الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

عبدالله إبراهيم: الرواية مؤهّلة لصوغ هويات الأمم


الحوار محمد غبريس 

المصدر كتاب العراق 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


*بعد نتاج فكري ونقدي استغرق أكثر من ثلاثين سنة تكلل بعشرات الكتب والبحوث والدراسات النقدية والفكرية، ما الخلاصة التي خلصت إليها؟ وكيف يمكن أن تستفيد الأجيال المتعاقبة من هذا النتاج الواسع؟



-المفكّر ليس واعظا يغري الآخرين بأفكاره أو يرهبهم بها، من أجل تحقيق وعد لاهوتي غامض، إنما هو مشارك لهم في تنشيط الاهتمام بالثقافة الانسانية بوجوهها الأدبية والفكرية والاجتماعية والدينية، وحرثها، ثم تقليبها، وإعادة تأويلها، وكل ذلك يلزم إعدادا متينا وعميقا فيها، وبدون ذلك يبقى خارج المنطقة الثقافة الحقيقية، وكل ما أتمناه هو انتقال خبرة السابقين الى اللاحقين، واستثمار جهودهم، وإقامة حوار بين الطرفين، فالثقافة تقتضي حوارا متواصلا بين الأجيال، والى كل ذلك أتمنى أن أودع مجموع النشاط الفكري والنقدي الذي شغلني طويلا للأجيال الآتية عساهاتستفيد منه إن كانت فيه ثمة فائدة.



* كثيرا ما نقل عنك القول بأن النقد العربي يعيش أزمة عميقة؟ ما سبب


ذلك في تقديرك؟


- اقصد بالأزمة التي يعيشها النقد العربي غياب الرؤية الثقافية الناظمة---- لأعمال النقاد العرب، وغياب المنهجية الواضحة التي بها يتمكنون من معالجة النصوص الأدبية، وفي تقديري، فإن غياب الرؤية والمنهج سيحيل الكتابة النقدية الى نشاط تابع وناقص، فلا يتحقق هدفه الجليل في تحليل الظواهر الأدبية بما يناسب الحقبة التاريخية للأدب القومي، وأرجو ألا يفهم من كلامي بأنني أدعو الى رؤية واحدة، أو الى منهج واحد، إنما تريد الظواهر الأدبية من النقاد تحليلها واستنطاقها برؤى معمّقة، وبمناهج كفوءة، وينبغي أن تنحسر المحاكاة السلبية للمناهج النقدية المستعارة من الثقافات الأخرى، ويحلّ محلّها التفاعل الخلاق، والشراكة الإيجابية، وعدم الاقتصار على الاقتباس، وبدون ذلك لن ينتقل النقد العربي من حالته التابعة الى مرحلة تعميق وعي الناقد بالأدب القومي.


• كيف تقيّم "الحركة النقدية" في مجال الدراسات السردية؟


- ربما يكون حال الدراسات السردية أفضل من غيرها في النقد العربي الحديث، ولكنها دون ما أتطلّع إليه؛ فحيوية الرواية تركت بصماتها في الممارسة النقدية المصاحبة لها، وهذا أمر جيد بالمعنى العام، لكن تلك الدراسات مازالت، فيما أرى، دون ما ينبغي لها أن تكون، وأجد بأنه من اللازم أن تستخلص الكيفيات التي قامت بها الرواية العربية في تمثيل مرجعياتها، وفي استنباط خصائصها السردية، وفي استكشاف الآفاق أمامها، وبدون ذلك تتنكب عن وظيفتها، وتنشغل بالتعليقات والتعريفات، وهو أمر لا يضيف لها شيئا ذا بال، ولا يثري الرواية بشيء جديد. ويجعل من العمل النقدي هامشا وعالة على غيره.


• هناك من يقول أن الرواية اليوم تتسيّد المشهد الثقافي العربي. هل وصلت إلى المستوى الذي يؤهلها لتكون "ديوان العرب"؟ وما الأسباب التي جعلت الرواية تحتل هذه المرتبة وتزدهر على حساب الشعر؟


- ظهرت الرواية العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وخلال قرن ونصف أصبحت فعلا "ديوان العرب" على أن يفهم من معنى "الديوان" السجل الحافل بالأخبار والأحوال في حقبة من حقب التاريخ؛ لأنها قامت بتمثيل سردي لأحوال المجتمعات العربية، وعرضت بحثا مجازيا في الصراعات السياسية، والمذهبية، والعرقية، بما في ذلك الهويات، والآمال، والحريات. ولم تمكث في منطقة الحياد، إنما ذهبت إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه، فتزحزحت وظيفتها من كونها حكاية متخيّلة إلى خطاب رمزي باحث في الشأن العام. الرواية العربية "ديوان" نتلمّس فيه ما يثير الهلع في النفوس عن البطانة المركّبة للجماعات القبلية والمذهبية والعرقية، وهي "ديوان" كاشف للاحتقانات المطمورة في مجتمعات تتوهّم بأنها طاهرة لا يأتيها الإثم على الإطلاق. وإلى كل ذلك، خاضت الرواية العربية مغامرة جريئة في تطوير بنياتها السردية والأسلوبية، واقترحت لغة جديدة غير تلك اللغة المعيارية التي أصبحت موضوعا للبلاغة التقليدية في القرون الوسطى. وصار من الضروري الاعتراف بأنها الممثل الرئيس للأدب القومي في الثقافة العربية الحديثة. كل ذلك وغيره دفع بالرواية لأن تحتل مكانها الرفيع، فيما أخفق الشعر العربي الحديث في تمثيل تلك الأحوال تمثيلا مناسبا، فانحسر إلى الوراء.


• على أي نوع من الروايات ينصبّ اهتمامك النقدي؟ وهل المستقبل للرواية الرقمية، الأمر الذي يحقّق لها المزيد من الانتشار ومواكبة العصر، خصوصا بعد بروز تقنيات جديدة في الرواية؟


-انتقلت الرواية من مرحلة صنع الحكاية الى مرحلة البحث المجازي في الأحوال الاجتماعية، فقد كانت من قبل مشغولة بالحبكة السردية، وبالتشويق، وبالمغامرة، وكثيرا ما كانت التسلية هدفا مهما من أهدافها، فيما انتقلت بالتدريج الى منطقة توارى فيها، بدرجة واضحة، معظم ما ذكر، وأصبحت على مشارف حقبة تقترح فيها شكلا سرديا مختلفا، وهدفا غير الذي لازمها منذ نشأتها، أصبح شكلها مفتوحا، وإطارها السردي مرنا، وشخصياتها متفاعلة، وأحداثها متداخلة، واقترحت على نفسها أهدافا لها صلة قوية بالمرجعيات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ففيما كانت مشغولة من قبل بحدودها النوعية انخرطت في معمعة واقع متحول جرف معه شكلها القديم، واقترح عليها انفتاحا موازيا لانفتاح المرجع الذي تقوم بتمثيله، وكل هذا مثار اهتمامي النقدي. ومن المهم أن تتبنّى الرواية طرقا كتابية جديدة لها كالطريقة الرقمية، وما تتيحه لها من تفاعلات مع القراء والنصوص والمناظرة لها، الرواية الرقمية مازالت في أول أمرها، ولكنها سوف تثبّت أركانها بتطوّر تقنيات الكتابة الرقمية وتطوّر وسائلها.


• تقترح النظر إلى الرواية باعتبارها من "المرويّات الكبرى" التي تسهم في صوغ الهُويّات الثقافيّة للأمم؟ كيف تنظر إلى سؤال الهوية، وهل يمكن تمثيلها سرديا كما تريد أنت؟


- قصدت بأن الرواية ترسم الملامح العامة للتطلعات والآمال والتحولات الاجتماعية الكبرى في حياة الأمم، ومن ذلك صوغ هوية الأمة بتمثيل أحوالها وتطلعاتها، فضلا عن نظرتها الى نفسها ونظرتها الى الأمم الأخرى، وأحسب بأن الرواية قادرة على القيام بذلك بعد انحسار الايدلوجيات العرقية والدينية، وفي تقديري فأن تنهض الرواية بصوغ هوية الأمة بمكوناتها المتعددة من أعراق، وأديان، وطوائف، وطبقات، وأقليات، وتجارب تاريخية، خير من صوغها الشائه من قبل الأيدلوجيات الزائفة، فهذا يعني صوغا لهوية متنوّعة الموارد، ومتعدّدة المشارب، ضمن إطار مرن للهوية التي تعترف بالتنوعات جميعها، وتدرجها ضمن إطارها، وذلك يختلف عن المفهوم المغلق للهوية الذي صاغته الأيدلوجيات السياسية والدينية والعرقية للأمة، فلطالما نُظر باشمئزاز وازدراء إلى مفهوم ضيق للهوية يستجيب فقط لعرق أو لدين أو لطائفة بتأثير من الأيدلوجيات التي استبدت بمجتمعاتنا في القرن العشرين، وصار من اللازم استبدال ذلك بهوية تقوم على التنوع الخلاق ، ربما تتمكن الرواية، ومجمل السرديات، من القيام بذلك، أو الإسهام فيه، بأفضل مما قامت به الأيدلوجيات.


• ماذا عن كتابك الكبير "موسوعة السرد العربي"» الذي تحلل فيه السرديات العربية على مدار 1500 عام، بدءا من العصر الجاهلي مرورا بعصور صدر الإسلام والأموي والعباسي، وصولاً إلى العصر الحديث.. أين تكمن أهميتة الموسوعة؟


- موسوعة السرد العربي كتاب موسوعي بثمانية أجزاء يعالج الظاهرة السردية في الثقافة العربية منذ العصر الجاهلي الى الآن، وقد راعيت في كتابته الأخذ بالمفهوم العربي للموسوعة كما ارتسم في التراث العربي، أي دراسة الظاهرة السردية من جوانبها كافة، وتقصي مكوناتها، وبيان ظروف نشأتها، والوقوف على بنياتها السردية والدلالية، ولم أخذ بالمفهوم الغربي للموسوعة الذي يقوم على الأخذ بمداخل منفصلة للتعريف بكل مفهوم، كما هو متعارف عليه في الموسوعات الأوربية والأميركية، وأتمنى أن يكون التوفيق قد حالفني في عمل استغرق أكثر من عشرين عاما، وقدّم بحثا تفصيليا في الظاهرة السردية عند العرب.


• مارأيك بالجوائز العربية التي مثّلت طفرة نوعية في الحقبة الأخيرة؟ هل هناك اعتبارات، وأسباب خاصة في طريقة منح الجوائز؟ 


- لا أفهم الجوائز الأدبية الا باعتبارها تنشيطا للكتابة بأنواعها المختلفة، وغايتها رعاية الآداب والفنون، ويتعذر عليّ الانجراف مع التأويلات التي تنال منها لأسباب شخصية او أيدلوجية، وإذا كانت ثمة أخطاء في بعضها فيعود ذلك الى قصور في إدارتها، وليس التشكيك في أهدافها وغاياتها. ومن الضروري أن ينأى المجتمع الادبي العربي عن التقويلات التي يطلقها مغرضون، أو أشباه كتّاب، أو محبطون، بحق الجوائز، فهي لا تسهم في إغناء الحياة الثقافية، إنما ينبغي تشجيع المبادرات الهادفة الى تنشيط تلك الحياة وإثرائها بالجوائز وبغيرها. لماذا يقع الاحتفاء بجوائز نوبل وغونكور والبوكر وثربانتس وسواها، وينتقص شأن الجوائز العربية؟


• فزتم بجائزة الملك فيصل العالمية في الآداب لعام 2014 تقديرا لبحوثكم المعمّقة في تحليل الرواية العربية، كما حصلتم على جائزة الشيخ زايد لعام 2013 في الدراسات النقدية، وقبل ذلك نلتم جائزة "شومان" للعلماء العرب في عام 1997؟ كيف تنظر إلى موضوع فوزك بهذه الجوائز؟


- غالبا ما تقوم الجوائز، في براءة منح الجائزة، بذكر الأسباب التي من أجلها جرى منحها للفائز بهذا الحقل أو ذاك، وفي تلك الجوائز كلها وردت الأسباب الكاملة للفوز، وهي بالإجمال مُنحت تقديرا لجهودي النقدية في مجال الدراسات السردية، ومن ناحيتي أعدّ ذلك اعترافا بأهمية النقد الذي لازم الظاهرة السردية، يدعم الاعتراف الذي منحه القرّاء لتلك الجهود. وأتمنى على الجوائز أن ترسخ تقليدا صارما في اختيار الأعمال النقدية أو الإبداعية أو الفكرية، وتعنى بها، وهذا ما تقوم الجوائز العربية بطرف منه في الوقت الحالي.


* نشر الحوار في مجلة دبي الثقافية، العدد 111 أغسطس 2014

عبدالله إبراهيم

(بطاقة)

ناقد وأستاذ جامعي من العراق، متخصّص في الدراسات السردية والثقافية. نال درجة الدكتوراه في الآداب العربية عام 1991 من كلية الآداب في جامعة بغداد. عمل أستاذا للدراسات الأدبية والنقدية في الجامعات العراقية، والليبية، والقطرية. حاصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب لعام 2014، وجائزة الشيخ زايد في حقل الدراسات النقدية لعام 2013، وجائزة "شومان" للعلماء العرب لعام 1997


من مؤلفاته المنشورة:

- السردية العربية، بيروت، المركز الثقافي العربي،1992، والمؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 2000. 

- السردية العربية الحديثة، بيروت، المركز الثقافي العربي،2003.والمؤسسة العربية للدراسات،2013

-المتخيّل السردي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990.


- الرواية العربية: الأبنية السردية والدلالية، دار اليمامة، الرياض، 2007.


-التفكيك: الأصول والمقولات، الدار البيضاء،1990.


- المطابقة والاختلاف، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات، 2005.


-المركزية الغربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1997. المؤسسة العربية للدراسات، بيروت،2003، الدار العربية للعلوم، بيروت،2010.

- المركزية الإسلامية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001، الدار العربية للعلوم، 

بيروت 2010.

- عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين، المجمع الثقافي، أبو ظبي،2001، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007.

- الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999،

المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2010.

- التلقي والسياقات الثقافية، بيروت، دار الكتاب الجديد،2000، دار اليمامة، الرياض،2001، منشورات الاختلاف، الجزائر،2005.

- السرد والترجمة، بيروت، دار الانتشار العربي، 2012. 






































ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق