الاثنين، 31 ديسمبر 2012
سوسيولوجيا المغرب الدراسات الانجلوساكسونية :
سوسيولوجيا المغرب
الدراسات الانجلوساكسونية :
انطلق كلنير من من التساؤل :كيف يتم الحفاظ على الأمن داخل القبائل في غياب جهاز خاص؟ وجوابا على ذلك ركز على فرضيات النسب ودوره في تحديد الفئات الاجتماعية،تم غياب التراتب الاجتماعي الذي يحول دون تركز السلطة الفردية.فالمجتمعات الانقسامية لاتعرف اي نوع من التراتب الاجتماعي،وعلى المستوى السياسي تظل سلطة الرؤساء ضعيفة ومحدودة،لان المساواة السائدة تمنع بروز زعامة قوية.كما ان الوظيفة التحكيمية للصلحاء تضمن الأمن والاستقرار،ونفوذ هذه الفئة يمنع على رئيس القبيلة تجاوز سلطة معينة.
يعتبر التجزيئيون ان المجموعات القبلية كانت الى تاريخ قريب بعيدة عن كل تأثير اقتصادي وسياسي للسلطة السياسية، وان تنظيمها التقليدي بقي على ما هو عليه، وان نفس الثمثلات ماتزال تغلف العلاقات بين الاشخاص والعشائر.لقد قام دافيد هارت بسلسلة من الأبحاث الميدانية في الشمال (بني ورياغر)،وفي الجنوب (ايت عطة)،وكانت أعماله ذات أهمية انتربولوجية حيث تقدم لنا وصفا دقيقا للتنظيم التقليدي لهذه القبائل. في تحليله اعتقد هارت أنه اكتشف نسقا تجزيئيا مثاليا داخل هذه البنيات التقليدية. وهكذا فبني ورياغر،ايت عطا،وايت يافلمان يمكن اعتبارها جغرافيا، ولغويا، وسياسيا، مهمشة. وقد أدت هذه العزلة الى دعم العادة وتزكية التنظيم الذي يتحكم في كل الوحدات من العشيرة الى القبيلة الى الكونفدرالية،بحيث ان العلاقات الاجتماعية ترتكز على القرابة ، وأن القانون العرفي هو الذي حافظ على التوازن السياسي والعسكري والاقتصادي بين المجموعات القبلية. وهذا يتجلى الانسجام الاجتماعي حسب هارت في عملية التراضي حول الأرض،وفي قانون الثأر،تم أثناء الحرب،وقانون التناوب،ومؤسسة الجماعة التي تنتخب من طرف رؤساء الأسر والعشائر.
إن دافيد هارت والآخذين بالنظرية التجزيئية يعتقدون ان " الإغس" ،القبيلة ،والكونفدرالية تمثل اطارات كافية للأشخاص والعشائر لبناء علاقات اجتماعية دون الرجوع الى اطارات أكثر توسعا:(العالم الحضري،المجتمع العام، الدولة)،انهم يؤكدون على القرابة والنسب كمعايير لتفسير التنظيم الاجتماعي المبني على المساواة والهامشية.
يقدم لنا لنا التصور التجزيئي نموذجا بنيويا وظيفيا للقبيلة تكون أهم مكوناته القرابة ،التبادل، والتهميش.ونلاحظ نوعا من الاسقاط،ونفي المجتمع العام ولتطوره التاريخي،وان عبارة القبيلة المهمشة هي استمرار لمفهوم القبيلة البدائية عند الانتروبولوجيين، وهي مفاهيم استعملت لشرح المجتمع العربي الاسلامي،تم ان الآخدين بهذا المنظور استعملوا كل الشروحات الممكنة (الانشطار،الانصهار،الشرف، الصلحاء، الهامشية، التناوب...) لابراز وظيفة النسق التجزيئي بناء على افتراضات التعميم مع غياب التحليل التاريخي.
وبصفة عامة،فان التحليل التجزيئي يبعد التحول التاريخي للمجتمع العام،كما يبعد اي دور للسلطة المركزية في ادماج المجموعات القبلية على المستوى الاقتصادي والسياسي ،ويهمل العلاقة مع المجال الحضري،والتفاعلات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع المغربي.
يصبح النظام التجزيئي اذن تراتبيا،لان الاجزاء لا تخلو من تفاوت بفعل النسب والجنس،والسن،ونوع النشاط الاقتصادي.فمعيار النسب يقصي تلقائيا الدخلاء والأجانب من التنافس على الجاه والسلطة،ويستحضر في الوقت المناسب لإضفاء المشروعية على التفاوت القائم بوجود هرمية تتشكل من ثلاثة شرائح اجتماعية (اكرامن ، امازيغن ،احراضن) يمثل الصلحاء فيها قمة الهرم الاجتماعي.
وإذا كان كلنير وهارت يؤكدان على التناوب،ويفضلان لفظة انتخاب الرئيس،فان الجاه هو من المعايير الضروريه التي تعين المؤهلين للرئاسة سلفا.فالثروة والجاه يخولان لرؤساء الأسر الكبيرة احتكار مهام الرئاسة ( ضمان التعاقدات،حماية الممتلكات، تأمين الممرات...).وتكون هذه المهام وراثية تنتقل داخل الأسرة الواحدة من جيل الى آخر.
هناك حدود لهذا التجزؤ لا يمكن تجاوزها فالسلطة تتمركز في شخص رب الأسرة،او زعيم العشيرة،وخير مثال على ذلك الصراع على الارث الذي يحدث بعد موت الأب وان الرغبة في التملك والتسلط داخل الجماعة تخلق نوعا من التنافس والصراع من اجل الزعامة.كما ان مبدأ التناوب على السلطة الظاهر يخفي علاقات قوة متناقضة،لأن هناك عشائر قوية وأخرى ضعيفة غالبا ما تخضع او تتحالف ،وبذلك يبقى توزيع السلطة والتناوب على الرئاسة نوع من الوهم،لان الأسر الأصلية التي تحافظ على ترابطها وعصبيتها يكون لها دور اكبر في المجالين الاقتصادي والسياسي. انما يحد التماسك الوظيفي هو التراتبية المجزئة نظرا للطبيعة المركبة للبنيات الاجتماعية بالمجتمع المغربي.
عمر الابوركي
Master spécialisé « Développement social et intermédiation »
Avis de concours
Master spécialisé « Développement social et intermédiation »
Année universitaire 2012-2013
La Doyenne de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Meknès porte à la connaissance des étudiants qu’un Master spécialisé en «Développement social et intermédiation » est ouvert au sein de l’établissement pour l’année universitaire 2012-2013.
Conditions d’accès :
L’accès est ouvert aux titulaires d’une Licence dans les disciplines suivantes : sociologie, géographie, développement social, travail social, droit public, économie et gestion.
Calendrier:
- Clôture des dépôts des dossiers de candidature : 12 janvier 2012
- Affichage de la liste des candidats sélectionnés pour l’examen écrit : 18 janvier 2012
- Epreuve écrite : 22 janvier 2013
- Affichage des résultats de l’épreuve écrite : 5 février 2013
- Entretien : 9 février 2013
- Affichage des résultats finaux : 11 février 2013
- Début des cours : 18 février 2013
Dossier de candidature:
1- Demande manuscrite motivée au nom de Madame la Doyenne
2- Un formulaire administratif délivré par la Faculté ou téléchargé du site de la Faculté
3- Copies légalisées de tous les diplômes obtenus par le candidat et du Baccalauréat
4- Copies certifiées conformes des relevés de notes pour chaque année universitaire
5- Extrait de naissance (arabe – français)
6- Une photocopie de la carte d’identité nationale
7- 4 photos d’identité format (3x3)
8- 2 enveloppes timbrées portant le nom et l’adresse du candidat
9 - Une enveloppe grand-format timbrée portant le nom et l’adresse du candidat
10 – Copie du Mémoire / Projet Fin d’Etudes + Résumé de 7 pages minimum
11-Attestation de non travail pour les candidats non fonctionnaires
12- Pour les fonctionnaires : Autorisation ministérielle + Décharge Administrative à temps plein 2012-2013
13- Engagement sur l’honneur légalisé déclarant une présence régulière au cours du Master et le respect du règlement en vigueur.
NB :
1. Une partie des enseignements se fera en langue française.
2. - Le dossier doit être déposé au service concerné à la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Meknès.
3- Tous Les résultats seront affichés au siège de la Faculté
4- La candidature est autorisée pour un seul master.
Master spécialisé « Développement social et intermédiation »
Année universitaire 2012-2013
La Doyenne de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Meknès porte à la connaissance des étudiants qu’un Master spécialisé en «Développement social et intermédiation » est ouvert au sein de l’établissement pour l’année universitaire 2012-2013.
Conditions d’accès :
L’accès est ouvert aux titulaires d’une Licence dans les disciplines suivantes : sociologie, géographie, développement social, travail social, droit public, économie et gestion.
Calendrier:
- Clôture des dépôts des dossiers de candidature : 12 janvier 2012
- Affichage de la liste des candidats sélectionnés pour l’examen écrit : 18 janvier 2012
- Epreuve écrite : 22 janvier 2013
- Affichage des résultats de l’épreuve écrite : 5 février 2013
- Entretien : 9 février 2013
- Affichage des résultats finaux : 11 février 2013
- Début des cours : 18 février 2013
Dossier de candidature:
1- Demande manuscrite motivée au nom de Madame la Doyenne
2- Un formulaire administratif délivré par la Faculté ou téléchargé du site de la Faculté
3- Copies légalisées de tous les diplômes obtenus par le candidat et du Baccalauréat
4- Copies certifiées conformes des relevés de notes pour chaque année universitaire
5- Extrait de naissance (arabe – français)
6- Une photocopie de la carte d’identité nationale
7- 4 photos d’identité format (3x3)
8- 2 enveloppes timbrées portant le nom et l’adresse du candidat
9 - Une enveloppe grand-format timbrée portant le nom et l’adresse du candidat
10 – Copie du Mémoire / Projet Fin d’Etudes + Résumé de 7 pages minimum
11-Attestation de non travail pour les candidats non fonctionnaires
12- Pour les fonctionnaires : Autorisation ministérielle + Décharge Administrative à temps plein 2012-2013
13- Engagement sur l’honneur légalisé déclarant une présence régulière au cours du Master et le respect du règlement en vigueur.
NB :
1. Une partie des enseignements se fera en langue française.
2. - Le dossier doit être déposé au service concerné à la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Meknès.
3- Tous Les résultats seront affichés au siège de la Faculté
4- La candidature est autorisée pour un seul master.
الدريوش / من المسئول عن تغييب برنامج تحسين ظروف سكن قاطني دور الصفيح؟
الدريوش سيتي
إستفادت العديد من مدن المملكة في السنوات القليلية الماضية ،من برنامج تحسين ظروف سكن قاطني دور الصفيح ،حيث تم فتح أوراش في هذا الإطار ،بموجبها حظيت الكثير من الأسر من إعادة الإيواء والحصول على دور سكنية بديلة . هذا البرنامج الذي شمل مدن عدة عبر التراب الوطني ،لم يجد طريقه حتى الأن إلى بلدية الدريوش ،التي يتواجد بها أحياء تستدعي تدخل مثل هاته المبادرات الإجتماعية ،وحي "تيدينسيا " – الحي الإداري –بين الويدان " تعد من الأماكن ناقصة التأهيل ،وتنشط بها دور صفيحة وأخرى في حاجة إلى إصلاح .
ومع ذلك لم تستفد هذه الأحياء من أي برنامج من شأنه أن يعيد الإعتبار لعدد من الأسر التي تعيش في ظروف سكنية غير طبيعية . في وقت سابق أنجزت بلدية الدريوش "مونوغرافيا "خاصة بالمجال الحضري ،من خلالها شخصت الوضع بشكل شامل ،ومن البديهي أن تكون البلدية قد عرفت وضع عدد من المباني السكنية الهشة ،وهي التي تعرف قبل وبعد المونوغرافيا – أحوال المدينة "زنقة ،زنقة ،بيت ،بيت – لكن ولاتحرك من البلدية تجاه هذا الموضوع ،بل مايسود هو أن المسئولين يسعون إلى تغييب هذا الشأن وعدم الإلتفات نحوه بالمرة ،لحاجة يعرفها المجلس البلدي وحده .
فإلى متى يظل سكان الأحياء الهامشية في دائرة النسيان والإقصاء ؟
إستفادت العديد من مدن المملكة في السنوات القليلية الماضية ،من برنامج تحسين ظروف سكن قاطني دور الصفيح ،حيث تم فتح أوراش في هذا الإطار ،بموجبها حظيت الكثير من الأسر من إعادة الإيواء والحصول على دور سكنية بديلة . هذا البرنامج الذي شمل مدن عدة عبر التراب الوطني ،لم يجد طريقه حتى الأن إلى بلدية الدريوش ،التي يتواجد بها أحياء تستدعي تدخل مثل هاته المبادرات الإجتماعية ،وحي "تيدينسيا " – الحي الإداري –بين الويدان " تعد من الأماكن ناقصة التأهيل ،وتنشط بها دور صفيحة وأخرى في حاجة إلى إصلاح .
ومع ذلك لم تستفد هذه الأحياء من أي برنامج من شأنه أن يعيد الإعتبار لعدد من الأسر التي تعيش في ظروف سكنية غير طبيعية . في وقت سابق أنجزت بلدية الدريوش "مونوغرافيا "خاصة بالمجال الحضري ،من خلالها شخصت الوضع بشكل شامل ،ومن البديهي أن تكون البلدية قد عرفت وضع عدد من المباني السكنية الهشة ،وهي التي تعرف قبل وبعد المونوغرافيا – أحوال المدينة "زنقة ،زنقة ،بيت ،بيت – لكن ولاتحرك من البلدية تجاه هذا الموضوع ،بل مايسود هو أن المسئولين يسعون إلى تغييب هذا الشأن وعدم الإلتفات نحوه بالمرة ،لحاجة يعرفها المجلس البلدي وحده .
فإلى متى يظل سكان الأحياء الهامشية في دائرة النسيان والإقصاء ؟
مقروء مرة915
مونوغرافيا تشخيصية ل «عمالة برشيد» : من أجل مقاربة مجالية تنموية تشاركية
الاتحاد الاشتراكي نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 17 - 02 - 2009
منذ ما يقرب من سنتين ونصف، كنا قد نشرنا مقالا صحفيا بجريدة الإتحاد الإشتراكي تحت عنوان/ سؤال:« متى تحظى حاضرة برشيد بقرار إداري ترابي جديد؟». عدد8287 بتاريخ 30 يونيو2006 وهو المقال/السؤال الذي بسطنا فيه جملة من المعطيات المونوغرافية وفق مقاربة سوسيومجالية تشاركية واندماجية قمينة بلفت الإنتباه إلى ضرورة التعجيل بإخراج قرار إداري ترابي جديد يعلن عن إحداث عمالة برشيد، متجاوزين في ذلك، كل وجهات النظر الاختزالية، والسجالات السياسوية الضيقة والمزايدات أو الدعايات الانتخابوية العقيمة، التي حاولت الركوب على الموضوع لتحقيق ما يشبه السبق السياسوي الانتخابي بإخراج عمالة برشيد إلى حيز الوجود الإداري؛ ومركزين النظر والرؤية على أهمية ربح الوقت لتجاوز اختلالات الماضي والتحكم في المستقبل، من أجل ربح رهانات الحكامة المحلية الجيدة والتنمية البشرية المستدامة.
واليوم، وبعد مدة قصيرة، جاءنا الجواب المنتظر من خلال القرار الملكي السامي بإحداث عمالة برشيد ضمن مجموعة من العمالات الجديدة بالمملكة...وهو القرار الرشيد الذي نزل بردا وسلاما على ساكنة المدينة.. ليس فقط، لأنه قرار منصف من الناحية الإدارية، الترابية والمجالية وكذا من الناحية السياسية والتنموية فحسب، بل لأنه قرار مشجع ومحفز من الناحية المعنوية أوالسيكوسيولوجية للساكنة المحلية، وللموارد البشرية والفعاليات السوسيواقتصادية بهذه المدينة الفتية والواعدة والضاحية الغنية والشاسعة من تراب الجهة والمملكة المغربية. اليوم، وبعد القرار الملكي السامي، يبدو لنا أنه من الواجب أن نعيد تبيان وبسط بعض المعطيات المونوغرافيةالتشخيصية والمؤشرات المحلية الأساسية، كمساهمة منا في توطين هذا القرار الإداري على صعيد التراب المحلي وترسيخ مقوماته الإدارية وهياكله التنظيمية محليا، بما يضمن الانسجام بين المكونات المجالية والتناغم بين الوحدات الإدارية وتحقيق النجاعة الإقتصادية والفعالية على مختلف مستويات التنمية البشرية المستدامة. وذلك بالنظر إلى أهمية هذا القرار الترابي الإيجابي، وعلاقته القوية بالحكامة الجيدة المنشودة على صعيد أكثر من إقليم أودائرة ترابية، من أجل تعبئة شاملة ومستدامة لمختلف الموارد والخصوصيات بهذا المجال الترابي، الذي يزخر بالكثير من المؤهلات الطبيعية والبشرية والسوسيواقتصادية والعمرانية والإيكولوجية، وتتطلع ساكنته المهمة إلى المزيد من المتاحات التنموية والبنيات التحتية والخدمات الأساسية ذات الجودة والفاعلية.
عمالة برشيد: الوحدات الترابية والإمكانيات السوسيواقتصادية...
بدون شك أن المجال الترابي لعمالة برشيد، بامتداداته الجغرافية الشمالية منها والجنوبية والغربية والشرقية، بإمكانه أن يكون الفضاء السوسيولوجي الحيوي لاحتضان وإعداد وتجريب سياسة ترابية ذات استراتيجية وأولويات تنموية شاملة، تسمح بتأهيل المنطقة وتقوية نسيجها أمام مختلف التحديات الإقتصادية والاجتماعية الكبرى، وتحقيق التوازن ما بين الوسطين القروي والحضري لمواجهة نزوحات أو تدفقات الهجرة القروية نحو المدن الكبرى، ووتيرة الزحف التعميري السريع الذي يتم على حساب أكثر الأراضي الفلاحية خصوبة بالشاوية والمملكة، مع ما يصاحب ذلك من اختلالات ومشاكل اجتماعية وبيئية حادة. من الناحية الجغرافية، فنحن نتواجد بعمالة تمتد، بحكم طبيعتها الإيكولوجية وتاريخها البشري والقبلي، على مساحة 2800 كلم مربع هذا إذا اعتمدنا فقط، علاوة على دائرة برشيد، ضم دائرتي الكارة والسوالم، دون دائرة ابن أحمد، إلى تراب هذه العمالة المحدثة بساكنة محلية تقارب 300 ألف نسمة. عمالة تحدها شمالا ولاية الدار البيضاء الكبرى لا تبعد عنها إلا ب30 كلم وعمالة بنسليمان، ومن الجنوب والشرق عمالة سطات، وغربا إقليم الجديدة والمحيط الأطلسي. وهكذا، فمن المفترض وبحكم الطبيعة الجغرافية والإدارية والسوسيولوجية أن تضم عمالة برشيد عشرين (20) جماعة محلية، منها ست بلديات، بكل من برشيد، والكارة، والدروة، والسوالم، وسيدي رحال الشاطئ، وأولاد عبو، علاوة على أربعة عشر (14) جماعة قروية بكل من: سيدي المكي، والساحل أولاد حريز الغربية، والغنيميين، وزاوية سيدي بن حمدون، وسيدي عبد الخالق، وبنمعاشو، وجاقمة، والمباركيين، والحساسنة، وارياح، والفقرة أولاد عمرو، وقصبة بن مشيش، وأولاد صباح، وأولاد زيدان.
وعلى سبيل المقارنة، تبدو هذه المعطيات الترابية شبيهة إلى حد ما بمعطيات تراب عمالة بنسليمان بجهة الشاوية ورديغة، والتي تضم تسعة عشر(19) جماعة محلية منها (17) جماعة قروية وبلديتان، واحدة بمدينة بنسليمان والأخرى بمدينة بوزنيقة، وذلك لتأطير ساكنة تناهز 250 ألف نسمة.
وتعتبر مدينة برشيد مقر العمالة المحدثة تجمعا سكانيا مهما بحوالي 120ألف نسمة على مساحة تقدر ب25 كلم مربع، بعدما لم تكن سوى مجرد مركز إداري مستقل تابع لإقليم سطات منذ سنة 1969 ، لا يزيد سكانها عن 20 ألف نسمة، يستقرون فوق مساحة تقدر ب250 هكتارا. وقد شكلت هذه المدينة الفتية عبر تاريخها الحديث ولا تزال، مركزا تجاريا مهما لترويج وتسويق المنتوجات والمعدات والآليات الفلاحية، لدائرة سكانية شاسعة يعيش أغلب سكانها بالوسط القروي، من بينهم حوالي 60 ألف فلاح يمارسون الزراعة والرعي وتربية الماشية والدواجن، فوق حوالي 220 ألف هكتار من الأراضي الخصبة والصالحة للزراعة (منها 200 ألف هكتار للزراعة البورية وما يزيد عن 15 ألف هكتار مسقية بوسائل صغرى ومتوسطة). وتتنوع المنتوجات بالمنطقة ما بين الأغنام(150ألف رأس) والأبقار(70 ألف رأس) بالإضافة إلى الدجاج والديك الرومي والأرانب..والأسماك (ما يزيد عن50 قارب صيد). أما المحاصيل الزراعية فتتوزع ما بين الحبوب، وخاصة القمح الطري (حوالي مليون و700 ألف قنطار سنويا) والقمح الصلب (حوالي مليون و300 ألف قنطار سنويا) والشعير( حوالي مليون و100 ألف قنطار)، بالإضافة إلى القطاني، وخاصة منها الذرة والحمص والعدس والفاصوليا؛ ثم الخضراوات، وخاصة منها البطاطس والجزر والطماطم...وحسب أرقام مستقاة من وكالة القرض الفلاحي ببرشيد، فإن القيمة المالية المتوسطة للإنتاج السنوي بالنسبة للزراعة التسويقية بدائرة برشيد تبلغ ما يقارب مليار سنتيم سنويا، وبالنسبة للحوم بالمنطقة ما يزيد عن 260 مليون درهم، وبالنسبة للحليب ومشتقاته ما يقارب 80 مليون درهم، وبالنسبة للصوف ما يقرب من 10 ملايين درهم. وهو ما يخلق رواجا تجاريا وتسويقا محليا داخل عدد لا يستهان به من الأسواق الأسبوعية المعروفة على صعيد تراب المنطقة، كأسوااق: حد السوالم، وحد أولاد زيان/ الدروة، واثنين برشيد، وثلاثاء الغنيميين، وخميس الكارة، وجمعة ارياح، وسبت العسيلات بالساحل أولاد حريز الغربية...
تنضاف إلى هذه المعطيات الجغرافية والسوسيواقتصادية المهمة بعمالة برشيد، عدة معطيات مونوغرافية أخرى متعلقة بالمناطق الحيوية والمجالات الإيكولوجية الظاهرية منها والباطنية المحيطة بالمدينة مقر العمالة. وهو ما يوضح أكثر أهمية وحيوية ترقية برشيد إلى مستوى ترابي جديد.
علاوة على ما سبق، يزخر المجال القروي المحيط ببرشيد بعدة مؤهلات طبيعية ومعدنية من شأنها الرفع من موارد الإقليم، وفي مقدمتها معامل استخراج وصنع الإسمنت بكل من الخيايطة الساحل؛ هذا بالإضافة إلى الفرشة المائية بأولاد زيان المقدرة سعتها ما بين 40 و60 مليون متر مكعب من المياه الطبيعية، وهي الفرشة التي تمتد شرقا على مساحة 114 كلم مربعا مشتملة على احتياطي مائي يقدر بحوالي ملياري متر مكعب. وكذا الفرشة المائية الساحلية الممتدة غربا من الوادي المالح في اتجاه وادي أم الربيع جنوبا على مساحة تقدر ب180 كلم مربعا وعرض يترواح ما بين 15 و20 كلم. هذا علاوة على الشريط الساحلي الهائل والجميل لسيدي رحال الشاطئ الذي يعتبر امتدادا طبيعيا وسياحيا لشواطئ مدينة الدار البيضاء (عين الذئاب، دار بوعزة، طماريس)؛ وهو ما يعد معطى سياحيا وترفيهيا مهما في تنمية المنطقة وجلب الإستثمارات السياحية العالمية إليها.
وإذا كان الطابع الفلاحي والزراعي، ببنياته التقليدية وأساليبه الكلاسيكية، مع نسبة متوسطة من العصرنة والمكننة، يهيمن على النشاط الاقتصادي لضواحي برشيد؛ فإن الطابع الصناعي والقطاع التجاري ما فتئ يتبلور ويتطور شيئا فشيئا بعدد من المراكز القروية وشبه الحضرية المهمة بالمنطقة، وفي مقدمتها مدينة برشيد التي بإمكانها بمجموع المناطق الصناعية المحيطة بها ( سيدي المكي ب21 هكتارا، الخيايطة ب70هكتارا، الساحل، السوالم ب70هكتارا، علاوة على المناطق الصناعية المجاورة كتامدروست ب100 هكتار، وأولاد صالح ب115 هكتارا، والنواصر..)،أن تشكل نواة أساسية للصناعات الغذائية والكيماوية بحكم الطبيعة الفلاحية للمجالات الشاسعة المحيطة بها.
