روايات طفولتنا الهندية..........!
نعيم عبد مهلهل
ليس للمبدع في تذكر موهبته سوى أن يعود الى احساس طفولته الأولى ، إذا افترضنا ان ما ينتجه بعد ذلك يشكل بوابة مفتوحة الى طفولته الثانية ، وهناك طفولة ثالثة في حياة البشر هي تلك الكهولة الهادئة والثقيلة الحركة والتي يسكنها شتات التذكر لما كان يجري على شكل رواية غير واضحة المعالم ، لكنها تُستعاد في التصرف الطفولي وتلك الخربشات العبثية والتصرف الذي يعيشه الكهول وهم يطلبون حلوى ( البوم بومب / المصاصة ) كما يطلبها طفل بعمر اربع سنوات.
تلك الازمنة لا توثق جيدا إلا من خلال المرويات التي وحدها من جعلت التاريخ شاهد العيان الاقرب توثيقا للحياة الحضارية للارض وما عليها. ومن بعضها تلك الأزمنة التي تلاصق تماما نشوء ذاكرتنا المجتمعية ويوثقها الحدث المرتهن بحواس البشر ورغبتهم في المحاكاة والتقليد والنبوغ ، وكل تلك الهواجس لاتمنو فينا وتتوثق وتبدع إلا من خلال التأمل والمتابعة والأعجاب والمحاكاة للجديد الذي نراه ونسمعهُ ونحسهُ ونعيشهُ على مستوى الواقع والحلم .
وأعتقد أن الفن السينمائي وفرَ لنا الكثير من هذه الاشتغالات التي تطور فينا لغة التعامل والارتباط والمُحاكاة لهذا العالم ، ومن بعضها الافلام الهندية التي كانت تقدمها سينما مدينتنا لروادها الذين أغلبهم من الفقراء والعشاق.
وقبل فترة توفي الممثل الهندي المعروف ( راجيش كنا ) صاحب الفيلم الرومانسي الشهير ( إنداز ) الذي شاركه فيه البطولة الفيس بريسلي السينما الهندية شامي كابور والذي توفي قبل فترة أيضا وكانت بطلة الفيلم ملكة جمال الهند وقتها هيما ميلاني.
الممثل ( راجيش كنا ) الذي ملأ طفولتنا بالأحلام وشجن الفقر والانشداد الى شاشة السينما كان يمثل لنا اقصى ما تتمناه طفولتنا الرومانسية من غرام وموسيقى والابحار الى الخيال المدهش في عوالم الموسيقى الهندية الساهرة وقصص الافلام التي كانت تبكينا وتضحكنا وتجعلنا نعوم في الأمل والعشق والدموع وهي وحدها من ملأت خيال الكثير من المبدعين رغبة البدء بنسج حكاياتهم وقصائدهم على منوال تلك الرومانسية الجميلة التي ملئت الأفلام السينمائية وموسيقى اغانيها وسيناريوهاتها التي في اغلبها تبدأ حزينة وتنتهي بالصدفة السعيدة .
مات راجيش كنا الذي كنا نعتبره ساحراً بحركاته الراقصة وأبتساماته واغانيه ليعيش معنا وسائد النوم في الليل الذي لا تضيء سماءه سوى الفوانيس وتخيل امتلاك نساء بجمال الممثلات هيما ميلاني وآشا باريخ وممتاز وفيجانتي مالا والراقصة هيلين..
هذا الموت لواحد من مؤسسي دافع صناعة لمعان الحروف على ورق دفاترنا المدرسية الأصفر أعاد الي طيفا عريضا من مشاهد الذكريات ، لحظة كان يسكننا الليل في متعة تذكر ما شاهدناه في الفيلم الهندي لتقودنا متعة التذكر الى المحاكاة ومن ثم نبدأ لنسطر أول محاولات ربط نبض قلوبنا مع هذا العالم من خلال حكاية.
حكاية تروي آمالنا الفقيرة وجرأة الشهوة فينا عندما نطابق في افتراض الروي أن كل الذي شاهدناه في الفيلم الهندي هو يقارب تماما وقائع حياتنا بذلك الفقر والجنوب الملتهب كما مناخ الهند بلهيب حرارة الصيف ورياح الشرقي الرطبة ، فيصبح هذا القرين فعالا في دافع صنع الرغبة فيما كان يتوهج داخلنا لنحوله الى شجنٍ محكي يغرق في رومانسية لاحدود لصورها ومشاعرها وفصولها من الحصول على قصر في وديان وجبال الهملايا وكشمير الساحرة الى جمع دموع اليتيم في فيلم أم الهند بأنية اجفاننا ونحن نسجل نبضات قلوبنا المتسارعة على شكل حكاية تجمع بين الحلم والغرام وتعلم كتابة الاغاني والأماني التي يود فيها كل واحد منا ان يتحول الى مهراجا.
مات راجيش كنا الذي كان من بعض ذكريات السبعينيات وجمال ايامها في جعل السينما متعة الروح والغرق في فنتازيا اخيلة زرقاء وبيضاء ومعطرة باللقطات الملونة التي تسرقنا من بيوت الطين الى شوارع دلهي وبومباي وحدائق تاج محل .
لقد كان ( راجيش كنا ) بفتنته الساحرة ورقصه المتقن وصوته الحنون يأخذنا الى اقصى ما نتمناه ونشتهيه بالرغم من الجوع الذي كان يسكن بطوننا .
هذا الهندي المبدع يبقى في خيال الأجيال التي سرحت مع عذوبة صوته ورومانسية مشاهده السينمائية صورة مستعادة في سطر حكاية أو البوم صور لصانع الحلم في اجفان طفولتنا الفقيرة التي كانت الموسيقى الهندية تغذيها بآمال لاتنتهي من أحلام السفر ومجالسة الأميرات والسكن في بيوت من الرخام وليس من الطين الذي ظل يلاصق قدريتنا منذ خليقة سومر وحتى اليوم...!
كان ثمن بطاقة السينما 40 فلسا ، وكان ذلك المبلغ كبيرا على ابائنا وحتى نحصل على متعة مشاهدة الفيلم الهندي ولم يمكن بمقدورنا أن نحصل جميعنا على ثمن البطاقة كنا نجتمع ستة اطفال ونجمع مصروفنا اليومي ليكون اربعين فلسا ونعمل قرعة فيما بيننا والذي يفوز ويذهب ليشاهد الفيلم عليه ان يعود ليقص لنا حكاية الفيلم لاكثر من عشرة مرات وهذا ما حدث لنا نحن أطفال شارع اسديناوية في المحلة الشرقية بمدينة الناصرية ( 360 كم ــ جنوب بغداد ) عندما تم عرض الفيلم الهندي الشهير ( سنكام ) بداية سبعينيات القرن الماضي وكان من بطولة الممثل والمخرج راج كابور والممثل راجندر كومار والممثلة فيجنتي مالا . وكنا نتفاعل من نال الحظ وفاز بمشاهدة الفيلم نيابة عنا وكنا نضحك حين يضحك في المواقف المضحكة ونبكي حين يبكي في المواقف المبكية وأعتقد أن هذه الحكايات وتخيلنا لمشاهدنا دون أن نرى ممثليها هي من منحتنا القدرة مستقبلا لنطالع ونكتب بحرفة بين أن يكون أحدنا شاعراً أو روائياً أو رساماً او كاتباً مسرحياً.
راجيش كنا ، وفيروز خان ، وراج كابور ، شامي كابور ، دليب كومار ، راجندر كومار ، مانوج كومار ، وآشا باريخ ، وهيما ميلاني ، ودارا مندر ، وفاجينتي مالا ..وغيرهم كانوا يمثلون أسطرة لطفولة الجنوب الذي جعلنا نعتقد أن السينما تغذي في أرواحنا الحلم والأمل مثلما يغذي الخبز في ارواحنا الصحة والحياة والأنتصار على الجوع .
مات راجيش كنا ، ومات معه اليأس من عودة ذلك العصر الذهبي لمتعة القراءة ومشاهدة الافلام السينما ، فقد كان ذلك الزمن موشوما ببراءة العيش والبساطة والقناعة .
هو زمن طفولتنا الهندية الذي رسم تحت اجفاننا اول تفاصيل لدراما الجوع والفقر والبحث عن الجمال والغنى من خلال اغنية ورقصة وقصة معذبين ينتتهي قدرهما بالنهاية السعيدة ولكن بعد أكثر من ساعتين من البكاء.
مات راجيش كنا . وسنموت نحن .ويموت الذين يأتون من بعدنا ، لكن العلامات الفارقة في ذاكرة العصور لن تموت .فهي وحدها من تؤرخ للأجيال القادمة الحياة التي كنا نعيشها نحن وسيعيشها غيرنا وحتما سيكون المؤرخ وشاهد العيان تلك الروايات التي كتبت بفطرة وحرفية وبعضها نشر والبعض بقي في ادراج الدفاتر الشخصية ، وفي المحصلة كانت تلك الأفلام من بعض تلك الشهوات التي صنعتها تلك الرومانسية المصحوبة بعطر القصور المغولية والابخرة الهندوسية والتأملات البوذية والكنارات التي تطلق الاصوات العذبة لتمرر دهشة التامل المتسمر امام شاشات السينما ونحن مأخوذين بكل التفاصيل التي كتبت لتجعل الفقير يعيش على امل الحصول على الكنز والمراة الساحرة..!
نعيم عبد مهلهل
ليس للمبدع في تذكر موهبته سوى أن يعود الى احساس طفولته الأولى ، إذا افترضنا ان ما ينتجه بعد ذلك يشكل بوابة مفتوحة الى طفولته الثانية ، وهناك طفولة ثالثة في حياة البشر هي تلك الكهولة الهادئة والثقيلة الحركة والتي يسكنها شتات التذكر لما كان يجري على شكل رواية غير واضحة المعالم ، لكنها تُستعاد في التصرف الطفولي وتلك الخربشات العبثية والتصرف الذي يعيشه الكهول وهم يطلبون حلوى ( البوم بومب / المصاصة ) كما يطلبها طفل بعمر اربع سنوات.
تلك الازمنة لا توثق جيدا إلا من خلال المرويات التي وحدها من جعلت التاريخ شاهد العيان الاقرب توثيقا للحياة الحضارية للارض وما عليها. ومن بعضها تلك الأزمنة التي تلاصق تماما نشوء ذاكرتنا المجتمعية ويوثقها الحدث المرتهن بحواس البشر ورغبتهم في المحاكاة والتقليد والنبوغ ، وكل تلك الهواجس لاتمنو فينا وتتوثق وتبدع إلا من خلال التأمل والمتابعة والأعجاب والمحاكاة للجديد الذي نراه ونسمعهُ ونحسهُ ونعيشهُ على مستوى الواقع والحلم .
وأعتقد أن الفن السينمائي وفرَ لنا الكثير من هذه الاشتغالات التي تطور فينا لغة التعامل والارتباط والمُحاكاة لهذا العالم ، ومن بعضها الافلام الهندية التي كانت تقدمها سينما مدينتنا لروادها الذين أغلبهم من الفقراء والعشاق.
وقبل فترة توفي الممثل الهندي المعروف ( راجيش كنا ) صاحب الفيلم الرومانسي الشهير ( إنداز ) الذي شاركه فيه البطولة الفيس بريسلي السينما الهندية شامي كابور والذي توفي قبل فترة أيضا وكانت بطلة الفيلم ملكة جمال الهند وقتها هيما ميلاني.
الممثل ( راجيش كنا ) الذي ملأ طفولتنا بالأحلام وشجن الفقر والانشداد الى شاشة السينما كان يمثل لنا اقصى ما تتمناه طفولتنا الرومانسية من غرام وموسيقى والابحار الى الخيال المدهش في عوالم الموسيقى الهندية الساهرة وقصص الافلام التي كانت تبكينا وتضحكنا وتجعلنا نعوم في الأمل والعشق والدموع وهي وحدها من ملأت خيال الكثير من المبدعين رغبة البدء بنسج حكاياتهم وقصائدهم على منوال تلك الرومانسية الجميلة التي ملئت الأفلام السينمائية وموسيقى اغانيها وسيناريوهاتها التي في اغلبها تبدأ حزينة وتنتهي بالصدفة السعيدة .
مات راجيش كنا الذي كنا نعتبره ساحراً بحركاته الراقصة وأبتساماته واغانيه ليعيش معنا وسائد النوم في الليل الذي لا تضيء سماءه سوى الفوانيس وتخيل امتلاك نساء بجمال الممثلات هيما ميلاني وآشا باريخ وممتاز وفيجانتي مالا والراقصة هيلين..
هذا الموت لواحد من مؤسسي دافع صناعة لمعان الحروف على ورق دفاترنا المدرسية الأصفر أعاد الي طيفا عريضا من مشاهد الذكريات ، لحظة كان يسكننا الليل في متعة تذكر ما شاهدناه في الفيلم الهندي لتقودنا متعة التذكر الى المحاكاة ومن ثم نبدأ لنسطر أول محاولات ربط نبض قلوبنا مع هذا العالم من خلال حكاية.
حكاية تروي آمالنا الفقيرة وجرأة الشهوة فينا عندما نطابق في افتراض الروي أن كل الذي شاهدناه في الفيلم الهندي هو يقارب تماما وقائع حياتنا بذلك الفقر والجنوب الملتهب كما مناخ الهند بلهيب حرارة الصيف ورياح الشرقي الرطبة ، فيصبح هذا القرين فعالا في دافع صنع الرغبة فيما كان يتوهج داخلنا لنحوله الى شجنٍ محكي يغرق في رومانسية لاحدود لصورها ومشاعرها وفصولها من الحصول على قصر في وديان وجبال الهملايا وكشمير الساحرة الى جمع دموع اليتيم في فيلم أم الهند بأنية اجفاننا ونحن نسجل نبضات قلوبنا المتسارعة على شكل حكاية تجمع بين الحلم والغرام وتعلم كتابة الاغاني والأماني التي يود فيها كل واحد منا ان يتحول الى مهراجا.
مات راجيش كنا الذي كان من بعض ذكريات السبعينيات وجمال ايامها في جعل السينما متعة الروح والغرق في فنتازيا اخيلة زرقاء وبيضاء ومعطرة باللقطات الملونة التي تسرقنا من بيوت الطين الى شوارع دلهي وبومباي وحدائق تاج محل .
لقد كان ( راجيش كنا ) بفتنته الساحرة ورقصه المتقن وصوته الحنون يأخذنا الى اقصى ما نتمناه ونشتهيه بالرغم من الجوع الذي كان يسكن بطوننا .
هذا الهندي المبدع يبقى في خيال الأجيال التي سرحت مع عذوبة صوته ورومانسية مشاهده السينمائية صورة مستعادة في سطر حكاية أو البوم صور لصانع الحلم في اجفان طفولتنا الفقيرة التي كانت الموسيقى الهندية تغذيها بآمال لاتنتهي من أحلام السفر ومجالسة الأميرات والسكن في بيوت من الرخام وليس من الطين الذي ظل يلاصق قدريتنا منذ خليقة سومر وحتى اليوم...!
كان ثمن بطاقة السينما 40 فلسا ، وكان ذلك المبلغ كبيرا على ابائنا وحتى نحصل على متعة مشاهدة الفيلم الهندي ولم يمكن بمقدورنا أن نحصل جميعنا على ثمن البطاقة كنا نجتمع ستة اطفال ونجمع مصروفنا اليومي ليكون اربعين فلسا ونعمل قرعة فيما بيننا والذي يفوز ويذهب ليشاهد الفيلم عليه ان يعود ليقص لنا حكاية الفيلم لاكثر من عشرة مرات وهذا ما حدث لنا نحن أطفال شارع اسديناوية في المحلة الشرقية بمدينة الناصرية ( 360 كم ــ جنوب بغداد ) عندما تم عرض الفيلم الهندي الشهير ( سنكام ) بداية سبعينيات القرن الماضي وكان من بطولة الممثل والمخرج راج كابور والممثل راجندر كومار والممثلة فيجنتي مالا . وكنا نتفاعل من نال الحظ وفاز بمشاهدة الفيلم نيابة عنا وكنا نضحك حين يضحك في المواقف المضحكة ونبكي حين يبكي في المواقف المبكية وأعتقد أن هذه الحكايات وتخيلنا لمشاهدنا دون أن نرى ممثليها هي من منحتنا القدرة مستقبلا لنطالع ونكتب بحرفة بين أن يكون أحدنا شاعراً أو روائياً أو رساماً او كاتباً مسرحياً.
راجيش كنا ، وفيروز خان ، وراج كابور ، شامي كابور ، دليب كومار ، راجندر كومار ، مانوج كومار ، وآشا باريخ ، وهيما ميلاني ، ودارا مندر ، وفاجينتي مالا ..وغيرهم كانوا يمثلون أسطرة لطفولة الجنوب الذي جعلنا نعتقد أن السينما تغذي في أرواحنا الحلم والأمل مثلما يغذي الخبز في ارواحنا الصحة والحياة والأنتصار على الجوع .
مات راجيش كنا ، ومات معه اليأس من عودة ذلك العصر الذهبي لمتعة القراءة ومشاهدة الافلام السينما ، فقد كان ذلك الزمن موشوما ببراءة العيش والبساطة والقناعة .
هو زمن طفولتنا الهندية الذي رسم تحت اجفاننا اول تفاصيل لدراما الجوع والفقر والبحث عن الجمال والغنى من خلال اغنية ورقصة وقصة معذبين ينتتهي قدرهما بالنهاية السعيدة ولكن بعد أكثر من ساعتين من البكاء.
مات راجيش كنا . وسنموت نحن .ويموت الذين يأتون من بعدنا ، لكن العلامات الفارقة في ذاكرة العصور لن تموت .فهي وحدها من تؤرخ للأجيال القادمة الحياة التي كنا نعيشها نحن وسيعيشها غيرنا وحتما سيكون المؤرخ وشاهد العيان تلك الروايات التي كتبت بفطرة وحرفية وبعضها نشر والبعض بقي في ادراج الدفاتر الشخصية ، وفي المحصلة كانت تلك الأفلام من بعض تلك الشهوات التي صنعتها تلك الرومانسية المصحوبة بعطر القصور المغولية والابخرة الهندوسية والتأملات البوذية والكنارات التي تطلق الاصوات العذبة لتمرر دهشة التامل المتسمر امام شاشات السينما ونحن مأخوذين بكل التفاصيل التي كتبت لتجعل الفقير يعيش على امل الحصول على الكنز والمراة الساحرة..!
المصدر الحوار المتمدن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق