‏إظهار الرسائل ذات التسميات مؤسسة هنداوي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مؤسسة هنداوي. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 10 يوليو 2014

عدوي الرقمي

عدوي الرقمي

احمد خالد توفيق



كنتُ من أوائل من تعاملوا مع الكمبيوتر في مجتمعي، ولفترة طويلة في التسعينيات كان اسمي يقترن لدى معارفي بألغاز الكمبيوتر والبرمجة، ثم بدأت أتعب، فأتوقف، فأتراجع. أتراجع بسرعة البرق، لدرجة أنني لا أفهم اليوم نصف أي محادثة بين شابَّيْن عاديين حول آخر الإصدارات، كما أنني عاجز عن فهم الشبكات الاجتماعية؛ مثل: فيسبوك، وتويتر … إلخ. ولربما يأتي اليوم الذي أعجز فيه عن معرفة كيفية فتح جهاز الكمبيوتر، مثلما كان أبي — يرحمه الله — يجِد عسرًا في التعامل مع جهاز الكاسيت


برغم هذا ارتبطَتْ حياتُنا لدرجة غير مسبوقة بهذا الكائن الشرير، وبُبطء شديد تغلغل في عالمنا. تذكر أنه في عام ١٩٩٥ لم يكن هناك مخلوق على الأرض يملك عنوان بريد إلكتروني — والكلام للكاتب الأمريكي نبي العولمة توماس فريدمان — واليوم يستحيل تقريبًا أن تجد شخصًا بلا عنوان بريد إلكتروني أو صفحة فيسبوك. حياتنا كلها تحولت إلى ومضات إلكترونية … واحد … صفر … واحد … صفر … لا أذكر أنني كتبت حرفًا على الورقة منذ خمسة عشر عامًا بالضبط. والنتيجة هي أن خَطِّي صار لا يُقرَأ بسبب ضمور عدم الاستعمال. كان خطي أفضل من هذا منذ عشرين سنة.

كل شيء رقميٌّ … ولهذا عندما تخذلك أشباه الموصِّلات المعدنية المؤكسدة تلك فإن العالم كله ينهار.

لحظة الصفر … العودة للعدم وما قبل الخليقة … كل من مُسِحَتِ الأرقام على جهاز المحمول الخاص به جرَّب شعورًا كهذا. عليك أن تبدأ في تكوين ذاكرة جديدة وربما أصدقاء جديدين. عليك أن توجد.

لكن المشكلة في مصر تزداد تعقيدًا …

دخلتُ إلى المصرف لأسحب مالًا في ذلك اليوم القائظ. كان أمامي عدد هائل ممَّن ينتظرون دورهم … لكن لا بأس … هذه هي قواعد اللعبة. تُجْرِي حسبة بسيطة فتستنتج أن متوسط الوقت المخصص للعميل عشر دقائق، وهناك خمسة شبابيك تعمل؛ وهذا معناه أن أمامك ساعة تقريبًا …

فجأة يَسُود الظلام … انقطعت الكهرباء، ومعها انقطع الهواء والأمل والأمن والرؤية … صحيح أن هناك أضواء من الأجهزة، لكنه جهاز UPS الذي لن يعمل طويلًا على كل حال.

تنتظر في الظلام الحار ذلك الصوت المُطَمْئِنَ لهدير المولِّد، لكنه لا يأتي أبدًا … ساعة ونصف في الحر، ويظهر عم بسيوني أو عم صلاح الكهربائي الغارق في العرق يحمل مفك اختبار ومفتاحًا إنجليزيًّا، ويغيب في القبو حيث المولِّد الميت … أحدهم نظر لي بعينين لا تريان، وقال دون أن أسأله: «الشربون متآكل!»

ثم توارى في القبو … لا أفهم علاقة الشربون بمالي الذي لا أستطيع استرجاعه، والقسط الذي لن أدفعه، لكني اعتبرته ردًّا مُطَمْئنًا. وعندما سألني أحد الواقفين عمَّا قاله لي الرجل، قلتُ في ثقة: «الشربون متآكل.»

وبالطبع خجل أن يسأل … يا له من جاهل! ساعة أخرى مرت، ثم عاد التيار الكهربي من تلقاء نفسه … فقط لتبدأ مشكلة أخرى: لا شيء يحدث. لحظة انتظار طويلة ذات طابع ديني لا تفهم ما هو … فلما سألتُ عرفتُ الإجابة الجديدة: «السستم واقع.»

أي إن الوحش العملاق المسيطر على كل شيء هنا كأنه إله وثني قديم، هذا الوحش قد نام. ولا يعرف أحد متى يقرر أن يصحو… هكذا تمضي ساعة أخرى حتى يصحو السستم من غفوته الأبدية تحت أعماق المحيط… كتولو المرعب ينهض…

تذهب للمحطة لتحجز تذكرة لقطار بعد يومين، فتجد الموظف خلف الشباك جالسًا يلتهم الفول ويشرب الشاي مع صديق عمره … يقول لك وفمه مليء بالفول: «السستم واقع.»

تسأله في جزع عمَّا إذا كان السستم سينهض وينتصر على هزيمته … كلنا نقع ونقوم … فيقول لك وهو يُلحق الفول بجرعة شاي كبيرة: «الله أعلم.»

هكذا تلغي سفرك ببساطة. لا أعرف متى يتم حجز التذاكر؛ لأنني لم أَرَ هذا الكمبيوتر العجيب يعمل قط. لقد اشتروه كي يمنعونا من السفر.

في السنترال تذهب لدفع فاتورة الهاتف. الطابور طويل جدًّا، لكنَّ مِصْرَ علَّمتْكَ الصبر، وعلَّمتْكَ أن أي طابور يقل عن خمسمائة واحد هو طابور قصير وسهل! بالفعل يتحرك الطابور بسرعة … ساعة أخرى وسوف تصل للشباك. لكن الرجل الذي أمامك يظل واقفًا بلا حركة. هنا يقول الواقف في أول الطابور: «السستم واقع.»

وهكذا يتحول الأمر إلى طابور أبدي … فقط يطلب مَن أمامك أن تتذكر مكانه ويذهب ليفطر أو ليشرب حجرًا في المقهى القريب. الشيخ الواقف خلفك يقول إنه ذاهب ليجلس؛ لأنه لا يشعر بقدميه. تنتظر وتنتظر حتى يعود السستم للحياة. لكن هذا يسمح بذهاب ثلاثة زبائن لبيوتهم ثم يسقط من جديد …

ماذا يحدث هنا؟ هل قَلَّل الكمبيوتر مشاكل الحياة فعلًا؟!

تنظر لإعلانات الشركة المصرية للاتصالات من حولك. شباب ناجحون يلبَسون ربطات العنق ويضحكون، وفتيات بارعات الحسن يلعبن مع أطفال يَصْلحون للتصوير على علب الألبان أو الحفاضات. الكل سعيد بالتطوير … ثورة الاتصالات … إنه الغد … وكلهم يتهكَّمون عليك أنت. أنت الأحمق الذي أضاع يومه ليدفع نقودًا … تخيَّل لو كنت تطلب نقودًا … لربما ألقَوْا بك في الزيت المغلي، ثم رموا جثتك للكلاب!

عندما عُدْتُ للبيت وجدتُ أن الكهرباء منقطعة، وهذه مزية أخرى. كلما ذهبتَ لمكان وجدتَ أن الكهرباء انقطعت فيه منذ ثلاث دقائق، فلا تعود إلا عندما تغادره لمكان آخر تنقطع الكهرباء فيه بمجرد دخولك. كان هناك فيلم رعب شهير ينظر فيه رجال الشرطة إلى خارطة على شاشة، فيرون أن الكهرباء تنقطع في المكان الذي يتحرك فيه المسخ. أنا ألعب دور المسخ هنا. عندما عاد التيار الكهربائي — وهذه ليست مزحة بل حدثت والله العظيم — اكتشفتُ أن الإنترنت مقطوعة. حدث حريق في السنترال الذي يضم سِرفرات الشركة في بلدتي. بعدما سمعت تراث الموسيقى العالمية لمدة ثلاث ساعات و«عميلنا العزيز… جميع مندوبينا مشغولون بالرد على المكالمات.» قال لي موظف الدعم الفني: «لا نعرف متى تعود الإنترنت… ربما بعد ربع ساعة، وربما بعد يومين، وربما بعد شهرين…»