وتكفي الإشارة هنا إلى أن مدينة برشيد، مقر العمالة المحدثة، بموقعها الجيوستراتيجي الحيوي والفريد(15 كلم عن مطار محمد الخامس الدولي، و35 كلم عن ميناء الدار البيضاء، و80 كلم عن ميناء الجرف الأصفر بالجديدة)، وبمشروع تصميم تهيئتها الذي يبلغ 2459 هكتارا، من بينها 1700 هكتار خاضعة للتعمير؛ تتوفر لوحدها على منطقة صناعية جد مهمة بمساحة 120 هكتارا مع 280 هكتارا كاحتياط عقاري لتوسيع المنطقة، وبما يزيد عن 100وحدة صناعية في الصناعات الكيماوية وشبه الكيماوية التي تمثل نسبة 45% تليها الصناعة الميكانيكية، فالصناعة الفلاحية والغذائية، ثم صناعة النسيج والجلد التي تمثل 19%، والصناعات الكهربائية والإلكترونية. وعلى سبيل المقارنة، إذا كان إقليم سطات يمثل لوحده 80% من الإنتاج الصناعي بجهة الشاوية ورديغة، فإن حوالي 70% من هذه النسبة تعود للمنطقة الصناعية لبرشيد التي تمثل 58% من الإستثمارات بإقليم سطات، وتشغل لوحدها حوالي 60% من اليد العاملة بالقطاع الصناعي في الإقليم (ما يزيد عن 10 آلاف عامل وعاملة بتكلفة أجور تقدر ب35 مليار سنتيم سنويا). وتدلنا المؤشرات الإحصائية الجديدة برسم الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2004 على أن القطاع الخاص ببرشيد يشغل حوالي 50% من مجموع الساكنة النشيطة بالمدينة، التي تقدرب33954 نشيطا؛ وأن حوالي 14% من هذه الساكنة تزاول أنشطة تجارية مستقلة، قارة وغير قارة (كثرة الباعة المتجولين) وذلك أمام شدة النزوح القروي نحو برشيد وارتفاع نسبة العمل المؤقت، بحيث إن مدينة برشيد تشكل حوضا هجريا كثيفا، إذ إن 36% من سكانها هم مهاجرون إليها، إما من جماعات قروية محيطة بنسبة10%، أو من مدينة الدار البيضاء بنسبة11%، أو من مدينة سطات بنسبة 3,5%، أو من باقي جهات المملكة بنسبة6%، ولا زالت مدينة برشيد، على الرغم من تنامي وتيرة التعمير بها، حيث بلغت سنة 1998 ما نسبته 30% مقابل 54% بالنسبة للتراب الوطني؛ لا زالت تتوفر على إمكانات هائلة لتقوية نسيجها الإقتصادي والصناعي، من خلال العمل على توسيع الوعاء العقاري الصناعي بالمدينة، وخاصة من الجهة الغربية بمحاذاة خط السكة الحديدية، لإنشاء منطقة صناعية جديدة، بمواصفت إيكولوجية سليمة، فوق مساحة 260 هكتارا تخصص لاستقبال مشاريع استثمارية جديدة في مجال الصناعات الكبرى المتخصصة، كاللوجيستيك والأوفشورينغ..والقطاعات الخدماتية والإنتاجية الخفيفة، والتي من شأنها إعطاء قيمة مضافة للمدينة والإقليم، وجعلهما منطقة جاذبة وإدماجية للعالم القروي، وأرضية أساسية للتصدير والانفتاح على العالم الخارجي والاندماج في السوق العالمية بكل تكتلاتها الجهوية والإقليمية والدولية. وعلاقة بذلك، يمكن لبرشيد أن تكون قطبا تكوينيا وتأهيليا في مهن المستقبل، وتصدير الموارد البشرية المؤهلة في المجالات التقنية والتكنولوجيا العالية، والتسويق والتجارة والإعلاميات والتواصل والمحاسبة وتسيير المقاولات، وذلك بشراكة مع مختلف مدارس ومعاهد التكوين المهني المتواجدة بها، كالمدرسة العليا للتكنولوجيا والمعهد العالي لتقنيات الإعلاميات والتجارة والتسيير، وكذا مع الجامعات القريبة منها كجامعة الحسن الثاني بالبيضاء وجامعة الحسن الأول بسطات، التي تم خلق نواة منها بمدينة برشيد منذ سنة 2007. وهكذا يمكن لبرشيد والسوالم والدروة والكارة والساحل وأولاد عبو...أن تساهم في تخفيف العبء الثقيل على ميتروبول الدار البيضاء الناتج عن تكدس الأنشطة الصناعية المختلطة وغير المنظمة، وذلك عبر تجريب سياسة ترابية انتقائية في هذا المجال، سياسة تراهن على توطين صناعات جديدة متخصصة وذات علاقة وطيدة بخصوصية هذه المناطق الفلاحية والسياحية، سياسة تقرن التعليم والتكوين المهني بخصوصيات ومتطلبات سوق الشغل والمقاولات المحلية المتخصصة في مجالات التغذية والتسمين والأعلاف والأسمدة والجلد والخشب والألبسة...لامتصاص الهجرة نحو المدن الكبرى، وخلق مناصب شغل لليد العاملة المؤهلة.
عود على بد: التشخيص من أجل التخطيط التشاركي
والتعاقد التنموي
على ضوء ماسبق، نؤكد مرة أخرى على أن قرار ترقية برشيد إلى مستوى عمالة ترابية، سيكون لا محالة ذا قيمة مضافة في مجال السياسة الترابية الجديدة المبنية على أسس الحكامة المحلية الجيدة، الرامية إلى تحقيق الأهداف التنموية المستقبلية والمستدامة؛ وذلك من حيث كون هذا القرار الإداري الترابي سيعول عليه كثيرا في معالجة بعض اختلالات وتناقضات المجال الموجود بضواحي العاصمة الإقتصادية للبلاد، وبالتالي إعادة التوازنات الطبيعية والجغرافية والاقتصادية والبشرية والعمرانية والبيئية بين الأقاليم والمناطق المحيطة بجهة الدار البيضاءالكبرى، من خلال توفير وتأهيل كافة شروط وبنيات الإقلاع الإقتصادي الجهوي، الرامية إلى تقوية وتدعيم قدراتنا التنافسية الوطنية ضمن مدارات العولمة الزاحفة، قصد تحقيق النجاعة الإقتصادية والتنمية المجتمعية الشاملة. فالمجال عملة جد نادرة يجب معرفة كيفية إعدادها وتدبيرها، ليس فقط من خلال مبدأ المحافظة على الموارد الطبيعية والبشرية والصناعية، ولكن أيضا من خلال حسن تدبيرها وتوجيهها وترشيدها بإدماج عامل الزمن والبعد البيئي في مسارها. وبالعمل على كافة أصعدة هذا المجال، من قرى ومدن وشريط ساحلي، وميتروبول دولي. ذلك أن الرفع من التنوع أو التنويع السوسيواقتصادي هو أحد عناصر التنمية المستدامة.
ولسنا مغالين إذا قلنا من منظور مبدأ التشخيص التشاركي للتراب المحلي إن عمالة برشيد تتوفر اليوم على حد أدنى من المقومات والبنيات الأساسية التي تضمن لها الموارد المالية الكفيلة بتغطية مجالات تدخلها بقصد التنمية المحلية والإقليمية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار والحسبان كل المؤهلات الاقتصادية الاجتماعية لمجالها الترابي الواسع والخصب، من مناطق الأنشطة الصناعية والفلاحية منها والخدماتية والتكوينية؛ وإذا ما استحضرنا الخصائص الإثنوغرافية القبلية المشتركة للساكنة المحلية، بكل خلفياتها التاريخية والثقافية وحمولاتها القبلية التضامنية، وأبعادها الإيكولوجية والطبيعية؛ وذلك بالنظر إلى أهمية تضافر كل هذه العوامل في تحقيق التنمية المجالية المستديمة والمندمجة على صعيد مجموع التراب المحلي والجهوي والوطني. وهي العوامل والأبعاد التي على كافة الأطراف المعنية أوالفعاليات المتدخلة، من إدارات عمومية وهيئات منتخبة وسلطات محلية ومقاولات اقتصادية وخدماتية وجمعيات مدنية وبيئية وفعاليات اجتماعية وثقافية وجامعية وإعلامية...استحضارها دائما من أجل العمل سويا، وفق مبدأ التخطيط الإستراتيجي التشاركي والتعاقدي، على ترسيخ أسس الحكامة الجيدة وقواعد الديمقراطية المحلية، الهادفة إلى الإلتقائية والإشراك والتشارك أو التعاقد، قصد مواءمة الإطار الترابي الجديد مع التحولات الديمغرافية والسوسيواقتصادية، من أجل النجاح في معركة تأهيل المجال الترابي المحلي بتوفير أكثر وأوسع لممكنات ومتاحات الولوج إلى الخدمات الأساسية، من شغل وسكن، وماء وكهرباء، وتعليم وصحة، ونقل وترفيه وتثقيف، التي غدت بمثابة المؤشرات الحقيقية لجودة الحياة وللتنمية البشرية، خاصة وأن حوالي 90% من الأطر العاملة بالمناطق الصناعية المحلية تنتقل يوميا بين برشيد والسوالم والدار البيضاء، مما يفوت على المدينة والعمالة فرص الإستفادة من مواردها المالية والبشرية لتنمية نسيجها السوسيواقتصادي، كما هو الحال بالنسبة لأقطاب صناعية جد دينامية كطنجة وأكادير والرباط مثلا.
باحث في الإتصال
والسوسيولوجيا الحضرية
بحث حول موضوع"ٌدورالصفيح و البناء العشوائي:أية مسؤولية؟"
جامعة ابن طفيل
كلية الآداب و العلوم الإنسانية ـ القنيطرة ـ
الإسم الشخصي:عبد النور
الإسم العائلي:الميموني
المسلك:علم الاجتماع
المادة:أسس علم الاجتماع
تحت إشراف الأستاذ:العطري
رقم الأبوجي:09002991
الموسم الجامعي:2010/2009
بحث حول موضوع"ٌدورالصفيح و البناء العشوائي:أية مسؤولية؟"
إن عدم إعداد تصاميم التهيئة لكل مدينة و قرية هو الذي يدفع بعض رؤساء الجماعات إلى ارتكاب مخالفات و التغاضي عن البناء العشوائي طمعا في كسب عطف الساكنة من أجل الفوز بأصواتها مستقبلا...إلا أن تطبيق القانون يضع الجهاز القضائي إمام الأمر الواقع لتطبيق القانون على المسؤولين الذين خرقوا القانون كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة الهراويين بضواحي مدينة الدار البيضاء،فلو كانت السلطة المحلية في المستوى المطلوب لما سقط المنتخبون في المحظور الذي يؤدون ثمنه غاليا...لو مارس رجال السلطة سلطة الوصاية بكل أمانة لما وقع بعض رؤساء الجماعات في أغلاط بعضهم إلى غياهب السجون
إن تنامي مدن الصفيح و انتشار البناء العشوائي تمليه ظروف الهجرة القروية من البوادي إلى المدن،و الدولة مهما ضاعفت من جهودها و بنت المساكن في المدن لن تستطيع تلبية رغبات كل السكان لأن أعداد المهاجرين إلى المدن يفوق بكثير المباني المشيدة لمواجهة طلبات السكنى...فعلى الدولة أن تفكر في تهيئ الأراضي المحيطة بالقرى و تجهيزها بالماء و الكهرباء و الطرق،لكي تساعد سكان البوادي للاستقرار بقراهم و عدم الهجرة إلى المدن.هذه الهجرة التي تعتبر أكبر آفة و مصدر لكل المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية
إن انتشار مدن الصفيح في أكبر مدن المملكة و البناء العشوائي هو وصمة عار على جبين كل المسؤولين والمنتخبين على اختلاف مراتبهم و مشاربهم السياسية و لا يمكن أن نضع لها حدا إلا بتحديد مسؤوليات كل واحد على حدى لينال جزاءه...
إن محاربة مدن الصفيح و البناء العشوائي لا يمكن أن ينجح إلا إذا توفرت النيات الحسنة لدى كل المسؤولين على اختلاف مراتبهم ويكون القيام بالواجب أهم من المآرب الخاصة و الاستغناء على حساب التفريط في الواجب الوطني...
عندما تقوم وزارة الإسكان و مصالح التعمير بإعداد كل وثائق التعمير و مصالح التهيئة في المدن و البوادي...و يقوم كل المسؤولين بواجبهم بدون إفراط أو تفريط،و كل من تهاون في أداء واجبه ينال جزاءه...و عندما تكون رسوم البناء في متناول المواطن الضعيف...إذ داك نستطيع الجزم بأننا سنشرع في محاربة مدن الصفيح و البناء العشوائي في مدننا و قرانا و ستصبح مدننا و قرانا نموذجا يسر الناظرين و تنال رضا الجميع...كما ستدفع المواطنين إلى احترام المسؤولين على اختلاف مشاربهم و مللهم و نحلهم معينين كانوا أو منتخبين...
كلية الآداب و العلوم الإنسانية ـ القنيطرة ـ
الإسم الشخصي:عبد النور
الإسم العائلي:الميموني
المسلك:علم الاجتماع
المادة:أسس علم الاجتماع
تحت إشراف الأستاذ:العطري
رقم الأبوجي:09002991
الموسم الجامعي:2010/2009
بحث حول موضوع"ٌدورالصفيح و البناء العشوائي:أية مسؤولية؟"
إن عدم إعداد تصاميم التهيئة لكل مدينة و قرية هو الذي يدفع بعض رؤساء الجماعات إلى ارتكاب مخالفات و التغاضي عن البناء العشوائي طمعا في كسب عطف الساكنة من أجل الفوز بأصواتها مستقبلا...إلا أن تطبيق القانون يضع الجهاز القضائي إمام الأمر الواقع لتطبيق القانون على المسؤولين الذين خرقوا القانون كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة الهراويين بضواحي مدينة الدار البيضاء،فلو كانت السلطة المحلية في المستوى المطلوب لما سقط المنتخبون في المحظور الذي يؤدون ثمنه غاليا...لو مارس رجال السلطة سلطة الوصاية بكل أمانة لما وقع بعض رؤساء الجماعات في أغلاط بعضهم إلى غياهب السجون
إن تنامي مدن الصفيح و انتشار البناء العشوائي تمليه ظروف الهجرة القروية من البوادي إلى المدن،و الدولة مهما ضاعفت من جهودها و بنت المساكن في المدن لن تستطيع تلبية رغبات كل السكان لأن أعداد المهاجرين إلى المدن يفوق بكثير المباني المشيدة لمواجهة طلبات السكنى...فعلى الدولة أن تفكر في تهيئ الأراضي المحيطة بالقرى و تجهيزها بالماء و الكهرباء و الطرق،لكي تساعد سكان البوادي للاستقرار بقراهم و عدم الهجرة إلى المدن.هذه الهجرة التي تعتبر أكبر آفة و مصدر لكل المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية
إن انتشار مدن الصفيح في أكبر مدن المملكة و البناء العشوائي هو وصمة عار على جبين كل المسؤولين والمنتخبين على اختلاف مراتبهم و مشاربهم السياسية و لا يمكن أن نضع لها حدا إلا بتحديد مسؤوليات كل واحد على حدى لينال جزاءه...
إن محاربة مدن الصفيح و البناء العشوائي لا يمكن أن ينجح إلا إذا توفرت النيات الحسنة لدى كل المسؤولين على اختلاف مراتبهم ويكون القيام بالواجب أهم من المآرب الخاصة و الاستغناء على حساب التفريط في الواجب الوطني...
عندما تقوم وزارة الإسكان و مصالح التعمير بإعداد كل وثائق التعمير و مصالح التهيئة في المدن و البوادي...و يقوم كل المسؤولين بواجبهم بدون إفراط أو تفريط،و كل من تهاون في أداء واجبه ينال جزاءه...و عندما تكون رسوم البناء في متناول المواطن الضعيف...إذ داك نستطيع الجزم بأننا سنشرع في محاربة مدن الصفيح و البناء العشوائي في مدننا و قرانا و ستصبح مدننا و قرانا نموذجا يسر الناظرين و تنال رضا الجميع...كما ستدفع المواطنين إلى احترام المسؤولين على اختلاف مشاربهم و مللهم و نحلهم معينين كانوا أو منتخبين...
ملخص علم الاجتماع الحضري
الفصل الأول:
مدخل لدراسة المجتمع المحلي
1 – جوانب من التراث السوسيولوجي للمفهوم:
ارتبط مفهوم المجتمع المحلي شأنه في ذلك شأن معظم المفاهيم السوسيولوجية التي اشتقت منه لغة الحياة اليومية بمعاني كثيرة ومتعددة.
وتنقسم التعريفات إلى قسمين رئيسيين:
تعريفات وجهات النظر التقليدية أو الكلاسيكية:
تعريف روبرت ماكيفر : المجتمع المحلي هو وحدة اجتماعية تجمع بين أعضاءها مجموعة من المصالح المشتركة، وتسود بينهم قيم عامة وشعور بالانتماء، بالدرجة التي تمكنهم من المشاركة في الظروف الأساسية لحياة مشتركة.
تعريف روبرت بارك: "أن المجتمع المحلي في أوسع معاني المفهوم يشير إلى دلالات وارتباطات مكانية جغرافية، وأن المدن الصغرى والكبرى والقرى بل والعالم بأسره تعتبر كلها رغم ما بينها من الاختلافات في الثقافة والتنظيم والمصالح.. الخ، مجتمعات محلية في المقام الأول".
تعريف لويس ويرث: أن المجتمع المحلي يتميز بما له من أساس مكاني إقليمي يتوزع من خلاله الأفراد والجماعات والأنشطة، وبما يسوده من معيشة مشتركة تقوم على أساس الاعتماد المتبادل بين الأفراد، وبخاصة في مجال تبادل المصلحة.
تعريف آموس هاولي: "إن التحديد المكاني للمجتمع باعتباره منطقة جغرافية أو مساحة مكانية يشغلها مجموعات من الأفراد محاولة تعسفية للتعريف, وإنه من الملائم أن ننظر إلى المشاركة في الإيقاع اليومي والمنتظم للحياة الجمعية على أنها عامل أساسي يميز المجتمع المحلي ويعطي لسكانه طابع الوحدة، إن المجتمع المحلي أكثر من مجرد تنظيم لعلاقات التكافل بين الأفراد، وأن الحياة الجمعية تشتمل على قدر من التكامل السيكولوجي والأخلاقي إلى جانب التكامل التكافلي أو المعيشي، وأنه يتعين على الباحث أن ينظر إلى الجوانب السيكولوجية والأخلاقية على أنها مظاهر متكاملة، وليست مختلفة أو متميزة لحياة المجتمع المحلي، خاصة وأن الأنشطة المعيشية وما يرتبط بها من علاقات تكافلية تتداخل وترتبط بمجموعة المشاعر والأحاسيس وأنساق القيم والمعايير الأخلاقية وغير ذلك من موجهات السلوك والتفاعل اليومي".
تعريف تالكوت بارسونز: المجتمع المحلي هو جمع أو حشد من أفراد يشتركون في شغل منطقة جغرافية أو مساحة مكانية واحدة كأساس لقيامهم بأنشطتهم اليومية.
تعريف بلين ميرسر: المجتمع المحلي هو تجمع لأشخاص تنشأ بينهم صلات وظيفية، ويعيشون في منطقة جغرافية محلية خلال فترة محددة من الزمن، كما يشتركون في ثقافة عامة، وينتظمون في بناء اجتماعي محدد ويكشفون باستمرار عن وعي بتميزهم وكيانهم المستقل كجماعة.
تعريفات وجهات النظر المتطورة أو الأكثر حداثة.
قدم موريس شتاين عدداً من الانتقادات التي وجهها للتطور التقليدي للمفهوم "إن انتشار الحضرية أفقد الأفراد إحساسهم وشعورهم بالمجتمع المحلي كما أن مقومات التنظيم الاجتماعي التقليدي في كثير من المجتمعات المحلية الأمريكية قد تقوضت نتيجة لتعرضها للمؤثرات الخارجية التي أفقدت الأفراد شعورهم بالانتماء إلى مجتمعاتهم المحلية، والتي مكنت من إحلال الانقسامية والجزئية محل الشمولية فطورت مجتمعات محلية فرعية –معادية لبعضها البعض- بدلاً من الشعور التقليدي بالانتماء والتعاون المحلي، وباختصار فإن القومية والعالمية قد غدت سمة العصر التي تؤكد وباستمرار خاصية الاعتماد المتبادل بدلاً من خاصية الاستقلالية والاكتفاء الذاتي، التي كانت من أهم مقومات التصور التقليدي لمفهوم المجتمع المحلي إن تقدم وسائل النقل والاتصال وما ترتب عليه من اعتماد متبادل بين المجتمعات المحلية ارتبط بالعديد من المصاحبات النفسية التي أدت إلى ضياع أو فقدان المجتمع المحلي السيكيولوجي.
ويشارك شتاين في تصوره السابق كل من ملفين فيبر ورونالد وارن فقد انتقد فيبر تصور أن المجتمع المحلي وحدة اجتماعية ذات ارتباط وتحديد مكاني، إن إنسان العصر الحديث، وبخاصة سكان الحضر يعيش في مجتمعات محلية عديدة كما أن هذه المجتمعات التي يرتبط بها وينتمي إليها لم تعد مجرد مكان محدد يلتزم به كأسلافهم بل أصبح أكثر ارتباطاً بمجتمعات المصلحة المتنوعة مهما اختلف أساس هذه المصلحة، ولم يعد الأفراد بحاجة إلى التركيز المكاني، ومن ثم لم تعد الحدود المكانية مؤشراً هاماً للعلاقات الوظيفية أو أساساً للنظام في المجتمع.
ويعتبر تعريف رونالد وارن من أحدث التعريفات "إن مصطلح المجتمع المحلي يتضمن بعداً سيكولوجياً وآخر جغرافي وثالث سوسيولوجي فهو من الناحية السوسيولوجية يتضمن المصالح المشتركة والخصائص المميزة للأفراد والروابط المشتركة بينهم كما هو الحال بالنسبة لمجتمع المصلحة، كما أنه من الناحية الجغرافية يشير إلى منطقة بعينها يحتشد فيها جماعات من الإفراد ومن وجهة النظر السوسيولوجية يرتبط البعدان السيكولوجي والجغرافي معاً ليشير المصطلح إلى المصالح المشتركة وإلى أنماط متميزة من السلوك يختص بها جماعات بعينها من الأفراد نظراً لاشتراكهم في نفس المنطقة أو المكان.
ملاحظة هامة: ارتباط المفهوم واستخدامه في علم الاجتماع من تصورين مختلفين فمن ناحية نجد تصوراً يفيد الإشارة إلى جمع بشري محدد يشغل منطقة جغرافية معينة، ويتخذ من الاشتراك في المكان الواحد أساساً ترتكز عليه كل محاولة للتعريف أو التنميط أو الدراسة كما ينظر إلى البعد المكاني باعتباره متغيراً مستقلاً يفسر ما لنماذج المجتمع المحلي المختلف من خصائص متميزة ومن ناحية أخرى نجد تصوراً آخراً يؤكد البعد السيكولوجي ويعتبر الاتصال والإجماع أو الاتفاق شرطاً ضرورياً أو مقوماً أساسياً من مقومات المجتمع المحلي، ومن ثم يصبح المجتمع المحلي عبارة عن كل أخلاقي تندمج فيه عقول الأفراد، ومن خلاله فقط، تتاح الفرصة للأفراد للتعبير عن قدراتهم وإمكاناتهم بطريقة كلية وملائمة.
2 – محاولة لإعادة التعريف: وجهة نظر:
هناك اعتبارين تلقي الضوء لإعادة التعريف:
الاعتبار الأول: يختص بتقييم البعد المكاني:
المجتمع المحلي هو: "تجمع إنساني تقوم بين أعضائه روابط الاعتماد الوظيفي المتبادل ويشغل منطقة جغرافية محددة ويستمر خلال الزمن عن طريق ثقافية مشتركة تمكن الأفراد من تطوير أنساق محددة للاتصال والإجماع فيما بينهم كما تيسر لهم سبل التفاعل وتنظيم أوجه نشاطاتهم اليومية".
الاعتبار الثاني: يدور حول تطبيق المصطلح واستخداماته:
أ – كثيراً ما يشار إلى بعض المؤسسات على أنها مجتمعات محلية مثل "السجون والمستشفيات العقلية والأديرة والملاجئ والثكنات العسكرية" ومن اللائم أن نطلق على هذه الكيانات اسم "المؤسسات الشمولية العامة" ففي مثل هذه التسمية ما يشير إلى أنه بإمكان الفرد أن يقضي حياته بأكملها بين جدرانها.
ب – يشار في بعض الأحيان إلى بعض الوحدات الاجتماعية ذات الأساس المكاني الأكثر اتساعاً كالأقاليم والولايات والدول بل والعالم بأسره على أنها مجتمعات محلية وكثيراً ما نقرأ أو نسمع عن "مجتمع الأطلنطي، أو عن المجتمع العالمي" ويعكس استخدام المصطلح بهذا المعنى نفس الفكرة المألوفة عن "مجتمع المصلحة"، أو "المشاركة في وجهات النظر والاهتمامات".
ويجب التأكيد على البعد الزماني إلى جانب التأكيد على البعد المكاني، بمعنى أن يشير مفهوم المجتمع المحلي إلى أن "مناطق بعينها ذات تفاعل يومي مستمر ومنتظم".
3 – عناصر التعريف:
أ – عنصر الإقليم أو المكان المحدد: يشير إلى منطقة محددة ذات خصائص طبيعية أو مصطنعة فريدة ومتميزة يتوافق لها بالضرورة ما يطوره المجتمع من نسق خاص للتنظيم الاجتماعي، ويبدو من الصعب فهم وتفسير طريقة الحياة في المجتمع دون الرجوع إلى خصائص المكان كمتغير أساسي يميز المجتمعات المحلية عن بعضها البعض.
ب – خاصية الاستقلال والاكتفاء الذاتي:المجتمع المحلي عبارة عن جماعة مكتفية بذاتها من الأفراد، فيعتمد الأفراد على بعضهم البعض للقيام بالوظائف الأساسية كما ترتبط الأهداف الجمعية والنشاطات الفردية بتنوع واسع النطاق من الاحتياجات والمصالح والاهتمامات التي لا يمكن لمؤسسة أو تنظيم بعينة أن يواجهها أو يشبعها.
ج – خاصية الوعي الذاتي: وتعتبر من أهم الخصائص المميزة للمجتمع المحلي وتتضمن هذه الخاصية الاعتراف المتبادل بين الأفراد إلى جانب الشعور بالانتماء والتميز.
د – القيم والمعايير المشتركة: من أهم ما يميز المجتمع المحلي عن أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى ما يسوده من أنساق خاصة للقيم والمعايير إذ عادة ما يعاد صياغة الكثير من القيم المطلقة في الثقافة الكبرى في ضوء الرموز والأحداث ذات الدلالة والمغزى في السياق المجتمعي المحلي.
4 – مدخل متعدد الأبعاد لدراسة المجتمع المحلي: وجهة نظر:
أ – المجتمع المحلي كوحدة مكانية إقليمية:
أي أنه تجمع من أفراد يعيشون داخل منطقة جغرافية ذات خصائص معينة، وترجع أهمية هذا العبد المكاني إلى سببين رئيسيين أولهما أن العوامل المكانية تساعد في تفسير قيام المجتمع وبقائه وتنظيمه، وثانيهما أن أفراد المجتمع بما يطورونه من تنظيمات وميكانيزمات للتفاعل بينهم يعدلون وباستمرار من الوسط أو القاعدة المكانية التي يعيشون في إطارها وحدودها، معنى ذلك أن العلاقة جد وثيقة بين المكان وخصائصه ومتغيراته، وبين التنظيم الاجتماعي وطريقة الحياة التي يعيشها أفراد المجتمع.
ولعل السبب الرئيس لظهور المجتمعات المحلية يكمن في أن الإنسان لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسمو أو يتجاوز حدود المكان أضف إلى ذلك أن إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية للإنسان تتضمن بالضرورة الجوار أو الاقتراب المكاني.
موجز القول إن المتغيرات المكانية -سواء نظرنا إليها كمتغيرات مستقلة أو تابعة- عناصر أساسية لا يمكن إغفالها في الدارسة السوسيولوجية للمجتمع المحلي، وإن الاهتمام والتركيز على هذه المتغيرات كان سبباً في تطوير أحد المداخل الكبرى في دراسة المجتمع هو ما يعرف باسم المدخل الإيكولوجي، ومن علمائه المعاصرين آموس هاولي إذ يعرف المجتمع المحلي بأنه "تلك الرقعة المكانية التي يرتبط بها وفيها السكان والتي من خلالها يتم تكامل الأفراد مع بعضهم البعض استجابة لمتطلباتها اليومية وخصائصها".
ب – المجتمع المحلي كوحدة للتنظيم الاجتماعي:
هناك ثلاثة مداخل:
1 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كجماعة اجتماعية.
2 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كنسق اجتماعي.
3 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كشبكة أو نسيج للتفاعل الاجتماعي.
يرجع تصور المجتمع المحلي كشكل من أشكال الجماعات الاجتماعية إلى هيللر حيث ذهب إلى أن للجماعة الاجتماعية عدداً من الخصائص الأساسية التي تعد من أهم مقومات بناء المجتمع المحلي، وهي احتوائها على تجمعات الأفراد وتحديدها لبناء الدور والمكانة وشمولها على مجموعة من المعايير التي يلتزم بها الأعضاء.
ويعد مدخل النسق الاجتماعي لدراسة المجتمع المحلي ترجمة معدلة لمدخل الجماعة الاجتماعية فالنسق الاجتماعي شأنه شأن الجماعة الاجتماعية يشتمل على أعضاء وبناء معياري ومحددات للدور والمكانة ومقاييس أو محكات للعضوية، ولو أن هذه المقاييس تأخذ في مدخل النسق الاجتماعي حدوداً اجتماعية ونفسية ومكانية في نفس الوقت ويعتبر رونالد وارن أحد مؤيدي هذا المدخل حيث يتصور المجتمع المحلي على أنه "نسق كلي يتكون من أنساق اجتماعية فرعية أصغر تقوم بدورها بعدد من الوظائف ذات الملائمة المكانية المتخصصة كالضبط والمشاركة والدعم والإنتاج والتوزيع والاستهلاك.. الخ"، ووفقاً لهذا المدخل يعتبر المجتمع المحلي الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي.
ويلتقي المدخل التفاعلي مع مدخل النسق الاجتماعي في نقطة هامة هي أن التفاعل لا يتم بين أفراد فحسب، بل يقع بين الجماعات والنظام والمؤسسات أيضاً، ولعل من أهم مشكلات هذا المدخل أن الظروف المحيطة بالمجتمعات المحلية في الوقت الراهن لا تتفق تماماً مع التعريفات التي حددت لمفهوم التفاعل من قبل الغالبية العظمى من علماء الاجتماع، فالتفاعل هو علاقة المواجهة المباشرة بين شخصين أو أكثر بحيث يتعين على كل فرد أن يضع الآخرين في اعتباره وتقديره عند قيامه بفعله، غير أن شمول أو احتواء كل أعضاء المجتمع في شبكة التفاعل على هذا النحو أمر يندر أن يتحقق إلا في أبسط المجتمعات المحلية وأصغرها حجماً خاصة وأن كبر الحجم وزيادة التعقيد وتنوع المصالح والاهتمامات قد تحول دون حدوث التفاعل على نحو مباشر وشمولي، ويميل بعض العلماء إلى الجمع بين مدخل الأنساق والمدخل التفاعلي، بحيث لا يقتصر تحليلهم إلى وحدات أو أنساق فرعية متفاعلة داخل المجتمع المحلي، ويشير رونالد وارن إلى محاور أفقية ورأسية للتفاعل أما المحور الأفقي فيتضمن علاقة الفرد أو الجماعة بالجماعة داخل مكان أو إقليم محدد، بينما يتضمن المحور الرأسي علاقة الفرد بالجماعات المحلية أو الأنساق الفرعية، أو علاقة الوحدات والجماعات المحلية بوحدات أو جماعات إقليمية أو قومية أكثر شمولاً، وباختصار يوفر هذا المدخل أداة تصورية أكثر ملائمة لوصف تفسير العلاقات المتداخلة بين مختلف الوحدات التي يتركب منها المجتمع المحلي.
الفصل الثاني
المجتمع الحضري كنموذج متميز للمجتمع المحلي مدخل نظري
1 – المجتمع المحلي الحضري بين ثنائية ومتصل: نماذج تصورية:
تعد محاولة تنميط المجتمعات المحلية وتحديد الخصائص المميزة لكل نمط محاولة قديمة بدأها الحاكم الصيني كونفوشيوس وفلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ومفكرو العصور الوسطى كالقديس أوغسطين وابن خلدون، وقد استمرت هذه المحاولة في علم الاجتماع ظهر ذلك واضحاً في أعمال كل من تونييز وبيكر ودوركايم وسبنسر وفيبر، ولقد كان من أهم الأفكار التي ارتبطت بهذه المحاولات فكرة "النموذج المثالي" و "النمط التركيبي" للمجتمع المحلي والتي كانت تمثل حجر الزاوية في "نظريات التعارض" التي اشتهرت بثنائيتها الريفية الحضرية، وفكرة "المتصل الريفي الحضري" كأداة تصورية متطورة لمعالجة المجتمع الحضري الحديث.
المقصود بالنموذج المثالي: تلك الصياغة التصورية أو البناء العقلي لصيغة معينة تشمل عناصر مميزة لفئة محددة من الظواهر تستخدم في التحليل الاجتماعي وتعتمد العناصر التي يتم تجريدها في هذا الصدد على ملاحظات مستقاة من الظواهر الملموسة التي أمكن دراستها، ومن خصائص هذا البناء النظري أنه لا يكون مطابقاً تماماً لأية ملاحظة إمبريقية مفردة ويرجع استخدام الفكرة إلى ماكس فيبر الذي طور "النموذج المثالي" كمنهج أو أسلوب يستخدمان في الوصف والمقارنة واختبار الفروض المتصلة بالواقع الإمبريقي، ومن أمثل الأنماط أو النماذج المثالية نجد "المنظمة الدينية" و "الإنسان الاقتصادي" و "الإنسان الهامشي" و "المجتمع المحلي" و "المجتمع المعقد" كانت كلها أنماطاً قابلة للتجريب والاختبار عند ماكس فيبر، ولم تكن بحالة من الأحوال صوراً واقعية أو تعبيراً عن الحقيقة، والنموذج المثالي ليس مثالياً بالمعنى الأخلاقي، كما أنه لا يعبر عن "المتوسط" بالمعنى الإحصائي، بل هو مثالي بالمعنى المنطقي، أي كبناء عقلي افتراضي نستطيع من خلاله تنظيم الواقع عن طريق عزل أو إبراز عناصر الظواهر الاجتماعية ووضعها داخل نسق متسق ومنظم للعلاقات.
ويقوم النموذج المثالي بوظيفتين أساسيتين:
الأولى: كحالة أو نموذج محدد يمكن مقابلة الظواهر الملموسة بها، مما يعين على التصنيف والمقارنة.
الثانية: المعاونة في تطوير تعليمات نموذجية تشكل أساس التفسير السببي للأحداث التاريخية.
النمط التركبي: هذا المصطلح أدخله هوارد بيكر كصياغة بديلة للنموذج المثالي ويتمثل الاختلاف بينهما في أن النموذج المثالي صيغة تصورية تسبق البحث، بينما يعتبر النمط التركيبي نتيجة للبحث ذاته، لذلك فإن التركيب يجب أن تفهمه في ضوء مشكلة معينة وأن يصوب نحو فرض واضح، ويفيد النمط التركيبي في أنه يوفر للباحث وسائل لترتيب البيانات كما يسهل عملية التعميم والمقارنة، ولا يعتبر النمط التركيبي وصفاً حرفياً لنسق الظواهر التي يدركها الباحث فهو مجرد نموذج مبسط للحقيقة والواقع.
كما أشار ماكيني إلى أن النمط التركيبي أداة يستخدمها الباحث لاستخلاص ما هو لازم من تعليمات عن المجتمعات المحلية إذ على الرغم من أن لكل مجتمع خصائصه الفردية إلا أن الباحث يستطيع باستخدام هذه الأداة التصورية أن يتجاهل هذه الخصائص الفريدة مركزاً فقط على الخصائص العامة والمشتركة بين المجتمعات التي تندرج تحت نمط واحد بعينه، كما أن الباحث يستطيع في نفس الوقت أن يجري المقارنات الهامة بين أنماط المجتمعات بعضها البعض، إلى جانب أن يصبح بمقدوره أن يكشف عن معدلات التغير التي تطرأ على المجتمع حال انتقاله من نمط إلى آخر، وهذا ما طبقته حرفياً نظريات التعارض باستخدامها لتلك الثنائية المعرفة بين النمط الريفي والنمط الحضري وأيضاً ما اتبعه أصحاب مدخل المتصل الريفي حضري في تحليلهم لخصائص المجتمع الحضري المعاصر.
وتستند فكرة "المتصل" إلى تصور أن أي خاصية للظاهر تمثل بدرجة معينة، وأن هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى الإمبريقي، ويشير "المتصل الريفي الحضري" بالتالي إلى وجود نوع من التدرج يقوم بين خصائص الريفية والحضرية أشبه بخط مستقيم، بحيث تتزايد درجات أي من هذه الخصائص أو تقل بنسب متفاوتة بالنسبة لواقع كل مجتمع على حدة، ولذلك يكون من الممكن أن نصنف المجتمعات المحلية وفقاً لوقوع خصائصها على نقاط معينة على طول هذا المتصل، وتستند فكرة المتصل الريفي حضري على حقيقة أن الواقع الإمبريقي لمجتمعات اليوم لا يؤكد بالضرورة وجود نمط ريفي بحت أو حضري بحت للمجتمع المحلي، بل هناك نوعاً من التداخل بين خصائص النمطين.
إن جانباً لا يستهان به من التراث العلمي المرتبط بالمجتمع المحلي الحضري، قد استوعب عدداً من المحاولات التي بذلت لإيجاد أو تحديد بعض الأبعاد الأساسية للمقارنة، وبالتالي لإبراز التعارض بين نموذج المجتمع المحلي الحضري بنموذج آخر مقابل له، وقد عرفت هذه المحاولات باسم نظريات التعارض، تصورت ثنائية لنموذجين متعارضين للمجتمع المحلي كان النموذج الحضري أحد قطبيها، وبطبيعة الحال استندت هذه المحاولات على أفكار "النموذج المثالي" و "النمط التركيبي" و "المتصل الريفي حضري" في إجرائها لهذه المقارنة ويكفي أن نستعرض هنا محالة أو محاولتين بارزتين كمثال يوضح كيف استخدمت هذه الأفكار كأدوات تصورية لتحليل ودراسة المجتمع الحضري، ولتوضيح ما ترتب على ذلك من نتائج نظرية ومنهجية لمعالجة الموضوع.
أ – فيرديناند تونييز، والنموذج المثالي للمجتمع:
يعد فيرديناند تونييز واحداً من رواد "حركة التنميط" في علم الاجتماع، فقد كان لمؤلفه المشهور المجتمع المحلي والمجتمع أثره الواضح في أعمال كل من هوارد بيكر ودور كايم وردفيليد، وغيرهم ممن استطاعوا تطوير فكرة "النمط التركيبي" كأداة تصورية على درجة عالية من الكفاءة لتحليل الأنساق الاجتماعية.
ترتكز نظرية تونييز على افتراض أساسي مؤداه أن العلاقات الاجتماعية أمر يرتبط بالإرادة الإنسانية، بمعنى أنها توجد فقط بفضل إرادة الأفراد أن توجد، ومع ذلك تختلف دوافع أو أسباب الارتباط بالآخرين اختلافاً كبيراً من فرد لفرد، ومن موقف لآخر، ففي بعض الأحيان يرتبط الأفراد بعضهم مع البعض على أساس من إرادتهم "الطبيعية" أو الأساسية، فتكون العلاقات القادمة بينهم غاية أو هدفاً في ذاتها، وفي أحيان أخرى يرتبط الأفراد مع بعضهم البعض لتحقيق هدف أو مجموعة أهداف معينة، ومن ثم يكون أساس العلاقة "إرادة عقلانية رشيدة"، ويكون نمط العلاقات بينهم وسائل لتحقيق أهداف معينة.
وللإرادة الطبيعية أبعاداً كثيرة، إلا أن "الفهم" و "الوحدة" هما أهم مقوماتها، ذلك لأن في أنساق العلاقة القائمة على مثل هذا النوع من الإرادة يتحقق لكل فرد درجة عالية من فهم الآخرين، بحيث تصبح رفاهية ورعاية الغير شغله الشاغل، كما يتحقق قدراً كبيراً من وحدة الأهداف والقيم والمعتقدات، تلك الوحدة التي ترتكز على المشاركة في نفس التقاليد والتجارب والخبرات، ومن ثم تصبح العلاقات المنبثقة عن الإرادة الطبيعية هدفاً في ذاتها وليست وسائل لأهداف أخرى، وتعتبر الأسرة والجماعات القروية وجماعات أصحاب الحرف العامة أمثلة واقعية لأنساق العلاقة القائمة على الإرادة الطبيعية.
وفي الطرف المقابل، تقرر الإرادة العقلانية أهمية كبرى لوسائل تحقيق الغايات المرغوبة ولذلك تجد الفرد في نسق العلاقات القائمة على مثل هذا النوع من الإرادة يدفع وباستمرار نحو مصالحه الخاصة ورفاهيته، تراه يوطد علاقاته بالآخرين ويؤسس أفعاله وسلوكياته على نوع من "التحكمية" و "العمدية" وفي ذلك ما يشير إلى قدرة الفرد على الاختيار بين الوسائل والغايات بعناية وحكمة وعقلانية، وتعتبر "الإرادة العقلانية"، هي النسق المسيطر على العلاقات التي تقوم بين رجال الأعمال وكبار السن والعلماء والطبقات ذات المستويات التعليمية العليا، كما أنها تشير في الوقت نفسه إلى نمط التفاعل الذي يسيطر على حياة ساكني الحضر.
ومن هذا المنطق تصور تونييز نسقين من العلاقات الاجتماعية يقوم كل منهما على أساس مختلف من الإرادة:النسق الأول:"المجتمع المحلي" النسق المقابل: "المجتمع أو الرابطة"، ويختص كل من النسقين بعدد من السمات المميزة التي تقف على طرفي نقيض من بعضها فالاعتماد والعون والدعم المتبادل إلى جانب الارتباط العاطفي الوثيق والمتبادل، والالتزامات الشاملة، ونسق السلطة الذي يرتكز على عوامل السن والحكمة والقوة الخيرة، هي أهم ما يميز نسق العلاقات الاجتماعية في "المجتمع المحلي" وفي هذا الموقف يربط بين الأفراد التقاليد المقدسة وروح الأخوة التي تنشأ عن روابط الدم والموقع المشترك إلى جانب روابط العقل وفي هذا الصدد يذكر تونييز:
"يشير المجتمع المحلي الذي يقوم على روابط الدم إلى وحدة "الوجود أو الكيان" ويتميز في الوقت نفسه عن المجتمع المحلي الذي يقوم على أساس الموقع المشترك، وعن المجتمع المحلي الذي يقوم على أساس روابط العقل، أو الذي يشير إلى التعاون والعمل المنسق لإنجاز أهداف مشتركة، إن مجتمع الموقع المشترك يمكن تصوره كمجتمع للحياة الفيزيقية، كما يعبر مجتمع الروابط العقلية عن مجتمع الحياة العقلية، وترتبط الأشكال الثلاثة فيما بينها لتقدم أصدق وأعلى شكل من أشكال المجتمعات البشرية".
وعلى عكس ما هو قائم في المجتمع المحلي فإن أفراد المجتمع يبدون أكثر انعزالاً لتصل "الفردية" إلى أقصى درجاتها، ولذلك فإنه من النادر أن توجه مصلحة "المجتمع" تصرفات الفرد وأفعاله، بل توزن كل الأفعال بميزان ما تعود به من منفعة للفرد، ولهذا كانت كل العلاقات التي تقوم بين الأفراد ذات طابع تعاقدي وانقسامي تشتمل على تبادل السلع والخدمات والأموال وسيادة قانون الالتزام، ومن المتصور في نظر تونييز أن يتميز "المجتمع" بحالة مستمرة ومتصلة من التوتر، ولا يمكن تجنب الصراع الصريح بين الأفراد إلا عن طريق العرف والتشريع والرأي العام.
يبدو أن تونييز كان مهتماً بصفة أساسية بتحليل العلاقات الاجتماعية، ومع ذلك يبدو واضحاً أيضاً أن لمفهومي "المجتمع المحلي" و "المجتمع" إمكانية ملحوظة للتطبيق على دراسة الأشكال المختلفة للتنظيم الاجتماعي، ونجد في الأسرة وما ينشأ بداخلها من علاقات بين أعضائها أبرز الأمثلة وأوضحها على علاقات "المجتمع المحلي" بالمعنى الذي حدده تونييز إن هذا النوع من العلاقات الأسرية يستند في الأساس على العواطف والفهم –أي على الإرادة الطبيعية- وتنأى تماماً عن كل رغبة في تحقيق هدف معين أو مصلحة خاصة، كذلك تعبر "المجاورات" والقرى والمدن الصغرى أمثلة واضحة لعلاقات المجتمع المحلي، وتمثل المدن الصغرى بصفة خاصة أكثر أشكال المجتمع المحلي تعقيداً أنها إلى جانب القرية تظل محتفظة ببعض الخصائص المميزة للأسرة ولو أن القرية تتمثل أكثر هذه الخصائص، بينما تبقى المدينة الصغيرة على عدد أقل منها –أي من هذه الخصائص- وفي الطرف المقابل تمثل المدن الكبرى والعواصم القومية والمتروبوليس ما أسماه تونييز "بالمجتمع " أو "الرابطة" ففي مثل هذه التنظيمات يكون للنقود ورأس المال أهمية مطلقة، حيث يكون التأكيد واضحاً على إنتاج السلع والأرباح والمعرفة العلمية التي تستخدم لتحقيق أعلى مستويات الكفاءة والعقلانية، حيث تكون لعقلية الرأسمالي أو رجل الأعمال الغلبة والسيادة، بالإضافة إلى أن تونييز قد تصور أن يرتبط نموذجا التنظيم "المجتمع المحلي و المجتمع أو الرابطة" بنموذجين مختلفين للقانون، حيث يستند الضبط الاجتماعي في تنظيم "المجتمع المحلي" على الطرائق الشعبية والأعراف والعادة التي تختص في نظر الأفراد بصدق أبدي سرمدي، ولا يمكن أن تفقد ما لها من قوة رابطة،إن قانون المجتمع المحلي بهذا المعنى يتمثل في ضبط الكل أو المجموع وسيطرته على أجزائه، فمصالح الأسرة أو القرية أو المدينة الصغيرة تحتل مركز الصدارة والغلبة على كل مصلحة فردية، أما قانون "المجتمع" أو "الرابطة" فيتميز بما له من طابع علمي عقلاني ويبتعد كل البعد عن الغيبيات والعقيدة والتقليد،فهو يمثل اتفاقاً عقلانياً رشيداً بين الأفراد كما أن وظيفته الأساسية تدعيم الحقوق والواجبات والالتزامات، أو بعبارة أخرى هو –أي قانون المجتمع أو الرابطة- شكل من أشكال العقد، فلا يتمسك به الأفراد ولا يتمثلون له إلا لأن نفعهم ومصلحتهم تحتمان هذا التمسك والامتثال.
ملاحظات على موقف تونييز:
1 – من النادر أن يتحقق تصور المجتمع أو الرابطة، بالمعنى الذي حدده لكل منهما في عالم الواقع، وإنما كانا نماذج مثالية تستخدم فقط كمستويات أو أدوات تصورية تصنف من خلالها الظواهر الامبيريقية.
2 – قصد تونييز أن يكون إطاره التصوري السابق ذو طابع دينامي، أي أن يقدم من خلال هذا الإطار نظرية عن التغيير الاجتماعي والثقافي، لقد أشار أكثر من مرة إلى أنه "بمرور الوقت" تحل علاقات المجتمع أو الرابطة محل علاقات المجتمع المحلي، وأن الإرادة الطبيعية ستفسح المجال شيئاً فشيئاً للإرادة العقلانية" وبعبارة أخرى قدم تونييز بتصوره السابق تفسيراً اقتصادياً للتغيير الاجتماعي والثقافي حيث يؤكد أن ظهور الرأسمالية وما صاحبها من رغبة جامحة وحب لجمع الأموال وزيادة الأرباح كان عاملاً أساسياً لأفول المجتمع المحلي وما ارتبط به من قيم وإيديولوجيات، وبالتالي لسيطرة القيم المرتبطة بالتجارة والرأسمالية ولذلك سيصبح التجار والرأسماليون "السادة الطبيعيين في المجتمع" أولئك الذين دفعوا وباستمرار لهذا التحول الخطير من "المجتمع المحلي" إلى مجتمع "الرابطة".
ب – سوروكين-زيمرمان والثنائية الريفية الحضرية:
تتلخص محاولتهما في نظرتها إلى "المهنة" على أنها تمثل المحك الأول والأساسي لما بين نموذجي المجتمع من فروق واختلافات إذ يرتبط هذا الاختلاف الأساسي بسلسلة أخرى من الاختلافات أو الخصائص المميزة، وتمتد هذه الخصائص إلى جانب اختلاف المهنة على مدى سبعة أبعاد للمقارنة هي:
1 – المهنة:
تتمثل الخاصية الأولى والأساسية للمجتمع الحضري في أنه جمع من أفراد يشتغلون أساساً بأعمال التجارة والصناعة والحرف والإدارة وغير ذلك من الأعمال غير الزراعية، وفي مقابل ذلك يغلب العمل الزراعي على المجتمع الريفي، الذي يتركب من جموع من الفلاحين (الزراعيين) وأسرهم، إلى جانب عدد قليل جداً من المشتغلين بالأنشطة غير الزراعية، ويترتب على هذا الاختلاف فروق عديدة بين المجتمعين من أهمها ما نجم عن العمل الزراعي من ارتباط شديد بالأرض والجماعات القرابية، ابتعاد واضح عن التخصص والتقسيم الدقيق للعمل، ونظرة ثابتة لا تتغير إلى الموقف الكلي للحياة يتوارثها الأفراد جيلاً بعد جيل، ثم أخيراً عدم وجود فواصل دقيقة بين حياة العمل وحياة الفرد أو الأسرة، وعلى العكس من ذلك، نجد مجموعة من النتائج المعاكسة ترتبت على طبيعة أنساق المهنة في المجتمع الحضري من أهمها: انفصال جماعات المهنة عن الجماعات القرابية، وانفتاح الأفراد على "عوالم" مهنية مختلفة ومتعددة، والتخصص الدقيق والمتقن في مجال العمل، وظهور معايير وأبعاد جديدة لتحديد المكانة المهنية للفرد، ومقاييس مختلفة للنجاح المهني كالتحصيل الدراسي المتخصص والخبرة الفنية ومستويات الكفاءة وغير ذلك.
2 – البيئة:
إن اختلاف نوعية العلاقات بين كل من المجتمع الريفي والحضري بالبيئة الطبيعية، يمثل وجهاً آخر من أوجه الاختلاف بين نموذج المجتمع: فالمجتمع الريفي بطبيعته نظراً لسيطرة العمل الزراعي مجتمع أكثر ما يكون ارتباطاً أو خضوعاً للبيئة الطبيعية، ومن ثم تبدو علاقته بها وثيقة ومباشرة، كما أن غلبة البيئة الطبيعية وسيطرتها على البيئة الاجتماعية والإنسانية هي أهم ما يميز نموذج المجتمع الريفي وعلى العكس من ذلك يعيش المجتمع الحضري حياته في عزلة نسبية عن البيئة الطبيعية الأمر الذي يجعل للبيئة الاجتماعية والبشرية غلبة وسيطرة واضحة.
ويضيف بيترمان إلى ذلك قوله أن هذا الاختلاف قد انعكس وبوضوح على نوعية المشكلات البيئوية لكل من المجتمع الريفي والمجتمع الحضري، وعلى التصورات المقترحة لمواجهتها.
3 – حجم المجتمع:
على الرغم مما يثيره استخدام متغير "الحجم" كمحك للتمييز بين المجتمع الريفي والحضري من صعوبات منهجية ترتبط بمجال تطبيق هذا المتغير (هل يطبق على مساحة الأرض التي يشغلها المجتمع؛ أم على جموع الأفراد التي يتركب منها) إلا أن الحجم أعتبر عند سوروكين وزيمرمان، وجهاً من وجوه الاختلاف والمقارنة بين نموذجي المجتمع، حيث إن المجتمع المحلي الريفي صغير بطبيعته وأن ثمة علاقة عكسية بين الريفية والعمل الزراعي وبين حجم المجتمع، وعلى الطرف المقابل يتميز النموذج الحضري من المجتمع بكبر حجمه النسبي عن النموذج الريفي وبالتالي فإن ثمة علاقة طردية بين الحضرية واتساع الحجم.
4 – كثافة السكان:
نموذج المجتمع المحلي الريفي يتميز بانخفاض الكثافة السكانية، لذلك ترتبط الريفية بوجه عام بعلاقة عكسية مع الكثافة، على العكس من نموذج المجتمع الحضري التي ترتفع فيه معدلات الكثافة السكانية كسمة مميزة، وترتبط فيه الخصائص الحضرية بعلاقة طردية مع ارتفاع هذا المعدل.
5 – التجانس والتغاير:
ترتبط متغيرات الحجم والكثافة ارتباطاً علياً بمتغيري التجانس والتغاير كوجه آخر من وجوه المقارنة بين المجتمع المحلي الريفي والحضري، وفيما يتعلق بالسمات النفسية والاجتماعية والعرقية يبدو سكان المجتمع الريفي أكثر تجانساً إذا قورنوا بسكان المجتمع الحضري، وأنه نتيجة لذلك يرتبط التجانس ارتباطاً طردياً بالريفية وعكسياً بالحضرية، كما يرتبط التغاير بطريقة عكسية بالأولى وطردية بالأخيرة.
6 – التمايز الاجتماعي والتدرج الطبقي:
تختلف انساق المكانة والتمايز والتدرج الطبقي اختلافاً بيناً في نموذجي المجتمع المحلي والريفي والحضري، سواء من حيث عوامل كسب المكانة الاجتماعية، أو أسس التمايز والتدرج الطبقي أو مظاهره، وتأتي هذه الفروق نتيجة لازمة لاختلاف مقومات التركيب المهني في كل نموذج، ففي المجتمع الحضري ترتكز أنساق التدرج الطبقي على العلاقات الاجتماعية الثانوية، كما لا تعمل بنفس الطريقة التي تقوم بها في المجتمع الريفي، فمن الملاحظ أن التمايز والتدرج الطبقي في مجتمع القرية مسائل شخصية بحتة، لأنه من السهل على الفرد في مثل هذا المجتمع أن يعرف وأن يمارس مهنة الآخرين، ومن ثم لا يكون الموقف بحاجة إلى تمايز بين الأفراد على أساس الطبقة، هذا على العكس من المجتمع الحضري، الذي تتدرج فيه المهن والأعمال تدرجاً هيراركياً، وحيث تؤسس المكانة الاجتماعية والطبقية للفرد وتصنف في حدود ما استطاع أن يحقق لنفسه من كسب مادي بعيداً عن انتمائه لجماعة قرابية معينة كعامل من عوامل كسب المكانة، بالإضافة إلى أنه مع زيادة تقسيم العمل وتخصصه تعقداً في المجتمع الحضري، تتضح وباستمرار أهمية الدور المهني للفرد كعامل من أهم عوامل كسب المكانة في المجتمع، كما أن في مجتمع مثل هذا بلغت فيه التناقضات ذروتها في مجال المهنة والدخل ومستويات المعيشة والتعليم..الخ، لا يتوقع أن تقوم التمايزات الطبقية على أساس من علاقات واحتكاكات أولية بين الأفراد، بل تصبح رموز مثل المستوى المهني ومستوى الدخل والتعليم والزي..الخ، مظاهر أساسية وهامة للتمايز الطبقي بين أفراد المجتمع.
7 – الحراك والتنقل:
إن الحراك بأشكاله المكانية والمهنية والاجتماعية أقل كثافة في المجتمع الريفي عنه في المجتمع الحضري وأن معدلاته ترتبط ارتباطاً طردياً مع زيادة الحضرية، يستثنى من ذلك فقط ما يتميز به المجتمع الريفي من ارتفاع في معدلات التنقل الفيزيقي –الهجرة- من جوانب الريف إلى المدينة وفيما عدا ذلك تبقى أشكال الحراك الأخرى –المهني والاجتماعي- في المجتمع الريفي أقل وضوحاً وكثافة إذا قورنت بمعدلاتها في المجتمع الحضري.
8 – أنساق التفاعل:
أهم ما يميز أنساق التفاعل في المجتمع الريفي أن "نطاق" التفاعل أو مجاله بالنسبة للفرد أو الجماعة يكون أكثر ضيقاً؛ وأن النتيجة التي تترتب على الحجم المحدود للمجتمع، وبالتالي لنطاق التفاعل بين أفراده وجماعاته، تتمثل في غلبة العلاقات الأولية على أنساق التفاعل، حيث تبرز العلاقات الشخصية والدائمة والشمولية بين الأفراد، بتفاعل سكان هذا المجتمع مع بضعهم البعض كأشخاص آدميون، على العكس من ذلك كان اتساع وكبر حجم المجتمع الحضري وارتفاع معدلات التغير بين سكانه سبباً مباشراً في اتساع نطاق التفاعل بالنسبة للفرد والجماعة وبالتالي تغلب العلاقات غير الشخصية والمؤقتة أو العرضية، كما تبدو هذه العلاقات بدورها ذات طابع سطحي رسمي انقسامي، وباختصار يتفاعل سكان هذا النموذج من المجتمع المحلي "كأرقام" أو "عناوين" وليسوا كأشخاص.
