الأحد، 13 يناير 2013

إسهامات العالمة مارغريت ميد في الانثروبولوجيا النفسية

 


 
 
إسهامات العالمة مارغريت ميد في الانثروبولوجيا النفسية
إبراهيم الساعدي

كثرت الدراسات الانثروبولوجية الميدانية التي قام بها الانثروبولوجيون في القرون المنصرمة، إلا إن ابرز الدراسات الانثروبولوجية التي ذاع صيتها في الأوساط العلمية هي دراسة راد كلف براون لجزر الاندمان، وكذلك دراسة مالينوفسكي لجزر التروبرياند، ودراسة روث بندكت لقبيلة زوني ودراسة مارجريت ميد لجزر ساموا، وغيرها من الدراسات الانثروبولوجية التي يصعب ذكرها. إلا إن اغلبَ هذهِ الدراسات لم تحظ بأهتمام واسع، على الرغم من أن انها دراساتٌ رصينة وقيمة وتدّرس أينما توجد الانثروبولوجيا. لكن لم يكن هنالكَ امتداد لهذهِ الدراسات، أقصد وجود نقد من قبل الانثروبولوجيين المُعاصرين أو على الأقل تصحيحها أو الاستفادة من نتائجها بالشكل الذي يتلاءم مع ما توصلت إليهِ أنثروبولوجيا القرن الواحد والعشرين. وإن وجد نقد أو تصحيح فهو لا يتعدى أن يكون تسطيحاً لهذهِ الدراسات. تبرز دراسة مارجريت ميد من بين هذهِ الدراسات كدراسةٍ رائدةٍ فريدةٍ من نوعِها، والذي يلاحظ دراسات مارجريت ميد، يشعرُ بالخدمة الكبيرة التي قدمتها هذهِ العالمة للعلم بشكل عام. وللانثروبولوجيا النفسية أو الحضارة والشخصية بشكل خاص.
لقد تصدت هذهِ العالمة لعدة فرضيات كانت تعتبر من المُسلمات التي لا يجوز الشك فيها. غير إن هذهِ العالمة فنّدت تلكَ الفرضيات وفتحت الباب أمام الباحثين الغربيين إلى تنقيحها والاستفادة منها. أنها على أية حال انطلاقة فذّة قامت بها ميد في مجال البحث الانثروبولوجي – النفسي. من أبرز الموضوعات النظرية التي تصدت لها ميد هي موضوع المراهقة. فقد تردد في بحوث العلماء النفسيين الغربيين والأميركيين أفكاراً كثيرة تكشف عن طبيعة المراهقة والمشكلات التي تصاحبها. فلا شك إن المراهقة تمثلُ مرحلة حساسة في حياة كل إنسان، وعليهِ فلا بد من وجود مشكلاتٍ تحيط بالفرد إبّان تلكَ الفترة. لذا فأن العلماء الغربيون في مجالات البحث النفسي توصلوا إلى رأي مفادهُ إن المراهقة تمثلُ مرحلة حساسة في حياة كل فرد. هذهِ المرحلة تتسمُ بخصائصَ بايولوجية وعاطفية وذهنية، ولاشكَ إن هذهِ الخصائص تمثلُ تغيّراً في حياة الفرد، وعليهِ فلا بد من ظهور سلوكٍ مُغاير للسلوك الذي كانَ يتبّعهُ الفرد قبل دخولهِ مرحلة المراهقة. كما إن هذهِ التحوّلات أو التغيرات البايولوجية والنفسية والعاطفية يتمخضُ عنها فورانٌ نفسي - عصبي داخل الفرد. مما يجعل الفرد يتخذ سلوكاً معيناً، ربما يختلفُ كل الاختلاف عن سلوك الأفراد البالغين.الأمر الذي يجعل التجارب والمواقف التي يمر بها المراهق عاملاً موبخاً أو سلبيا كما يشعرُ بهِ. فأحياناً يشعرُ بالألم من موقفٍ معين. وأحياناً أخرى يشعرُ بالخجل أو الخوف والحرمان، وفقدان الطمأنينة وعدم الاستقرار النفسي.
هذا كل ما توصل إليهِ علماء النفس في الغرب من نتائجَ عن مرحلة المراهقة وهذهِ هي الصورة التي شكلوها عن حياة الفرد المُراهق بصورةٍ عامة بغض النظر عن جنسهِ – ذكراً أم أنثى- وعمّموا نتائجهم هذهِ على مجتمعات العالم دونَ إستثناء.
لم تكن الأستاذة ميد بمعزل عن هذهِ الفرضيات أو الصورة التي شكلها العلماء عن مرحلة المراهقة، بل كانت إن صحَ التعبير تراقبُ عن كثب ما يتوصل إليهِ علماء النفس من نتائجَ عن مرحلة المراهقة. وأخيراً قامت الأستاذة ميد بدراسة مجتمع ساموا البدائي لدراسة موضوع المراهقة، لمعرفة صدق أو كذب الادعاءات التي تبناها علماء النفس. فقد ركزت ميد على نشأة شخصية الأطفال منذ ولادتهم لحين انتهائهم من مرحلة المراهقة، مع الاهتمام بشكل كبير بملاحظة حياة الفتيات، وتوسّعت ميد بهذا الأمر حيث حاولت أن تتعرف على حياة الفتيات منذ نشأتهن وما يحيط بحياتهن من علاقاتٍ إجتماعية – داخل وخارج الأسرة وحضارية أيضا. وكشف طبيعة الحياة التي تعيشها المراهقات والمراهقون في تلكَ الجزيرة. كما حاولت أيضاً التركيز على النتائج العاطفية والذهنية التي تنتجُ من خلال تلكَ العلاقات الذي تتبناها الفتيات داخل المجتمع. استطاعت الأستاذة مارجريت ميد أن تخلص إلى عددٍ من النتائج من خلال دراستها الدقيقة لهذا المجتمع. فبينت ميد بأن حياة الفتيات المراهقات في جزيرة ساموا "المجتمع المبحوث" لا تتسم بسلوكٍ غير سوي أو عصبي، ولا يتسمُ بالفوران العاطفي والقلق الذهني، كما توصلَ إليهِ علماء النفس في الغرب، بل وجدت الأستاذة مارجريت ميد إن التركيبَ الحضاري في جزر ساموا يتيحُ للأطفال منذ نشأتهم الحرية الكاملة في تصرفاتهم مما يجعل شخصياتهم تنمو نمواً حراً غيرَ مقيدٍ يخلو بدرجةٍ كبيرة من الفوران النفسي والقلق الذهني. أي إن الحالة الاجتماعية والنفسية للفتيات المراهقات مُستقرة وطبيعية. كما وجدت إن مجتمعَ ساموا يسمحُ للأطفال – من الذكور والإناث – الاختلاط والمصاحبة والدخول في تجاربَ عاطفية. بل لاحظت الأستاذة ميد أنَ هنالكَ تجاربَ جنسية تحصل بين الجنسين، حيث إن العرفَ في مجتمع ساموا يمنحُ للأفرادَ حرية كبيرة دون تقييد، كما وجدت ميد إن التركيبة النفسية المعتدلة التي تمتاز بها شخصيات أفراد مجتمع ساموا ترجع إلى عدم اهتمام الآباء بالزعامة وإستئثارهم بها وعدم فرض سلطتهم وآرائهم على الأبناء كما هو حاصل في المجتمعات ذات الزعامة الأبوية "تلك التي درسها فرويد".
هذه هي الصورة التي صاغتها لنا الأستاذة ميد من خلال دراساتها الميدانية الموّسعة لجزيرة ساموا، من خلال هذهِ الدراسة، ثبت أن ما جاء بهِ علماء النفس الغربيون من نتائجَ مُعممة على جميع المجتمعات هي نتائج مبالغٌ فيها، وإن وجدت هذهِ النتائج في مجتمع ما فليست بالضرورة وجودها في مجتمع آخر بنفس الصورة.
هذا ما توصلت إليهِ دراسة الأستاذة ميد والتي انتهت بحقيقةٍ مفادها أن نظامَ الضبط الاجتماعي في تلكَ الجزيرة "ساموا" يقوم على ضمان قدر قليل من طاعة الصغار لوالديهم وإعطائهم حقاً أكبر من حرية التصرف.
من خلال هذهِ الدراسة نستنتج ما يلي:
1-                             إن الصورة التي صاغها لنا علماء النفس في الغرب عن مرحلة المراهقة هي صورة خاطئة ولا تعتمد على دليل. أو هي صورة مبالغٌ فيها.
2-                             لا يمكن تعميم النتائج التي توصل إليها علماء النفس عن مرحلة المراهقة على مجتمعات العالم.
3-                             هنالك حالة من الاستقرار النفسي والعاطفي لدى مراهقات جزر ساموا، ولا وجود لفوران عاطفي أو قلق ذهني كما ادعى علماء النفس.
4-                             لا توجد ضغوط نفسية من قبل الوالدين على شخصيات الأطفال في جزر ساموا منذ نشأتهم وحتى انتهاء مرحلة المراهقة.
5-                             الأطفال والمراهقون في جزر ساموا يتمتعون بقدر كبير من حرية التصرف تفوق قدر طاعتهم لوالديهم.
6-                             لا يشعر المراهقون في مجتمع ساموا بالمواقف التي يمرون بها بالخوف أو الألم والحرمان كما ادعى علماء النفس.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق