الأربعاء، 27 أغسطس 2014

ثِقل كونديرا.. وخفة موراكامي التي لا تُحتمل


ثِقل كونديرا.. وخفة موراكامي التي لا تُحتمل


محمد المصري .
مقتبس عن موقع كسرة .


في أحد مقاطع رواية «ميلان كونديرا» الشهيرة «كائن لا تُحتمل خفته» يحلم «توماس»، بطل الرواية، بأقرب تصوّراته عن الجنة، كان يجلس مع امرأة، «تشع هدوءاً وحركة يدها ناعمة»، ويصف بأنه «طوال حياته افتقد هذا الهدوء الأنثوي بالذات»، وحين استيقظ، ظلَّ يتصور بأنه يعيش في عالمٍ مثالي مع امرأة حلمه، وأنه سعيدٌ، ولكن، في حلمِ يقظته هذا، وفي لحظةٍ مثالية منه، يتخيَّل «تيريزا»، حبيبة حياته الأرضية، تَمُرّ من أمام الشباك، وتنظر إليه مع امرأته، وعندئذٍ سيشعر بألمها في قلبه، و«سيغور في روحها».
تخيَّل «توماس» نفسه وهو يقفز، ويذهب إليها، وتخبره، بحركةٍ عصبية يكرهها، وبمرارةٍ تملأ فمها، بأن عليه أن يبقى حيث يشعر بالسعادة، وهو يُدرك، في تلك اللحظة بالذات، داخل حلم اليقظة وخارجه، أنه مُستعد لأن يترك بيت سعادته والجنة التي يعيش فيها مع امرأة حلمه «في سبيلِ الرحيل مع تيريزا، هذه المرأة المولودة من ست صدف مُضحكة».
في قراءةٍ جديدة للرواية، بدا لي أن جانباً كبيراً مما يَشغل «كونديرا» فيها هو «ماهيَّة الحُب»، لحظة التكوُّن، دوافع الاستمرار، علاقته بكل المُحيطات المُجْهِدَة، وموازين الخفَّة والثّقل التي تحكمنا داخله، يتنقل «كونديرا» بين شخصيات الرواية كافة، وبالتحديد في علاقة «توماس وتيريزا»، يحاول دائماً استكشاف تلك النقاط التي «تَخْلِق» شعور الحُب، كخليطٍ مُضطرب من مشاعر عِدَّة.
حُلم «توماس» يبدو جوهرياً في هذا السياق، يأتي في مراحل متأخرة من الرواية، بعد ست صُدَف مُتقنة الصّنع جعلتهما يلتقيان، بعد سَفرها إليه من بلدتها إلى بلدته، وشعوره بأنها «طفلٌ مُلقى إليه في سلةٍ بالنهر، لا يُمكن أن يفلته»، في مُقابل شعورها بأنه «صوت يُنادي روحها المذعورة». سَبع سنوات مَعاً، خيانات توماس، هَشاشة تيريزا، الصورة الفاتنة لمزيجِ القوة والضعف والتوحُّد في علاقتهما، هَرب ثم عودة ثم استقرار ريفي هادئ، ويَحْلم «توماس» وقتها بهذا الحلم، لحظة إدراك مثالية أن حُب «تيريزا» هو «ما ليس منه بُد»، كما في نَغمة «بيتهوفن»، «حُب تيريزا الجَميل والمُتعب» كما يصفه في مرحلةٍ مُبكرة.
ويبدو لي، وأكرر الكلمة للتأكيد على الذاتية الشديدة للرؤية، وأنها مُحَمَّلة بسياقات الاستقبال الفرديّة لكلماتِ «كونديرا» وعلاقات أبطاله، ولذلك «يبدو لي» أن تعريف الرجل، أو أقرب ما وَصَل إليه، ينطوي على حتمية جملة «ما لَيس منه بُد». الحُب هُنا لَيس السعادة، لَيس الجنَّة، ليس «امرأة حُلم»، ليس حياة مثالية، الحُب هو «تيريزا»، بكل مخاوفها وقلقها والتنازلات الذاهبة والآتية بينهما، ولا يتناول «كونديرا» ذلك بقدرٍ عالٍ من العاطفة، بقدر ما يربطه بشعورِ الحَتمية والصِلَة وعدم القدرة على الاستغناء.
كان من الممكن لتوماس تحديداً، وباعتباره الطرف الأقوى، أن يختار حياةً أفضل دون «تيريزا»، أن يستغني عن ذلك التعب والإرهاق الذي يرتبط بالحُب، ولكنه دوماً كان يبقى، حتى حين تركته وعادت إلى «براغ»، بدافعٍ من الخوف وأنه «يجدر بالضعيف أن يتعلم كيف يكون قوياً»، فقد ذهب «توماس» وراءها. ويظهر الأمر شبيهاً جداً بتعبير «الحب البريء» الذي يكتبه «كونديرا» في سياقِ حديثه عن علاقة «تيريزا» بكلبتها «كارنينا»، حين تذوب الفوارق بين الشخص الأقوى والشخص الأضعف. وأقول «شبيه» وليس «مُتماثل» لأن إنسانية الحُب لن تجعله مُجرداً بالكُليَّة، لا يوجد حُب غير مَشروط، حتى حب «توماس» لـ«تيريزا»، لكنه، تحديداً، هذا الشيء الذي يجعله يترك امرأة الحُلم والجنة من أجل أن يعود مع «تيريزا».
في سياقٍ ذاتيٍّ مُتصل، ولا شيء على الأغلب يصلح رابطاً إلا ذاتية التلقّي، كُنت أفكر في رواية «الغابة النرويجية»، للأديبِ الياباني هاروكي موراكامي، كنموذج مُقابل لعلاقة «توماس وتريزا» في «خفة الكائن التي لا تُحْتمل» ورؤية ميلان كونديرا للحُب.
المسافة الزمنية الفاصلة منذ آخر قراءة تجعل حضور التفاصيل أقل من رواية «كونديرا» التي أعدت قراءتها للتوّ، ولكن الصورة العامة حاضرة للغاية: هُناك «واتانابي» الذي يهرب من ماضٍ مُجْهِد إلى أرضٍ بعيدة، وهُناك «ناوكو» التي يُحبها كثيراً، ولكنها تَحمل ثقل الماضي كُله معها، ثم هُناك «ميدوري»، بالخفَّة، والاحتمالات المَفتوحة للمُستقبل.
أدب «موراكامي» كله ربما يتعلَّق بقدرة الناس على التعامل مع ماضيهم، والكيفية التي يترسَّخ فيها داخلهم، «الغابة النرويجية» هي أكثر رواياته ذاتية، وفيها وَصل بمعنى آخر للـحب، وهو المرتبط بـ«الخلاص».
«واتانابي» يُحب «ناوكو»، مثلما يُحب «توماس» «تيريزا»، ولكن المَسير في طريقها مُجهد جداً، وصَعب جداً، يَحمل الماضي كله كعثراتٍ مُتتالية، حتمية «ما ليس منه بُد» في رواية «كونديرا» تتحول لشيء مُختلف في عمل «موراكامي» الأكثر ذاتية وهو ضرورة «التخفُّف» من هذا الماضي، أن يترك وراءه صور «ناوكو» و«كيزوكي» والبَلْدَة القديمة، ويذهب لشيءٍ فاتنٍ جداً يجمعه بالفتاة «ميدوري».
أفكّر أن «ميدوري» في تلك الحالة هي «فتاة الحُلم»، ليست جنة بالضرورة ولكنها لا تَحمل ثِقل الماضي، وقُرب ختام الرواية.. ينحاز «موراكامي» تماماً، على لسانِ إحدى الشخصيات، بضرورة أن يترك «واتانابي» كل شيء وراء ظَهره ويُسائل الاحتمالات، الحُب هنا لا يكون حَتمياً، الحُب هو مُحاولة خلاص وتصالح مع الماضي وطَرْق للطُرُقِ الجديدة التي لَم تتفتت.
وبتعبيراتِ «كونديرا»، فإن «كائن لا تُحتمل خفته» تبدو منحازة إلى الثقل، «الحركة من السلبي نحو الإيجابي»، بما يحمل ذلك من إجهادٍ ومُخاطرة، وقبول للإجهاد والمُخاطرة، في المُقابل، فإن «موراكامي» أكثر مَيلاً للخفَّة، أقل رَغبة في مَلحمية الاستمرار خلاف طَبيعة الأمور، خياراته لشخوصه، وهي خيارات يبدو مُنحازاً لها جداً، تَميل للُّطْف والحركة الناعمة، «ميدوري» في مقابل «ناوكو»، مستقبل هادئ تنشأ فيه العاطفة بخفةٍ وبطئ.. أكثر من عاطفةٍ قوية تصطدم بعنفِ الماضي، التخفُّف من الحمل بدلاً من السَّيرِ به مع احتمالات عديدة للوقوعِ في المُنتصف.
من بعيد، يبدو حب «كونديرا » فاتناً أكثر، ولكن الشيء الخطير بشأنِ الأدب أو السينما –والفنون عامة- هو التلاعب في لاوعي الناس، لأن حُب «توماس وتريزا» يبدو جميلاً أكثر مما هو عليه فعلاً، ولأنك –مثلاً- لن تَشعر كقارئ بالألمِ الحاد تحت أظافرها أو استيقاظها في الكوابيسِ الليلية المُرعبة، ولن تتساءل بقدرِ توماس عن التنازلات التي قام بها، في حياته ومهنته وصورته عن نفسه، لأجلِ البقاء جوارها، تلك «حكاية»، مهما بلغت دقة الوَصف أو عُمقه.. فإن عَيشها شيء آخر.
في المُقابلِ فإن خيارات «واتانابي» أكثر أمناً وتعقلاً، ولكن التساؤل سيظل موجوداً في حياته دوماً: ألم يَكُن الطريق نحو «ناوكو» يستحق المُخاطرة؟
الحياة مكان صَعب للعَيش، «ولن يتسنى لنا المُحاولة مرة أخرى للتعرف على صواب خياراتنا»، لا شيء آخر يُمكن أن يُقال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق