سمعت الكثير من حكايات ما قبل النوم، لكني — على قدر علمي — لم أسمع حكايات النوم نفسه من قبلُ. سأعترف لك أنني أحب النوم وأحترمه كفَنٍّ راقٍ، لكني لم أمارسْه ببراعةٍ قط … أعرف أشخاصًا ينامون وهم يستكملون كلامهم معك، ومن ينامون بمجرد أن يميل رأسهم بزاويةٍ أقل من ٩٠ درجة. يعني لو صارت الزاوية ٨٨ درجة لتعالى شخيرهم باعتبارهم في وضعٍ مناسبٍ للنوم. كان هناك لغم دبابات ألماني يعمل بهذه الطريقة. هؤلاء هم أنقياء الضمير الأطهار، وهم يختلفون كليةً عن الأوغاد مُثْقَلِي الضمير مثلي على ما يبدو.
تعلمت دومًا منذ طفولتي أن أهاب ساعات الليل؛ لأنها تحمِل الأرقَ والشعور بالوحدة وسط الآخرين الذين يُجيدون فن النوم ويتعالى شخيرهم … أنا مختلف … هكذا تقول لي ساعات الوحدة القلقة في الظلام. دعك من أنني من البؤساء الذين يراقبون عملية النوم ويتربصون بقدومه، والنوم فراشة لا تهبط على كَفِّكَ أبدًا إلا عندما تَغفُل عنها. مهما كنت مرهقًا أو محتاجًا إلى النوم فمن المستحيل أن يتم الأمر بسلاسة، وبما أنني ضمن العصابيين بامتياز؛ فإن ثنية واحدة في المُلاءة تكفي لتجعل حياتي جحيمًا. تتمنى أن تتعلم شيئًا من القطط، والقطط — كما تعلم — خبيرة نوم متخصصة فيه، وتعرف كيف تنعم بكل ثانية منه، ثم تنهض وتتمطى وتصحو مفعَمة بالنشاط، بينما تصحو أنت من النوم كأنما مَرَّتْ على جسدك دبابة بانزر. تعلَّمْتُ التعامل مع المنوِّمات منذ وقتٍ قريبٍ جدًّا، ولكن المشكلة هي أنك ستجدها حلًّا بارعًا سهلًا، ولن تنام بعدها تلقائيًّا أبدًا. لفترةٍ تحمَّس الناس للميلاتونين الذي يفرزه الجسم الصنوبري، وعرفنا أن أساتذة اليوجا الهنود يبدءون يومهم بشرب كوب من بَوْلهم؛ لأنه يحوي تركيزًا هائلًا من الميلاتونين، وهي مادة قادرة على ضبط إيقاع النوم والوصول إلى حالة «النيرفانا». كلنا تناسَيْنا موضوع البول هذا وأخذنا أقراص الميلاتونين ليلًا، وصحونا شاعرِين بأننا كُنَّا في خلاط أسمنت. لو كانت هذه هي النيرفانا فلتذهب للجحيم.
عرفت امرأة كانت تقول لي إنها كلما شعرت بالأرقِ نهضت لتتناول لُقمة خبز كبيرة … تتوقف اللقمة في بلعومها فتختنق ويرتفع ثاني أكسيد الكربون في دَمِها … وهكذا تنعم بالنوم في كل ليلة! طريقة عنيفة ولا تروق لي جدًّا. هناك طريقةُ عَدِّ الغنم في الظلام، وهي طريقة لم تُفلح معي قط؛ لأنني كنت أتخيل شكل الغنم وشكل القرون وشكل الحاجز بدقة بالغة … النتيجة هي توتُّر مفرط …
منذ أعوام لم نكن نسمع عن توقُّف التنفُّس أثناء النوم Sleep apnoea، ثم اخترع الأطباء هذا المرض كما اخترعوا السرطان والإيدز، وصار هناك مختبر نوم، وعرَفنا هذه الكارثة التي تصيب أشخاصًا كثيرين، وبصفةٍ خاصة البدينين والمدخنين. هذا البائس يصحو من نومه مذعورًا عشرات المرات أثناء النوم لأن نَفَسَه قد انقطع، ثم يعاود النوم. الفكرة هي أنه لا يذكر هذا عندما يصحو صباحًا، لكنه يعاني كل أعراض الانقطاع عن النوم؛ فرأسه يوشك على أن ينفجر من الصداع، وهو يشعر بخمول شديد، وغالبًا ما يفسر هذا بالاكتئاب أو تأثير أم العيال النكدية … سوف يحاول تذكُّر اسم ابن خالته لكنه عاجز عن هذا. طبعًا قيادة سيارة في حالةٍ كهذه معناها حادث ينتظر أن يحدث. كل اضطرابات النوم والساعة الداخلية تقود لحوادث … لاحظوا في الغرب أن تقديم الساعة — كما في المواعيد الصيفية — يضاعف حوادث المرور لمدة ٣ أيام تالية.
لاحظت أن معظم المصابين بمرض توقُّف التنفس أثناء النوم يعانون ارتفاع ضغط الدم والبدانة. والتشخيص يتم عبر ما يسمى مختبر النوم الذي يراقب سلوك المريض وهو نائم. العلاج جراحة معقَّدة لانتزاع سقف الحلق الناعم، أو جهاز تنفُّس له ضغط عالٍ يتنفس منه ليلًا.
في قصة الجاسوسية الممتعة «٣٦ ساعة» التي كتبها رو آلد دال، يقوم النازيون بتعذيب العميل الأمريكي بايك عن طريق حرمانه من النوم. هناك جندي يقف جواره ويركله أو يضربه أو يسكب ماءً باردًا عليه كلما أوشك على النوم. النتيجة هي أن العميل يدخل في حالة معقَّدة بين النوم واليقظة Hypnagogia فلا يعرف إن كان ما يدور حوله حقيقيًّا أم خرافة. يصير مستعدًّا للاعتراف بأي شيء.
منذ عام ٢٠١٠ انتشرت قصة مخيفة على شبكة الإنترنت تحكي عن تجرِبة مماثلة قام بها السوفييت، ولا شك أنك تعرفها من الفيس بوك؛ لأنها منتشرة بين الشباب جدًّا. نظرًا لسُمك الستار الحديدي وولع السوفييت بالغموض، فإنه من السهل أن تصدق أي شيء. تحكي القصة عن قيام الباحثين السوفييت عام ١٩٤٠ — في ذروة الحرب العالمية الثانية — بإبقاء خمسة سجناء متيقظين لمدة ١٥ يومًا، وذلك عن طريق غاز منبِّه معين اسمه «غاز نيكولاييف». لم تَكُنْ هناك دوائر كاميرا مغلقة؛ لذا كان التفاهُم يتم معهم عن طريق الميكروفون وعبر زجاج النافذة السميك. في الغرفة كان كل ما يلزم للحياة لمدة شهر؛ مِن كتبٍ وماءٍ وطعامٍ، لكن لا أَسرَّة.
مضت التجربة في سلامٍ أول خمسة أيام، وطبعًا كان الخمسةُ سجناءَ حرب. لا يمكن أن تتخيل أن يتطوع أحدهم لهذا الخبال. بعد خمسة أيام بدأ السجناء يتكلَّمون عن الظروف القاسية التي قادتهم لهذا الوضع … بدأت أعراض البارانويا، وبدأ كلٌّ منهم يهمس في الميكروفون عارضًا الاعتراف على زملائه.
بعد تسعة أيام بدأ الصراخ من أحدهم … ظل يصرخ من أعماق قلبه ثلاث ساعات حتى مزق أحباله الصوتية … المرعب ليس الصراخ، بل كوْن أي واحد من رفاقه لم يُبالِ بما يحدث كأنهم لم يسمعوا. راحوا يمزِّقون الكتب ويلوِّثونها ببرازهم ثم يلصقونها على فتحات الغاز. في اليوم الرابع عشر لم يعُد السجناء يستجيبون … برغم النداء المتكرر عليهم في الإنتركوم. هكذا اضْطُرَّ مصمِّمو التجربة إلى دخول الغرفة بعدما هدَّدوا السجناء بالقتل لو حاولوا الهرب. كانت النتيجة هي أن صوتًا هادئًا رد على التهديد: «لا نريد الخروج من هنا.»
تم اقتحام الغرفة وضخوا فيها الهواء النقي وطردوا الغاز … لكنهم سمعوا السجناء يتوسلون كي يبقى الغاز في الغرفة. فوجئ الجنود بأن هناك أربعة سجناء أحياء من خمسة … ليسوا أحياءً بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد انتزعوا بعض قطع لحم الميت وسَدُّوا بها البالوعة، فارتفع الماء الدامي في أرض الزنزانة. كان معظم الناجين يعانون من تمزُّق قطع لحم من أفخاذهم وأذرُعهم. واضحٌ أن معظم هذه الجروح تمت بأصابعهم هُم؛ أي إن كل واحد مزَّق لحمه بنفسه. تمضي القصة أكثر لتزعم أن الضلوع والرئتين كانت ظاهرة لدى الأربعة، وكذلك أعضاء ما تحت الحجاب الحاجز. من الواضح أنهم كانوا يتغذَّوْن على لحمهم الخاص. من الغريب أن السجناء قاوموا بشدةٍ محاولات أخْذهم من الغرفة، وانتزعوا حنجرة جندي سوفييتي وشريان فخذ جندي آخر … لقد كانت التجربة قاسية على الجنود أنفسهم لدرجة أن خمسة منهم انتحروا في الأسابيع التالية. أما عن السجناء الباقين فقد نُقِلُوا لمصحة نفسية وهم لا يَكُفُّون عن طلب الغاز، وكانت هناك استحالة في تخديرهم لإجراء جراحة … لم يستجيبوا للمخدِّر بأي شكل، وأحدهم مَزَّق الحزام الذي يربطه لمنضدة الجراحة. أحد المرضى راح يضحك أثناء الجراحة لدرجة أن الجرَّاح لم يستطِعِ العمل. كان السجناء يرغبون في مزيدٍ من الغاز ليظلوا متيقِّظِين. للقصة نهاية درامية حول أحد العلماء الذي قَتل السجناءَ رحمةً بهم، ثم قتل القائد السوفييتي بعدما ألقى أحد السجناء كلمة بليغة حول: «أنت تتساءل من نحن … أنت تخشانا لأننا الجنون الكامن فيك والذي يحاول أن يخرج … إلخ … إلخ.»
هذه الخطبة الأخيرة كانت كافية لتهدم مصداقية القصة لديَّ؛ جوُّها مسرحي أكثر ممَّا ينبغي.
قالت مواقع التدقيق في الخرافات إن هذه القصة خيالية نشرها موقع مختص بالقصص الغريبة اسمه «كريبي باستا»، ويقال إن مؤلفها يُسمِّي نفسه «صودا البرتقال». سرعان ما تتسرب هذه القصص الخرافية لتصير أخبارًا يعتقد الناس أنها حقيقية … بل هم يرغبون في أن تكون حقيقية.
على الأقل مهما كان المرء ضحية للأرقِ فلن يبلغ الأمر هذه الدرجة من السوء، ولن يلتهم لحم فخذَيه. هذه مزية سماع القصص المرعبة. راقت لي هذه القصة، ليس لأنها مخيفة، بل لأنها نواة رواية ممتازة يمكن وضع خطوطها العريضة. نسيت طبعًا أن أقول لك إن بدء الكتابة والاستذكار طريقتان ممتازتان كي يأتيَ النعاس، هكذا سقط القلم من يدي وأنا أحاول رسم خطة الرواية، وهكذا حَلَّت هذه القصة الخرافية مشكلتي الخاصة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق