسه أكثر ممّا هي مُثُل الإنسان أو نظمه، أو حتى الأشياء المادية التي نجمت عن ارتباطه بتكتّلات نسمّيها " مجتمعات "؟
فالنظام الاجتماعي إذن، هو التعبير التقني الأنثروبولوجي الذي يدلّ على المظهر الأساسي في حياة الجماعة الإنسانية، وهو يشمل النظم التي تؤلّف إطاراً لأنواع السلوك جميعها، سواء كان فردياً أو اجتماعياً. (هرسكوفيتز، 1974، ص 20-21)
إنّ اللغة والحياة الاجتماعية المنظّمة، زوّدتا الإنسان بأدوات لنقل الثقافات، مهما بلغت من التعقيد، والمحافظة على تراثها بصورة غير إيجابية. وعملت الحياة الاجتماعية أيضاً على جعل الإنسان في حاجة إلى إرث اجتماعي، يفوق في ثروته ما تحتاج إليه الحيوانات. وتمّت المحافظة على المجتمعات البشرية، بتدريب أجيال متلاحقة من الأفراد .. ولذا كانت المجتمعات، هي نفسها، حصيلة الثقافة. (لينتون، 1964، ص 119 )
وبناء على ذلك، تهدف دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه النظم، سواء في المجتمعات القديمة التي تدرس من خلال آثارها المادية والفكرية، أو في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، التي تدرس من خلال الملاحظة المباشرة لمنجزاتها وتفاعلاتها الخاصة والعامة.
ثانياً- نشأة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وتطوّرها
يعدّ اهتمام الأنثروبولوجيا عامة، والأنثروبولوجيا الاجتماعية خاصة، بدراسة المجتمعات الإنسانية، وعلى المستويات الحضارية كافة، منطلقاً أساسيّاً من فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافها، ولا سيّما دراسة أساليب حياة المجتمعات المحلية، إلى جانب دراسات ما قبل التاريخ، ودراسات اللغات واللهجات المحلية .. وهذا ما يميّز الأنثروبولوجيا من العلوم الإنسانية / الاجتماعية الأخرى، ولا سيّما علم الاجتماع .
ويوصف علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّه علم حديث العهد، لا بل من أكثر العلوم الاجتماعية حداثة. فقد استخدم مصطلح (الانثروبولوجيا الاجتماعية) للمرّة الأولى في عام /1980/ عندما كرّمت جامعة ليفربول في بريطانيا السيد / جيمس فريزر/ ومنحته لقب الأستاذ.
ومماّ يدلّ على حداثة هذا العلم الذي يدرس الجانب الطبيعي / التطبيقي، من البنى الاجتماعية، ذلك الاختلاف الذي ما يزال قائماً بين علماء الاجتماع حول هذه التسمية : (الأنثروبولوجيا الاجتماعية ). ولكن على الرغم من حداثة هذا العلم، فقد مرّ بمراحل متعدّدة أسهمت في نشوئه وتطوّره واستكمال عناصره إلى حدّ بعيد، بدءاً من القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر.
1 القرن الثامن عشر :
تعدّ الدراسات التي أجريت في القرن الثامن عشر حول الأبنية الاجتماعية، وأنساق القيم السائدة فيها، من أهمّ الدراسات التي مهّدت لظهور الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وكان في مقدّمتها كتاب " روح القوانين " الذي ألّفه / مونتسيكو / عالم الاجتماع الفرنسي، والذي أكّد فيه أنّ المجتمع البشري وما يحيط به، يتكوّن من مجموع نظم مترابطة، بحيث لا يمكن فهم القوانين عند أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درست العلاقات التي تحكم هذا النظام أو ذاك، بما فيها البيئة والحياة الاقتصادية، والسكان والمعتقدات والأخلاق السائدة، حيث ميّز الفيلسوف الفرسي /مونتسيكو/ بين البناء الاجتماعي والنظام القيمي، على الرغم من العلاقة بينهما. وأوضح أنّ المجتمع ذاته وما يحيط به، يتكوّن من نظم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاّ وظيفيّاً، وبالتالي لا يمكن فهم القانون العام لدى أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درسنا العلاقات بين هذه القوانين كلّها، ومن ثمّ دراسة علاقة تلك القوانين بالبيئة الطبيعيّة والحياة الاقتصادية، وعدد السكان والأعراف والتقاليد السائدة أو التي كانت سائدة .( الجباوي، 1982، ص101)
ولكن / سان سيمون / عالم الاجتماع الفرنسي أيضاً، يعدّ أول من رأى ضرورة إنشاء علم للمجتمع، واقترح إنشاء علم وضعي للعلاقات الاجتماعية. واعتبر أنّ مهمّة علماء الاجتماع لا تقتصر على دراسة المفاهيم والتصوّرات الاجتماعية فحسب، وإنّما يجب أن تشمل تحليل الوقائع والحقائق التي تعزّزها.
وإذا كان/ سيمون / لم يقصد تماماً إنشاء علم / الأنثروبولوجيا الاجتماعية/ وإنّما قصد إيجاد علم خاص يدرس النظم الاجتماعية وعلاقاتها دراسة موضوعيّة، فإنّ ذلك تحقّق فعلاّ بجهود تلميذه / أوغست كونت / .
هذا في فرنسا .. أمّا في إنكلترا، فقد ظهرت دراسات تمهيدية لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما أبحاث / دافيد هيوم وآدم سميث/ حيث نُظر إلى كلّ مجتمع إنساني على أنّه نسق طبيعي ينشّأ من الطبيعة البشرية، وليس عن طريق التعاقد. ولذلك انتشرت مفاهيم جديدة، مثل : الأخلاق الطبيعية والدين الطبيعي. واعتبر المجتمع (أي مجتمع إنساني) ظاهرة طبيعية، لا بدّ من استخدام المنهج التجريبي والاستقرائي، عند دراسته بدلاّ من المناهج العقلية / الفلسفية .
وظهرت في هذه المرحلة التمهيديّة بوادر الاهتمام بالمجتمع البدائي، اعتماداً على رحلات الاستكشاف للآثار والمتاحف والمصادر المختلفة. وقد نُظر إلى الإنسان البدائي على أنّه متوحّش في مجتمعه، وهمجي في سلوكاته .. يتناقض كليّة مع إنسان المجتمع المتمدّن والمتقدّم. وخير مثال على ذلك، ما كتبه / جون لوك / عن الهنود الحمر في أمريكا، حيث أصدر أحكاماً عامة وغير دقيقة، عن هذه الشعوب البدائية .
والخلاصة، إنّ علماء القرن الثامن عشر وفلاسفته، مهما تكن آراؤهم، مهّدوا بشكل أساسي لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وذلك نتيجة لاهتمامهم بالنظم الاجتماعية من جهة، واعتبارهم المجتمعات الإنسانية أنساقاً طبيعية، في إطار (الطبيعة البشرية) من جهة أخرى يجب أن تدرس من خلال المناهج التجريبية، على الرغم من أنّ دراسات هؤلاء المعنيين كانت بعيدة عن طبيعة هذه المناهج، وكانت تعتمد على التحليل الصوري (الشكلي ).
2-القرن التاسع عشر :
يعدّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة نشوء الأنثروبولوجيا كعلم معترف به .. وقد أسهم في ذلك صدور العديد من الدراسات والكتب التي بحثت في هذا العلم وحدّدت معالمه الأساسية، ولا سيّما مؤلّفات كلّ من (تايلور وماكلينان) في إنكلترا، و (بافوفين) في سويسرا، حيث اهتمّ هؤلاء بجمع المعلومات عن الشعوب البدائية، وأبرزوها بصورة منهجية منظّمة، من خلال دراسة النظم الاجتماعية، وفي حدود الأبنية الاجتماعية لهذه المجتمعات، وليس في حدود الفلسفة وعلم النفس. فوضعوا بذلك أسس علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية.
فقد فسّر / ماكلينان / مثلا : تحريم زواج المحارم في بعض هذه المجتمعات البدائية (نظام الزواج الأكسوجامي )، استناداً إلى ظواهر اجتماعية أو عقائد خاصة بتلك المجتمعات، رافضاً إرجاعه إلى أسباب بيولوجية أو نفسية. كما أنّ طريقة الزواج التي تتمثّل في عملية خطف العروس، لم تستند إلى نظريات نفسية أو فلسفية، وإنّما ترجع إلى عادات مترسّبة من الماضي في ممارسة السبي والاغتصاب. (لطفي، 1979، 82)
ولم يكن رواد الأنثروبولوجيا الاجتماعية في القرن التاسع عشر، يستخدمون الدراسات الميدانية، بل اعتمدوا على أقوال الرحالة والمستكشفين ورجال الإدارة .. ولذلك، تعدّ هذه المرحلة فترة نشوء هذا العلم، وليست فترة كماله ونضجه، لأنّ الدراسات الميدانية / التطبيقية تعدّ من الركائز الأساسية لتكامل هذا العلم، بطبيعته ومنهجيّته .
وقد تميّزت هذه المرحلة بظهور مدرستين متداخلتين، هما : النشوئية والتطوريّة. ويعود تداخلهما إلى أنّ العالِم الأنثروبولوجي، أو العالم الاجتماعي عندما يقوم بتفسير عمليّة التطوّر في أي نظام اجتماعي، من الماضي إلى الحاضر، لا بدّ أن يعمد إلى تحديد نشأة هذا النظام، وذلك بالعودة إلى المجتمعات البدائية لدراستها واستخلاص صفاتها وعلاقاتها، باعتبارها تمثّل التاريخ المبكر للجنس البشري .
مثال ذلك : (نشأة الأسرة وتطورها) من حيث الإباحية الجنسية، وتعدّد الزوجات وصولاً إلى وحدانية الزوجة. وكذلك الانتساب إلى الأم ومن ثمّ إلى الأب. وهذه العودة إلى الشعوب البدائية، لا تقتصر على الأنثروبولوجيا فحسب، بل تشمل سائر فروع المعرفة الخاصة بالعلوم الإنسانية .
وقد تأثّر رواد هذه المدرسة، وفي مقدّمتهم / إدوارد تايلور/ بنظرية / داروين، في تطوّر الحياة الطبيعيّة للكائنات البشرية، وتستند هذه النظرية إلى أنّ العناصر المركبّة في الحضارة الإنسانية، تتطوّر باستمرار من الأشياء البسيطة إلى الأشياء المعقّدة، وهذا ما ينسحب على تطوّر النظم الاجتماعية.
ويرتبط اسم / داروين / على الأقلّ في أذهان عامة المثقفين في العالم، بأنّه الرجل الذي نادى بنظرية التطوّر متحدّيا فكرة الخلق، وذهب في ذلك إلى حدّ القول بانحدار البشر من القردة العليا. ولكنّ الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك، حسب تعبير الأستاذ / كريستوفر بوكر /. فلم يكن داروين هو مؤسّس تلك النظرية، إذ سبقه إليها عدد كبير من العلماء الطبيعيين الذين كانوا يرون أنّ صور الحياة المختلفة، تطوّرت كلّها على شكل واحد بسيط، أي أنّ هذه الأشكال لم تخلق خلقاً مستقلاًّ ومتميّزاً كلّ منها عن الآخر .
وقد انتشرت هذه الأفكار قبل ظهور كتاب داروين عن " أصل الأنواع " بسبعين سنة على الأقلّ. وكان كلّ ما فعله / داروين، هو أنّه قام بتجميع تلك الأفكار والآراء المبعثرة والمتناثرة، وتحليلها بطريقة منهجية، فيها قدر كبير من محاولة الفهم والتعمّق. ومن هنا ساعد كتاب " أصل الأنواع " في توطيد فكرة التطوّر وترسيخها. ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنّ الكتاب يقدّم نظرية متماسكة عن الطريقة التي حدث فيها التطوّر، ووضع في ذلك مبدأه الشهير عن " الانتخاب الطبيعي " الذي فسّر به استمرار بعض الأنواع في الحياة ، واختفاء بعضها الآخر في معركتها الكبرى وصراعها من اجل الحياة.
وعلى الرغم من أنّه مبدأ بيولوجي في الأصل، إلاّ أنّه كان مفيداً للأنثروبولوجيين. وفي ذلك يقول الأستاذ / ألفريد كروبر/ وهو من أكبر علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين : " إنّ هناك نوعاً من عدم التناسب بين الإسهام المحدود الذي أسهم به داروين في العلم، والذي ينحصر في وضع مبدأ الانتخاب الطبيعي وتجسيده، وبين كلّ ذلك التأثير الهائل الذي تركه تأسيس المبدأ البيولوجي على العلم الكلّي ". فقد دفع هذا المبدأ علماء القرن التاسع عشر، إلى البحث عن أصول الأشياء. وظهرت بذلك كتابات كثيرة تتناول أصل اللغة وأصل الحضارة، وأصل المجتمع والعائلة والدين، وما إلى ذلك بالطريقة نفسها التي تناول بها داروين مشكلة أصل الأنواع. (أبو زيد، 2001، 23-24 )
ولذلك ركّز العلماء التطوّريون، على موضوعات معيّنة : كالدين والعائلة، والنسب، واعتبروا أنّ الحضارات البدائية المعاصرة، تمثّل شواهد دالّة على مراحل التطوّر الاجتماعي التي مرّت بها الحضارة الحالية المتقدّمة .
ولكن ثمّة صعوبات قابلتهم، في دراسة التطوّر في العصور القديمة جدّاً، ولا سيّما عصور ما قبل التاريخ، فعمدوا إلى دراسة علم الآثار أو التخمين والافتراض من أجل إثبات نظريتهم ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق