‏إظهار الرسائل ذات التسميات هاروكي موراكامي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هاروكي موراكامي. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 18 ديسمبر 2014

المكتبة الغريبة / هاروكي موراكامي / pdf

المكتبة الغريبة 

صدرت بالانجليزية في 2 ديسمبر 2014 
بالعربية 18 ديسمبر 2014 




 القصه صدرت باللغة اليابانية في عام 2008، ضمن 96 صفحه من القطع المتوسط. وسيتضمن الاصدار الانجليزي رسومات توضيحيه بشكلٍ متوازٍ مع النصّ المكتوب.

وتدور احداث القصه عن صبي في المدرسه، تبدا رحلته مع المكتبه بهدف انجاز مشروع بحثي للمدرسه ليصل الي نفق مظلم. حيث يتورط الصبي مع رجلٍ عجوز يرغب في السيطره علي عقله. كما لا تخلو القصه من العناصر الغرائبيه مثل حكايه الفتاه التي تتحدثُ من خلال يديها. وعلي مدار القصه تتابع الرسومات التوضيحيه التي تَبثُ في اعمال موراكامي الروح.


الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

هاروكي موراكامي: أحب أن أومن بقوة القصص /

متلقياً جائزة دي فيلت للأدب
هاروكي موراكامي: أحب أن أومن بقوة القصص


الأديب هاروكي موراكامي (أرشيف)



 أحمد شافعي
مصدر: موقع 24 


نشرت صحيفة غارديان البريطانية، أمس الأحد، الكلمة التي ألقاها الكاتب والمترجم الياباني هاروكي موراكامي، في مراسم تلقيه جائزة دي فيلت للأدب.

واستهل موراكامي كلمته بالقول: "ربع قرن مضى الآن على سقوط سور برلين الذي كان يفصل برلين الشرقية عن الغربية، كانت زيارتي الأولى لها سنة 1983، وفي ذلك الوقت كانت المدينة لم تزل مقسمة إلى شرقية وغربية بالسور الهائل، كان بوسع الزوار أن يذهبوا إلى برلين الشرقية، ولكن كانوا يمرون بعدد من نقاط التفتيش على أن يعودوا إلى برلين الغربية، قبل أن تعلن دقات الساعة منتصف الليل، تماماً شأن سندريلا في الحفلة".

وتابع "ذهبت مع زوجتي وأحد الأصدقاء لحضور عرض الناي السحري لموتسارت في أوبرا برلين الشرقية، كان العرض والجو رائعين، لكن الفصول أخذت تتالى، ومضت الساعة تقترب من منتصف الليل، وأتذكر كيف سارعنا في طريق العودة لنعبر نقطة تفتيش تشارلي، فأدركناها في الوقت المناسب بالضبط، ولكنه كان موقفاً بالغ الصعوبة، ويبقى ذلك العرض، من بين مختلف عروض الناي السحري التي حضرتها، هو الأكثر إثارة".

وأضاف "عندما سقط سور برلين في عام 1989، أتذكر أنني تنفست الصعداء، وحدَّثت نفسي قائلاً، ها هي الحرب الباردة انتهت، وإنني على يقين من أن عالماً مسالماً إيجابياً في انتظارنا، وأحسب أن كثيرين في شتى أرجاء العالم شعروا بمثل ذلك، لكن إحساس الارتياح ذلك لم يطل كثيراً، فقد ظل الشرق الأوسط غارقاً في النزاع، ونشبت حرب البلقان، وتتابعت الهجمات الإرهابية واحدة تلو الأخرى، ثم وقع بالطبع الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك سنة 2001، وانهارت آمالنا في عالم أسعد فلم يبق منها ما يكاد يُرى".

وتابع الروائي البارز قائلاً "طالما كانت الأسوار عنصراً مهما بالنسبة لي كروائي، ففي روايتي (أرض العجائب ونهاية العالم) رسمت مدينة خيالية يحدق بها سور شاهق، فهي مدينة من المدن التي لا تكاد تدخلها حتى يستحيل عليك الخروج، وفي روايتي (حوليات الطائر الزبركي) يجلس البطل أسفل سور، ثم يعبر من خلال حجارته السميكة لينتقل إلى عالم آخر، وحينما تلقيت جائزة القدس ألقيت في القدس كلمة عنوانها (أسوار وبيض)، تكلمت فيها عن الأسوار والبيض الذي يتكسّر عليها، ففي مواجهة الأسوار ما أقل حيلتنا! كان ثمة حرب ضروس تدور رحاها في غزة بينما كنت ألقي كلمتي".

وقال "الأسوار بالنسبة لي رمز لما يفصل الناس عن الناس، لما يفصل منظومة قيم عن أخرى، وقد تكون لنا في السور حماية في بعض الأحيان، لكن في حمايته لنا، إقصاء حتميا لغيرنا، وذلك منطق الأسوار، والسور في نهاية المطاف يستحيل إلى نظام ثابت، يرفض منطق أي نظام مغاير، وأحياناً ما يكون رفضه عنيفاً، وما من شك في أن سور برلين كان مثالاً صارخاً على ذلك، وأحياناً يبدو لي أننا لا نهدم سورا إلا لنقيم آخر، قد يكون سوراً حقيقياً ذلك الذي نقيمه، أو خفيا يحدق بعقولنا، ومن الأسوار ما ينهانا عن التقدم إلى أبعد مما نحن فيه، والأسوار تنهى الآخرين عن المجيء إلينا، وقد ينهار في نهاية المطاف سور، فيتغير العالم، ونتنفس الصعداء، ليبهتنا أن سوراً آخر قد انتصب في مكان آخر من العالم، سوراً من العِرْق، أو الدين، سوراً من التعصب، من الأصولية، سوراً من الجشع، سوراً من الخوف، فهل ترانا عاجزين عن العيش دون نظام الأسوار؟".

"الأسوار لنا نحن الروائيين عقبات علينا أن نذللها، هي هكذا لا أكثر ولا أقل، ونحن بكتابتنا الروايات نعبر الأسوار مجازاً، نعبر الأسوار الفاصلة بين الواقع واللاواقع، بين الوعي واللاوعي، نرى العالم القائم في الجهة الأخرى من السور، ونرجع إلى جهتنا نحن فنصف حتى أدق التفاصيل إذ نكتب ما شهدناه، ونحن لا نصدر حكماً على معنى السور، على فضائل الدور الذي يلعبه ورذائله، إنما نحاول ان نرسم بدقة المشهد الذي رأيناه، وذلك عمل الروائيين الذي يمارسونه من يوم ليوم".

"وحينما يقرأ شخص الأدب القصصي ويتأثر به، فقد يعبر هو الآخر ذلك السور بصحبة الكاتب، وبالطبع، يغلق ذلك الشخص الكتاب فإذا به في المكان نفسه الذي بدأ منه القراءة، فإن انتقل منه فلا يكون ذلك إلا لسنتيمترات عشرة أو عشرين على أقصى تقدير، وإذ الواقع المحيط بنا لم يتغير، ولم تنته مشكلاته الفعلية إلى حلول، ومع ذلك يبقى لدى القارئ ذلك الإحساس الفارق بأنه عبر السور، فكان في مكان آخر ورجع منه، وإذا به الآن ينتابه شعور بأنه انتقل من النقطة التي بدأ منها، ولو لمسافة ضئيلة، ولطالما اعتقدت أن المرور بخبرة ذلك الشعور الحسي هي أهم ما في القراءة كلها، ذلك الشعور الفعلي بأنك حر، وأنك إن شئت قادر على اجتياز الأسوار والذهاب إلى حيثما تشاء، وإنني أكتب أكثر ما أستطيع من القصص التي تجعل ذلك الأمر ممكناً، وأشرك في هذه النوعيات من القصص أكبر عدد يتسنى لي من البشر".

"وبديهي أن حل المشكلات التي تواجه عالمنا اليوم لا يتمثل في ذلك النوع من الوعي المشترك، فليس للروايات، من سوء الحظ، هذا النوع من الأثر الفوري، وإننا بالقصة قادرون على أن نتخيل بوضوح عالماً مغايراً للذي نعيش فيه، وفي مواجهة الواقع المعتم العنيف الساخر الذي نحياه، قد يبدو ذلك في بعض الأحيان رجاء عابراً عديم الحيلة، لكن القدرة التي يمتلكها كل فرد على التخيل موجودة في هذا على وجه التحديد، في الجهد الهادئ، والمستديم، الرامي إلى مواصلة الغناء، وحكي القصص، دونما يأس".

واختتم "في عالم الأسوار، قد يفضي بنا تخيل عالم بلا أسوار، ورؤيته في وضوح بعين الخيال، إلى أن نراه ماثلا أمام أعيننا في الواقع، ولو في بعض الأحيان، وإنني لأحب أن أبقى على إيماني بأن للقصص هذه القوة".

الاثنين، 24 نوفمبر 2014

هاروكي موراكامي .. لا أعرف لم أنا مشهور!


هاروكي موراكامي .. لا أعرف لم أنا مشهور!






في سبتمبر الماضي، وبعد أن قابلت هاروكي موراكامي بلندن، أخذت جولة بداية من بيكاديلي إلى واتر ستون، حيث يمكنك أن ترى عاصفة الشهرة التي تلاحق أعمال موراكامي بمكتبات في هذه المناطق العريقة. بالطبع أنا أعرف أن موراكامي اسم كبير في اليابان. فلقد تهافت معجبيه وقراءه على اقتناء ما يزيد عن المليون نسخة من آخر أعماله "تاسكورو تزاكي عديم اللون وسنوات حجه"، وهي روايته الثالثة عشر في أول أسبوعين فور صدورها. ولكن حتى في لندن، فالأثر الذي يتركه يبدو أنه ليس ببعيد عن الحال في اليابان. فالمئات من القراء اصطفوا في طوابير من المساء منتظرين أن تفتح المكتبات أبوابها صباح اليوم الذي أعلن أنه ستتاح فيه الترجمة الإنجليزية لعمله الجديد بكافة مكتبات لندن. وباستثناء ج.ك.رولينج، قال أحد أصحاب المكتبات: أنه لم يكن هناك زحام بهذا القدر من قبل سوى عندما جاء كتاب "ديفيد بيكهام". ربما هذا يوضح لنا حجم الدهشة التي اعتلت أوجه الكثير من البريطانيين الذين راهنوا على فوز موراكامي بنوبل هذا العام ولكنهم في النهاية خسروا رهانهم.


إنه لمن الصعب حصر شعبية هذا الأديب الذي أصبح بمثابة نجم، في الوقت الذي يتحلى فيه بالكثير من التواضع وعدم الادعاء وهو في الخامسة والستين من العمر، عندما قابلته في غرفة اجتماعات مجلس إدارة دار النشر الوكيلة عنه. في رأيي، يبدو موراكامي أصغر بعقد من سنه الحقيقي. هذا الأمر نتيجة النظام اليومي الصارم الذي يضعه لنفسه حيث يبدأ اليوم بفترتين للجري والسباحة. يقول "لأكثر من ثلاثين عام أجري كل يوم نفس المسافة تقريبا التي كنت أجريها وأنا أصغر، ولكن الأحوال اليوم تبدو أنها آخذة في السوء". هو شخص اجتماعي ومهذب كما أنه يميل للصمت، يبدو هذا عليه بشكل واضح. والأمر هنا مختلف عن المقاطع المثير للعاطفة التي تتضح بسهولة في أعماله الروائية. يقول "كل شئ عبارة عن سيرة، ولكن في الوقت نفسه فأنا أغير كل التفاصيل عندما أكتب عمل روائي. من ناحية أخرى، فأنا أتطلع دائما لمعرفة ما سيحدث في الكتاب القادم، هذا الامر يساعدني على إيجاد إجابة على السؤال الذي يؤرقني حول سبب وجودي هنا في هذه الحياة". الشئ المقلق بشكل أكبر ربما يكون الحديث معه حول أن انطباعات القراء عن أعماله تنحصر في تصنيف أعماله على أنها ماورائية، غرائبية. يقول وهو يهز كتفيه مستهجنا "الأمر ليس كذلك، إنها عفوية للغاية، أنا أكتب ما أود أن أكتب. وسوف أكتشف ما أود أن أكتب أثناء عملية الكتابة".


آخر أعمال موراكامي التي ترجمت إلى الإنجليزية هي "المكتبة الغريبة". وهو كتاب ساخر ظهر لأول مرة كقصة قصيرة في مجلة يابانية منذ ثلاثين عاما، وقد تمت مراجعته عام 2008، والآن يتم العمل على طباعة ترجمته إلى الإنجليزية ليكون متاحا في الأسواق، ليظل اسم موراكامي موجودا على أرفف المكتبات. وقد أضيف إلى الكتاب رسومات مستوحاة من كتب قديمة بمكتبات لندن العريقة. ومثل الكثير من أعمال موراكامي، "المكتبة الغريبة" غرائبية ولاذعة السخرية وبها شئ من روح شريرة. كما أن مسارات الأحداث فيها غير واضحة، ومن الممكن القول أنها قصة سريالية موجهة إلى الشباب ولكن عبر أحداث بها الكثير من الوحشية والفقد. حدث هذا عندما كان يزور طفل مكتبة ما ليبحث عن كتاب عن الضرائب في العهد العثماني. هذا الطفل الذي لم يذكر اسمه طوال القصة يتم اختطافه وحبسه في مخازن المكتبة من قبل رجل عجوز غاشم وكلب مريع. ليظهر بعد فترة من الوقت، شخصية غريبة وغامضة تدعى "راعي الغنم" وهو شخصية تكررت أكثر من مرة في أعمال أخرى لموراكامي. يأتي هذا الرجل لزيارة الطفل وعمل كعك الدونتس من أجله، كما تظهر فتاة بكماء يتم التواصل معها بإشارات اليد. وفجأة ينتهي كل شئ وسط أجواء من العزلة والحزن.


وبشكل بسيط كما هي طبيعتها، تتشارك "المكتبة الغريبة" مع باقي أعمال موراكامي مجموعة من ملامح والخواص المميزة. ليس فقط "راعي الغنم" الذي يظهر في القصة. ولكن أيضا فكرة بطل الروية الذي يجد نفسه فجأة في عالم كافكائي(درامي)، كما تجد أيضا المرأة ذات الروح الغامضة التي تسعى للإيقاع بالبطل. بالإضافة إلى ولع موراكامي الدائم بعوالم ما تحت الأرض. الأمر الذي يُظهر ثيمة استكشافية محببة لمعجبين وقراء موراكامي، حيث تتجلى اللمحات الماورائية المخترقة لحجاب الزمن لتُحدث أثرا في الهواجس المتكررة لشخصيات رواياته المختلفة. وبالطبع يخرج القارئ من العمل بقوائم من موسيقى الجاز، وأنواع متعددة من الاسباجيتي.


ولكن موراكامي باعترافه يقول "أنا لست الرجل الأمثل الذي يأتي من أجل تنوير أوروبا وأمريكا، الناس يقولون عن كتاباتي أنها نوع من كتابات ما بعد الحداثة، أو أنها تنتمي للواقعية السحرية. ولكنني لست مهتما بمثل هذه الأشياء أو التعريفات. فأنا لا أعد نفسه قارئ عتيد لتوماس بينشون أو أي من كتاب ما بعد الحداثة المعروفين".


أسئله: أي أنك لا تتفق مع من يقول أنك تنتمي لعالم الواقعية السحرية؟ فيقول "ربما، أنا أحب ماركيز، ولكنني لا أظن أن أسلوبه في الكتابة هو ما يدعى "واقعية سحرية". أتعلم، إنه مجرد أسلوب في الكتابة. بالنسبة لي، أتوقع أن ماركيز كان يكتب عن واقعيته هو، وأعتقد أنني أقوم بالشئ نفسه. فأنا أكتب عن واقعيتي، عالمي الحقيقي. لو حدث شئ ما غير متوقع، يبرهن ذلك على أنني أقوم بعمل جيد، شئ يستحق أن نعتبره عمل حقيقي. لذلك، لو أن "راعي الغنم" ظهر في عمل لي، يكون هذا الأمر قد حدث بحق معي. أتعلم، لا رمزية هنا، لا مجازات، فقط أنا وهو".


ولكن الشخصيات الرمزية التي تأتي من عالم الموت حقا رائعة. منذ وقت قريب، وقبل أن نتقابل، أخبر موراكامي مستمعيه في احتفال بأحد كتبه أن حلم حياته أن يجلس في قاع بئر. يقول وهو يهز رأسه موافقا"نعم، لقد أخبرتهم بذلك، دائما ما اعتدت على أن أشعر أنني أذهب إلى أماكن مظلمة عندما أشرع في الكتابة. فقط في الظلام استطيع أن أرى حكايتي. لا أظن أن لدي موهبة خاصة أو استثنائية. لا أفكر في الأمر على هذا النحو. ولكنني أذهب أسفل في الظلام واتسائل: أممم.. وماذا بعد !! .. أه .. وهكذا .. "


يسكت قليلا ثم يقول وعلى وجهه إشراقة "الأمر يشبه الولوج إلى بدروم منزل ما، ولكن في حالتي أدخل إلى بدروم داخل بدروم. الكثير من الناس تستطيع أن تمكث في بدروم منزل، ولكن في حالتي فأنا أذهب إلى بدروم بداخل هذا البدروم". ينظر إليّ وعلى وجهه شئ من الحزن ويكمل "إنه مكان مظلم للغاية، لذا عندما كتبتThe Wind Up Bird Chronicle -وهو كتاب رائع لموراكامي- كتبت عن البطل الذي يجلس في قاع بئر عميق، حيث العتمة والعزلة والصمت التام. هذ ما أفعله وأشعر به وأنا أكتب رواياتي".


تحليل وتفكيك المل في رأيه مهمة الكتاب كما هي مهمة القارئ، يقول "شعفي الأساسي هو كتابة الروايات والقصص. أفعل ذلك لكي أعرف من أنا، إنني في الخامسة والستين من العمر، ولكني ما أزال لدي فضول لمعرفة من أكون وماذا يمكن أن أجد في نفسي، وإلى أي شئ سوف أصير؟ أتعلم، أنا شخص مشهور نوعا ما، لقد بدأت مشواري مع الكتابة منذ أكثر من 35 عاما. بشكل ما أنا ناجح ولدي قراء على مستوى العالم، ولكنني لا أفهم لماذا يحدث هذ لي. إن الأمر يشبه المعجزة في وجهة نظري. فأنا لست شخص عظيم، أو ذكي أو موهوب، ولكنني أكتب، فقط أود أن أعرف لماذا يحدث هذا لي وليس لآخرين، فقط يحدث لي!"


أما قراء موراكامي ومعجبيه، فلديهم رغبة حقيقية في مساعدته على معرفة ذلك. عندما كتب رواية "كافكا على الشاطئ". تصفح موراكامي موقعه ليرى كيف وجد القراء الرواية وما هي أسئلتهم حولها، يقول "أشعر أن الأمر يكون أفضل عندما يكون ديموقراطي. لدي رغبة حقيقية في التحدث إلى قراءي، ولكنني أصبحت أشعر بالإنهاك أسرع مما مضى، فأقول: هذا يكفي. أظن أن الفهم الحقيقي هو تراكم من سوء الفهم متتالي. هذا هو ما اكتشفته. كل قارئ يرسل لي أراءه، والكثير منها ليست أراء صحيحة في وجهة نظري، هم بشكل أو آخر لم يصل إليهم ما أردت إيصاله. ولكن عندما أقرأ رسائل آلاف القراء أقول لنفسي: نعم، إنهم يفهمونني. لهذا أنا أثق في رأي مجموع القراء، ولا أثق في رأي كل قارئ على حدة".


يقول " الرواية تبدأ معي من فقرة، جملة، منظر طبيعي أو لقطات من فيديو. أجد نفسي أرى المشهد الذي علق في ذهني مئات المرات بل أحيانا آلاف المرات كل يوم. وفجأة أقول لنفسي حسنا، سأكتبها". يجد أن الكتب مثل سيمفونيات بيتهوفن التي تتكون من نغمات ذكورية عريضة وأخرى أنثوية حادة. ويجد أن القصص القصيرة تقع في منطقة ما في المنتصف بين هذين النوعين. يقول "استطيع استخدام أصوات متعددة، أشخاص، أساليب حياة، وأنا أستمتع بذلك. وفي الوقت نفسه هو نوع من التدرب بالنسبة لي".


حسنا ماذا أيضا، يقول "لا أفكر في نفسي على أنني مبدع، ولكنني أعشق الروتين المحدد وألتزم به. مهما كنت محبطا، وحيدا، أو حزينا، روتين العمل المحدد يساعدني على التخلص من كل ذلك، إنني أحب ذلك حقا. في الحقيقة، أفكر في نفسي على أنني مهندس أو بستاني، أو شئ من هذا القبيل، لا أفكر في نفسي أبدا كمبدع، يبدو هذا ثقيلا للغاية بالنسبة لي، لست هذا النوع من الناس، أنا فقط ألتزم بروتين العمل الذي وضعته لنفسي. إنني أركض كل يوم منذ أكثر من ثلاثين عاما، إن هذا الأمر أعطاني شئ ما خاص للغاية. لو فعلت الشئ نفسه لمدة ثلاثين عاما فبالتأكيد ستصل لشئ".


يقول "سأشرع في العمل على كتابي الجديد، بنهاية هذا العام، ولكني لا أعلم عن أي شئ سوف يكون، هناك بعض الأفكار في ذهني، هناك أيضا الكثير من الفقرات في درج مكتبي، ربما يكون الكتاب القادم كبير نوعا ما".
ثم أضاف بشئ من الحسم "ربما يكون كتاب مغامرات!"


رواية "تاسكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه" متاحة الآن بالمكتبات، و"المكتبة الغريبة" ستكون متاحة بداية من 2 ديسمبر 2014.


---------------------------
مقال لـ تيم مارتن بصحيفة التليجراف
ترجمة: محمود حسني نشرت الترجمة بعدد جريدة القاهرة بتاريخ 18 نوفمبر2014

الجمعة، 14 نوفمبر 2014

بين سحر الرواية وشعوذتها! / ظبية خميس

بين سحر الرواية وشعوذتها!

ظبية خميس



لا يمر أسبوع دون أن أكون قد غرقت فى قراءة رواية ما.مخزونى ذلك الذى لا أستغنى عنه,وفى رأيى أن بين كل ألف رواية اليوم يمكن أن تجد رواية واحدة تسحرك فعلا والباقى مجرد شعوذة تجارية رائجة.


قرأت ثلاثة أعمال روائية مؤخرا:اثنان منهما محسوبتان على العالمية والثالثة محلية.ألأولى نفرتنى وأشعرتنى بمستوى التدنى الأدبى الذى وصلت إليه القوائم التجارية لبيع الكتب وقد كانت لباولو كويلهو بعنوان يمكن ترجمته زنى أو خطيئة.سرد أقل من عادى لعالم ممل عن امرأة مملة وعلاقات أكثر مللا باسلوب يفتقر تماما للجملة الأدبية.أما الرواية المحلية فقد كانت بعنوان الكاتبة لأميمة عز الدين وتدور أيضا حولالعلاقات والحب والخيبات بأسلوب شبه ساذج ومتكرر.



وعوضنى عن الجهد الفاشل فى استساغة ماقد سبق أن غرقت فى رواية هاروكى موراكامى الأخيرة والتى يمكن ترجمة عنوانها تسكورو تازاكى عديم اللون.

وهاروكى موراكامى الكاتب اليابانى ينتمى إلى سلالة رائعة من روائيى وكتاب اليابان مثل ميشيما وكاوباتا وغيرهم من أولئك الذين وضعوا بصماتهم على الأدب العالمى الذى وصلنا.لديهم لغة أدبية رائعة وراقية وعوالم صادمة تتجلى على مراحل وكتابة ثرية عن النفس الإنسانية من واقع مجتمعهم اليابانى.وقد شغفت بكتابة موراكامى منذ قرأته لأول مرة مترجما إلى الإنجليزية وفرحت بتعدد ترجماته إلى اللغة العربية.وهو كاتب خاص له عوالم شبه سحرية يعشق المةسيقى والجاز والعزلة والكتابة بعمق عن هامش شبه غيبى وشبه ضبابى ينقل فيه القارىء إلى مستويات نادرة من الوعى والمشاعر.ومن أهم أعماله التى تحول بعضها إلى أفلام سينمائية:الغابةالنرويجية,كافكا على الشاطىء,كتاب الركض,بعد الظلام,أرقص أرقص أرقص,جنوب الحدود وغرب الشمس,وغيرها.

فى روايته الجديدة يكتب عن تسكورا تازاكى عديم اللون,ويأخذنا إلى عالم حساس عنالصداقة وانكسارها وتأثير ذلك على نفس بطل الرواية الذى يعيش حياة عادية من ناحية وحياة ناقصة فى ظلام نفسه بسبب ما قد حدث فى سنوات صباه وأول شبابه من تعثر صداقة كانت تجمعه بأربعة آخرين فى فترة درؤاسته الثانوية .يبحث فى الماضى وأسباب ذلك الإنهيار ويكتشف مفاجآت لا تخطر على باله ويدخل فى عوالم غير مرئية تتمدد فيها شخصيته الروحية والشبحية نحو عوالم لا تخطر على عقله الواعى.

وما يشد القارىء فى الرواية هى الكتابة نفسها والصور الأدبية وذلك الإغواء الذى يأخذك إلى عوالم تبدو معقدة وبسيطة فى الوقت نفسه لكنك تشعر بأنك تقرأ عملا أدبيا بحق وترى خيالا يأخذك إلى عوالم جديدة وغريبة عليك.

لا أعرف سر رواج الرواية ولا ذلك العدد المهول ممن يكتبونها اليوم بحثا عن الرواجالتجارى غالبا قبل الرواج الأدبى ذلك أن الأدب قد تحول إلى تجارة مربحة للناشرين عالميا وعبر الترجمات وقوائم الأفضل مبيعا وهكذا.غير أن الحق يقال أن هناك الكثير من الأدب الروائى الردىء عالميا وعربيا أيضا.

تمتلىء مكتبتى بكتب اشتريت بعضها وجاءتنى كإهداءات فى بعضها الآخر لروايات لا تقرأ فى غالبها.أنتهى من قراءتها سريعا أو أتصفحها وأشعر بالامتعاض من كثيرمنها.وكأنما هناك معمل ينتج بذورا مصنعة سريعة النمو بشكل غير طبيعى فتأتى النتيجة فجة رغم أننى أرى بعض العناوين على قائمة أفضل المبيعات فى الصحف.

وللأسف يقع بعض من قد قدموا تجارب روائية مميزة فى المطب نفسه ذلك أن نجاح أحد أعمالهم أغراهم بالكتابة سنويا والنشر فجارت أعمالهم التالية على الأولى وجاءت محبطة ومخيبة للآمال.اما صغار الكتاب فيقدمون تجارب روائية بلا خبرة حياتية ولا لغة متقنة ولا اسلوب أدبى متميز مستسهلين النشر والتسويق لانفسهم على الإنترنت وفى سوق الجوائز المتنامى.

الفرق كبير بين حبة مانجو ناضجة تماما وفى موسمها ,وبين ثمرة أخرى فجة بلا طعم وبلا موسم لكنها لونت وروج لها وحاول الناس التهامها فغصوا بها.

مصدر الاهرام .

الأحد، 7 سبتمبر 2014

طائرة: أو، كيف كان يتحدث إلى نفسه كما لو كان يلقي شعرا



في تلك الظهيرة سألته: هل هي عادة قديمة أن تتحدث إلى نفسك بهذه الطريقة؟

بدا السؤال وكأنها قد قالته بمجرد أن جال بخاطرها. ولكنه كان يعرفها، ويعرف بوضوح أن الأمر لم يكن كذلك. فدائما ما تفكر فيما تقول لبرهة قبل أن تنطق به. تجمع الكلمات التي تفكر فيها، وكأنها تسحبها بلسانها إلى داخل فمها لتختزنها حتى يأتي الوقت المناسب لإطلاقها. حتى صوتها دائما ما يظهر فيه شئ من الحدة في مثل هذه الأوقات.

جلس كليهما قبالة بعضهما البعض إلى طاولة المطبخ، شعرا بشئ من البرد اللطيف في قدميهما العاريتين لكون أرضية المطبخ مغطاة بطبقة بلاستيكية تعمل على امتصاص الحرارة. كان هناك محطة قطار ركاب ليست ببعيدة عن المنزل ولكن قليلا ما تمر بها القطارات. غالب الوقت، يبدو الجوار هادئا بشكل غامض.
خلع جوربيه ووضعهما في جيب سرواله، وشمرت هي قميصها الباهت ذو المربعات حتى المرفقين، حيث الطقس في إبريل يميل إلى الدفء في فترة ما بعد الظهيرة. أمسكت بأناملها البيضاء النحيفة الملعقة وكوب القهوة الخاصة بها. ألفى نفسه محدقا في حركة يدها وأناملها، وشعر حينها أن عقله فارغا من أي شئ كسطح أملس.
أخذت تفكر إن كان سؤالها قد ضايقه، ولهذا لزم الصمت. في مثل هذه الأوقات، تشعر أنه يجب عليها التخفيف من حدة الأجواء شيئا فشيئا مهما تطلب ذلك من وقت.
أخذ يحدق في حركة أصابعها دون أن يقول شئ. لم يقل شيئا لأنه لم يكن يعرف ماذا يمكن أن يقول. نسى في صمته وشروده بعض القهوة في كوبه حتى بردت وأصبحت هيئتها تبعث على النفور وكأنها بقايا لبعض الطين الراكد في الكوب.
تذكر أنه قد تخطى العشرين للتو، وهي أكبر منه بسبع سنوات، متزوجة، ولديها طفل. بالنسبة له، كان يجب أن تكون في سعادة غامرة كلما كانت معه.

كان زوجها يعمل لحساب وكالة سفر متخصصة في الرحلات إلى الخارج. ولهذا كان يقضي ما يقارب النصف من كل شهر في أماكن مثل لندن، روما وسنغافورة. كان من السهل ملاحظة حب زوجها لموسيقى الأوبرا، حيث وجد على رفوف حجرته ألبومات لمؤلفين موسيقيين مثل فيردي، بوتشيني، دونيزيتي وريتشارد ستراوس. تبدو هذه الرفوف الطويلة وكأنها تمثل نظرة زوجها إلى العالم أقرب من كونها ألبومات مسجلة لنوع من الموسيقى، كانت نظرة هادئة وراسخة، وليس من السهل تغيير طبيعتها كثيرا.
أخذ ينظر إلى الرفوف المملتئة بالألبومات ويمر بعينيه على أسمائها. كان من الصعب عليه أن يتخيل أنه من الممكن أن يستمع إلى هذا النوع من الموسيقى يوما ما. في الحقيقة، لا يعلم إن كانت ستعجبه هذه الألبومات لو استمع إليها، ولكن لم تأت فرصة ليفعل شئ كهذا. لم يكن هناك أي شخص من أفراد عائلته أو أصدقائه أو معارفه يحب موسيقى الأوبرا أو معجبا بها. كان يعلم أن هناك شئ في هذا العالم يدعى الموسيقى الأوبرالية، وأن هناك أناس يحبونها في عصرنا هذا، ولكن دخوله الأول إلى هذا العالم كان عندما ألقى بنظرة على ألبومات هذا النوع من الموسيقى على رفوف غرفة زوجها.

أما الزوجة، فلم تكن مولعة بموسيقى الاوبرا على نحو خاص.
قالت له: لا أكرهها، ولكنها طويلة للغاية.

وجد بجوار الألبومات جهاز ستريو رائع للغاية، لم يكن قد أستمع إلى صوته من قبل، أو جرب أن يلمسه، وأما هي، فلم تكن لديها أي فكرة أين تجد مفتاح تشغيله. أخذ يتنقل بأريحية بين الغرف الأخرى، والتي كان أثاثها أكثر عصرية من غرفة زوجها. شعر بعد أن انتهى من جولته كما لو أن غرفة الزوج استثناء بين الغرف المنزل بكل ما فيها.

قالت له: ليس هناك ما هو خطأ في حياتي، زوجي يعاملني جيدا للغاية، وأحب أبنتي، أظن أنني سعيدة. كانت تقول تلك الكلمات بصوت هادئ، تتحدث عن زواجها وحياتها بطريقة موضوعية للغاية، وكأنها -مثلا- تناقش قوانين المرور!
"أعتقد أنني سعيدة، ليس هناك ما هو خطأ في حياتي."

كثيرا ما سأل نفسه متحيرا: لماذا إذا بحق الجحيم تنام معي؟ كان يفكر في الكثير من الاحتمالات كلما طرح هذا السؤال على نفسه. ولكنه لم يستطع الوصول إلى أي إجابة. ماذا كانت تعني عندما قالت كلمات مثل "ليس هناك شئ ما خطأ في حياتي" ؟ ماذا يمكن أن يكون هذا الشئ الخطأ في زواجها؟ أحيانا كان يفكر في أن يسئلها بشكل مباشر، ولكنه لم يكن يعلم كيف يبدأ. ما الذي يجعلك تنامين معي بحق الجحيم؟ هل يجب أن يوجه لها السؤال بهذه الطريقة؟ كان متأكدا من أن هذا سوف يجعلها تبكي.

لقد بكت بما فيه الكفاية؛ بكت لفترات طويلة من قبل؛ كلما بكت، يصدر منها أصوات خافتة تبعث على الألم. لم يكن يعلم في غالب الوقت لماذا تبكي، ولكن بمجرد أن يبدأ نحيبها الخافت، فلا يمكنها التوقف. حاول أن يُهدئ من سريرتها قدر الإمكان، ولكنها لم تكن تهدأ إلا بعد مرور بعض الوقت. في الحقيقة، لم يكن عليه أن يفعل شئ، فبمجرد مرور بعض الوقت كانت تتوقف عن البكاء، وكأن دموعها قد نفذت.

مر بتجارب مع نساء أخريات، كلهن تشعرن بالغضب وتبكين، ولكن طريقتها في البكاء كانت مختلفة عن أي منهن. بالتأكيد هناك ما هو مشترك بينها وبينهن، ولكنها مختلفة في الكثير من الأشياء لدرجة أنه لا يستطيع احصاء هذه الاختلافات. بالنسبة له، كانت التجربة الاولى مع امرأة تكبره في العمر، ولكن هذا الفرق في العمر لم يزعجه كما كان يتوقع. ما أزعجه حقا هو اكتشافه كم الأختلافات الكبيرة بين ميوله وتفضيلاته من جهة وميولها وتفضيلاتها من جهة أخرى. أصبح هذا الأمر بالنسبة له لغز حيره كثيرا، ولم يكن تفكيره في هذا الأمر لأوقات طويلة قد ساعده أو ألهمه العثور على مفتاح لحل هذا اللغز.

تعودا ممارسة الحب بعد أن تنتهي من بكائها. أحيانا، ترفض أن تقوم بأي شئ معه، تبدي رفضها بهزة من رأسها دون أن تتفوه بكلمة. يشعر بعدها أن عينيها تبدوان مثل قمرين كاملين يطفوان على حافة العتمة التي تغشى السماء. عندما يرى عينيها بهذا الشكل، يعلم أنه ليس هناك من شئ يمكن أن يقدمه لها. هذه النظرة من عينيها تعني رفضها القيام بأي شئ معه، تاركة إياه يشعر بالغضب والحزن. وفي أحيان أخرى، يمكنها أن تجعله يشعر بالراحة الحقيقية من أعماقه. هكذا كانت تمضي الأمور بينهما ولا شئ آخر غير ذلك.
في بعض الأوقات يجلسان قبالة بعضهما البعض إلى طاولة المطبخ، يرتشفا بعض القهوة، ويتحدثا بهدوء. لم يكن أي منهما يمتلك قدرة كبيرة على الحديث، كما أنه لم يوجد بينهما الكثير ليتحدثا بشأنه. لم يستطع أن يتذكر يوما عن أي شئ كانا يتبادلا الحديث. فلم تكن سوى جمل قليلة يقطعها الصمت أو مرور قطار في الجوار من حين لآخر.

غلب على ممارستهما للحب شئ من الهدوء واللطف. حتى أنه لايمكنك القول أنه ممارسة للحب من أجل الاستمتاع بالإثارة القوية وإشباع الجنس بشراهة. ليس من الصحيح أيضا القول بأنهما لم يكونا يستمتعان بتلاصق جسديهما عاريان كرجل وامرأة يمارسان الحب. ولكنه شيئا بعيدا عن هذه الإثارة الشديدة والرغبة الجامحة وأساليب الجنس التي كان قد جربها وتعود عليها من قبل.
كانت ممارسته للحب معها تجعله يشعر وكأنه في غرفة صغيرة ومريحة، بها الكثير من الخيوط الملونة المتدلية من السقف. خيوط متعددة الأشكال والأطوال، وكل خيط يبعث شئ من البهجة بطريقة متفردة عن الخيوط الأخرى. أراد أن يسحب أحدى هذه الخيوط ولكنه لم يكن يعرف أيهم يريد. شعر بأنه في اللحظة التي سيسحب فيها خيط منهم، سينفتح أمام ناظريه مشهد لمسرحية رائعة. ولكن المشهد كان من الهشاشة بحيث من السهل تحطيم كل شئ في لحظة. ولذلك كان مترددا، وفي كل مرة، ما إن يحاول تهدئة نفسه ويتريث ليتلاشى ارتباكه، حتى يجد أن يوما آخر معها قد انتهى.

صعُب عليه استيعاب هذا الشعور الغريب الذي كان ينتابه معها. اعتقد أنه يعيش حياته وفقا لقواعد قد وضعها هو بنفسه. ولكن عندما يكون في غرفتها، مستلقيا بين ذراعيّ هذه المرأة التي تكبره في العمر، مستمعا بين حين وآخر لأصوات حركة قطارات الركاب في الجوار، يشعر حينها أنه يعيش في فوضى كاملة. مرة تلو الأخرى يسئل نفسه: هل أحبها حقا؟ ولكنه لم يستطع الحصول على إجابة تقنعه بشكل تام. كل ما كان متأكدا منه هو هذه الخيوط الملونة التي يراها تتدلى من سقف الغرفة الصغيرة المريحة التي طالما تخيلها كلما مارس الحب معها.

تعودت أن تلقي نظرة على الساعة بعدما ينتهيا من ممارسة الحب، ومن ثم تستلقي بين ذراعيه. مر قطار في الجوار عندما نظرت إلى الساعة؛ كان هذا شيئا غريبا، فكلما نظرت إلى الساعة كانت تسمع صوت قطار في الجوار. وكأن هذا الأمر مترابط شرطيا؛ مقدرا له الحدوث مسبقا.

حرصت على تفقد الوقت بين حين وآخر حتى تتأكد أنه لم يحن بعد ميعاد عودة ابنتها ذات الأربعة أعوام من رياض الأطفال. حدث ذات مرة واستطاع أن يلقي نظرة على ابنتها؛ وجدها طفلة صغيرة تشع جمالا. هذا هو الانطباع الوحيد الذي تركته فيه. ولحسن الحظ، لم ير من قبل الرجل الذي كان يعمل في وكالة رحلات ويحب موسيقى الأوبرا؛ والذي كان زوجها.

بعد ظهيرة أحد أيام شهر مايو، سألته لأول مرة عن تحدثه إلى نفسه بتلك الطريقة. بكت في ذلك اليوم مرتين؛ ومارسوا الحب مرتين. لم يستطع سؤالها عن سبب بكائها مرة أخرى. ربما أرادت أن تبكي من أجل البكاء ولا شئ آخر. جال بخاطره تساؤل: ربما لا يمكنها أن تتحمل الجلوس والبكاء وحيدة، ربما لهذا ترغب في وجودي، لأنها احتاجت إلى من تبكي بين ذراعيه.

في ذلك اليوم، أغلقت الباب وأسدلت الستائر، واستمتعا بكونهما مع بعضهما البعض يمارسا الحب بلطف وهدوء كما اعتادا دائما. رن جرس الباب، فجفلت للحظة ولكنها تجاهلته. قالت: لا عليك، ليس هناك من شئ. رن الجرس أكثر من مرة ولكن في النهاية استسلم الطارق ورحل. كما قالت، ليس هناك من شئ، ربما كان رجل مبيعات. ولكنه تسائل: كيف يمكنها أن تعلم!
سمع همهمة لقطار، وصوت عزف على البيانو يأتي من بعيد. استطاع أن يميز النغمة التي سمعها، تذكر أنه قد استمع إليها مرة في حصة الموسيقى، ولكنه لم يستطع تذكر أي مقطوعة كانت على وجه التحديد، فقد مر على ذلك وقت طويل. أغلقت عيناها، تنفست بعمق، ثم أكملا ممارستهما للحب بأقصى ما يمكن من لطف وهدوء.

بعد أن انتهيا، قام من السرير ليستحم؛ وعندما عاد إلى الغرفة وهو يجفف نفسه بمنشفة الاستحمام، وجدها مستلقية على السرير مغمضة العينين ووجها لأسفل؛ جلس بجوارها، مداعبا أسفل ظهرها وهو يتتبع بعينيه أسماء ألبومات موسيقى الأوبرا على رفوف الحجرة.
بعد ذلك بقليل، قامت هي أيضا وارتدت ملابسها ثم ذهبت إلى المطبخ لتعد بعض القهوة لكليهما. عندما ذهب إليها سألته على حين غرة: هل هي عادة قديمة أن تتحدث إلى نفسك بهذه الطريقة؟
قال: أي طريقة؟ هل تقصدين عندما نمارس الحب معا؟
قالت: لا، ليس هذا ما أقصده، أقصد في أي وقت، مثلا عندما تستحم، أو عندما أكون في المطبخ وأنت تجلس تقرأ جريدة أو شئ من هذا القبيل.
قال: ليس لدي أي فكرة عما تقولين! لم ألحظ ذلك من قبل، هل أتحدث إلى نفسي حقا؟
قالت وهي تلعب بولاعته: نعم، أنت تقوم بذلك بالفعل.
قال: لا، لا أصدق أنني أقوم بذلك.
قال هذه الكلمات وقد بدا الإنزعاج واضحا في نبرات صوته. وضع سيجارة “Seven Stars” في فمه، أخذ ولاعته منها وأشعلها. كان قد بدأ تدخين السجائر منذ وقت قريب، وقد اعتاد على سجائر من نوع “Hope”، ثم عرضت عليه هذا النوع الذي يفضله زوجها فوجد أنه أفضل.
قالت: أنا أيضا اعتدت الحديث إلى نفسي كثيرا عندما كنت أصغر من ذلك.
قال: حقا!
قالت: نعم، ولكن والدتي جعلتني أتوقف عن فعل ذلك. كانت تقول لي: لا يصح أن تتحدث شابة مثلك إلى نفسها. كانت تغضب بشدة كلما رأتني أفعل ذلك، وحبستني أكثر من مرة في حجرة صغيرة كانت تستخدمها كخزانة للمنزل. بالنسبة لي، كانت هذه الخزانة هي أكثر الأماكن رعبا. فالمكان كله مظلم ورائحته عفنة. أحينا كانت تضربني بمسطرة على ركبتيّ، وقد نجحت طريقتها خلال مدة قصيرة، وجعلتني أتوقف عن الحديث إلى نفسي نهائيا. بعد فترة، لم أستطع القيام بذلك حتى لو أردت.

لم يتمكن عقله من التفكير في أي شئ، ولهذا سكت ولم يعلق.
قالت: من وقتها وحتى الآن، دائما ما أشعر أنني أريد أن أقول شيئا ما ولكنني ابتلع الكلمات، وكأنه عرض عكسي لما كنت عليه. لم أكن أعرف ما الخطأ في أن يتحدث المرء إلى نفسه، فهذا شئ طبيعي، إنها مجرد كلمات تخرج من فمك. لو كانت والدتي لا تزال على قيد الحياة لكنت سألتها عن ذلك، ما هو الخطأ في أن يتحدث المرء إلى نفسه.
قال: هل ماتت؟
قالت: نعم، ولكنني كنت أتمنى لو كانت الأمور بيني وبينها أكثر وضوحا. كنت أود أن أسألها: لماذا كنتِ تفعلين ذلك معي؟
قالت ذلك وهي تلعب بملعقة القهوة، ألقت نظرة على ساعة الحائط، وفي اللحظة التي نظرت فيها، مر قطار في الجوار. انتظرت حتى يمر القطار ثم قالت: أحيانا أفكر في أن قلوب البشر مثل آبار عميقة، لا أحد يعلم ماذا يوجد في باطنها. كل ما يمكنك فعله هو أن تتخيل ما يكمن في القاع عن طريق ما يطفو على السطح من حين لآخر. سكت كل منهما وبدا وكأنهما يفكران في هذا التشبيه المتعلق بالآبار، ثم سألها: ما الذي أقوله عندما أتحدث إلى نفسي؟
هزت رأسها ببطأ بضعة مرات محاولة أن تتذكر شيئا ثم قالت: حسنا، تقريبا كنت تتحدث عن الطائرات.
قال: طائرات!
قالت: نعم، الطائرات التي تحلق في السماء.
ضحك وقال: لماذا من بين كل الأشياء، أتحدث إلى نفسي عن الطائرات؟
ضحكت هي أيضا وسألته: هل لا تتذكر حقا ما كنت تقوله لنفسك؟
قال: لا أتذكر أي شئ.
التقطت قلم حبر من على الطاولة، أخذت تلعب به لثواني، ثم نظرت إلى الساعة من جديد وقالت: تتحدث إلى نفسك كما لو أنك تلقي شعرا.
بدا له واضحا أن الحمرة قد غمرت وجهها، لماذا تذكرها لحديثي إلى نفسي يغمر وجهها بالحمرة؟ حاول أن يقول الكلمات بقافية معينة: أنا أتحدث إلى نفسي/ غالبا كما لو/ أنني ألقي/ شعرا.
التقطت القلم من على الطاولة مرة أخرى، كان قلم حبر من البلاستيك ولونه أصفر؛ عليه كتابة تتحدث عن مرور عشر سنوات على تدشين هذه النوع من أقلام الحبر.
نظر إلى القلم بين يديها وقال: في المرة القادمة التي تسمعينني فيها أتحدث إلى نفسي، أخبريني بما أقوله. هل يمكنك أن تفعلي ذلك من أجلي؟
نظرت إلى عينيه مباشرة وقالت: هل تريد حقا أن تعرف؟
أومأ برأسه مجيبا على سؤالها بنعم.

أخذت ورقة من أوراق تسجيل الملاحظات وبدأت في كتابة شئ ما. كتبت ببطأ ولكن القلم استمر في الكتابة دون أن تتوقف للحظة لترتاح أو تلقي نظرة على شئ مما كتبت. نظر سارحا إلى جفنيها ورموش عينيها واضعا ذقنه ين يديه. تأمل عينيها وهي تطرف كل بضع ثواني على فترات غير منتظمة.
وكلما طال وقت تأمله لها و لرموشها التي بللتها الدموع في الكثير من الأوقات، كلما كان أقل فهما لما يمكن أن يعنيه كونه معها، ما الذي يمكن أن تعنيه ممارستهما للحب؟ إحساس غريب بالضياع كان يتملكه في هذه اللحظات. شعر أنه ربما لن يتمكن أبدا من ممارسة الحب مع أي امرأة أخرى بعدها. انتابه شئ من الرعب عندما مرت هذه الفكرة بخاطره، وكأن وجوده هو نفسه آخذ في التلاشئ كلما مر الوقت بقربها.

توقفت عن الكتابة ووضعت الورقة قبالته على الطاولة. أخذها وألقى نظرة عليها. قالت له: أشعر أن ما كنت تقوله عن الطائرات شئ ما بداخلك، في قلبك.
قرأ الكلمات بصوت مسموع
طائرات
طائرات تحلق
أنا، في الطائرة
الطائرة
تحلق
ولكن لا يزال، على الرغم من أنها حلقت
كل ما يتعلق بالطائرة
في السماء؟
قال مشدوها: كل هذا!!
قالت: نعم، هذا هو كل شئ.
قال: مستحيل، لا يمكنني تصديق أنني قد قلت كل هذا إلى نفسي دون أن أتذكر أي شئ عنه.
ابتسمت ابتسامة صغيرة ولكنها بدت مشجعة؛ وقالت: نعم، أنت قلت كل ذلك كما كتبته لك في الورقة.
قال: هذا شئ غريب للغاية، أنا لم أفكر يوما في الطائرات. ليس لدي شئ في ذاكرتي متعلق بالطائرات، لماذا إذن أتحدث عنها؟
قالت: لا أعلم، ولكن هذا ما كنت تقوله أثناء الاستحمام. ربما لا تكون قد فكرت في الطائرات من قبل، ولكن عميقا كما في قلب غابة كثيفة، قلبك قد فكر فيها.
قال: من يعلم، ربما يكون الأمر حقا كما تقولين.

أفلتت قلم الحبر، تاركة إياه يسقط من يدها على الطاولة مصدرا صوتا ضئيلا، ثم رفعت عينيها محدقة فيه وهو يجلس أمامها. ظلا صامتين لبعض الوقت حتى بردت قهوة كل منهما. كانت الأرض تدور على محورها، والقمر يتحرك تدريجيا محركا معه المد والجزر والجاذبية، يزداد الصمت، والقطارت تمر على القضبان في الجوار.
كان كل منهما يفكر في الشئ ذاته: طائرة. الطائرة التي كان يتحدث عنها إلى نفسه دون أن يتذكر أي شئ مما يقوله. كيف يمكن أن يكون حجمها، شكلها، لونها، وإلى أين هي ذاهبة؟ ومن سوف يسافر عليها؟ ربما كانت تنتظر من يسكن في قلب تلك الغابة الكثيفة التي تشبه قلبه؛ ربما هو من كان في الغابة يصنع هذه الطائرة، وها هي الآن تنتظره.
بكت بعد ذلك بقليل، كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي تبكي فيها مرتين في نفس اليوم. قام من كرسيه واقترب منها واضعا يده على شعرها، فبعد ما حكت له، بدأ يصدق في داخله أنه يتحدث إلى نفسه كما لو كان يلقي شعرا.
شعرت بأن هناك شيئا ما بداخلها هو ما جعلها تبكي مرة أخرى، وكأن الحياة ذاتها هي ما دفعتها لذلك؛ الحياة التي أحيانا ما تكون صعبة، وأحيانا أخرى تكون ناعمة، وفي بعض الأحيان تكون بعيدة المنال.

Jay Rubin (من اليابانية إلى الإنجليزية)
محمود حسني (من الإنجليزية إلى العربية)
 


رابط تحميل القصة بصيغة PDF:
https://www.mediafire.com/?k19bflmev1mof34

الأربعاء، 27 أغسطس 2014

ثِقل كونديرا.. وخفة موراكامي التي لا تُحتمل


ثِقل كونديرا.. وخفة موراكامي التي لا تُحتمل


محمد المصري .
مقتبس عن موقع كسرة .


في أحد مقاطع رواية «ميلان كونديرا» الشهيرة «كائن لا تُحتمل خفته» يحلم «توماس»، بطل الرواية، بأقرب تصوّراته عن الجنة، كان يجلس مع امرأة، «تشع هدوءاً وحركة يدها ناعمة»، ويصف بأنه «طوال حياته افتقد هذا الهدوء الأنثوي بالذات»، وحين استيقظ، ظلَّ يتصور بأنه يعيش في عالمٍ مثالي مع امرأة حلمه، وأنه سعيدٌ، ولكن، في حلمِ يقظته هذا، وفي لحظةٍ مثالية منه، يتخيَّل «تيريزا»، حبيبة حياته الأرضية، تَمُرّ من أمام الشباك، وتنظر إليه مع امرأته، وعندئذٍ سيشعر بألمها في قلبه، و«سيغور في روحها».
تخيَّل «توماس» نفسه وهو يقفز، ويذهب إليها، وتخبره، بحركةٍ عصبية يكرهها، وبمرارةٍ تملأ فمها، بأن عليه أن يبقى حيث يشعر بالسعادة، وهو يُدرك، في تلك اللحظة بالذات، داخل حلم اليقظة وخارجه، أنه مُستعد لأن يترك بيت سعادته والجنة التي يعيش فيها مع امرأة حلمه «في سبيلِ الرحيل مع تيريزا، هذه المرأة المولودة من ست صدف مُضحكة».
في قراءةٍ جديدة للرواية، بدا لي أن جانباً كبيراً مما يَشغل «كونديرا» فيها هو «ماهيَّة الحُب»، لحظة التكوُّن، دوافع الاستمرار، علاقته بكل المُحيطات المُجْهِدَة، وموازين الخفَّة والثّقل التي تحكمنا داخله، يتنقل «كونديرا» بين شخصيات الرواية كافة، وبالتحديد في علاقة «توماس وتيريزا»، يحاول دائماً استكشاف تلك النقاط التي «تَخْلِق» شعور الحُب، كخليطٍ مُضطرب من مشاعر عِدَّة.
حُلم «توماس» يبدو جوهرياً في هذا السياق، يأتي في مراحل متأخرة من الرواية، بعد ست صُدَف مُتقنة الصّنع جعلتهما يلتقيان، بعد سَفرها إليه من بلدتها إلى بلدته، وشعوره بأنها «طفلٌ مُلقى إليه في سلةٍ بالنهر، لا يُمكن أن يفلته»، في مُقابل شعورها بأنه «صوت يُنادي روحها المذعورة». سَبع سنوات مَعاً، خيانات توماس، هَشاشة تيريزا، الصورة الفاتنة لمزيجِ القوة والضعف والتوحُّد في علاقتهما، هَرب ثم عودة ثم استقرار ريفي هادئ، ويَحْلم «توماس» وقتها بهذا الحلم، لحظة إدراك مثالية أن حُب «تيريزا» هو «ما ليس منه بُد»، كما في نَغمة «بيتهوفن»، «حُب تيريزا الجَميل والمُتعب» كما يصفه في مرحلةٍ مُبكرة.
ويبدو لي، وأكرر الكلمة للتأكيد على الذاتية الشديدة للرؤية، وأنها مُحَمَّلة بسياقات الاستقبال الفرديّة لكلماتِ «كونديرا» وعلاقات أبطاله، ولذلك «يبدو لي» أن تعريف الرجل، أو أقرب ما وَصَل إليه، ينطوي على حتمية جملة «ما لَيس منه بُد». الحُب هُنا لَيس السعادة، لَيس الجنَّة، ليس «امرأة حُلم»، ليس حياة مثالية، الحُب هو «تيريزا»، بكل مخاوفها وقلقها والتنازلات الذاهبة والآتية بينهما، ولا يتناول «كونديرا» ذلك بقدرٍ عالٍ من العاطفة، بقدر ما يربطه بشعورِ الحَتمية والصِلَة وعدم القدرة على الاستغناء.
كان من الممكن لتوماس تحديداً، وباعتباره الطرف الأقوى، أن يختار حياةً أفضل دون «تيريزا»، أن يستغني عن ذلك التعب والإرهاق الذي يرتبط بالحُب، ولكنه دوماً كان يبقى، حتى حين تركته وعادت إلى «براغ»، بدافعٍ من الخوف وأنه «يجدر بالضعيف أن يتعلم كيف يكون قوياً»، فقد ذهب «توماس» وراءها. ويظهر الأمر شبيهاً جداً بتعبير «الحب البريء» الذي يكتبه «كونديرا» في سياقِ حديثه عن علاقة «تيريزا» بكلبتها «كارنينا»، حين تذوب الفوارق بين الشخص الأقوى والشخص الأضعف. وأقول «شبيه» وليس «مُتماثل» لأن إنسانية الحُب لن تجعله مُجرداً بالكُليَّة، لا يوجد حُب غير مَشروط، حتى حب «توماس» لـ«تيريزا»، لكنه، تحديداً، هذا الشيء الذي يجعله يترك امرأة الحُلم والجنة من أجل أن يعود مع «تيريزا».
في سياقٍ ذاتيٍّ مُتصل، ولا شيء على الأغلب يصلح رابطاً إلا ذاتية التلقّي، كُنت أفكر في رواية «الغابة النرويجية»، للأديبِ الياباني هاروكي موراكامي، كنموذج مُقابل لعلاقة «توماس وتريزا» في «خفة الكائن التي لا تُحْتمل» ورؤية ميلان كونديرا للحُب.
المسافة الزمنية الفاصلة منذ آخر قراءة تجعل حضور التفاصيل أقل من رواية «كونديرا» التي أعدت قراءتها للتوّ، ولكن الصورة العامة حاضرة للغاية: هُناك «واتانابي» الذي يهرب من ماضٍ مُجْهِد إلى أرضٍ بعيدة، وهُناك «ناوكو» التي يُحبها كثيراً، ولكنها تَحمل ثقل الماضي كُله معها، ثم هُناك «ميدوري»، بالخفَّة، والاحتمالات المَفتوحة للمُستقبل.
أدب «موراكامي» كله ربما يتعلَّق بقدرة الناس على التعامل مع ماضيهم، والكيفية التي يترسَّخ فيها داخلهم، «الغابة النرويجية» هي أكثر رواياته ذاتية، وفيها وَصل بمعنى آخر للـحب، وهو المرتبط بـ«الخلاص».
«واتانابي» يُحب «ناوكو»، مثلما يُحب «توماس» «تيريزا»، ولكن المَسير في طريقها مُجهد جداً، وصَعب جداً، يَحمل الماضي كله كعثراتٍ مُتتالية، حتمية «ما ليس منه بُد» في رواية «كونديرا» تتحول لشيء مُختلف في عمل «موراكامي» الأكثر ذاتية وهو ضرورة «التخفُّف» من هذا الماضي، أن يترك وراءه صور «ناوكو» و«كيزوكي» والبَلْدَة القديمة، ويذهب لشيءٍ فاتنٍ جداً يجمعه بالفتاة «ميدوري».
أفكّر أن «ميدوري» في تلك الحالة هي «فتاة الحُلم»، ليست جنة بالضرورة ولكنها لا تَحمل ثِقل الماضي، وقُرب ختام الرواية.. ينحاز «موراكامي» تماماً، على لسانِ إحدى الشخصيات، بضرورة أن يترك «واتانابي» كل شيء وراء ظَهره ويُسائل الاحتمالات، الحُب هنا لا يكون حَتمياً، الحُب هو مُحاولة خلاص وتصالح مع الماضي وطَرْق للطُرُقِ الجديدة التي لَم تتفتت.
وبتعبيراتِ «كونديرا»، فإن «كائن لا تُحتمل خفته» تبدو منحازة إلى الثقل، «الحركة من السلبي نحو الإيجابي»، بما يحمل ذلك من إجهادٍ ومُخاطرة، وقبول للإجهاد والمُخاطرة، في المُقابل، فإن «موراكامي» أكثر مَيلاً للخفَّة، أقل رَغبة في مَلحمية الاستمرار خلاف طَبيعة الأمور، خياراته لشخوصه، وهي خيارات يبدو مُنحازاً لها جداً، تَميل للُّطْف والحركة الناعمة، «ميدوري» في مقابل «ناوكو»، مستقبل هادئ تنشأ فيه العاطفة بخفةٍ وبطئ.. أكثر من عاطفةٍ قوية تصطدم بعنفِ الماضي، التخفُّف من الحمل بدلاً من السَّيرِ به مع احتمالات عديدة للوقوعِ في المُنتصف.
من بعيد، يبدو حب «كونديرا » فاتناً أكثر، ولكن الشيء الخطير بشأنِ الأدب أو السينما –والفنون عامة- هو التلاعب في لاوعي الناس، لأن حُب «توماس وتريزا» يبدو جميلاً أكثر مما هو عليه فعلاً، ولأنك –مثلاً- لن تَشعر كقارئ بالألمِ الحاد تحت أظافرها أو استيقاظها في الكوابيسِ الليلية المُرعبة، ولن تتساءل بقدرِ توماس عن التنازلات التي قام بها، في حياته ومهنته وصورته عن نفسه، لأجلِ البقاء جوارها، تلك «حكاية»، مهما بلغت دقة الوَصف أو عُمقه.. فإن عَيشها شيء آخر.
في المُقابلِ فإن خيارات «واتانابي» أكثر أمناً وتعقلاً، ولكن التساؤل سيظل موجوداً في حياته دوماً: ألم يَكُن الطريق نحو «ناوكو» يستحق المُخاطرة؟
الحياة مكان صَعب للعَيش، «ولن يتسنى لنا المُحاولة مرة أخرى للتعرف على صواب خياراتنا»، لا شيء آخر يُمكن أن يُقال.