هكذا قال بالحرف، وهي رسالة مفيدة جدًّا كما ترى.

هكذا يمكن تلخيص رأيي: كل تراثنا وتجاربنا ومعلوماتنا تحوَّلَتْ إلى شحنات كهربية محفوظة في أجهزة، وهذه الأجهزة تتلف أو تنقطع عنها الكهرباء طيلة الوقت. ربما كان الكمبيوتر مفيدًا بشدة، لكنه ليس كذلك في مصر حيث زاد الحياة تعقيدًا وبطئًا. في الماضي كان كل شيء يتم بدفاتر… صحيح أنها عملية مرهقة، لكنها بشيء من النظام كانت تتم. أما اليوم، فقد نجح الكمبيوتر في تحويل العملية إلى جحيم. هذا لا يعني أن الكمبيوتر اختراع فاشل… بل يعني أنه لا يناسب مصر؛ حيث تنقطع الكهرباء كل ساعتين، وحيث ينسى الميكانيكي الشربون، وحيث تقع أنظمة الكمبيوتر ببساطة، وحيث تحترق السنترالات، وحيث…

زهققققققققققققققققققققققققققققققققت!
 

«مصر في ثلثي قرن»

«مصر في ثلثي قرن» كتاب لمحمد مصطفى الههياوي قام فيه بالتصدي لمحاولات الإستعمار البريطاني بتبرير مشروعية الاحتلال عن طريق المزج بين الكتابة السياسية والتاريخية، وهو ما قام بالتصدي له عن طريق إجلاء الحقيقة التاريخية دون زيف أو تحريف ...
حمّله مجانًا على:  http://bit.ly/1qJmPWk
‏«مصر في ثلثي قرن» كتاب لمحمد مصطفى الههياوي قام فيه بالتصدي  لمحاولات الإستعمار البريطاني بتبرير مشروعية الاحتلال عن طريق المزج بين الكتابة السياسية والتاريخية، وهو ما قام بالتصدي له عن طريق إجلاء الحقيقة التاريخية دون زيف أو تحريف ... حمّله مجانًا على: http://bit.ly/1qJmPWk‏

مخيلة الخندريس

مخيلة الخندريس
الاديب السوداني العربي :بركة ساكن
‏في «مخيلة الخندريس» -  الرواية التي وقع عليها الاختيار سنة ٢٠١٣م لتُدرَّس في المعهد العالي الفني بمدينة «سالفدن» النمساوية - تظل القضية الأساسية لدي «بركة ساكن»؛ هي قضية المهمشين الذين لم يختاروا قط ظروفهم السيئة بل وقد تم لفظهم من قِبَل المجتمع كأنهم وباء ... حمّلها مجانًا على: http://bit.ly/1qMwrjh‏
في «مخيلة الخندريس» - الرواية التي وقع عليها الاختيار سنة ٢٠١٣م لتُدرَّس في المعهد العالي الفني بمدينة «سالفدن» النمساوية - تظل القضية الأساسية لدي «بركة ساكن»؛ هي قضية المهمشين الذين لم يختاروا قط ظروفهم السيئة بل وقد تم لفظهم من قِبَل المجتمع كأنهم وباء ...
حمّلها مجانًا على: http://bit.ly/1qMwrjh

الاثنين، 7 يوليو 2014

حكايات النوم أحمد خالد توفيق

سمعت الكثير من حكايات ما قبل النوم، لكني — على قدر علمي — لم أسمع حكايات النوم نفسه من قبلُ. سأعترف لك أنني أحب النوم وأحترمه كفَنٍّ راقٍ، لكني لم أمارسْه ببراعةٍ قط … أعرف أشخاصًا ينامون وهم يستكملون كلامهم معك، ومن ينامون بمجرد أن يميل رأسهم بزاويةٍ أقل من ٩٠ درجة. يعني لو صارت الزاوية ٨٨ درجة لتعالى شخيرهم باعتبارهم في وضعٍ مناسبٍ للنوم. كان هناك لغم دبابات ألماني يعمل بهذه الطريقة. هؤلاء هم أنقياء الضمير الأطهار، وهم يختلفون كليةً عن الأوغاد مُثْقَلِي الضمير مثلي على ما يبدو.
تعلمت دومًا منذ طفولتي أن أهاب ساعات الليل؛ لأنها تحمِل الأرقَ والشعور بالوحدة وسط الآخرين الذين يُجيدون فن النوم ويتعالى شخيرهم … أنا مختلف … هكذا تقول لي ساعات الوحدة القلقة في الظلام. دعك من أنني من البؤساء الذين يراقبون عملية النوم ويتربصون بقدومه، والنوم فراشة لا تهبط على كَفِّكَ أبدًا إلا عندما تَغفُل عنها. مهما كنت مرهقًا أو محتاجًا إلى النوم فمن المستحيل أن يتم الأمر بسلاسة، وبما أنني ضمن العصابيين بامتياز؛ فإن ثنية واحدة في المُلاءة تكفي لتجعل حياتي جحيمًا. تتمنى أن تتعلم شيئًا من القطط، والقطط — كما تعلم — خبيرة نوم متخصصة فيه، وتعرف كيف تنعم بكل ثانية منه، ثم تنهض وتتمطى وتصحو مفعَمة بالنشاط، بينما تصحو أنت من النوم كأنما مَرَّتْ على جسدك دبابة بانزر. تعلَّمْتُ التعامل مع المنوِّمات منذ وقتٍ قريبٍ جدًّا، ولكن المشكلة هي أنك ستجدها حلًّا بارعًا سهلًا، ولن تنام بعدها تلقائيًّا أبدًا. لفترةٍ تحمَّس الناس للميلاتونين الذي يفرزه الجسم الصنوبري، وعرفنا أن أساتذة اليوجا الهنود يبدءون يومهم بشرب كوب من بَوْلهم؛ لأنه يحوي تركيزًا هائلًا من الميلاتونين، وهي مادة قادرة على ضبط إيقاع النوم والوصول إلى حالة «النيرفانا». كلنا تناسَيْنا موضوع البول هذا وأخذنا أقراص الميلاتونين ليلًا، وصحونا شاعرِين بأننا كُنَّا في خلاط أسمنت. لو كانت هذه هي النيرفانا فلتذهب للجحيم.
عرفت امرأة كانت تقول لي إنها كلما شعرت بالأرقِ نهضت لتتناول لُقمة خبز كبيرة … تتوقف اللقمة في بلعومها فتختنق ويرتفع ثاني أكسيد الكربون في دَمِها … وهكذا تنعم بالنوم في كل ليلة! طريقة عنيفة ولا تروق لي جدًّا. هناك طريقةُ عَدِّ الغنم في الظلام، وهي طريقة لم تُفلح معي قط؛ لأنني كنت أتخيل شكل الغنم وشكل القرون وشكل الحاجز بدقة بالغة … النتيجة هي توتُّر مفرط …
منذ أعوام لم نكن نسمع عن توقُّف التنفُّس أثناء النوم Sleep apnoea، ثم اخترع الأطباء هذا المرض كما اخترعوا السرطان والإيدز، وصار هناك مختبر نوم، وعرَفنا هذه الكارثة التي تصيب أشخاصًا كثيرين، وبصفةٍ خاصة البدينين والمدخنين. هذا البائس يصحو من نومه مذعورًا عشرات المرات أثناء النوم لأن نَفَسَه قد انقطع، ثم يعاود النوم. الفكرة هي أنه لا يذكر هذا عندما يصحو صباحًا، لكنه يعاني كل أعراض الانقطاع عن النوم؛ فرأسه يوشك على أن ينفجر من الصداع، وهو يشعر بخمول شديد، وغالبًا ما يفسر هذا بالاكتئاب أو تأثير أم العيال النكدية … سوف يحاول تذكُّر اسم ابن خالته لكنه عاجز عن هذا. طبعًا قيادة سيارة في حالةٍ كهذه معناها حادث ينتظر أن يحدث. كل اضطرابات النوم والساعة الداخلية تقود لحوادث … لاحظوا في الغرب أن تقديم الساعة — كما في المواعيد الصيفية — يضاعف حوادث المرور لمدة ٣ أيام تالية.
لاحظت أن معظم المصابين بمرض توقُّف التنفس أثناء النوم يعانون ارتفاع ضغط الدم والبدانة. والتشخيص يتم عبر ما يسمى مختبر النوم الذي يراقب سلوك المريض وهو نائم. العلاج جراحة معقَّدة لانتزاع سقف الحلق الناعم، أو جهاز تنفُّس له ضغط عالٍ يتنفس منه ليلًا.
في قصة الجاسوسية الممتعة «٣٦ ساعة» التي كتبها رو آلد دال، يقوم النازيون بتعذيب العميل الأمريكي بايك عن طريق حرمانه من النوم. هناك جندي يقف جواره ويركله أو يضربه أو يسكب ماءً باردًا عليه كلما أوشك على النوم. النتيجة هي أن العميل يدخل في حالة معقَّدة بين النوم واليقظة Hypnagogia فلا يعرف إن كان ما يدور حوله حقيقيًّا أم خرافة. يصير مستعدًّا للاعتراف بأي شيء.
منذ عام ٢٠١٠ انتشرت قصة مخيفة على شبكة الإنترنت تحكي عن تجرِبة مماثلة قام بها السوفييت، ولا شك أنك تعرفها من الفيس بوك؛ لأنها منتشرة بين الشباب جدًّا. نظرًا لسُمك الستار الحديدي وولع السوفييت بالغموض، فإنه من السهل أن تصدق أي شيء. تحكي القصة عن قيام الباحثين السوفييت عام ١٩٤٠ — في ذروة الحرب العالمية الثانية — بإبقاء خمسة سجناء متيقظين لمدة ١٥ يومًا، وذلك عن طريق غاز منبِّه معين اسمه «غاز نيكولاييف». لم تَكُنْ هناك دوائر كاميرا مغلقة؛ لذا كان التفاهُم يتم معهم عن طريق الميكروفون وعبر زجاج النافذة السميك. في الغرفة كان كل ما يلزم للحياة لمدة شهر؛ مِن كتبٍ وماءٍ وطعامٍ، لكن لا أَسرَّة.
مضت التجربة في سلامٍ أول خمسة أيام، وطبعًا كان الخمسةُ سجناءَ حرب. لا يمكن أن تتخيل أن يتطوع أحدهم لهذا الخبال. بعد خمسة أيام بدأ السجناء يتكلَّمون عن الظروف القاسية التي قادتهم لهذا الوضع … بدأت أعراض البارانويا، وبدأ كلٌّ منهم يهمس في الميكروفون عارضًا الاعتراف على زملائه.
بعد تسعة أيام بدأ الصراخ من أحدهم … ظل يصرخ من أعماق قلبه ثلاث ساعات حتى مزق أحباله الصوتية … المرعب ليس الصراخ، بل كوْن أي واحد من رفاقه لم يُبالِ بما يحدث كأنهم لم يسمعوا. راحوا يمزِّقون الكتب ويلوِّثونها ببرازهم ثم يلصقونها على فتحات الغاز. في اليوم الرابع عشر لم يعُد السجناء يستجيبون … برغم النداء المتكرر عليهم في الإنتركوم. هكذا اضْطُرَّ مصمِّمو التجربة إلى دخول الغرفة بعدما هدَّدوا السجناء بالقتل لو حاولوا الهرب. كانت النتيجة هي أن صوتًا هادئًا رد على التهديد: «لا نريد الخروج من هنا.»
تم اقتحام الغرفة وضخوا فيها الهواء النقي وطردوا الغاز … لكنهم سمعوا السجناء يتوسلون كي يبقى الغاز في الغرفة. فوجئ الجنود بأن هناك أربعة سجناء أحياء من خمسة … ليسوا أحياءً بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد انتزعوا بعض قطع لحم الميت وسَدُّوا بها البالوعة، فارتفع الماء الدامي في أرض الزنزانة. كان معظم الناجين يعانون من تمزُّق قطع لحم من أفخاذهم وأذرُعهم. واضحٌ أن معظم هذه الجروح تمت بأصابعهم هُم؛ أي إن كل واحد مزَّق لحمه بنفسه. تمضي القصة أكثر لتزعم أن الضلوع والرئتين كانت ظاهرة لدى الأربعة، وكذلك أعضاء ما تحت الحجاب الحاجز. من الواضح أنهم كانوا يتغذَّوْن على لحمهم الخاص. من الغريب أن السجناء قاوموا بشدةٍ محاولات أخْذهم من الغرفة، وانتزعوا حنجرة جندي سوفييتي وشريان فخذ جندي آخر … لقد كانت التجربة قاسية على الجنود أنفسهم لدرجة أن خمسة منهم انتحروا في الأسابيع التالية. أما عن السجناء الباقين فقد نُقِلُوا لمصحة نفسية وهم لا يَكُفُّون عن طلب الغاز، وكانت هناك استحالة في تخديرهم لإجراء جراحة … لم يستجيبوا للمخدِّر بأي شكل، وأحدهم مَزَّق الحزام الذي يربطه لمنضدة الجراحة. أحد المرضى راح يضحك أثناء الجراحة لدرجة أن الجرَّاح لم يستطِعِ العمل. كان السجناء يرغبون في مزيدٍ من الغاز ليظلوا متيقِّظِين. للقصة نهاية درامية حول أحد العلماء الذي قَتل السجناءَ رحمةً بهم، ثم قتل القائد السوفييتي بعدما ألقى أحد السجناء كلمة بليغة حول: «أنت تتساءل من نحن … أنت تخشانا لأننا الجنون الكامن فيك والذي يحاول أن يخرج … إلخ … إلخ.»
هذه الخطبة الأخيرة كانت كافية لتهدم مصداقية القصة لديَّ؛ جوُّها مسرحي أكثر ممَّا ينبغي.
قالت مواقع التدقيق في الخرافات إن هذه القصة خيالية نشرها موقع مختص بالقصص الغريبة اسمه «كريبي باستا»، ويقال إن مؤلفها يُسمِّي نفسه «صودا البرتقال». سرعان ما تتسرب هذه القصص الخرافية لتصير أخبارًا يعتقد الناس أنها حقيقية … بل هم يرغبون في أن تكون حقيقية.
على الأقل مهما كان المرء ضحية للأرقِ فلن يبلغ الأمر هذه الدرجة من السوء، ولن يلتهم لحم فخذَيه. هذه مزية سماع القصص المرعبة. راقت لي هذه القصة، ليس لأنها مخيفة، بل لأنها نواة رواية ممتازة يمكن وضع خطوطها العريضة. نسيت طبعًا أن أقول لك إن بدء الكتابة والاستذكار طريقتان ممتازتان كي يأتيَ النعاس، هكذا سقط القلم من يدي وأنا أحاول رسم خطة الرواية، وهكذا حَلَّت هذه القصة الخرافية مشكلتي الخاصة!