ج – ريدفيلد ومتصل الفولك – حضري:
يتفق تصور روبرت ردفيليد "لمتصل" الفولك حضري في إطاره التصوري العام مع تصور تونييز للنموذج المثالي للمجتمع، وتصور سوروكين وزيمرمان لثنائية الريفي-حضري، ومع ذلك فإن هناك بعض نقاط للاختلاف أهمها: أن ردفيليد لم يكن ليهتم بوضع نماذج مثالية متعارضة للمجتمع المحلي فحسب بل حاول أن يتفهم التغيرات التي قد تحدث عندما يتحول المجتمع من حالة "الفولك" إلى حالة "الحضري".
ويتوصل ردفيليد إلى عشرة متغيرات أساسية يمكن من خلالها ترتيب المجتمعات كما لو كانت تمثل تزايداً أو نقصاناً تدريجياً ومتعاقباً في كل منها، لذلك فإن كل مجتمع من المجتمعات يكشف عن عدد من الخصائص المميزة بالمقارنة بغيره من المجتمعات الأخرى على النحو التالي:
1 – أنه أقل –أو أكثر- ارتباطاً بالعالم الخارجي.
2 - أنه أقل –أو أكثر- تغايراً.
3 - أنه أقل –أو أكثر- تقسيماً للعمل.
4 - أنه أقل –أو أكثر- تطويراً لاقتصاد السوق والمال.
5 - أنه أقل –أو أكثر- احتواءً على تخصصات مهنية أكثر علمانية.
6 - أنه أقل –أو أكثر- بعداً عن الاعتماد على الروابط والنظم القرابية.
7 - أنه أقل –أو أكثر- اعتماداً على مؤسسات ذات طابع غير شخصي للضبط.
8 - أنه أقل –أو أكثر- تمسكاً بالعقيدة أو بالأصل.
9 - أنه أقل –أو أكثر- بعداً عن التمسك بالعادات والأعراف التقليدية.
10 - أنه أقل –أو أكثر- تسامحاً وتأكيداً للحرية الفردية في الفعل أو الاختيار.
وهكذا تقيس هذه المتغيرات السابقة درجة تحضر مجتمع الفولك (حيث يشير تناقض درجة المتغير إلى القرب من النموذج الفولكي، وتشير زيادته إلى الاقتراب من النموذج الحضري) كما يتيح الاختلاف النسبي لمدى تمثل كل متغير في أي من المجتمعات إمكانية وضعه على إحدى نقاط المتصل الريفي الحضري.
وفي محاولته تحليل المتغيرات التي يمر بها المجتمع حال انتقاله من نموذج الفولك إلى النموذج الحضري، وحد ردفيليد هذه المتغيرات (أو الخصائص) العشرة في ثلاث مقومات أساسية للتغير أو التحول الحضري هي: زيادة التفكك الثقافي، تزايد العلمانية، زيادة انتشار الفردية، ولذلك كانت هذه الخصائص أهم ما يتسم به المجتمع الحضري في نظره، وجاء تبريره لذلك على النحو التالي:
أ – تزيد الحضرية من التفكك الثقافي للمجتمع، ويعني بذلك أن القواعد والمعايير التي كانت توجه السلوك والفعل الاجتماعي في مجتمع الفولك غدت أكثر تعقيداً وتعدداً في المجتمع الحضري، يتخذ التفكك الثقافي المصاحب للحضرية أربعة مظاهر أساسية هي: أولاً، أن تفقد الثقافة وحدتها التقليدية، ثانياً، اتساع نطاق البدائل الثقافية أمام الفرد مما يؤدي إلى تميع الأنماط السلوكية وصعوبة تحديدها، إن مجتمع المدينة يتيح فرصاً أرحب للاختيار، الأمر الذي يترتب عليه ظهور مشاكل اللا معيارية أو فقدان المعايير، ثالثاً، فقدان التكامل والارتباط المتبادل بين مقومات الثقافة ففي نموذج الفولك تتوحد كل عناصر الثقافة المحلية وتترابط فيما بينها، حتى يصعب على المرء فهم المعتقدات والقيم والطقوس المرتبطة بالمرض مثلاً دون استيعاب وفهم ما يرتبط بالعمل الزراعي والتفكير الغيبي من قيم ومعتقدات، رابعاً،الصراع الواضح أو عدم الاتساق بين المستويات الثقافية، ففي مجتمع الفولك تنسجم السمات والمركبات الثقافية مع بعضها البعض، على العكس من المجتمع الحضري الذي يواجه فيه الفرد توقعات سلوكية متعارضة وغير متسقة.
ب – تزيد الحضرية من اتجاه المجتمع نحو العلمانية والدنيوية، ففي مجتمع الفولك تجد أن كل الأنشطة التي يقوم بها الأفراد تصطبغ بالطابع الديني والعاطفي، بينما ترتبط النشاطات الحضرية وتوجه باعتبارات وأحكام عقلانية براجماتية، ويترتب على ذلك أنه مع زيادة الحضرية يتحرر الأفراد من الضوابط التقليدية وتتاح لهم فرصة صنع القرار في ضوء ضوابط علمانية رشيدة، دون ما ارتباط بإرادة المجتمع التي تجسدها المعتقدات الدينية المقدسة والتقليدية.
ج – تزيد الحضرية من انتشار الفردية وزيادة سيطرتها على موجهات السلوك الإنساني، ويعني ذلك أن الفرد وليس الجماعة هو المسئول عن عملية صنع القرار وعن نتائج ما يقوم به من أفعال، كما يعني أيضاً اختفاء الوظائف الجمعية وإحلالها بنشاطات فردية بحتة تهدف لتحقيق مصالح الفرد في المقام الأول، فإذا كان سكان مجتمع الفولك ينفقون المزيد من الوقت والجهد لأداء أعمال عامة جمعية دون مقابل نجد سكان المجتمع الحضري يعتبرون ذلك نوعاً من العبث والسلوك غير الرشيد، وقد تمثلت الفردية جوانب متعددة من حياة المجتمع الحضري، كان من أهمها إحلال الأسرة النواة محل العائلة الممتدة، وضعف سلطة الدين والمعتقدات وتحرر الأفراد من الروابط التقليدية بجماعات قرابية أو مكانية.
انتقادات أوسكار لأفكار ردفيليد:
أ – تتضمن فكرة المتصل نظرية للتغير مفادها أن الحضرية تطيح وبالضرورة بمجتمع الفولك، غير أنه من الخطأ أن نرجع كل التغيرات التي تطرأ على مجتمعات الفولك إلى عامل واحد بعينه هو التحضر.
ب – إن الثقافات دائماً في حالة من التغير المستمر، ومع ذلك ليس شرطاً أن تكون هذه التغيرات ذات طابع أو اتجاه ثوري للانتقال من مجتمع الفولك إلى مجتمع حضري.
ج – إن النموذج الذي حدده ردفيليد لم يبرز الاختلافات والتمايزات الواسعة المدى بين مجتمعات الفولك ذاتها، كذلك لقد ركز متصل ردفيليد على الجوانب الرسمية للمجتمع، وهذه لا تمثل أهمية كبيرة في التحليل الثقافي للمجتمع.
د – إن كثيراً من نتائج التحضر التي ساقها ردفيليد كالتفكك الثقافي والاتجاه نحو العلمانية والفردية تفتقر لشواهد امبريقية مؤكدة إذ لا يوجد أي دليل على حدوث تفكك ثقافي في مجتمع الفولك.
وهناك نقطة ضعف خطيرة في فكرة ريدفيليد وهي فشلها في تحديد العناصر الرئيسية للمجتمع الحضري في ذاته، إذ لا يكفي أبداً أن نقوم بتحليل هذا النموذج من المجتمع باعتباره "نموذجاً مناقضاً" لمجتمع الفولك، بعبارة أخرى لم يولي ريدفيليد اهتماماً خاصاً بتحديد خصائص الحضرية والمجتمع الحضري في ذاته.
2 – المجتمع المحلي الحضري في حدود تصور استنباطي:
سبب تسميتها بذلك أن أصحابها كانوا يبدؤون تصورهم للمجتمع الحضري والمدينة بصفة خاصة ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات في غير حاجة إلى برهان ثم يشرعون بعد ذلك في استنباط قضايا أخرى غيرها، تمثل خصائص مميزة للحياة الحضرية.
أ – لويس ويرث والحضرية كطريقة للحياة:
قدم مقالة هامة يمكن تلخيصها في تعريف وسؤال وإجابات متتالية:
تعريف المدينة: "أنها موقع دائم يتميز بكبر الحجم وبكثافة عالية نسبياً، وبدرجة ملحوظة من اللاتجانس بين سكانها"
السؤال: يدور حول الصور والأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية والتي قد تنجم عن الخصائص الأساسية المميزة للمجتمع الحضري (الحجم، والكثافة، واللاتجانس).
الإجابة: لخصت تصوره للمجتمع الحضري فكانت على النحو التالي:
افترض أن الحجم والكثافة والتغاير أو اللاتجانس، متغيرات أساسية أو مستقلة، أو خصائص مميزة للمجتمع الحضري، تسلم بدورها إلى عدد من القضايا أو الخصائص التي ترتبط بطبيعة الحياة الحضرية وشخصية ساكن الحضر.
وأنه كلما كبر حجم المجتمع الحضري (المدينة) اتسع نطاق "التنوع الفردي" وارتفع معدل التمايز الاجتماعي بين الأفراد الأمر الذي يؤدي إلى زيادة انتشار "العزل المكاني" للأفراد والجماعات على أساس السلالة أو المهنة أو المكانة، ويؤدي هذا العزل المكاني إلى إضعاف روابط الجيرة والعواطف التي تنشأ نتيجة المعيشة المشتركة ولأجيال متعاقبة تحت تقليد عام مشترك، كما أن ضعف هذه الروابط والعلاقات (الفولوكية) يفرض بدوره إحلال المنافسة وميكانيزمات الضبط الرسمي محل الروابط والعلاقات غير الرسمية في مجتمع الفولك.
ويستنبط ويرث مجموعة من القضايا استناداً على متغير "الحجم" مؤداها إن كبر الحجم وزيادة عدد السكان يحد من إمكانية أن يتعرف كل فرد على الآخرين معرفة شخصية وثيقة، ويترتب على ذلك انتشار علاقات اجتماعية ذات طابع انقسامي من خلالها يتعرف الحضري على عدد أقل من الأفراد وبدرجة أقل من المودة، إلى جانب سيطرة علاقات المنفعة، مما يؤدي بدوره إلى فقدان المعايير وافتقاد روح المشاركة والطواعية، وبطبيعة الحال يؤثر ذلك في النسق الاقتصادي والسياسي، حيث تؤدي انقسامية العلاقات الحضرية وتميزها بالطابع النفعي إلى التخصص الوظيفي للنشاط وتقسيم العمل واقتصاد السوق، كما تؤدي صعوبة الاتصال الشخصي والمباشر بين الإفراد إلى أن يوكل أمر الدفاع عن مصالح الأفراد إلى أجهزة متخصصة، ومن خلال عمليات الإنابة أو التفويض.
وبنفس الأسلوب عالج ويرث متغير "الكثافة" كخاصية أساسية ومميزة للمجتمع الحضري يترتب عليها خصائص أخرى، لقد تصور ويرث أن الكثافة تؤكد الآثار الاجتماعية والنفسية الناجمة عن الحجم، فهي تزيد من درجات التقارب الفيزيقي بين الأفراد في مقابل التباعد الاجتماعي، كما أنها تؤكد على الحاجة إلى التخصص والتمايز، وتكمن وراء كل حاجة إلى ضوابط رسمية لمواجهة كل احتمالات الفوضى والتفكك الناجمة عن زيادة أعداد السكان، ثم إنها "الكثافة" تزيد من العزل المكاني بمعنى انفصال الجماعات السكانية عن بعضها البعض في شكل مجاورات أو أحياء متجانسة نسبياً.
أما متغير "اللاتجانس" فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغيري "الحجم" و "الكثافة" فهو استجابة مباشرة لضرورة اقتصادية (تقسيم العمل) وأخرى اجتماعية تمثل الاختلافات والفروق المتوقع وجودها في جماعات كبيرة وكثيفة من السكان، ولكن اللاتجانس (التغاير) يؤدي بدوره إلى سلسلة من المصاحبات الاجتماعية أهمها تطوير نسق أكثر تعقيداً للتدرج الطبقي وزيادة معدلات الحراك بأشكاله الفيزيقية والاجتماعية، تطوير شخصية "علامية كوزموبوليتية" وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التغاير إلى نوع من الجمود والتقنين اللذان يسيطران على حياة المدنية الأمر الذي يؤدي بدوره إلى نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية وبأفكار وتصورات نمطية كما أن تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به من تفكك الشخصية وزيا
مدخل لدراسة المجتمع المحلي
1 – جوانب من التراث السوسيولوجي للمفهوم:
ارتبط مفهوم المجتمع المحلي شأنه في ذلك شأن معظم المفاهيم السوسيولوجية التي اشتقت منه لغة الحياة اليومية بمعاني كثيرة ومتعددة.
وتنقسم التعريفات إلى قسمين رئيسيين:
تعريفات وجهات النظر التقليدية أو الكلاسيكية:
تعريف روبرت ماكيفر : المجتمع المحلي هو وحدة اجتماعية تجمع بين أعضاءها مجموعة من المصالح المشتركة، وتسود بينهم قيم عامة وشعور بالانتماء، بالدرجة التي تمكنهم من المشاركة في الظروف الأساسية لحياة مشتركة.
تعريف روبرت بارك: "أن المجتمع المحلي في أوسع معاني المفهوم يشير إلى دلالات وارتباطات مكانية جغرافية، وأن المدن الصغرى والكبرى والقرى بل والعالم بأسره تعتبر كلها رغم ما بينها من الاختلافات في الثقافة والتنظيم والمصالح.. الخ، مجتمعات محلية في المقام الأول".
تعريف لويس ويرث: أن المجتمع المحلي يتميز بما له من أساس مكاني إقليمي يتوزع من خلاله الأفراد والجماعات والأنشطة، وبما يسوده من معيشة مشتركة تقوم على أساس الاعتماد المتبادل بين الأفراد، وبخاصة في مجال تبادل المصلحة.
تعريف آموس هاولي: "إن التحديد المكاني للمجتمع باعتباره منطقة جغرافية أو مساحة مكانية يشغلها مجموعات من الأفراد محاولة تعسفية للتعريف, وإنه من الملائم أن ننظر إلى المشاركة في الإيقاع اليومي والمنتظم للحياة الجمعية على أنها عامل أساسي يميز المجتمع المحلي ويعطي لسكانه طابع الوحدة، إن المجتمع المحلي أكثر من مجرد تنظيم لعلاقات التكافل بين الأفراد، وأن الحياة الجمعية تشتمل على قدر من التكامل السيكولوجي والأخلاقي إلى جانب التكامل التكافلي أو المعيشي، وأنه يتعين على الباحث أن ينظر إلى الجوانب السيكولوجية والأخلاقية على أنها مظاهر متكاملة، وليست مختلفة أو متميزة لحياة المجتمع المحلي، خاصة وأن الأنشطة المعيشية وما يرتبط بها من علاقات تكافلية تتداخل وترتبط بمجموعة المشاعر والأحاسيس وأنساق القيم والمعايير الأخلاقية وغير ذلك من موجهات السلوك والتفاعل اليومي".
تعريف تالكوت بارسونز: المجتمع المحلي هو جمع أو حشد من أفراد يشتركون في شغل منطقة جغرافية أو مساحة مكانية واحدة كأساس لقيامهم بأنشطتهم اليومية.
تعريف بلين ميرسر: المجتمع المحلي هو تجمع لأشخاص تنشأ بينهم صلات وظيفية، ويعيشون في منطقة جغرافية محلية خلال فترة محددة من الزمن، كما يشتركون في ثقافة عامة، وينتظمون في بناء اجتماعي محدد ويكشفون باستمرار عن وعي بتميزهم وكيانهم المستقل كجماعة.
تعريفات وجهات النظر المتطورة أو الأكثر حداثة.
قدم موريس شتاين عدداً من الانتقادات التي وجهها للتطور التقليدي للمفهوم "إن انتشار الحضرية أفقد الأفراد إحساسهم وشعورهم بالمجتمع المحلي كما أن مقومات التنظيم الاجتماعي التقليدي في كثير من المجتمعات المحلية الأمريكية قد تقوضت نتيجة لتعرضها للمؤثرات الخارجية التي أفقدت الأفراد شعورهم بالانتماء إلى مجتمعاتهم المحلية، والتي مكنت من إحلال الانقسامية والجزئية محل الشمولية فطورت مجتمعات محلية فرعية –معادية لبعضها البعض- بدلاً من الشعور التقليدي بالانتماء والتعاون المحلي، وباختصار فإن القومية والعالمية قد غدت سمة العصر التي تؤكد وباستمرار خاصية الاعتماد المتبادل بدلاً من خاصية الاستقلالية والاكتفاء الذاتي، التي كانت من أهم مقومات التصور التقليدي لمفهوم المجتمع المحلي إن تقدم وسائل النقل والاتصال وما ترتب عليه من اعتماد متبادل بين المجتمعات المحلية ارتبط بالعديد من المصاحبات النفسية التي أدت إلى ضياع أو فقدان المجتمع المحلي السيكيولوجي.
ويشارك شتاين في تصوره السابق كل من ملفين فيبر ورونالد وارن فقد انتقد فيبر تصور أن المجتمع المحلي وحدة اجتماعية ذات ارتباط وتحديد مكاني، إن إنسان العصر الحديث، وبخاصة سكان الحضر يعيش في مجتمعات محلية عديدة كما أن هذه المجتمعات التي يرتبط بها وينتمي إليها لم تعد مجرد مكان محدد يلتزم به كأسلافهم بل أصبح أكثر ارتباطاً بمجتمعات المصلحة المتنوعة مهما اختلف أساس هذه المصلحة، ولم يعد الأفراد بحاجة إلى التركيز المكاني، ومن ثم لم تعد الحدود المكانية مؤشراً هاماً للعلاقات الوظيفية أو أساساً للنظام في المجتمع.
ويعتبر تعريف رونالد وارن من أحدث التعريفات "إن مصطلح المجتمع المحلي يتضمن بعداً سيكولوجياً وآخر جغرافي وثالث سوسيولوجي فهو من الناحية السوسيولوجية يتضمن المصالح المشتركة والخصائص المميزة للأفراد والروابط المشتركة بينهم كما هو الحال بالنسبة لمجتمع المصلحة، كما أنه من الناحية الجغرافية يشير إلى منطقة بعينها يحتشد فيها جماعات من الإفراد ومن وجهة النظر السوسيولوجية يرتبط البعدان السيكولوجي والجغرافي معاً ليشير المصطلح إلى المصالح المشتركة وإلى أنماط متميزة من السلوك يختص بها جماعات بعينها من الأفراد نظراً لاشتراكهم في نفس المنطقة أو المكان.
ملاحظة هامة: ارتباط المفهوم واستخدامه في علم الاجتماع من تصورين مختلفين فمن ناحية نجد تصوراً يفيد الإشارة إلى جمع بشري محدد يشغل منطقة جغرافية معينة، ويتخذ من الاشتراك في المكان الواحد أساساً ترتكز عليه كل محاولة للتعريف أو التنميط أو الدراسة كما ينظر إلى البعد المكاني باعتباره متغيراً مستقلاً يفسر ما لنماذج المجتمع المحلي المختلف من خصائص متميزة ومن ناحية أخرى نجد تصوراً آخراً يؤكد البعد السيكولوجي ويعتبر الاتصال والإجماع أو الاتفاق شرطاً ضرورياً أو مقوماً أساسياً من مقومات المجتمع المحلي، ومن ثم يصبح المجتمع المحلي عبارة عن كل أخلاقي تندمج فيه عقول الأفراد، ومن خلاله فقط، تتاح الفرصة للأفراد للتعبير عن قدراتهم وإمكاناتهم بطريقة كلية وملائمة.
2 – محاولة لإعادة التعريف: وجهة نظر:
هناك اعتبارين تلقي الضوء لإعادة التعريف:
الاعتبار الأول: يختص بتقييم البعد المكاني:
المجتمع المحلي هو: "تجمع إنساني تقوم بين أعضائه روابط الاعتماد الوظيفي المتبادل ويشغل منطقة جغرافية محددة ويستمر خلال الزمن عن طريق ثقافية مشتركة تمكن الأفراد من تطوير أنساق محددة للاتصال والإجماع فيما بينهم كما تيسر لهم سبل التفاعل وتنظيم أوجه نشاطاتهم اليومية".
الاعتبار الثاني: يدور حول تطبيق المصطلح واستخداماته:
أ – كثيراً ما يشار إلى بعض المؤسسات على أنها مجتمعات محلية مثل "السجون والمستشفيات العقلية والأديرة والملاجئ والثكنات العسكرية" ومن اللائم أن نطلق على هذه الكيانات اسم "المؤسسات الشمولية العامة" ففي مثل هذه التسمية ما يشير إلى أنه بإمكان الفرد أن يقضي حياته بأكملها بين جدرانها.
ب – يشار في بعض الأحيان إلى بعض الوحدات الاجتماعية ذات الأساس المكاني الأكثر اتساعاً كالأقاليم والولايات والدول بل والعالم بأسره على أنها مجتمعات محلية وكثيراً ما نقرأ أو نسمع عن "مجتمع الأطلنطي، أو عن المجتمع العالمي" ويعكس استخدام المصطلح بهذا المعنى نفس الفكرة المألوفة عن "مجتمع المصلحة"، أو "المشاركة في وجهات النظر والاهتمامات".
ويجب التأكيد على البعد الزماني إلى جانب التأكيد على البعد المكاني، بمعنى أن يشير مفهوم المجتمع المحلي إلى أن "مناطق بعينها ذات تفاعل يومي مستمر ومنتظم".
3 – عناصر التعريف:
أ – عنصر الإقليم أو المكان المحدد: يشير إلى منطقة محددة ذات خصائص طبيعية أو مصطنعة فريدة ومتميزة يتوافق لها بالضرورة ما يطوره المجتمع من نسق خاص للتنظيم الاجتماعي، ويبدو من الصعب فهم وتفسير طريقة الحياة في المجتمع دون الرجوع إلى خصائص المكان كمتغير أساسي يميز المجتمعات المحلية عن بعضها البعض.
ب – خاصية الاستقلال والاكتفاء الذاتي:المجتمع المحلي عبارة عن جماعة مكتفية بذاتها من الأفراد، فيعتمد الأفراد على بعضهم البعض للقيام بالوظائف الأساسية كما ترتبط الأهداف الجمعية والنشاطات الفردية بتنوع واسع النطاق من الاحتياجات والمصالح والاهتمامات التي لا يمكن لمؤسسة أو تنظيم بعينة أن يواجهها أو يشبعها.
ج – خاصية الوعي الذاتي: وتعتبر من أهم الخصائص المميزة للمجتمع المحلي وتتضمن هذه الخاصية الاعتراف المتبادل بين الأفراد إلى جانب الشعور بالانتماء والتميز.
د – القيم والمعايير المشتركة: من أهم ما يميز المجتمع المحلي عن أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى ما يسوده من أنساق خاصة للقيم والمعايير إذ عادة ما يعاد صياغة الكثير من القيم المطلقة في الثقافة الكبرى في ضوء الرموز والأحداث ذات الدلالة والمغزى في السياق المجتمعي المحلي.
4 – مدخل متعدد الأبعاد لدراسة المجتمع المحلي: وجهة نظر:
أ – المجتمع المحلي كوحدة مكانية إقليمية:
أي أنه تجمع من أفراد يعيشون داخل منطقة جغرافية ذات خصائص معينة، وترجع أهمية هذا العبد المكاني إلى سببين رئيسيين أولهما أن العوامل المكانية تساعد في تفسير قيام المجتمع وبقائه وتنظيمه، وثانيهما أن أفراد المجتمع بما يطورونه من تنظيمات وميكانيزمات للتفاعل بينهم يعدلون وباستمرار من الوسط أو القاعدة المكانية التي يعيشون في إطارها وحدودها، معنى ذلك أن العلاقة جد وثيقة بين المكان وخصائصه ومتغيراته، وبين التنظيم الاجتماعي وطريقة الحياة التي يعيشها أفراد المجتمع.
ولعل السبب الرئيس لظهور المجتمعات المحلية يكمن في أن الإنسان لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسمو أو يتجاوز حدود المكان أضف إلى ذلك أن إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية للإنسان تتضمن بالضرورة الجوار أو الاقتراب المكاني.
موجز القول إن المتغيرات المكانية -سواء نظرنا إليها كمتغيرات مستقلة أو تابعة- عناصر أساسية لا يمكن إغفالها في الدارسة السوسيولوجية للمجتمع المحلي، وإن الاهتمام والتركيز على هذه المتغيرات كان سبباً في تطوير أحد المداخل الكبرى في دراسة المجتمع هو ما يعرف باسم المدخل الإيكولوجي، ومن علمائه المعاصرين آموس هاولي إذ يعرف المجتمع المحلي بأنه "تلك الرقعة المكانية التي يرتبط بها وفيها السكان والتي من خلالها يتم تكامل الأفراد مع بعضهم البعض استجابة لمتطلباتها اليومية وخصائصها".
ب – المجتمع المحلي كوحدة للتنظيم الاجتماعي:
هناك ثلاثة مداخل:
1 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كجماعة اجتماعية.
2 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كنسق اجتماعي.
3 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كشبكة أو نسيج للتفاعل الاجتماعي.
يرجع تصور المجتمع المحلي كشكل من أشكال الجماعات الاجتماعية إلى هيللر حيث ذهب إلى أن للجماعة الاجتماعية عدداً من الخصائص الأساسية التي تعد من أهم مقومات بناء المجتمع المحلي، وهي احتوائها على تجمعات الأفراد وتحديدها لبناء الدور والمكانة وشمولها على مجموعة من المعايير التي يلتزم بها الأعضاء.
ويعد مدخل النسق الاجتماعي لدراسة المجتمع المحلي ترجمة معدلة لمدخل الجماعة الاجتماعية فالنسق الاجتماعي شأنه شأن الجماعة الاجتماعية يشتمل على أعضاء وبناء معياري ومحددات للدور والمكانة ومقاييس أو محكات للعضوية، ولو أن هذه المقاييس تأخذ في مدخل النسق الاجتماعي حدوداً اجتماعية ونفسية ومكانية في نفس الوقت ويعتبر رونالد وارن أحد مؤيدي هذا المدخل حيث يتصور المجتمع المحلي على أنه "نسق كلي يتكون من أنساق اجتماعية فرعية أصغر تقوم بدورها بعدد من الوظائف ذات الملائمة المكانية المتخصصة كالضبط والمشاركة والدعم والإنتاج والتوزيع والاستهلاك.. الخ"، ووفقاً لهذا المدخل يعتبر المجتمع المحلي الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي.
ويلتقي المدخل التفاعلي مع مدخل النسق الاجتماعي في نقطة هامة هي أن التفاعل لا يتم بين أفراد فحسب، بل يقع بين الجماعات والنظام والمؤسسات أيضاً، ولعل من أهم مشكلات هذا المدخل أن الظروف المحيطة بالمجتمعات المحلية في الوقت الراهن لا تتفق تماماً مع التعريفات التي حددت لمفهوم التفاعل من قبل الغالبية العظمى من علماء الاجتماع، فالتفاعل هو علاقة المواجهة المباشرة بين شخصين أو أكثر بحيث يتعين على كل فرد أن يضع الآخرين في اعتباره وتقديره عند قيامه بفعله، غير أن شمول أو احتواء كل أعضاء المجتمع في شبكة التفاعل على هذا النحو أمر يندر أن يتحقق إلا في أبسط المجتمعات المحلية وأصغرها حجماً خاصة وأن كبر الحجم وزيادة التعقيد وتنوع المصالح والاهتمامات قد تحول دون حدوث التفاعل على نحو مباشر وشمولي، ويميل بعض العلماء إلى الجمع بين مدخل الأنساق والمدخل التفاعلي، بحيث لا يقتصر تحليلهم إلى وحدات أو أنساق فرعية متفاعلة داخل المجتمع المحلي، ويشير رونالد وارن إلى محاور أفقية ورأسية للتفاعل أما المحور الأفقي فيتضمن علاقة الفرد أو الجماعة بالجماعة داخل مكان أو إقليم محدد، بينما يتضمن المحور الرأسي علاقة الفرد بالجماعات المحلية أو الأنساق الفرعية، أو علاقة الوحدات والجماعات المحلية بوحدات أو جماعات إقليمية أو قومية أكثر شمولاً، وباختصار يوفر هذا المدخل أداة تصورية أكثر ملائمة لوصف تفسير العلاقات المتداخلة بين مختلف الوحدات التي يتركب منها المجتمع المحلي.
الفصل الثاني
المجتمع الحضري كنموذج متميز للمجتمع المحلي مدخل نظري
1 – المجتمع المحلي الحضري بين ثنائية ومتصل: نماذج تصورية:
تعد محاولة تنميط المجتمعات المحلية وتحديد الخصائص المميزة لكل نمط محاولة قديمة بدأها الحاكم الصيني كونفوشيوس وفلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ومفكرو العصور الوسطى كالقديس أوغسطين وابن خلدون، وقد استمرت هذه المحاولة في علم الاجتماع ظهر ذلك واضحاً في أعمال كل من تونييز وبيكر ودوركايم وسبنسر وفيبر، ولقد كان من أهم الأفكار التي ارتبطت بهذه المحاولات فكرة "النموذج المثالي" و "النمط التركيبي" للمجتمع المحلي والتي كانت تمثل حجر الزاوية في "نظريات التعارض" التي اشتهرت بثنائيتها الريفية الحضرية، وفكرة "المتصل الريفي الحضري" كأداة تصورية متطورة لمعالجة المجتمع الحضري الحديث.
المقصود بالنموذج المثالي: تلك الصياغة التصورية أو البناء العقلي لصيغة معينة تشمل عناصر مميزة لفئة محددة من الظواهر تستخدم في التحليل الاجتماعي وتعتمد العناصر التي يتم تجريدها في هذا الصدد على ملاحظات مستقاة من الظواهر الملموسة التي أمكن دراستها، ومن خصائص هذا البناء النظري أنه لا يكون مطابقاً تماماً لأية ملاحظة إمبريقية مفردة ويرجع استخدام الفكرة إلى ماكس فيبر الذي طور "النموذج المثالي" كمنهج أو أسلوب يستخدمان في الوصف والمقارنة واختبار الفروض المتصلة بالواقع الإمبريقي، ومن أمثل الأنماط أو النماذج المثالية نجد "المنظمة الدينية" و "الإنسان الاقتصادي" و "الإنسان الهامشي" و "المجتمع المحلي" و "المجتمع المعقد" كانت كلها أنماطاً قابلة للتجريب والاختبار عند ماكس فيبر، ولم تكن بحالة من الأحوال صوراً واقعية أو تعبيراً عن الحقيقة، والنموذج المثالي ليس مثالياً بالمعنى الأخلاقي، كما أنه لا يعبر عن "المتوسط" بالمعنى الإحصائي، بل هو مثالي بالمعنى المنطقي، أي كبناء عقلي افتراضي نستطيع من خلاله تنظيم الواقع عن طريق عزل أو إبراز عناصر الظواهر الاجتماعية ووضعها داخل نسق متسق ومنظم للعلاقات.
ويقوم النموذج المثالي بوظيفتين أساسيتين:
الأولى: كحالة أو نموذج محدد يمكن مقابلة الظواهر الملموسة بها، مما يعين على التصنيف والمقارنة.
الثانية: المعاونة في تطوير تعليمات نموذجية تشكل أساس التفسير السببي للأحداث التاريخية.
النمط التركبي: هذا المصطلح أدخله هوارد بيكر كصياغة بديلة للنموذج المثالي ويتمثل الاختلاف بينهما في أن النموذج المثالي صيغة تصورية تسبق البحث، بينما يعتبر النمط التركيبي نتيجة للبحث ذاته، لذلك فإن التركيب يجب أن تفهمه في ضوء مشكلة معينة وأن يصوب نحو فرض واضح، ويفيد النمط التركيبي في أنه يوفر للباحث وسائل لترتيب البيانات كما يسهل عملية التعميم والمقارنة، ولا يعتبر النمط التركيبي وصفاً حرفياً لنسق الظواهر التي يدركها الباحث فهو مجرد نموذج مبسط للحقيقة والواقع.
كما أشار ماكيني إلى أن النمط التركيبي أداة يستخدمها الباحث لاستخلاص ما هو لازم من تعليمات عن المجتمعات المحلية إذ على الرغم من أن لكل مجتمع خصائصه الفردية إلا أن الباحث يستطيع باستخدام هذه الأداة التصورية أن يتجاهل هذه الخصائص الفريدة مركزاً فقط على الخصائص العامة والمشتركة بين المجتمعات التي تندرج تحت نمط واحد بعينه، كما أن الباحث يستطيع في نفس الوقت أن يجري المقارنات الهامة بين أنماط المجتمعات بعضها البعض، إلى جانب أن يصبح بمقدوره أن يكشف عن معدلات التغير التي تطرأ على المجتمع حال انتقاله من نمط إلى آخر، وهذا ما طبقته حرفياً نظريات التعارض باستخدامها لتلك الثنائية المعرفة بين النمط الريفي والنمط الحضري وأيضاً ما اتبعه أصحاب مدخل المتصل الريفي حضري في تحليلهم لخصائص المجتمع الحضري المعاصر.
وتستند فكرة "المتصل" إلى تصور أن أي خاصية للظاهر تمثل بدرجة معينة، وأن هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى الإمبريقي، ويشير "المتصل الريفي الحضري" بالتالي إلى وجود نوع من التدرج يقوم بين خصائص الريفية والحضرية أشبه بخط مستقيم، بحيث تتزايد درجات أي من هذه الخصائص أو تقل بنسب متفاوتة بالنسبة لواقع كل مجتمع على حدة، ولذلك يكون من الممكن أن نصنف المجتمعات المحلية وفقاً لوقوع خصائصها على نقاط معينة على طول هذا المتصل، وتستند فكرة المتصل الريفي حضري على حقيقة أن الواقع الإمبريقي لمجتمعات اليوم لا يؤكد بالضرورة وجود نمط ريفي بحت أو حضري بحت للمجتمع المحلي، بل هناك نوعاً من التداخل بين خصائص النمطين.
إن جانباً لا يستهان به من التراث العلمي المرتبط بالمجتمع المحلي الحضري، قد استوعب عدداً من المحاولات التي بذلت لإيجاد أو تحديد بعض الأبعاد الأساسية للمقارنة، وبالتالي لإبراز التعارض بين نموذج المجتمع المحلي الحضري بنموذج آخر مقابل له، وقد عرفت هذه المحاولات باسم نظريات التعارض، تصورت ثنائية لنموذجين متعارضين للمجتمع المحلي كان النموذج الحضري أحد قطبيها، وبطبيعة الحال استندت هذه المحاولات على أفكار "النموذج المثالي" و "النمط التركيبي" و "المتصل الريفي حضري" في إجرائها لهذه المقارنة ويكفي أن نستعرض هنا محالة أو محاولتين بارزتين كمثال يوضح كيف استخدمت هذه الأفكار كأدوات تصورية لتحليل ودراسة المجتمع الحضري، ولتوضيح ما ترتب على ذلك من نتائج نظرية ومنهجية لمعالجة الموضوع.
أ – فيرديناند تونييز، والنموذج المثالي للمجتمع:
يعد فيرديناند تونييز واحداً من رواد "حركة التنميط" في علم الاجتماع، فقد كان لمؤلفه المشهور المجتمع المحلي والمجتمع أثره الواضح في أعمال كل من هوارد بيكر ودور كايم وردفيليد، وغيرهم ممن استطاعوا تطوير فكرة "النمط التركيبي" كأداة تصورية على درجة عالية من الكفاءة لتحليل الأنساق الاجتماعية.
ترتكز نظرية تونييز على افتراض أساسي مؤداه أن العلاقات الاجتماعية أمر يرتبط بالإرادة الإنسانية، بمعنى أنها توجد فقط بفضل إرادة الأفراد أن توجد، ومع ذلك تختلف دوافع أو أسباب الارتباط بالآخرين اختلافاً كبيراً من فرد لفرد، ومن موقف لآخر، ففي بعض الأحيان يرتبط الأفراد بعضهم مع البعض على أساس من إرادتهم "الطبيعية" أو الأساسية، فتكون العلاقات القادمة بينهم غاية أو هدفاً في ذاتها، وفي أحيان أخرى يرتبط الأفراد مع بعضهم البعض لتحقيق هدف أو مجموعة أهداف معينة، ومن ثم يكون أساس العلاقة "إرادة عقلانية رشيدة"، ويكون نمط العلاقات بينهم وسائل لتحقيق أهداف معينة.
وللإرادة الطبيعية أبعاداً كثيرة، إلا أن "الفهم" و "الوحدة" هما أهم مقوماتها، ذلك لأن في أنساق العلاقة القائمة على مثل هذا النوع من الإرادة يتحقق لكل فرد درجة عالية من فهم الآخرين، بحيث تصبح رفاهية ورعاية الغير شغله الشاغل، كما يتحقق قدراً كبيراً من وحدة الأهداف والقيم والمعتقدات، تلك الوحدة التي ترتكز على المشاركة في نفس التقاليد والتجارب والخبرات، ومن ثم تصبح العلاقات المنبثقة عن الإرادة الطبيعية هدفاً في ذاتها وليست وسائل لأهداف أخرى، وتعتبر الأسرة والجماعات القروية وجماعات أصحاب الحرف العامة أمثلة واقعية لأنساق العلاقة القائمة على الإرادة الطبيعية.
وفي الطرف المقابل، تقرر الإرادة العقلانية أهمية كبرى لوسائل تحقيق الغايات المرغوبة ولذلك تجد الفرد في نسق العلاقات القائمة على مثل هذا النوع من الإرادة يدفع وباستمرار نحو مصالحه الخاصة ورفاهيته، تراه يوطد علاقاته بالآخرين ويؤسس أفعاله وسلوكياته على نوع من "التحكمية" و "العمدية" وفي ذلك ما يشير إلى قدرة الفرد على الاختيار بين الوسائل والغايات بعناية وحكمة وعقلانية، وتعتبر "الإرادة العقلانية"، هي النسق المسيطر على العلاقات التي تقوم بين رجال الأعمال وكبار السن والعلماء والطبقات ذات المستويات التعليمية العليا، كما أنها تشير في الوقت نفسه إلى نمط التفاعل الذي يسيطر على حياة ساكني الحضر.
ومن هذا المنطق تصور تونييز نسقين من العلاقات الاجتماعية يقوم كل منهما على أساس مختلف من الإرادة:النسق الأول:"المجتمع المحلي" النسق المقابل: "المجتمع أو الرابطة"، ويختص كل من النسقين بعدد من السمات المميزة التي تقف على طرفي نقيض من بعضها فالاعتماد والعون والدعم المتبادل إلى جانب الارتباط العاطفي الوثيق والمتبادل، والالتزامات الشاملة، ونسق السلطة الذي يرتكز على عوامل السن والحكمة والقوة الخيرة، هي أهم ما يميز نسق العلاقات الاجتماعية في "المجتمع المحلي" وفي هذا الموقف يربط بين الأفراد التقاليد المقدسة وروح الأخوة التي تنشأ عن روابط الدم والموقع المشترك إلى جانب روابط العقل وفي هذا الصدد يذكر تونييز:
"يشير المجتمع المحلي الذي يقوم على روابط الدم إلى وحدة "الوجود أو الكيان" ويتميز في الوقت نفسه عن المجتمع المحلي الذي يقوم على أساس الموقع المشترك، وعن المجتمع المحلي الذي يقوم على أساس روابط العقل، أو الذي يشير إلى التعاون والعمل المنسق لإنجاز أهداف مشتركة، إن مجتمع الموقع المشترك يمكن تصوره كمجتمع للحياة الفيزيقية، كما يعبر مجتمع الروابط العقلية عن مجتمع الحياة العقلية، وترتبط الأشكال الثلاثة فيما بينها لتقدم أصدق وأعلى شكل من أشكال المجتمعات البشرية".
وعلى عكس ما هو قائم في المجتمع المحلي فإن أفراد المجتمع يبدون أكثر انعزالاً لتصل "الفردية" إلى أقصى درجاتها، ولذلك فإنه من النادر أن توجه مصلحة "المجتمع" تصرفات الفرد وأفعاله، بل توزن كل الأفعال بميزان ما تعود به من منفعة للفرد، ولهذا كانت كل العلاقات التي تقوم بين الأفراد ذات طابع تعاقدي وانقسامي تشتمل على تبادل السلع والخدمات والأموال وسيادة قانون الالتزام، ومن المتصور في نظر تونييز أن يتميز "المجتمع" بحالة مستمرة ومتصلة من التوتر، ولا يمكن تجنب الصراع الصريح بين الأفراد إلا عن طريق العرف والتشريع والرأي العام.
يبدو أن تونييز كان مهتماً بصفة أساسية بتحليل العلاقات الاجتماعية، ومع ذلك يبدو واضحاً أيضاً أن لمفهومي "المجتمع المحلي" و "المجتمع" إمكانية ملحوظة للتطبيق على دراسة الأشكال المختلفة للتنظيم الاجتماعي، ونجد في الأسرة وما ينشأ بداخلها من علاقات بين أعضائها أبرز الأمثلة وأوضحها على علاقات "المجتمع المحلي" بالمعنى الذي حدده تونييز إن هذا النوع من العلاقات الأسرية يستند في الأساس على العواطف والفهم –أي على الإرادة الطبيعية- وتنأى تماماً عن كل رغبة في تحقيق هدف معين أو مصلحة خاصة، كذلك تعبر "المجاورات" والقرى والمدن الصغرى أمثلة واضحة لعلاقات المجتمع المحلي، وتمثل المدن الصغرى بصفة خاصة أكثر أشكال المجتمع المحلي تعقيداً أنها إلى جانب القرية تظل محتفظة ببعض الخصائص المميزة للأسرة ولو أن القرية تتمثل أكثر هذه الخصائص، بينما تبقى المدينة الصغيرة على عدد أقل منها –أي من هذه الخصائص- وفي الطرف المقابل تمثل المدن الكبرى والعواصم القومية والمتروبوليس ما أسماه تونييز "بالمجتمع " أو "الرابطة" ففي مثل هذه التنظيمات يكون للنقود ورأس المال أهمية مطلقة، حيث يكون التأكيد واضحاً على إنتاج السلع والأرباح والمعرفة العلمية التي تستخدم لتحقيق أعلى مستويات الكفاءة والعقلانية، حيث تكون لعقلية الرأسمالي أو رجل الأعمال الغلبة والسيادة، بالإضافة إلى أن تونييز قد تصور أن يرتبط نموذجا التنظيم "المجتمع المحلي و المجتمع أو الرابطة" بنموذجين مختلفين للقانون، حيث يستند الضبط الاجتماعي في تنظيم "المجتمع المحلي" على الطرائق الشعبية والأعراف والعادة التي تختص في نظر الأفراد بصدق أبدي سرمدي، ولا يمكن أن تفقد ما لها من قوة رابطة،إن قانون المجتمع المحلي بهذا المعنى يتمثل في ضبط الكل أو المجموع وسيطرته على أجزائه، فمصالح الأسرة أو القرية أو المدينة الصغيرة تحتل مركز الصدارة والغلبة على كل مصلحة فردية، أما قانون "المجتمع" أو "الرابطة" فيتميز بما له من طابع علمي عقلاني ويبتعد كل البعد عن الغيبيات والعقيدة والتقليد،فهو يمثل اتفاقاً عقلانياً رشيداً بين الأفراد كما أن وظيفته الأساسية تدعيم الحقوق والواجبات والالتزامات، أو بعبارة أخرى هو –أي قانون المجتمع أو الرابطة- شكل من أشكال العقد، فلا يتمسك به الأفراد ولا يتمثلون له إلا لأن نفعهم ومصلحتهم تحتمان هذا التمسك والامتثال.
ملاحظات على موقف تونييز:
1 – من النادر أن يتحقق تصور المجتمع أو الرابطة، بالمعنى الذي حدده لكل منهما في عالم الواقع، وإنما كانا نماذج مثالية تستخدم فقط كمستويات أو أدوات تصورية تصنف من خلالها الظواهر الامبيريقية.
2 – قصد تونييز أن يكون إطاره التصوري السابق ذو طابع دينامي، أي أن يقدم من خلال هذا الإطار نظرية عن التغيير الاجتماعي والثقافي، لقد أشار أكثر من مرة إلى أنه "بمرور الوقت" تحل علاقات المجتمع أو الرابطة محل علاقات المجتمع المحلي، وأن الإرادة الطبيعية ستفسح المجال شيئاً فشيئاً للإرادة العقلانية" وبعبارة أخرى قدم تونييز بتصوره السابق تفسيراً اقتصادياً للتغيير الاجتماعي والثقافي حيث يؤكد أن ظهور الرأسمالية وما صاحبها من رغبة جامحة وحب لجمع الأموال وزيادة الأرباح كان عاملاً أساسياً لأفول المجتمع المحلي وما ارتبط به من قيم وإيديولوجيات، وبالتالي لسيطرة القيم المرتبطة بالتجارة والرأسمالية ولذلك سيصبح التجار والرأسماليون "السادة الطبيعيين في المجتمع" أولئك الذين دفعوا وباستمرار لهذا التحول الخطير من "المجتمع المحلي" إلى مجتمع "الرابطة".
ب – سوروكين-زيمرمان والثنائية الريفية الحضرية:
تتلخص محاولتهما في نظرتها إلى "المهنة" على أنها تمثل المحك الأول والأساسي لما بين نموذجي المجتمع من فروق واختلافات إذ يرتبط هذا الاختلاف الأساسي بسلسلة أخرى من الاختلافات أو الخصائص المميزة، وتمتد هذه الخصائص إلى جانب اختلاف المهنة على مدى سبعة أبعاد للمقارنة هي:
1 – المهنة:
تتمثل الخاصية الأولى والأساسية للمجتمع الحضري في أنه جمع من أفراد يشتغلون أساساً بأعمال التجارة والصناعة والحرف والإدارة وغير ذلك من الأعمال غير الزراعية، وفي مقابل ذلك يغلب العمل الزراعي على المجتمع الريفي، الذي يتركب من جموع من الفلاحين (الزراعيين) وأسرهم، إلى جانب عدد قليل جداً من المشتغلين بالأنشطة غير الزراعية، ويترتب على هذا الاختلاف فروق عديدة بين المجتمعين من أهمها ما نجم عن العمل الزراعي من ارتباط شديد بالأرض والجماعات القرابية، ابتعاد واضح عن التخصص والتقسيم الدقيق للعمل، ونظرة ثابتة لا تتغير إلى الموقف الكلي للحياة يتوارثها الأفراد جيلاً بعد جيل، ثم أخيراً عدم وجود فواصل دقيقة بين حياة العمل وحياة الفرد أو الأسرة، وعلى العكس من ذلك، نجد مجموعة من النتائج المعاكسة ترتبت على طبيعة أنساق المهنة في المجتمع الحضري من أهمها: انفصال جماعات المهنة عن الجماعات القرابية، وانفتاح الأفراد على "عوالم" مهنية مختلفة ومتعددة، والتخصص الدقيق والمتقن في مجال العمل، وظهور معايير وأبعاد جديدة لتحديد المكانة المهنية للفرد، ومقاييس مختلفة للنجاح المهني كالتحصيل الدراسي المتخصص والخبرة الفنية ومستويات الكفاءة وغير ذلك.
2 – البيئة:
إن اختلاف نوعية العلاقات بين كل من المجتمع الريفي والحضري بالبيئة الطبيعية، يمثل وجهاً آخر من أوجه الاختلاف بين نموذج المجتمع: فالمجتمع الريفي بطبيعته نظراً لسيطرة العمل الزراعي مجتمع أكثر ما يكون ارتباطاً أو خضوعاً للبيئة الطبيعية، ومن ثم تبدو علاقته بها وثيقة ومباشرة، كما أن غلبة البيئة الطبيعية وسيطرتها على البيئة الاجتماعية والإنسانية هي أهم ما يميز نموذج المجتمع الريفي وعلى العكس من ذلك يعيش المجتمع الحضري حياته في عزلة نسبية عن البيئة الطبيعية الأمر الذي يجعل للبيئة الاجتماعية والبشرية غلبة وسيطرة واضحة.
ويضيف بيترمان إلى ذلك قوله أن هذا الاختلاف قد انعكس وبوضوح على نوعية المشكلات البيئوية لكل من المجتمع الريفي والمجتمع الحضري، وعلى التصورات المقترحة لمواجهتها.
3 – حجم المجتمع:
على الرغم مما يثيره استخدام متغير "الحجم" كمحك للتمييز بين المجتمع الريفي والحضري من صعوبات منهجية ترتبط بمجال تطبيق هذا المتغير (هل يطبق على مساحة الأرض التي يشغلها المجتمع؛ أم على جموع الأفراد التي يتركب منها) إلا أن الحجم أعتبر عند سوروكين وزيمرمان، وجهاً من وجوه الاختلاف والمقارنة بين نموذجي المجتمع، حيث إن المجتمع المحلي الريفي صغير بطبيعته وأن ثمة علاقة عكسية بين الريفية والعمل الزراعي وبين حجم المجتمع، وعلى الطرف المقابل يتميز النموذج الحضري من المجتمع بكبر حجمه النسبي عن النموذج الريفي وبالتالي فإن ثمة علاقة طردية بين الحضرية واتساع الحجم.
4 – كثافة السكان:
نموذج المجتمع المحلي الريفي يتميز بانخفاض الكثافة السكانية، لذلك ترتبط الريفية بوجه عام بعلاقة عكسية مع الكثافة، على العكس من نموذج المجتمع الحضري التي ترتفع فيه معدلات الكثافة السكانية كسمة مميزة، وترتبط فيه الخصائص الحضرية بعلاقة طردية مع ارتفاع هذا المعدل.
5 – التجانس والتغاير:
ترتبط متغيرات الحجم والكثافة ارتباطاً علياً بمتغيري التجانس والتغاير كوجه آخر من وجوه المقارنة بين المجتمع المحلي الريفي والحضري، وفيما يتعلق بالسمات النفسية والاجتماعية والعرقية يبدو سكان المجتمع الريفي أكثر تجانساً إذا قورنوا بسكان المجتمع الحضري، وأنه نتيجة لذلك يرتبط التجانس ارتباطاً طردياً بالريفية وعكسياً بالحضرية، كما يرتبط التغاير بطريقة عكسية بالأولى وطردية بالأخيرة.
6 – التمايز الاجتماعي والتدرج الطبقي:
تختلف انساق المكانة والتمايز والتدرج الطبقي اختلافاً بيناً في نموذجي المجتمع المحلي والريفي والحضري، سواء من حيث عوامل كسب المكانة الاجتماعية، أو أسس التمايز والتدرج الطبقي أو مظاهره، وتأتي هذه الفروق نتيجة لازمة لاختلاف مقومات التركيب المهني في كل نموذج، ففي المجتمع الحضري ترتكز أنساق التدرج الطبقي على العلاقات الاجتماعية الثانوية، كما لا تعمل بنفس الطريقة التي تقوم بها في المجتمع الريفي، فمن الملاحظ أن التمايز والتدرج الطبقي في مجتمع القرية مسائل شخصية بحتة، لأنه من السهل على الفرد في مثل هذا المجتمع أن يعرف وأن يمارس مهنة الآخرين، ومن ثم لا يكون الموقف بحاجة إلى تمايز بين الأفراد على أساس الطبقة، هذا على العكس من المجتمع الحضري، الذي تتدرج فيه المهن والأعمال تدرجاً هيراركياً، وحيث تؤسس المكانة الاجتماعية والطبقية للفرد وتصنف في حدود ما استطاع أن يحقق لنفسه من كسب مادي بعيداً عن انتمائه لجماعة قرابية معينة كعامل من عوامل كسب المكانة، بالإضافة إلى أنه مع زيادة تقسيم العمل وتخصصه تعقداً في المجتمع الحضري، تتضح وباستمرار أهمية الدور المهني للفرد كعامل من أهم عوامل كسب المكانة في المجتمع، كما أن في مجتمع مثل هذا بلغت فيه التناقضات ذروتها في مجال المهنة والدخل ومستويات المعيشة والتعليم..الخ، لا يتوقع أن تقوم التمايزات الطبقية على أساس من علاقات واحتكاكات أولية بين الأفراد، بل تصبح رموز مثل المستوى المهني ومستوى الدخل والتعليم والزي..الخ، مظاهر أساسية وهامة للتمايز الطبقي بين أفراد المجتمع.
7 – الحراك والتنقل:
إن الحراك بأشكاله المكانية والمهنية والاجتماعية أقل كثافة في المجتمع الريفي عنه في المجتمع الحضري وأن معدلاته ترتبط ارتباطاً طردياً مع زيادة الحضرية، يستثنى من ذلك فقط ما يتميز به المجتمع الريفي من ارتفاع في معدلات التنقل الفيزيقي –الهجرة- من جوانب الريف إلى المدينة وفيما عدا ذلك تبقى أشكال الحراك الأخرى –المهني والاجتماعي- في المجتمع الريفي أقل وضوحاً وكثافة إذا قورنت بمعدلاتها في المجتمع الحضري.
8 – أنساق التفاعل:
أهم ما يميز أنساق التفاعل في المجتمع الريفي أن "نطاق" التفاعل أو مجاله بالنسبة للفرد أو الجماعة يكون أكثر ضيقاً؛ وأن النتيجة التي تترتب على الحجم المحدود للمجتمع، وبالتالي لنطاق التفاعل بين أفراده وجماعاته، تتمثل في غلبة العلاقات الأولية على أنساق التفاعل، حيث تبرز العلاقات الشخصية والدائمة والشمولية بين الأفراد، بتفاعل سكان هذا المجتمع مع بضعهم البعض كأشخاص آدميون، على العكس من ذلك كان اتساع وكبر حجم المجتمع الحضري وارتفاع معدلات التغير بين سكانه سبباً مباشراً في اتساع نطاق التفاعل بالنسبة للفرد والجماعة وبالتالي تغلب العلاقات غير الشخصية والمؤقتة أو العرضية، كما تبدو هذه العلاقات بدورها ذات طابع سطحي رسمي انقسامي، وباختصار يتفاعل سكان هذا النموذج من المجتمع المحلي "كأرقام" أو "عناوين" وليسوا كأشخاص.
ج – ريدفيلد ومتصل الفولك – حضري:
يتفق تصور روبرت ردفيليد "لمتصل" الفولك حضري في إطاره التصوري العام مع تصور تونييز للنموذج المثالي للمجتمع، وتصور سوروكين وزيمرمان لثنائية الريفي-حضري، ومع ذلك فإن هناك بعض نقاط للاختلاف أهمها: أن ردفيليد لم يكن ليهتم بوضع نماذج مثالية متعارضة للمجتمع المحلي فحسب بل حاول أن يتفهم التغيرات التي قد تحدث عندما يتحول المجتمع من حالة "الفولك" إلى حالة "الحضري".
ويتوصل ردفيليد إلى عشرة متغيرات أساسية يمكن من خلالها ترتيب المجتمعات كما لو كانت تمثل تزايداً أو نقصاناً تدريجياً ومتعاقباً في كل منها، لذلك فإن كل مجتمع من المجتمعات يكشف عن عدد من الخصائص المميزة بالمقارنة بغيره من المجتمعات الأخرى على النحو التالي:
1 – أنه أقل –أو أكثر- ارتباطاً بالعالم الخارجي.
2 - أنه أقل –أو أكثر- تغايراً.
3 - أنه أقل –أو أكثر- تقسيماً للعمل.
4 - أنه أقل –أو أكثر- تطويراً لاقتصاد السوق والمال.
5 - أنه أقل –أو أكثر- احتواءً على تخصصات مهنية أكثر علمانية.
6 - أنه أقل –أو أكثر- بعداً عن الاعتماد على الروابط والنظم القرابية.
7 - أنه أقل –أو أكثر- اعتماداً على مؤسسات ذات طابع غير شخصي للضبط.
8 - أنه أقل –أو أكثر- تمسكاً بالعقيدة أو بالأصل.
9 - أنه أقل –أو أكثر- بعداً عن التمسك بالعادات والأعراف التقليدية.
10 - أنه أقل –أو أكثر- تسامحاً وتأكيداً للحرية الفردية في الفعل أو الاختيار.
وهكذا تقيس هذه المتغيرات السابقة درجة تحضر مجتمع الفولك (حيث يشير تناقض درجة المتغير إلى القرب من النموذج الفولكي، وتشير زيادته إلى الاقتراب من النموذج الحضري) كما يتيح الاختلاف النسبي لمدى تمثل كل متغير في أي من المجتمعات إمكانية وضعه على إحدى نقاط المتصل الريفي الحضري.
وفي محاولته تحليل المتغيرات التي يمر بها المجتمع حال انتقاله من نموذج الفولك إلى النموذج الحضري، وحد ردفيليد هذه المتغيرات (أو الخصائص) العشرة في ثلاث مقومات أساسية للتغير أو التحول الحضري هي: زيادة التفكك الثقافي، تزايد العلمانية، زيادة انتشار الفردية، ولذلك كانت هذه الخصائص أهم ما يتسم به المجتمع الحضري في نظره، وجاء تبريره لذلك على النحو التالي:
أ – تزيد الحضرية من التفكك الثقافي للمجتمع، ويعني بذلك أن القواعد والمعايير التي كانت توجه السلوك والفعل الاجتماعي في مجتمع الفولك غدت أكثر تعقيداً وتعدداً في المجتمع الحضري، يتخذ التفكك الثقافي المصاحب للحضرية أربعة مظاهر أساسية هي: أولاً، أن تفقد الثقافة وحدتها التقليدية، ثانياً، اتساع نطاق البدائل الثقافية أمام الفرد مما يؤدي إلى تميع الأنماط السلوكية وصعوبة تحديدها، إن مجتمع المدينة يتيح فرصاً أرحب للاختيار، الأمر الذي يترتب عليه ظهور مشاكل اللا معيارية أو فقدان المعايير، ثالثاً، فقدان التكامل والارتباط المتبادل بين مقومات الثقافة ففي نموذج الفولك تتوحد كل عناصر الثقافة المحلية وتترابط فيما بينها، حتى يصعب على المرء فهم المعتقدات والقيم والطقوس المرتبطة بالمرض مثلاً دون استيعاب وفهم ما يرتبط بالعمل الزراعي والتفكير الغيبي من قيم ومعتقدات، رابعاً،الصراع الواضح أو عدم الاتساق بين المستويات الثقافية، ففي مجتمع الفولك تنسجم السمات والمركبات الثقافية مع بعضها البعض، على العكس من المجتمع الحضري الذي يواجه فيه الفرد توقعات سلوكية متعارضة وغير متسقة.
ب – تزيد الحضرية من اتجاه المجتمع نحو العلمانية والدنيوية، ففي مجتمع الفولك تجد أن كل الأنشطة التي يقوم بها الأفراد تصطبغ بالطابع الديني والعاطفي، بينما ترتبط النشاطات الحضرية وتوجه باعتبارات وأحكام عقلانية براجماتية، ويترتب على ذلك أنه مع زيادة الحضرية يتحرر الأفراد من الضوابط التقليدية وتتاح لهم فرصة صنع القرار في ضوء ضوابط علمانية رشيدة، دون ما ارتباط بإرادة المجتمع التي تجسدها المعتقدات الدينية المقدسة والتقليدية.
ج – تزيد الحضرية من انتشار الفردية وزيادة سيطرتها على موجهات السلوك الإنساني، ويعني ذلك أن الفرد وليس الجماعة هو المسئول عن عملية صنع القرار وعن نتائج ما يقوم به من أفعال، كما يعني أيضاً اختفاء الوظائف الجمعية وإحلالها بنشاطات فردية بحتة تهدف لتحقيق مصالح الفرد في المقام الأول، فإذا كان سكان مجتمع الفولك ينفقون المزيد من الوقت والجهد لأداء أعمال عامة جمعية دون مقابل نجد سكان المجتمع الحضري يعتبرون ذلك نوعاً من العبث والسلوك غير الرشيد، وقد تمثلت الفردية جوانب متعددة من حياة المجتمع الحضري، كان من أهمها إحلال الأسرة النواة محل العائلة الممتدة، وضعف سلطة الدين والمعتقدات وتحرر الأفراد من الروابط التقليدية بجماعات قرابية أو مكانية.
انتقادات أوسكار لأفكار ردفيليد:
أ – تتضمن فكرة المتصل نظرية للتغير مفادها أن الحضرية تطيح وبالضرورة بمجتمع الفولك، غير أنه من الخطأ أن نرجع كل التغيرات التي تطرأ على مجتمعات الفولك إلى عامل واحد بعينه هو التحضر.
ب – إن الثقافات دائماً في حالة من التغير المستمر، ومع ذلك ليس شرطاً أن تكون هذه التغيرات ذات طابع أو اتجاه ثوري للانتقال من مجتمع الفولك إلى مجتمع حضري.
ج – إن النموذج الذي حدده ردفيليد لم يبرز الاختلافات والتمايزات الواسعة المدى بين مجتمعات الفولك ذاتها، كذلك لقد ركز متصل ردفيليد على الجوانب الرسمية للمجتمع، وهذه لا تمثل أهمية كبيرة في التحليل الثقافي للمجتمع.
د – إن كثيراً من نتائج التحضر التي ساقها ردفيليد كالتفكك الثقافي والاتجاه نحو العلمانية والفردية تفتقر لشواهد امبريقية مؤكدة إذ لا يوجد أي دليل على حدوث تفكك ثقافي في مجتمع الفولك.
وهناك نقطة ضعف خطيرة في فكرة ريدفيليد وهي فشلها في تحديد العناصر الرئيسية للمجتمع الحضري في ذاته، إذ لا يكفي أبداً أن نقوم بتحليل هذا النموذج من المجتمع باعتباره "نموذجاً مناقضاً" لمجتمع الفولك، بعبارة أخرى لم يولي ريدفيليد اهتماماً خاصاً بتحديد خصائص الحضرية والمجتمع الحضري في ذاته.
2 – المجتمع المحلي الحضري في حدود تصور استنباطي:
سبب تسميتها بذلك أن أصحابها كانوا يبدؤون تصورهم للمجتمع الحضري والمدينة بصفة خاصة ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات في غير حاجة إلى برهان ثم يشرعون بعد ذلك في استنباط قضايا أخرى غيرها، تمثل خصائص مميزة للحياة الحضرية.
أ – لويس ويرث والحضرية كطريقة للحياة:
قدم مقالة هامة يمكن تلخيصها في تعريف وسؤال وإجابات متتالية:
تعريف المدينة: "أنها موقع دائم يتميز بكبر الحجم وبكثافة عالية نسبياً، وبدرجة ملحوظة من اللاتجانس بين سكانها"
السؤال: يدور حول الصور والأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية والتي قد تنجم عن الخصائص الأساسية المميزة للمجتمع الحضري (الحجم، والكثافة، واللاتجانس).
الإجابة: لخصت تصوره للمجتمع الحضري فكانت على النحو التالي:
افترض أن الحجم والكثافة والتغاير أو اللاتجانس، متغيرات أساسية أو مستقلة، أو خصائص مميزة للمجتمع الحضري، تسلم بدورها إلى عدد من القضايا أو الخصائص التي ترتبط بطبيعة الحياة الحضرية وشخصية ساكن الحضر.
وأنه كلما كبر حجم المجتمع الحضري (المدينة) اتسع نطاق "التنوع الفردي" وارتفع معدل التمايز الاجتماعي بين الأفراد الأمر الذي يؤدي إلى زيادة انتشار "العزل المكاني" للأفراد والجماعات على أساس السلالة أو المهنة أو المكانة، ويؤدي هذا العزل المكاني إلى إضعاف روابط الجيرة والعواطف التي تنشأ نتيجة المعيشة المشتركة ولأجيال متعاقبة تحت تقليد عام مشترك، كما أن ضعف هذه الروابط والعلاقات (الفولوكية) يفرض بدوره إحلال المنافسة وميكانيزمات الضبط الرسمي محل الروابط والعلاقات غير الرسمية في مجتمع الفولك.
ويستنبط ويرث مجموعة من القضايا استناداً على متغير "الحجم" مؤداها إن كبر الحجم وزيادة عدد السكان يحد من إمكانية أن يتعرف كل فرد على الآخرين معرفة شخصية وثيقة، ويترتب على ذلك انتشار علاقات اجتماعية ذات طابع انقسامي من خلالها يتعرف الحضري على عدد أقل من الأفراد وبدرجة أقل من المودة، إلى جانب سيطرة علاقات المنفعة، مما يؤدي بدوره إلى فقدان المعايير وافتقاد روح المشاركة والطواعية، وبطبيعة الحال يؤثر ذلك في النسق الاقتصادي والسياسي، حيث تؤدي انقسامية العلاقات الحضرية وتميزها بالطابع النفعي إلى التخصص الوظيفي للنشاط وتقسيم العمل واقتصاد السوق، كما تؤدي صعوبة الاتصال الشخصي والمباشر بين الإفراد إلى أن يوكل أمر الدفاع عن مصالح الأفراد إلى أجهزة متخصصة، ومن خلال عمليات الإنابة أو التفويض.
وبنفس الأسلوب عالج ويرث متغير "الكثافة" كخاصية أساسية ومميزة للمجتمع الحضري يترتب عليها خصائص أخرى، لقد تصور ويرث أن الكثافة تؤكد الآثار الاجتماعية والنفسية الناجمة عن الحجم، فهي تزيد من درجات التقارب الفيزيقي بين الأفراد في مقابل التباعد الاجتماعي، كما أنها تؤكد على الحاجة إلى التخصص والتمايز، وتكمن وراء كل حاجة إلى ضوابط رسمية لمواجهة كل احتمالات الفوضى والتفكك الناجمة عن زيادة أعداد السكان، ثم إنها "الكثافة" تزيد من العزل المكاني بمعنى انفصال الجماعات السكانية عن بعضها البعض في شكل مجاورات أو أحياء متجانسة نسبياً.
أما متغير "اللاتجانس" فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغيري "الحجم" و "الكثافة" فهو استجابة مباشرة لضرورة اقتصادية (تقسيم العمل) وأخرى اجتماعية تمثل الاختلافات والفروق المتوقع وجودها في جماعات كبيرة وكثيفة من السكان، ولكن اللاتجانس (التغاير) يؤدي بدوره إلى سلسلة من المصاحبات الاجتماعية أهمها تطوير نسق أكثر تعقيداً للتدرج الطبقي وزيادة معدلات الحراك بأشكاله الفيزيقية والاجتماعية، تطوير شخصية "علامية كوزموبوليتية" وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التغاير إلى نوع من الجمود والتقنين اللذان يسيطران على حياة المدنية الأمر الذي يؤدي بدوره إلى نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية وبأفكار وتصورات نمطية كما أن تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به من تفكك الشخصية وزيا
اسماء العلماء + اسئلة علم الاجتماع الحضري
العلماءكنجزلي ديفيد-----اخرج علم الاجتماع الحضري من اطاره التقليدي-ابو علم الاجتماع الحضري- درس الجوانب الديموغرافية للعملية الحضريةونادى بالمدخل الديموغرافيابن خلدون -----اول من لفت الانتباه للاختلاف بين سكان الريف والحضروفرق بين المجتمع الريفي والمجتمع الحضريجيوفاني بوتيرو------عالم ايطالي ساهم في تاسيس علم الاجتماع الحضري من خلال كتابة (عظمة المدن )1598تشالز بوث------دراسة بعنوان الحياه والعمل لسكان مدينة لندنلويس ويرث-------وضحبعض خصائص المجتمع الحضري في مقال شهير ( الحضرية كاسلوب حياة)هربرت سبنسر-ماكس فيبر –سوركين---------علماء اهتموا بدراسة المدنية منذ بداية القرن التاسع عشرحتى بداية القرن العشرينفيليب هومر –بيرت هزلتز----------دراسة الايكولوجيا الحضريةفرديناند تونييز--------في احد قطبيه المجتمع الريفي والقطب الآخر الحضريدور كايم----- مجتمع اول تسوده التضامن الآلي (المجتمع الريفي)-مجتمع ثاني يسوده تضامن عضوي ( المدينه)ماكس فيبر ------نموذج تقليدي ( ريفي )- نموذج عقلي ( حضري)سوروكين--------نموذج عائلي ( ريفي )- نموذج تعاقدي او قانوني ( حضري)هوارد بيكر ------ نموذج مقدس ( الريف) – نموذج علماني ( حضري )روبرت ردفيلد-----نموذج شعبي ( ريفي ) – نموذج متحضر ( حضري)هنري مين ----- المكانة الاجتماعية ( الريف) – التعاقد بين الافراد ( حضري )هربرت سبنسر ----- مجتمع بسيط –مجتمع معقد- مجتمع اكثر تعقيدا- مجتمع بالغ التعقيدسوروكين ,زيمرمان ------- استخدام المحكات المتعددةالخولي 1992------ لخص آراء العلماء في قضية الفروق الريفية الحضرية في ثلاث اتجاهاتشنور ------دراسات ميدانية 1966 في ولاية واشنطن كشفت الدراسة عن وجود فروق ريفية حضرية عند مقارنة البيانات الاحصائيةفوجيت 1963---- دراسه هدفها معرفة مدى التقارب بين المدينة والريف في المجتمع الامريكي
The City The City Robert E. Park and Ernest W. Burgess
The City
Introduction by Morris Janowitz
I. The City: Suggestions for the Investigation of Human Behavior in the Urban Environment
Robert E. Park
II. The Growth of the City: An Introduction to a Research Project
Ernest W. Burgess
III. The Ecological Approach to the Study of the Human Community
R. D. McKenzie
IV. The Natural History of the Newspaper
Robert E. Park
V. Community Organization and Juvenile Delinquency
Robert E. Park
VI. Community Organization and the Romantic Temper
Robert E. Park
VII. Magic, Mentality, and City Life
Robert E. Park
VIII. Can Neighborhood Work Have a Scientific Basis?
Ernest W. Burgess
IX. The Mind of the Hobo: Reflections upon the Relation Between Mentality and Locomotion
Robert E. Park
X. A Bibliography of the Urban Community
Louis Wirth
Indexes
I. The City: Suggestions for the Investigation of Human Behavior in the Urban Environment
Robert E. Park
II. The Growth of the City: An Introduction to a Research Project
Ernest W. Burgess
III. The Ecological Approach to the Study of the Human Community
R. D. McKenzie
IV. The Natural History of the Newspaper
Robert E. Park
V. Community Organization and Juvenile Delinquency
Robert E. Park
VI. Community Organization and the Romantic Temper
Robert E. Park
VII. Magic, Mentality, and City Life
Robert E. Park
VIII. Can Neighborhood Work Have a Scientific Basis?
Ernest W. Burgess
IX. The Mind of the Hobo: Reflections upon the Relation Between Mentality and Locomotion
Robert E. Park
X. A Bibliography of the Urban Community
Louis Wirth
Indexes
Sociology: Urban and Rural Sociology
دراسة المدينة الاسلامية في ضوء علم الاجتماع الحضري
ابراهيم الموسوي
مقدمة
لاشك ان العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانيّة لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم مذهل إلاّ بعد ما قامت بتطوير نظريات خاصة، ولم تحقق دقة القياس وموضوعية التفسير والتحليل والقدرة على الضبط والتنبؤ إلاّ بعد اعتمادها على اطار نظري ووضوح الاطار النظري لكل دراسة يُعد مطلباً ضرورياً لانجاحها وشرطا اساسيا لاكتسابها صفة العلمية والموضوعية.
وتختلف العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية في وضوح النظرية وصفة التراكمية، ففي العلوم الطبيعية تكون حدود التجربة واضحة والنظريات يستند بعضها على بعض تصحح وتوسع وتنقي النظريات القديمة، اما العلوم الاجتماعية فأول ما يواجه الباحث فيها ذلك التنوع والتباين بين ما يقدمه علماء الاجتماع من آراء وتعريفات وتفسيرات وما يتبنونه من مداخل وأطر تصورية وما يستخدمونه من اجراءات ووسائل منهجية حتى عندما يقبلون على دراسة نفس الحقيقة.
ان تعدد النظريات وتنوع ما ينطوي عليه كل منها من اتجاهات قد تخضع في اغلب الاحيان لتوجيهات ايديولوجية ثم تباين ما يرتبط بكل نظرية أو اتجاه من مفاهيم وتصورات وقضايا. كل ذلك يمثل عائقاً لمحاولة تصنيف النظريات السيولوجية أو لمقارنتها أو حتى لمجرد عرضها بشكل واضح. ذلك ان كل نظرية اجتماعية تقف نداً لنظرية اخرى وتكون مساوية لها ومعتمدة على منهاجية خاصة. فالنظريات الاجتماعية قاماتها متساوية ولا تستند احداها على الاخرى ولا تمت لها بصلة من قريب أو بعيد، فلكل نظرية منهج ومقدمات تصل إلى نتائج مغايرة لنتائج النظريات الاخرى. من هنا تبدو صعوبة التنظير في علم الاجتماع الحضري، والافتقاد إلى التكامل النظري في هذا الفرع من علم الاجتماع.
ان تعدد المداخل النظرية و المناهج المعرفية التي عالجت مسائل التحضر والحضرية وانتمائها في اغلب الاحيان إلى فروع معرفية اخرى تبتعد عن مجال علم الاجتماع كالجغرافية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة زاد من صعوبة التنظير أو تصنيف النظريات السيولوجية مما جعل البعض يعتقد ان علم الاجتماع الحضري المقارن لم يولد بعد أو ان الجانب النظري في هذه الدراسات لا زال ناقصاً إلى درجة كبيرة.(1)
وفي الواقع ان مسار التطور في نتائج العلوم التجريبية يقوم على فكرة الاستمرار والاتصال والتراكم، بمعنى انّه موصول الحلقات. كل واحدة منها تترتب على ما يسبقها وتفضي إلى ما يليها وكل نتيجة جديدة في العلم تستوعب وتشمل ما سبقها وتضيف اليها جديداً.
اما التطور في العلوم الإنسانيّة فيتم بدرجة كبيرة في البطء، وغالباً ما تكون التعميمات الجديدة فيها اشبه بوجهات نظر مختلفة أو نظريات مختلفة، لا تضيف إلى ما سبقها جديداً بقدر ما تقدم رأيا بديلا لرأي آخر أو نظرية مغايرة لنظرية اخرى. والباحث في العلوم الطبيعية لا يستطيع ان يبدأ من الصفر، بل لابد وان يدخل في اعتباره النتائج والتعميمات العلمية السابقة، لكي يبدأ من حيث انتهى غيره.
اما الباحث في العلوم الإنسانيّة فمن الممكن ان يرفض كثيراً من النظريات المختلفة الموجودة في العلم، ويبدأ من جديد مقدما نظرية جديدة أو وجهة نظر مختلفة. وهذا واضح في كثرة المدارس والمذاهب والاتجاهات في العلوم الإنسانيّة. فكـل نظرية لا تضيف جديداً إلى ماسبقها بقـدر ما تكون بديلاً مقترحاً لها.(2)
وهناك نقطة اخرى جديرة بالملاحظة وهي ان العلوم الاجتماعية تتكامل من زاوية افقية، بمعنى ان البحث في احدها يتطلب استخدام نتائج علوم اخرى غيرها، فلا يمكن مثلا دراسة مشكلة اجتماعية مثل مشكلة الطلاق، بدون اعتبار عوامل تنتمي إلى علوم اخرى غير علم الاجتماع، مثل التوافق السيكولوجي بين الزوجين وهي ينتمي إلى مجال علم النفس، أو مثل انخفاض مستوى الدخل عن الحد الادنى لمتطلبات المعيشة وهو عامل ينتمي إلى الاقتصاد وغير ذلك. وهكذا، بدأت تظهر فروع جديدة في العلوم الإنسانيّة المختلفة تؤكد على وجود هذا التكامل وعلى ضرورة الربط الوثيق بينها وبين علوم اخرى من جانب آخر. كما هو الحال في «علم الاجتماع الطبي»، «علم الاجتماع السياسي»، «علم الاجتماع اللغوي»، «الجغرافيا الاقتصادية»، «علم الاجتماع الحربي»، وغير ذلك.
ويمكن تعريف النظريات على انها «تنظيمات من التعميمات والمفاهيم التي تكون على علاقة مع بعضها بعض، انها الافكار المعقدة التي تتكون من عدد من الافكار الاقل ترابطا، انها تعمل على تجميع اجزاء المعرفة التي تشكل معا وحدة ذات معنى(1).
ويؤكد البعض ان النظريات أو المبادىء تمثل اعلى درجات التجرد المعرفي، واكثرها بعدا عن البيانات أو المعلومات التي اعتمدت في الاساس.
والنظريات الجيدة في العلوم الاجتماعية تتصف بما يلي:
(1) توضح العلاقة بين المتغيرات التي تم تحديدها من قبل.
(2) تشكل نظاما استنتاجيا، وتكون منطقية التنسيق ويتم اشتقاق المبادىء المجهولة فيها من المبادىء المعروفة.
(3) ان تكون مصدرا للفرضيات القابلة للاختيار.
وتثور هنا قضية مدى حياد العلوم الاجتماعية ومدى حياد الباحث الاجتماعي، بمعنى مدى ارتباط البحث العلمي في ميادين العلوم الاجتماعية بالايديولوجية التي يتبناها مجتمع ما أو حتى مدى تأثيره بأيديولوجية الباحث نفسه. ولا شك في ان حسم هذه القضية يرتبط بالموقف الفلسفي اما موقف مثالي أو موقف مادي. ويتعين تجنب الخلط بين «النظريات الاجتماعية» وهي نظريات مشروعة يحكم الواقع لها أو عليها و«النظريات الفلسفية والسياسية» للمجتمع الامثل. فالماركسية مثلاً والبنيوية تحاولان الجمع بينهما، بل لا تميزان بين العقيدة الفلسفية أو السياسية والدينية الخاصة بأي باحث ما وحقيقة العلاقات الاجتماعية، كما تتجلى من خلال الواقع ذاته بما في ذلك العقائد، ولكن باعتبارها شيئاً اجتماعياً(2).
ويرتبط بالايديولوجية مصداقية البحوث الاجتماعية من المجتمعات العربية ذلك انها لم تكن دائماً عربية لا من حيث الباحثين ولا من حيث التوجهات ولا من حيث اللغة. فالذين كتبوا علمياً في بداية هذا القرن عن العرب كانوا ينتمون إلى مجتمعات تستخدم المعرفة الاجتماعية للسيطرة على العرب ولدعم نفوذ الغرب عليهم(3).
وارتبطت البحوث الاجتماعية بالنزعة الاستعمارية الانجليزية والفرنسية خاصة. وبديهي انّه ليس من المفروض ان يكون الاجنبي اكثر قدرة على البحث لتخلصه من الماقبليات ولتجرده، لان ذلك قد يعرضه إلى تجاهل امور من الاهمية بمكان فينقل ما تجمعت لديه من افكار وأحكام يسلطها على الموضوع. وهذا لا يعني ان الباحث العربي لابد له ان يصد عن النظريات الغربية السائدة، وانما نعني ذلك ان عليه ان يسعى دوماً الا تطغى النظريات على المنهاجية الا آلات مسح ووسائل تحليل عليه نقدها هي على ضوء الواقع الاجتماعي العربي لا نقد المجتمع العربي على ضوئها هي، كما هو حاصل في كثير من البحوث الاجتماعية التي يلهث فيها الباحث لاثبات بديهيات ثابتة منذ عهد بعيد، أونقل استنتاجات قد تكون تحققت فعلاً في مجتمعات اخرى، ولكن في ظروف مغايرة. فنراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات ويسلطونها من اعلى على الاوضاع الاجتماعية العربية. والحال ان تلك المفاهيم والنظريات وان كانت طريفة في حد ذاتها وجديرة بالاهتمام والدرس والعناية فانها اصلاً وليدة المجتمع الاوروبي واستخدامها باسم عالمية المعرفة العلمية امر غير مشروع لانها لم تأخذ بعين الاعتبار كل الاوضاع والظروف الممكنة انسانياً. ونقلها بتلك السهولة والبساطة إلى المجتمع العربي يدل على التقليد والتبعية للغرب ويدل على الهزيمة الحضارية.
ولذا نلاحظ ان كثيراً من البحوث الاجتماعية لا مبرر لها سوى ارادة اثبات صحة النظرية اياً كانت. فتكون بمثابة تصريف النظريات على حساب المنهاجية وعلى حساب الواقع الاجتماعي العربي.
الوطن العربي في حاجة إلى ابراز خصوصياته عن طريق البحث الميداني وعن طريق التنظير اكثر مما هو في حاجة إلى تجاوز تلك الخصوصيات نحو معرفة في نهاية التجرد كما تدعونا إلى ذلك اتجاهات البحث الغربية.
علينا ان نركز على منهاجيات تساعد على مزيد من التعرف على الذات.
المدينة في ضوء معطيات علم الاجتماع الحضري:
ان معظم الدراسات المبكرة التي عالجت موضوع المدين كانت تنتمي لعلوم اخرى غير علم الاجتماع الحضري، كالتاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والسياسة والآثار والفلسفة، حتى الدراسة الاولى التي قدمه احد علماء الاجتماع كانت معالجة اقتصادية، فقد كتب رينيه موريه كتابه: «نشأة المدن ووظائفها الاقتصادية» سنة 1910 وكانت دراسته للمدينة دراسة اقتصادية بعيدة عن الحضرية والتحضر(1).
وقد كانت البداية الحقيقية لنشأة وتطور علم الاجتماع كمجال متميز للبحث والدراسة على يد العالم الامريكي روبرت بارك R. Park الذي كانت مقالته عن المدينة سنة 1915، ايذاناً ببدء مرحلة جديدة لقيام فرع جديد ومستقل من فروع علم الاجتماع يوجه اساساً لدراسة المدينة (علم الاجتماع الحضري) ومع ان الاهتمام السوسيولوجي بدراسة المدينة والحياة الحضرية بصفة عامة لم يكن مقصوراً على ما قامت به جامعة شيكاغو ـ التي انتمى لها كل من بارك وييرجسي وتلاميذهما ـ في دراسات وبحوث وجهت اساساً لدراسة مدينة شيكاغو. ومع ان الاصول الفكرية والنظرية لتلك المدرسة كانت تتفق مع الكثير من الافكار التي ساقها دور كايم وفيير. الا ان هناك اجماعاً بين المهتمين بالتاريخ لعلم الاجتماع الحضري على ان هذا الفرع من علم الاجتماع كان في البداية علماً امريكياً(2).
وبلغ علم الاجتماع الحضري الذروة من الأهمية في اواخر العشرينات واوائل الثلاثينات تحت تاثير البرنامج الدراسي الذي وضعه بارك وييرجسي وزملاؤهما في جامعة شيكاغو. وفي نفس الوقت لعبت ظروف العصر حينذاك دوراً هاماً في تحديد الموجهات النظرية والتصورية لهذه المدرسة. فقد ظلت التناقضات واضحة بين (المدينة) و(الريف) في الولايات المتحدة مما سهل النظرة إلى المستوطنات الحضرية على انها تمثل شكلاً متميزاً وفريداً من نوعه عن اشكال التنظيم الاجتماعي.
ومثلت النظر إلى المدينة على انها شكل متميز من اشكال المجتمعات المحلية الإنسانيّة اتجاهاً اساسياً في تراث علم الاجتماع الحضري، حتى التعديلات التي لحقت مجال العلم ومداخل دراسته واساليب بحثه كانت انعكاساً واضحاً لما طرأ على هذه النظرة من تعديل مستمر. وشهدت دراسة المدينة مداخل نظرية عديدة، كان من ابرزها واكثرها ارتباطاً بالاطار العام للتحليل السوسيولوجي مرحلتان متميزتان هما المدخل الايكولوجي والمدخل التنظيمي أو السلوكي، ولقد كان مدخل المتصل الريفي ـ الحضري بمثابة رد الفعل أو التعديل المباشر للمدخلين السابقين. ويستند هذا المدخل إلى فكرة ان اي خاصية للظاهرة بدرجة معينة وان هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى التجريبي أو الواقعي. ومن ثم يشير المتصل الريفي ـ الحضري إلى وجود نوع من التدرج بين خصائص الريفية والحضرية اشبه بخط مستقيم. حيث تتزايد درجة اي خاصية أو تقل بنسب متفاوتة تُمكن من تصنيف المجتمعات وفقاً لوقوع خصائصها على نقطة معينة على طول هذا المتصل. وتسهل بالتالي من تفسير الاختلاف والتنوع في انماط السلوك وأساليب الحياة(1).
وذهب عدد من الباحثين القدامى والمحدثين ــ سواء من كان منهم من المؤرخين الاجتماعيين أو من علماء الاجتماع ذي النزعة التاريخية ـ إلى ان ظواهر التحضر والحضرية وان كانت تمثل تغيراً ثورياً في النمط الكلي للحياة الاجتماعية، فانها لابد وان تكون نتاجاً لتطورات مجتمعية، بحيث لا يمكن فصلها عن السياق التاريخي الذي مهد لها أو دعمها، وانّه إذا كانت العملية تحدث وتزداد نمواً بمعدلات هائلة في كل انحاء العالم في الوقت الحاضر الا انها تختلف في صورتها ومداها واتجاهاتها باختلاف الزمان والمكان ايضاً. انها عملية لا تزال واقعة ومستمرة لم تتوقف بعد. وما زال الكثير من مصاحباتها ونتائجها ومشكلاتها تمثل واقعاً حياً تعيشه اجزاء عدة من ارجاء المعمورة. الامر الذي يجعل من الصعب التكهن باتجاهاتها المستقبلية ولقد ساعدت هذه الدراسات التاريخية لظواهر التحضر على دراسة المدينة في ضوء النماذج المجتمعية وفي تتبع نموها ومعرفة خصائصها في الثقافات المختلفة وخاصة التاريخية منها ومكنت من تجنب التصور الخاطىء: «بأن الحياة الحضرية بخصائصها المعروفة نتاج للثقافة المعاصرة» ذلك التصور الذي من شأنه أن يعزل الطابع الحقيقي للحياة الحضرية عن السياق التاريخي الذي دعمها وجعلها تتخذ اتجاهات محددة. ولعل من اهم ما اسهمت به هذه الدراسات التاريخية انها مهدت الطريق لتحليل عمليات التحديث في دول العالم الثالث وتوجيهها، حيث تبذل في الوقت الحاضر جهوداً مكثّفة نحو محاولة اختبار مدى صدق النظرية الغربية بتطبيقها على واقع الدول النامية باستخدام المنهج المقارن.
الاتجاهات النظرية الكلاسيكية ودراسة المدينة:
ويمكن عرض الاتجاهات النظرية الكلاسيكية التي تتناول موضوع المدينة، وتعطي تفسيراً لنشأة المدن ولظاهرة التحضر. ثم تقييمها وهل يمكن تطبيقها على واقع المدينة العربية الإسلامية وتبدأ بالاتجاه التاريخي
(1) الاتجاه التاريخي
يعتبر الاتجاه التاريخي احد اتجاهات علم الاجتماع الحضري وهو يصور تطور اشكال المجتمعات المحلية الحضرية الاولى. ويهتم هذا الاتجاه كذلك بدراسة تحول المناطق الريفية إلى مناطق حضرية، ويتناول التطور والانتشار الثقافي والحضري(2).
ويتمثل هذا الاتجاه في كتابات ن. س. ب. جراس N.S.B. Grass (1922) ولوتش Loche (1937) وهاريس واولمان Harris g Olman (1945). فقد ناقش هؤلاء العلماء الجذور التاريخية للمناطق الحضرية وطبيعتها وتنوعها وخصائصها. ومن اشهر محاولات الاتجاه التاريخي تلك التي قدمها جوردن تشيلد Child حيث يحدد ملامح ما اطلق عليه (الثورة الحضرية المبكرة) ومن بين هذه الملامح الاستيطان الدائم في صورة تجمعات كثيفة، وبداية العمل بالنشاطات غير الزراعية، وفرض الضرائب وتراكم رؤوس الاموال، واقامة المباني الضخمة وظهور طبقة حاكمة مسيطرة، وتطور فنون الكتابة، وتعلم مبادىء الحساب، والهندسية، والفلك، واكتساب القدرة على التعبير الفني ونمو التجارة(1).
وتناول فوستيل دي كلانج Fustel de Couange تاريخ المدينة العتيقة وارجعها إلى نفوذ الدين الحضري، وعرض لويسى ممفورد المدينة من جهة نظر تاريخية والقى الضوء على نموها وكبر حجمها واشار إلى انها تمر بمراحل ونماذج معينة هي:
1 ـ مرحلة النشأة Eopolis.
2 ـ مرحلة المدينة Polis.
3 ـ مرحلة المدينة الكبيرة Metropolis.
4 ـ مرحلة المدينة العظمى Megalopolis.
5 ـ مرحلة المدينة التيرانوبوليس Tyrannopolis.
6 ـ مرحلة المدينة النكروبوليس Nekopolis.
مرحلة النشأة: ويقصد بها المدينة في فجر قيامها، وتتميز بانضمام بعض القرى إلى بعضها واستقرار الحياة الاجتماعية إلى حد ما، وقد قامت المدينة في هذه المرحلة بعد اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان، وقيام الصناعات اليدوية والحرفية.
مرحلة المدينة: وتمتاز بوضوح التنظيم الاجتماعي والاداري والتشريع، وتتفشى فيها التجارة، وتتسع الاسواق للمبادلة، وتتنوع الاعمال والوظائف والاختصاصات وتتميز بالتمييز الطبقي بين مختلف الفئات، واتساع اوقات الفراغ، وظهور الفلسفات، ومبادىء العلوم النظرية والاهتمام بالفلك والرياضيات وقيام المؤسسات والفنون ونشأة المدارس، وعقد حلقات المناظرات.
مرحلة المدينة الكبيرة: وتعرف بالمدينة الام، ويتكاثف فيها عدد السكان، ويتوفر فيها الطرق السهلة وتربطها بالريف شبكة من المواصلات السريعة. وتهتم الحكومة فيها بتحقيق مطالب سكانها، وتنفرد بمميزات خاصة كالتجارة أو الصناعة. وتتنوع الوظائف وتعدد المهن والتخصص ونشأة المعاهد الفنية العليا.
مرحلة المدينة العظمى: وتتمثل في انبثاق المدن العظمى في القرن التاسع عشر، ويبدو في هذه المدن التنظيم الآلي والتخصص وتقسيم العمل. وظهور الفردية وتنتشر النظم البيروقراطية في الادارة واجهزة الحكم، ويظهر الصراع الطبقي بين العمال واصحاب الاعمال، مما يؤدي إلى تناقضات اجتماعية وفساد في الادارة، وتنتشر الانحرافات والجرائم في محيط الاحداث.
مرحلة المدينة التيرانوبوليس: وتمثل اعلى درجات الهيمنة الاقتصادية للمدينة، فيها تعتبر مسائل (الميزانية والضرائب والنفقات) من اهم الميكانيزمات المسيطرة، كما تظهر المشكلات الادارية والفيزيقية والسلوكية الناجمة عن كبر الحجم.
ويشهد المجتمع حركة واسعة النطاق للرجوع إلى الريف أو إلى مناطق الضواحي والاطراف هرباً من ظروف العيش غير المرغوبة.
مرحلة المدينة النيكروبوليس: ويمثل هذا النموذج الحضري نهاية المطاف في مراحل التطور التاريخي، ومع انّه لم يتحقق بعد، الا انّه آت لا محالة ـ في نظر ممفورد ـ عندما يصل الانحلال إلى ذروته مقترناً بافول الحضرية، واحياء جديد للريفية، وظهور مدن الاشباح.
ويؤخذ على نظرية ممفورد انها تعمل على تحطيم الحضارة والفنون والعلوم وتدعو إلى الحروب(1).
وتناول يوسكوف الاشكال الحضرية التي ظهرت في العالم منذ فترة تمتد إلى ما قبل الميلاد، وتصل إلى العصر الحديث، وحدد هذه الاشكال في ثلاث موجات حضرية تتلخص في الآتي:
الموجة الحضرية الاولى (سنة 4500 قبل الميلاد ـ سنة 500 بعد الميلاد) وهي الفترة الكلاسيكية للتحضر، حيث ظهرت المراكز الحضرية حول احواض الانهار واوديتها التي استخدمت لزيادة انشطة الزراعة ونقل المحاصيل، ونشأت هذه المدن تؤدي وظيفتها الدفاعية لصد هجمات المغيرين.
الموجة الحضرية الثانية (سنة 1000 ـ 1800 بعد الميلاد) وتميز هذه الفترة بامتداد المراكز الحضرية واتساع نطاقها، وارتباطها بالنمو الصناعي المكثف(2).
لقد استعرض يوسكوف الفترات التاريخية لعملية التحضر التي ميزت المجتمع العالمي. اما ايريك لامبارد E.Lampard فقد اهتم بتوضيح اشكال التحضر التي مرت بالعالم فرأى انّه يمكن التمييز بين اربعة اشكال هي(3):
التحضر البدائي Primordial Urbanzation وتحدث فيه محاولات عديدة من قبل الإنسان ساكن المركز العمراني بصفة عامة لاحداث التكيف مع البيئتين الفيزيقية والاجتماعية.
التحضر المميز المحدد Defintive Urbanization ويبدأ في هذا الشكل ظهور المدن وتتحدد وظائفها وتستبين خصائصها، وتبرز مشكلاتها ورغم ان هذا الشكل قد ساد مناطق العالم بصفة عامة الا انّه كان اوضح بالنسبة لمناطق بذاتها وهي تلك التي شهدت مولد المدن الاولى بالعالم (مصر، والعراق).
التحضر الكلاسيكي Classic Urbanization وهو المرحلة الاخيرة التي بدأت تتضح معالمها مع بدايات القرن العشرين حيث سعى سكان المناطق المجاورة للمدينة إلى الهجرة اليها والاستقرار بها سعياً وراء فرصة عمل متاحة بدرجة اكثر في المجال الصناعي وتدر دخلاً اكبر وتحقق في ذات الوقت مستوى معيشياً اعلى. ولم يخل هذا الشكل من الظواهر التي ترتبت على تركز العمال بالمدن وارتبطت بعلمهم مثل الغياب، والانحراف والسكن، وقضاء وقت الفراغ.. الخ.
(2) الاتجاه التنظيمي
ينظر الاتجاه التنظيمي إلى المدينة باعتبارها شكلاً فريداً من النسق الاجتماعي أو التنظيم يشتمل على تطوير وسائل الاتصال والميكانيزمات الاجتماعية والسياسية بما يسمح بانتقال المجتمع من الشكل البسيط إلى صورة اكثر تعقيداً. كما ان التحضر معناه تراكم التطور والتعقد النظامي. ويحتوي ذلك التعقيد النظامي تاريخياً على تطور الحكومات المركزية القوية. وتطوير الاسواق المحلية والاقليمية والعالمية. وانتشار الاشكال المختلفة للتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، كالنقابات واتحادات العمال وروابط اصحاب العمل.. الخ فضلاً عن التغييرات التي لحقت ببناء وحدات التنظيم القائمة ووظائفها كالاسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية، واتساق المكانة، والتدرج الطبقي والتكامل المعياري وبناء القوة وطبيعة الضبط الاجتماعي والبيروقراطية.
وفيما يرى «ويرث» فكلما زاد عدد الكسان، وارتفعت معدلات كثافتهم وعظم تباينهم، عبر ذلك عن المظاهر الحضرية، تلك التي تتمثل في ضعف الروابط القرابية، واختفاء روابط الجيرة وانهيار الاسس التقليدية للتماسك الاجتماعي، وتصبح العلاقات الاجتماعية علاقات غيرشخصية، وانتقالية، ومؤقتة، وعابرة، وجزئية، مما يؤدي إلى افول العلاقات الاولية، ليحل محلها العلاقات الثانوية، ويحل الضبط الرسمي محل روابط التضامن.
اما متغير اللاتجانس فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغير «الحجم» و«الكثافة» وهو يؤدي إلى سلسلة من الظروف الاجتماعية لعل من اهمها ظهور نسق اكثر تعقيداً للتدرج الطبقي، وزيادة معدلات الحراك باشكاله الفيزيقية والاجتماعية، وتكوين شخصية «عالمية كوزموبوليتية».
وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التمايز إلى نوع من الجمود يسيطر على حياة المدينة مما يعمل على وجود نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية.
كما ان تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به في تفكك الشخصية وزيادة معدلات الجريمة والانتحار والمرض العقلي.
كما اشار روبرت إلى ان التغيرات التي ترتبط بالتحضر قابلة للانشار إلى خارج المدينة.
ويؤخذ على نظرية لويس ويرث انّه استهدف اطلاق تعميمات تنطبق على جميع المدن، مع ان استنتاجاته لا تنطبق الا على المدن الصناعية وحدها. كذلك فان وضع نتائجه في ضوء ظروف حياة المدينة في فترة العشرينات والثلاثينات من هذا القرن. وهي فترة تميزت بمعدلات انتاجية منخفضة، وانهيار اصحاب المناطق الداخلية في شيكاغو. وندلل على ذلك بان كثيراً من المثقفين الامريكيين ابدوا قلقهم البالغ على ظروف التفكك الاجتماعي والتباين الثقافي والكساد الاقتصادي الذي تعرضت له الولايات المتحدة. اما المناطق الخارجية فقد خرجت من مجال دراسته. يضاف إلى ذلك ان المدن الامريكية خلال الفترة التي وضع فيها نظريته تميزت بالهجرة اليها من بلدان اقل حضارة. اما الانتاج فقد بدأ بالارتفاع بعد ظهور هذه النظرية. ويظهر خطأ نظرية ويرث في انّه اعتبر ان العلاقات الثانوية قد حلت محل العلاقات الدولية بينما تبين من نظريات اخرى ان العلاقات الاولية والجيرة تعد من مظاهر الحياة اليومية بين ساكن المدن. ومن ناحية اخرى فقد اكتشف علماء الاجتماع ان المناطق الريفية في انجلترا تتسم العلاقات الاجتماعية فيها بالتنوع والتعقيد. وتتجلى هذه العلاقات في صور متعددة تتمثل في الجيرة، والنسب، والزواج، والعضوية في الكنيسة، والعضوية في جماعات عمرية متقاربة، وفي النوادي الاجتماعية. وقد اكد مان هذا المعنى، فالتنقل من المجتمع الريفي إلى المجتمع الحضري في رأيه لا يؤدي بالضرورة إلى التغير في العلاقات الاجتماعية من علاقات اولية إلى علاقات ثانوية.
وقد اعترض اوسكار لويس في كتابه ثقافة الفقر Cluture of Poverty على نظرية ويرث. وقال ان المهاجرين من ريف المكسيك إلى مدنه قد احتفظوا بعائلاتهم الممتدة، وتبدو اهمية الجماعات الاولية للانسان الحضري مثلما تبدو اهميتها للانسان الريفي.
ويذكر ويرث ان الضبط الرسمي يسود بين سكان المدن. ومع ذلك يلاحظ قلة اهمية الضبط الرسمي في النسق الحضري. وتبدو اهمية الضبط غير الرسمي. هذا ولم يقتنع علماء النفس بالخصائص التي ذكرها ويرث للحياة الحضرية.
ففي رأيهم ان الحجم والثقافة والكثافة واللاتجانس وهي حقائق ديموجرافية لا تمت بصلة إلى الجانب السيكولوجي، واخيراً يؤخذ على لويس ويرث انّه لم يضع تحت الاختبار اكثر من الخصائص التي ذكرها وهي الحجم والكثافة واللاتجانس، وأغفل ذكر المراحل الهامة التي تؤثر بها الخصائص الحضرية على الشخصية والاتجاهات.
وبالرغم من النقد الذي وجه إلى نظرية ويرث، فلم تقدم نظريات اخرى في الفكر الغربي أو علم الاجتماع الكلاسيكي تصوراً وادراكاً شاملاً لطبيعة حياة المدينة كما فعلت نظرية ويرث.
(3) الاتجاه السيكولوجي
الاتجاه السيكولوجي يحاول ان يفسر المجتمع في ضوء علم النفس الاجتماعي، وذلك بالتركيز على الذات واتجاهات الفرد وعواطفه ودوره في العقل الجمعي، وبمعنى آخر كيف يفسر الفرد الجماعة؟ في ضوء هذا التصور فان الجماعات ليست موجودة فيزيقياً وانما هي مجرد حصيلة جمع عدد من الافراد يلعب فيها الفرد دوراً.
ويلجا الاتجاه السيكولوجي في مجال التنمية الحضرية إلى اكتشاف الضغوط السيكولوجية ومواقف الافراد في محاولة لفهم الظروف الإنسانيّة المعقدة، في المناطق الحضرية على وجه الخصوص ويعتبر ماكس ويبر Max Weberمن انصار اعلى درجات الفردية/التفرد.
وبعيداً عن محاولة تصور المجتمع المحلي الحضري في ضوء ثنائية متعارضة الاطراف أو في ضوء متصل تتدرج على طوله خصائص كلا المحورين أو القطبين الريفي والحضري برزت محاولات اهتمت بتحليل المجتمع الحضري كظاهرة تستحق الدراسة لذاتها ودون حاجة إلى مقارنتها بظواهر اخرى معارضة. وقد عرفت هذه المحاولات بالتصورات الاستنباطية. وسبب هذه التسمية ان اصحابها كانوا يستدلون على صحة نظرياتهم بالاسلوب المنطقي فكانوا يبدأون تصورهم للمجمع الحضري ـ والمدينة بصفة خاصة ـ ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات أو مصادرات في غير حاجة إلى برهان، ثم ينتقلون عنها إلى استنباط قضايا اخرى غيرها تمثل خصائص مميزة لحياة الحضرية. ويتوقف صحة النتائج على صحة المقدمات وسلامة التسلسل المنطقي. ومن هذه المحاولات كانت نظرية لويس ويرث التي سبق ذكرها.. وتبعه في نفس الاسلوب جورج زيمل G. Simmel لكنه بدأ في تصوره للحياة الحضرية بخصائص اجتماعية ـ وليست ايكولوجية كالحجم والكثافة واللاتجانس. كبديهيات يستنبط منها مختلف الخصائص والنتائج السيكولوجية، وشرع في تحديد ما يمكن ان يترتب على التعقيد النظامي غير المحدود للمدن الكبرى من نتائج على سيكولوجية الافراد. وانتهى زيمل إلى نفس النتائج التي توصل اليها ويرث على اساس متغيرات الحجم والكثافة واللاتجانس. مثال ذلك ان زيمل كان على يقين بان ساكني الحضر بحاجة ماسة إلى مزيد من الدقة والتوقيت ليتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم وسط هذه الشبكة المعقدة للوظائف الحضرية، وان من اهم نتائج هذا التعقيد تطوير اقتصاد السوق والتنظيمات البيروقراطية الكبرى، وسيطرة روح العقلانية والعلاقات اللاشخصية، وهذا ينعكس بدوره على شخصية الحضري. فلكي يتوافق الحضري مع هذا التعقيد النظامي عليه ان يكون اكثر عقلانية واحساساً بالكم والوقت ان «المال» و«العقل» وليس «الروح» اول «القلب» يصبحان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان في المدينة يشعر انّه في حالة ضياع نظراً لتعدد جوانب الحياة فيها، هذه الحالة النفسية هي التي تجعل الناس يبتعدون عن الاستجابة العاطفية نتيجة لتعقد الحياة الحضرية الامر الذي تصبح معه العلاقات بين الإنسان واقرانّه وبينه وبين البيئة عموماً علاقات جزئية.
وبالمثل تابع كنجز دافز K. Davis نفس الطريقة الاستنباطية في حديثه عن المجتمع الحضري اذ استطاع ان يتوصل إلى استنتاج عدد كبير من الخصائص الحضرية التي تترتب على «زيادة الحجم» المرتبطة بعملية التحضر كمقومات مسلم بها. وتختلف هذه الخصائص كثيراً عن نتائج ويرث، حيث اشار دافيز إلى ان اهم النتائج التي تترتب على الحجم هي زيادة التغير الاجتماعي وانتشار العلاقات السطحية الثانوية وتطوير الروابط الطوعية، كما ان تزايد الكثافة يعني في نظره زيادة الاتجاه نحو العزل المكاني وانتشار الفردية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة سيطرة وسائل الضبط الرسمي.. الخ.(1)
ويؤخذ على الاتجاه السيكولوجي انّه في تحليله للظواهر الاجتماعية يرجعها إلى ظواهر نفسية من صنع الافراد وكأن المجتمع ليس له وجود والحق انّه تحدث في المجتمع امور لا يصح ان ننسبها إلى افراد معينين، وذلك لانها تنشأ من علاقات الاراد في حالة الاجتماع وتبادل وجهات نظرهم وتفاعل افكارهم واحتكاك مشاعرهم وتوحد مواقفهم. هذا بالاضافة إلى ما يحيط بهم من ظروف طبيعية وبيئية وتاريخية تصهرهم جميعاً في بوتقة جمعية وتؤدي إلى ظهور عقل جديد للجماعة وهو ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميته بالعقل الجمعي. وهذا العقل مستقل عن الافراد، وله منطق خاص ومظاهر للسلوك تختلف عن مظاهر السلوك الفردي.
كذلك فان المدرسة النفسية ترفض مشاركة الفرد في حياة المجتمع وحاجياته في حالة احتياج الفرد للمساعدة.(2)
(4) اتجاه التوجه القيمي والثقافيValue - Orientation
تؤكد هذه الدراسة على متغير القيم الثقافية أو الاجتماعية كمتغير محوري عند دراسة انماط استخدام الارض والبنيات الحضرية الاجتماعية. وتدخل كتابات ماكس فيبر في اطار تراث هذه المدرسة فقد اعتبر فيبر قيم الإنسان الاجتماعية الثقافية المتغير المفسر المستقل على حين اعتبر البناء الاجتماعي للمدينة متغيراً تابعاً.(3)
ورغم ما تعرضت له مدرسة القيم من وجوه نقد عديدة فان كثيراً من العلماء الاجتماعيين اكدوا ان القيم لا يمكن تجاهلها.
ودليل ذلك ان كل من ديكسون في كتابه «مدينة الغرب الاوروبي» وجونز في كتابه «الجغرافيا الاجتماعية للبلفاست» وفون جروندام في مقال عن المدن الإسلامية اجمعوا على اهمية القيم الثقافية وتأثيرها على الايكولوجيا الحضرية. ففي المدن الإسلامية تحدد القيم الدينية الانشطة الموسمية لدرجة كبيرة. فعندما ينادي المؤذن للصلاة تتوقف بعض الانشطة، وفي شهر رمضان تتغير ساعات العمل ومواقيت الانشطة اليومية وتتعرض بعض الانشطة الاخرى في مجالات التجارة والصناعة لبعض التقلصات الوقتية مما يوضح اهمية القيم في تفسير بعض الانماط الاكولوجية من هذا النوع.
ويكاد يقر كثير من علماء الاجتماع ان القيم تتدخل في تشكيل كثير من الظواهر الاجتماعية داخل المراكز الحضرية. فقد وظف فيبر في كتابه عن المدينة فكرة ان القيم تعد عنصراً مسؤولاً عن كثير من وجوه التباين القائمة بين المدن في العديد من الوضعيات الثقافية المميزة.
ولقد سيطرت هذه الفكرة كذلك على اتجاهات الباحثين الذين يدرسون التنظيم الاجتماعي من خلال الرؤية الحضارية المقارنة.
(5) التطور الاقتصادي
تمثل الحضر فيه وفقاً لهذا التصور مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاقتصادي البشري وبالتالي ارتبط التحضر والنمو الحضري، بحركة الانتقال والتحول إلى التنظيمات الاقتصادية الاكثر تعقيداً أو بمعنى ابسط الانتقال من حالة تقوم فيها الحياة الاجتماعية على اساس العمل أو الانتاج الاولي كالصيد والزراعة إلى حالة تقوم فيها الحياة عى اساس العمل الصناعي والتجاري والخدمات، أو هي بعبارة ثالثة حالة الانتقال من اقتصاد المعيشة إلى اقتصاد السوق، والواقع لقد ترجم هذا التصور في صياغات وعبارات مختلفة، اكدت كلها الاتجاه الذي غلب على معظم الدراسات الحضرية الغربية والاميركية بصفة خاصة التي اكدت الارتباط بين عمليتي التصنيع والتحضر.(1)
لاشك ان عملية الانتاج الزراعي والصناعي في تطور وتحول اساسي دائم، وفقاً لنمو العلم وعمقه، فبينما كان يستخدم الإنسان في انتاجه المحراث اصبح يستخدم الكهرباء والذرة كما ان النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض بما فيها علاقات التوزيع ـ هو الآخر أيضاً لم يتخذ صيغة ثابتة في تاريخ الإنسان بل اتخذ الواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.
والاقتصاد الماركسي يرى ان كل تطور في عمليات الانتاج واشكاله يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية وعلاقات التوزيع خاصة، فلا يمكن ان يتغير شكل الانتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم، كما لا يمكن أيضاً ان تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الانتاج في تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك ان المستحيل ان يحتفظ نظام اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن أو ان يصلح للحياة الإنسانيّة في مراحل متعددة من الانتاج لان اشكال الانتاج تتطور خلال التجربة البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية.
فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية، ما ذام شكل الانتاج مختلفاً في المجتمعين، وعلى هذا الاساس تقدم الماركسية المذهب الاشتراكي باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للانتاج في تلك المرحلة.(2)
واما الاقتصاد الاسلامي فهو يرفض هذه الصلة الحتمية بين تطور الانتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى ان للانسان حقلين يمارس في احدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله ان يستثمرها ويسخرها لاشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الافراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، واشكال الانتاج هي حصيلة الحقل الاول، والانظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين ـ بوجوده التاريخي ـ تعرض لتطورات كثيرة في شكل الانتاج. أو في النظام الاجتماعي ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات اشكال الانتاج وتطورات النظم الاجتماعية، ولاجل ذلك فهو يعتقد ان بالامكان ان يحفظ نظام اجتماعي واحد بكيانه وصلاحياته على مر الزمن مهما اختلفت اشكال الانتاج.
وعلى اساس هذا المبدأ «مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الانتاج» يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي بوصفه نظاماً اجتماعياً صالحاً للامة في كل مراحل انتاجها. وقادراً على اسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الارض بيدها.(1)
وان قيام المدن الإسلامية في القرن السابع الميلادي لم يكن بسبب التغير والتطور في وسائل الانتاج ولم يكن بسبب التطور الاقتصادي والنشاط التجاري القائم في مكة اهم مدن الجزيرة العربية، بل كانت هناك حضارات ومدن اكثر اهمية من الناحية التجارية والاقتصادية والحضارية. ومع ذلك تعرضت للذبول والانهيار وانتظرت الدور القيادي للمدينة العربية.
وانبثقت الثورة الحضرية من الجزيرة العربية لتمتد وتنتشر في كل مدن الشرق الاوسط حتى شمل مدن الامبراطورية الرومانية والمدن اليونانية والبيزنطية.
النظرية الايكولوجية ودراسة المدينة:
تشير هذه التسمية في علم الاجتماع الحضري إلى اعمال مدرسة شيكاغو أو المدرسة الاميركية التي عرفت باعمال ثلاثة من رواد علم الاجتماع في أميركا هم روبرت بارك وارنست بيرجي ورودريك كينزي، تلك الاعمال التي وضعت منذ البداية الاطال النظري العام الذي انطلقت من خلال العديد من الدراسات اللاحقة التي كانت لها مكانتها العلمية واهميتها النظرية في تاريخ العلم مثل دراسات لويس ويرث وروبرت دوفيلد وميلتون سينجر وغيرهم.
اما بارك فقد صاغ الاطار العام للنظرية، حين ذهب إلى اعتبار المدينة (مكاناً طبيعياً لاقامة الإنسان المتحضر) وعندما صورها على انها «منطقة ثقافية» لها انماط ثقافية خاصة بها، ان المدينة في نظره «تيار طبيعي» يخضع لقوانين خاصة به، ولانها كذلك فانه من الصعب تجاوز هذه القوانين لاجراء اي تعديلات في بنائها الفيزيقي أو نظامها الاخلاقي وهي ـ اي المدينة ـ بناء متكامل ـ بمعنى ان ما يصدق عليها ينسحب على كل قسم من اقسامها الفرعية ـ بحيث تصبح لكل محاورة من محاوراتها خصائص مميزة استمدتها من خصائص سكانها، لتكشف عن استمرار تاريخي خاص بها ـ وعلى هذا الاساس فان المدينة تمثل وحدة على درجة عالية من التنظيم من حيث المكان، انبثقت وفقاً لقوانينها الخاصة. عند هذا الحد يأتي دور ارنست برجسي ورودريك ماكينزي، حيث يرجع الفضل إلى اولهما في تحديد التنظيم الخارجي للمدينة من حيث المكان ذلك التنظيم الذي اصبح سمة مميزة للنظرة الايكولوجية بينما يهم ماكينزي بدوره في ابراز القوانين الداخلية والعمليات التي تسيطر على هذا التنظيم.
ان سيطرة التوجيه البيولوجي كان واضحاً على النظرية الايكولوجية في صورتها الاولية. غير ان ذلك لا يعني ان بارك حاول ان يطور نظرية اجتماعية للمماثلة العضوية شأنه شأن سبنسر وغيره من علماء الاجتماع الاوائل. وانما عنى في الاساس بالبحث على عدد من المبادىء أو الاسس التي تبسط دراسة التنظيم الاجتماعي وتجعله اكثر قابلية للتحليل بمعنى انّه اي بارك عني بصياغة ايكولوجية حاول بعدها توضيح مدى ملائمتها أو كفاءتها للمعالجة السوسيولوجية للمجتمع الحضري.
ولقد حقق بارك هذا الهدف من خلال تحليله النظري للتنظيم الاجتماعي إلى مستويين: مستوى حيوي وآخر ثقافي. اما المستوى الاول فيمثل البناء الاساسي أو التحتي للتنظيم، فيه تكون المنافسة هي العملية الاساسية والموجهة. ويكون البقاء للاقوى هو القانون المسيطر وفي مقابل ذلك يمثل المستوى الثقافي بناء فوقياً، يكون فيه الاتساق والتماثل والاتصال اهم العمليات المنظمة وتكون التقاليد والنظام الاخلاقي هو القانون المسيطر.
ويمثل المستوى الاول المجتمع المحلي، بينما يعبر المجتمع عن المستوى الثقافي بالمعنى الذي يفرض فيه «البناء الفوقي» ذاته على البناء «التحتي أو الحيوي» اما الايكولوجيا فتعنى في الاساس بدراسة وتحليل المستوى الاول بينما تخرج تركيبات النظام الثقافي عن دائرة اهتمام البحث الايكولوجي.
فالايكولوجيا توجه في الاساس لتوضيح وبحث العمليات والعوامل التي تحقق التوازن الحيوي في المجتمع. فهي اذاً دراسة وصفية وتحليلية لكل مظاهر التركيب المادي والحيوي للبيئة الحضرية.
ويتحقق اكبر انجاز للنظرية الايكولوجية في صورتها الاولى على يد ارنست بيرجي E. Burgess، وبخاصة فيما قدمه من تصور نظري للنمط الايكولوجي للمدينة. وتعرف هذه النظرية باسم نظرية الدوائر المتمركزة أو بالتصور الحلقي. ويطلق بيرجسي اقرب الحلقات إلى الداخل أو المركز «حي الاعمال المركزي» وهو يقع في قلب المدينة، وفي الحلقات المحيطة بذلك المركز تتحرك حلقات اخرى تجاه الحافة الخارجية للمدينة. تمثل الحلقة الاولى منطقة الاعمال المركزية. وفيها تدور اكثر نشاطات المدينة كثافة، وتقع على اطرافها حلقة ثانية هي منطقة التحول والانتقال التي تتعرض باستمرار للتغير نتيجة اتساع ونمو الحلقة الاولى، كما تتميز بكثافتها السكانية العالية وظهور التفكك الاجتماعي. اما الحلقة الثالثة فتضم منطقة سكنى الطبقات العاملة، ويليها منطقة الفيلات وفي النهاية تقع الحلقة الخاصة خارج حدود المدينة، حيث تشكل الضواحي والاطراف مناطق سكنية لذوي الدخل المرتفع. وقد عالج بيرجسي نمو المدينة في ضوء امتدادها الفيزيقي وتمايزها في المكان. ان هذه الحلقات الخمس تمثل في نظره مناطق متتابعة من الامتداد الحضري. وهو في تأكيده لهذا الوصف الفيزيقي، ذهب إلى ان ظاهرة النمو الحضري هي نتيجة لازمة لعمليات التنظيم والتفكك في نفس الوقت تشبه تماماً عمليات الهدم والبناء في الكائن العضوي.
وإذا كان كل من بارك وبيرجي قد صورا المدينة ككيان فيزيقي يتميز بحلقاته ودوائره الخمسة، فان ماكينزي جاء بدوره ليوضح القوانين والعمليات التي تعمل داخل هذا الكيان وتفسر بالتالي وجود هذه المناطق المميزة. وذلك من خلال عمليات كالمنافسة والتركز والتركيز والعزل والغزو والتتابع.
وقد تعرضت النظرية الايكولوجية الحضرية لنقد حاد وكان عامل الزمن والظروف المجتمعية هو اكبر نقد حقيقي وجه للنظرية فقد عجزت عن مواجهة التغييرات التي مرت بها المدينة، واصبح من الصعب تطبيقها لتفسير هذه التغيرات. لقد اكدت التجارب ان كثيراً من الدراسات الوصفية والقضايا النظرية التي عرضتها مدرسة شيكاغو في صورتها المبكرة، كانت عبارة عن تصوير وتفسير لحال مدينة شيكاغو في فترة معينة من تاريخها، بحيث يصبح من الصعب تطبيقها لتفسير الحياة الحضرية بوجه عام، بل لتفسير مدينة شيكاغو ذاتها في مرحلة ما بعد التغيير ـ ولعل اهم ما وصفت به النظرية الايكولوجية المبكرة، انها كانت تسير في طريق خاطىء في تحليلها لظاهرة الحضرية، وذلك عندما وجهت كل اهتمامها إلى الجوانب الجيوفيزيقية Geophysieal للمدينة، دون ان تهتم بحياتها الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ـ على حد تبير دون مارتندال(1) هي بناء التفاعل وليست بناء الحجر والصلب والاسمنت والاسفلت.
ولقد كان من اهم ما انتقدت بشأنه النظرية ذلك الفصل الحاد بين المجتمع Societyوالمجتمعت المحلي. وحصر التحليل الايكولوجي في نطاق المجتمع المحلي وحده. ان محاولة بارك هذه كانت تعني تجاهلاً واضحاً لاهمية العوامل الثقافية، الامر الذي جعل النظرية تواجه بنفس الانتقادات التي وجهت للحتمية الجغرافية. ولم يكن تركيز بارك وبيرجسي على البناء الفيزيقي للمدينة كما لم يكن تأكيدهما على القوانين الخاصة للمدينة «كبيئة طبيعية» يقلل من اثر النقد الحاد الموجه للنظرية لتجاهلها دور العوامل الثقافية.
فالمكان الحضري ليس مجرد موقع فيزيقي طبيعي، بل يستخدم دائماً وفقاً لحاجات ثقافية تتحدد من خلال المشاعر والقيم والافكار ومن ثم فان النظرية الايكولوجية عندما تقوم باغفال العوامل الثقافية بهدف تبسيط مشكلة البحث، فانها تسلب البيئة الإنسانيّة أو تجردها من كل معنى.
ان النظرية الايكولوجية بهذا المعنى قامت على تصورات غير كافية لصياغة نظرية محددة المعالم في المدينة يمكن ان تتميز عن نظرية اخرى تعالج موضوعاً آخر في اطار النظرية السوسيولوجية. واكثر من ذلك فان هذه التصورات لم تكن من الكفاءة بحيث تميز النظرية السوسيولوجية والاقتصادية.
الاتجاهات النظرية ودراسة المدينة العربية الاسلامية
(تحليل نقدي)
تستند الاتجاهات النظرية لدراسة ظاهرة التحضر وتفسيرها على التجارب التي شهدتها المدن الغربية في التحضر، وهي تعبر عن واقع تلك المجتمعات وما شهدت من صراع طبقي وتناقضات اجتماعية وكذلك تعبر عن اثر الثورة الصناعية التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر. وتعبر عن الحضارة الغربية بكل ابعادها وخصائصها.
وتلك النظريات كانت تعتمد على معايير غربية في التحضر وتستند على مفاهيم ومصادرات وتعميمات نابعة من واقع تلك المجتمعات وما شهدته من تقدم صناعي وتكنولوجي وتقدم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كان الامر كذلك فهل تصلح تلك النظريات لدراسة ظاهرة التحضر في كل مكان وزمان؟ وهل يمكن دراسة المدينة العربية الإسلامية في ضوء تلك المداخل المعرفية والاتجاهات النظرية؟
ان الاجابة على هذا السؤال تعتمد اولاً على تقييم المفاهيم والتعميمات التي قامت عليها تلك الاطر النظرية ـ ولابد من اعطاء تعريف للمفاهيم والتعميمات، ان تحديد المفاهيم بدقة ضرورة تحتمها الموضوعية للوصول إلى نتائج سليمة في البحث. ولتجنب اعطاء اراء مسبقة لا يدعمها الدليل لابد من تقييم المفاهيم بعد تعريفها للنظر في امكانية قبولها في البحث.
خاصة واننا لا زلنا نستعمل معظم تلك المفاهيم الاجتماعية كما وردت في الدراسات الغربية، الامر الذي قد يساعد على خروج دراسات سطحية تزيف الواقع بدل توضيحه وتفسيره وذلك لعدم مطابقة المفهوم للواقع، وما هذا الا جزء ولكنه هام من الاخطاء الشائعة في دراساتنا الاجتماعية العربية.وللتعميمات اثرها واهميتها في هذا الخصوص وفي هذه النقطة بالذات والتعميمات هي:
عبارات تربط بين مفهويمن أو اكثر من المفاهيم. اي انها عبارات توضح العلاقة بين المفاهيم، وبما انها تعمل على ربط فكرة مجردة بغيرها فهي اكثر تجرداً منها، وتتضمن كلمة تعميم المعنى الذي يرى انّه يمكن تطبيق تلك العبارة عالمياً أو بصورة عامة. والتعميمات في الوقت نفسه عبارات افتراضية يعتقد بانها حقيقة True لان الادلة تعمل على تدعيمها.(1)
وما زالت التعميمات تمثل عبارات قوية ومختصرة تدور حول الخبرة البشرية. وفوق هذا كله فهي تركز على العلاقات بين الاشياء، وانّه يمكن تطبيقها في مواقف عديدة وتمثل هذه التعميمات بجانب المفاهيم، اهم دعائم تنظيم المحتوى الاساسي لمنهج العلوم الاجتماعية. لذا يفضل البعض ان يطلق على التعميمات اسم «عبارات المفاهيم Concepgt Statement» أو الافكار الاساسية وفي العلوم الطبيعية قد لا يثور اي اشكال يتعلق بتحديد المفاهيم أو المصادرات والفرضيات والقوانين وان كان ذلك وارداً فيما يتعلق بالتطبيق اي في مجالات التقنية واستخداماتها ذلك ان حدود التجربة الفيزياوية أو الكيمياوية وابعادها واضحة محددة، لكن الامر يختلف بشكل حاد إذا تعلق البحث العلمي بحياة البشر وسلوكهم ومجتمعاتهم، حيث تتداخل وتتشابك عوامل كثيرة تجعل من التعميم في المنهج وفي المضمون خروجاً على قواعد العلم ودخولاً في متاهات وتناقضات مما يؤدي إلى نتائج مبتسرة بعيدة عن الواقع.
وقد يكون للوضع الراهن في العلوم الاجتماعية ما يبرره من حداثة النشأة وعدم استقرار التقاليد العلمية، وظروف وتاريخ بزوغ هذه العلوم في المجتمعات الغربية المتقدمة صناعياً.
ان المفاهيم التي هي اهم اسس البناء المعرفي سواء من حيث البناء النظري، أو المنهجية أو حتى الاستخدامات للعلم. ولعل التوصل إلى القوانين يعتمد في اساسه والى حد كبير على دقة المفاهيم وتطابقها مع الواقع. فاذا استطعنا ان ندقق في معاني المفاهيم بما يتناسب والواقع العربي وخصوصيته، تمكنا عندئذ من بناء نماذج نظرية علمية تساعد في دراسة وفهم المجتمع العربي وفي اعطاء تفسير للظواهر الاجتماعية ومنها ظاهرة التحضر.
والمفاهيم ينطبق عليها نفس الكلام الذي ينطبق على النظرية وهي مشتقة من وقائع معينة ومن تجارب تاريخية خاصة على سبيل المثال مفهوم أو مصطلح القرون الوسطى الذي سبق النهضة، هذا التقسيم للتاريخ تقسيم اوروبي. فقد ارتبط تطور الشعوب الاوروبية بهذا التقسيم ولكن بقية اجزاء العالم لم تمر به ولم تعرفه والقرون الوسطى الاوروبية بدأت بما يعرف بالعصور المظلمة التي بدأت مع انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوط روما على يد القوط سنة 476 م ثم تلاه افول الغرب لمدة تزيد عن ستة قرون. ولكن هذه الفترة بالذات كانت شيئاً مختلفاً بالنسبة للمدن العربية ففي القرن السابع الميلادي شهدت المجتمعات العربية ثورة حضرية ادت إلى تطوير المدن في العالم العربي وظهور مدن جديدة. ومع بداية ظهور الإسلام بدأ العرب في انشاء المدن التي شهدت نمواً حضرياً لم يسبق له مثيل. وكانت المدن الإسلامية العربية تمثل درجة عالية من التحضر.
وبما ان مفهوم العصور الوسطى مرتبط بالمجتمعات الغربية فانه ليس صالحاً لتطبيقه عالمياً. ولا يقتصر الامر طبعاً على هذا المفهوم الذي يرتبط بالبحث بشكل مباشر، ولكنه ينسحب على كثير من المفاهيم المرتبطة بالتحضر، كالتحديث والتغيير الاجتماعي.
بالتحليل الموضوعي لعملية التحديث (Modernization Process) يجد الدارس:
انها عملية انسانية مستمرة ترتبط ارتباطاً مباشراً باستخدام وتطوير الإنسان الدائم للجانب المادي من المعرفة الإنسانيّة التراكمية واستقلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها ايجابياً لتحقيق التقدم الإنساني بصورة مستمرة.
وتؤدي اضطرارية عملية التحديث الإنساني الكلية لان يكون مفهوم العصرية متغيراً تبعاً لتغير في عامل الزمن. ففي اي حقبة زمنية يكون المجتمع أو المجتمعات التي تمتلك اكثر المعرفة المادية تقدما واكبر مقدرة على التحكم بالبيئة هي الاكثر عصرية من غيرها من المجتمعات المزامنة لها.
فالعصرية اذاً هي مفهوم نسبي يعكس اكبر مقدرة للانسان على التفاعل واستخدام البيئة في مرحلة معينة. وليس بمفهوم مطلق ينطبق على كل العصور، فلكل عصر عصريته، ولكل حقبة زمنية مواصفات ونموذج للعصرية.
فعصرية العصور الوسطى تختلف بالتأكيد عن عصرية وقتنا الحاضر، وهذه بالطبع ستختلف عن عصرية مستقبل ما بعد مئات السنين.
ولهذا السبب يجب ان يكون تحليل ظاهرة العصرية مشروطاً بالحقبة الزمنية التي يجري دراستها، وذلك لتلافي الوقوع في الالتباس بأن العصرية هي ظاهرة مطلقة من جهة، وحتى لا يتم استخدام اسس حديثة في المقارنة بين عصرية حقبة سابقة مع عصرية الوقت الحاضر بدون الاخذ بعين الاعتبار التغير الحاصل في عامل الزمن من جهة اخرى.
وإذا كانت عملية التحديث تهدف إلى التفاعل مع البيئة واستخدامها للرقي بالحياة الإنسانيّة. فان التاريخ قد شهد تطور عدة حضارات سابقة حاولت جاهدة وبقدر استيعابها وتطويرها للمعرفة الإنسانيّة التراكمية، استخدام البيئة بهذه الغاية، ونجحت بذلك ضمن المعطيات التاريخية التي وجدت فيها وبقدر الامكانيات التي اتيحت لها. وفي الحقيقة مثلت كل حضارة من تلك الحضارات الرائدة عصرية عصرها. فالحضارة الإسلامية كانت الاكثر عصرية قبل تطور الحضارة الغربية. وقبل ذلك كانت هناك الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والتي مثل كل منها عصرية الحقبة الزمنية التي سادت فيها. هذه النقطة غير واضحة في معظم الكتابات الغربية المتعلقة بالتحديث والتي ترى عصرية الغرب بدون سوابق، وكأن العالم لم ير أي نوع من العصرية سوى الغربية فعملية التحديث اقدم من عملية الغربنة من الناحية التاريخية.(1)
وفي هذه النقطة بالذات هناك تناقض واضح في الكتابات الغربية ويرجع هذا التناقض إلى انّه على الرغم من ايمان المختصين بفكرة ظاهرة العصرية بالمقدرة على التحكم بالبيئة، وانهم يتفقون على اعتبار عمية التحديث في المجتمع الإنساني عملية تاريخية عامة ابتدأت مع ظهور الإنسان واستمرت باستمرار محاولاته التفاعل مع البيئة المحيطة به واستخدامها لخدمة منافعه، على رغم ذلك فهم يؤكدون ان عملية التحديث ابتدأت مع بداية تبلور اسس الحضارة الغربية واقتصرت على المنهاج الذي تطورت من خلاله النظم السياسية الاقتصادية، والاجتماعية السائدة في الغرب. وكأن الإنسان لم يبدأ في التفاعل مع البيئة إلاّ منذ بداية تبلور اسس الحضارة الغربية، فبالرغم من ايمان دانكوارترستو بان التحكم بالبيئة هو اساس عملية التحديث، نجده يؤكد بان هذه العملية بدأت في اوروبا اثناء عصر النهضة، وامتدت إلى ما وراء البحار مع ابتداء التوسع الاوروبي، ويدعم س، ايزنستادت (S.N. Eisenstadt) هذه الفكرة فيذكر في كتاباته بأن عملية التحديث هي التغير نحو تلك الاشكال من النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطورت في اوروبا الغربية واميركا الشمالية منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر.
يقدم لنا كل من رأى دستور وايزتستادت مثالاً جلياً عن عدم وجود تمييز واضح عند الغربيين بين الغربنة والتحديث كعمليتين تاريخيتين منفصلتين ومما يثير الاهتمام بهذا الشأن اعتبار هؤلاء المختصين ان النقلة النوعية في المعرفة الإنسانيّة والتي استطاع الاوروبيون تحقيقها في عصر نهضتهم كانت الاولى من نوعها في التاريخ الإنساني وانها هي النقلة الوحيدة التي مكنت الإنسان من بسط نفوذه على البيئة.
ولم يعتبر هؤلاء ان النقلات المعرفية عبر العصور كانت ركائز اساسية اعتمد عليها الغرب في احداث نقلته الجديدة في المعرفة الإنسانيّة.
وبمعنى آخر تناسى هؤلاء بان تفاعل الإنسان مع البيئة ابتداء منذ وجد الإنسان وان التحكم بالبيئة الذين يعزون بدايته لعصر النهضة الاوروبي ما هو إلاّ حلقة متطورة من مسيرة الإنسان الطويلة في تفاعله مع بيئته. وما يثير الاهتمام بالفعل في هذه النظرة الغربية هو ليس كونها مغلوطة تماماً، ولكن كونها جزئية منتقاة للتاريخ الإنساني هدفها المحافظة على استمرار هيمنة النفوذ الغربي على بقية العالم.
فالادعاء بأن الغرب عصري في وقتنا الحاضر هو ادعاء صحيح وواقعي وليس لدينا أي دليل علمي يدحضه، ولكن الادعاء بأن التاريخ الإنساني لم يشهد عصرية قبل ظهور الحضارة الغربية هو ليس فقط ادعاء خاطئاً وانما يدل على عدم الموضوعية والتحيز الايديولوجي وروح الاستعلاء لدى الكتاب الغربيين.
ان تقييم النظريات الغربية في التحضر للنظر في مدى امكانية تطبيقها لفهم وتفسير ظاهرة نشأة المدن الإسلامية يحتاج إلى بحث مستقل.
والتوسع في تقييم ونقد المداخل النظرية الغربية وما تشتمل من مفاهيم وتعميمات ترتبط بالبناء المنهجي يتطلب دراسة متأنية، وفي هذا الحيز المتاح لا يمكن سوى الاثارة السريعة إلى ان دراسة المدينة العربية الإسلامية بمعايير غربية وفي ضوء النظريات الغربية للتحضر يؤدي إلى نتائج مبتسرة في البحث، ومحاولة تفسير ظاهرة التحضر في المجتمع العربي اعتماداً على الاطر الغربية يؤدي إلى تزييف الواقع ويؤدي إلى الغموض بدل الوضوح، ويؤدي إلى سطحية الدراسة.
منقووووووول
مقدمة
لاشك ان العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانيّة لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم مذهل إلاّ بعد ما قامت بتطوير نظريات خاصة، ولم تحقق دقة القياس وموضوعية التفسير والتحليل والقدرة على الضبط والتنبؤ إلاّ بعد اعتمادها على اطار نظري ووضوح الاطار النظري لكل دراسة يُعد مطلباً ضرورياً لانجاحها وشرطا اساسيا لاكتسابها صفة العلمية والموضوعية.
وتختلف العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية في وضوح النظرية وصفة التراكمية، ففي العلوم الطبيعية تكون حدود التجربة واضحة والنظريات يستند بعضها على بعض تصحح وتوسع وتنقي النظريات القديمة، اما العلوم الاجتماعية فأول ما يواجه الباحث فيها ذلك التنوع والتباين بين ما يقدمه علماء الاجتماع من آراء وتعريفات وتفسيرات وما يتبنونه من مداخل وأطر تصورية وما يستخدمونه من اجراءات ووسائل منهجية حتى عندما يقبلون على دراسة نفس الحقيقة.
ان تعدد النظريات وتنوع ما ينطوي عليه كل منها من اتجاهات قد تخضع في اغلب الاحيان لتوجيهات ايديولوجية ثم تباين ما يرتبط بكل نظرية أو اتجاه من مفاهيم وتصورات وقضايا. كل ذلك يمثل عائقاً لمحاولة تصنيف النظريات السيولوجية أو لمقارنتها أو حتى لمجرد عرضها بشكل واضح. ذلك ان كل نظرية اجتماعية تقف نداً لنظرية اخرى وتكون مساوية لها ومعتمدة على منهاجية خاصة. فالنظريات الاجتماعية قاماتها متساوية ولا تستند احداها على الاخرى ولا تمت لها بصلة من قريب أو بعيد، فلكل نظرية منهج ومقدمات تصل إلى نتائج مغايرة لنتائج النظريات الاخرى. من هنا تبدو صعوبة التنظير في علم الاجتماع الحضري، والافتقاد إلى التكامل النظري في هذا الفرع من علم الاجتماع.
ان تعدد المداخل النظرية و المناهج المعرفية التي عالجت مسائل التحضر والحضرية وانتمائها في اغلب الاحيان إلى فروع معرفية اخرى تبتعد عن مجال علم الاجتماع كالجغرافية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة زاد من صعوبة التنظير أو تصنيف النظريات السيولوجية مما جعل البعض يعتقد ان علم الاجتماع الحضري المقارن لم يولد بعد أو ان الجانب النظري في هذه الدراسات لا زال ناقصاً إلى درجة كبيرة.(1)
وفي الواقع ان مسار التطور في نتائج العلوم التجريبية يقوم على فكرة الاستمرار والاتصال والتراكم، بمعنى انّه موصول الحلقات. كل واحدة منها تترتب على ما يسبقها وتفضي إلى ما يليها وكل نتيجة جديدة في العلم تستوعب وتشمل ما سبقها وتضيف اليها جديداً.
اما التطور في العلوم الإنسانيّة فيتم بدرجة كبيرة في البطء، وغالباً ما تكون التعميمات الجديدة فيها اشبه بوجهات نظر مختلفة أو نظريات مختلفة، لا تضيف إلى ما سبقها جديداً بقدر ما تقدم رأيا بديلا لرأي آخر أو نظرية مغايرة لنظرية اخرى. والباحث في العلوم الطبيعية لا يستطيع ان يبدأ من الصفر، بل لابد وان يدخل في اعتباره النتائج والتعميمات العلمية السابقة، لكي يبدأ من حيث انتهى غيره.
اما الباحث في العلوم الإنسانيّة فمن الممكن ان يرفض كثيراً من النظريات المختلفة الموجودة في العلم، ويبدأ من جديد مقدما نظرية جديدة أو وجهة نظر مختلفة. وهذا واضح في كثرة المدارس والمذاهب والاتجاهات في العلوم الإنسانيّة. فكـل نظرية لا تضيف جديداً إلى ماسبقها بقـدر ما تكون بديلاً مقترحاً لها.(2)
وهناك نقطة اخرى جديرة بالملاحظة وهي ان العلوم الاجتماعية تتكامل من زاوية افقية، بمعنى ان البحث في احدها يتطلب استخدام نتائج علوم اخرى غيرها، فلا يمكن مثلا دراسة مشكلة اجتماعية مثل مشكلة الطلاق، بدون اعتبار عوامل تنتمي إلى علوم اخرى غير علم الاجتماع، مثل التوافق السيكولوجي بين الزوجين وهي ينتمي إلى مجال علم النفس، أو مثل انخفاض مستوى الدخل عن الحد الادنى لمتطلبات المعيشة وهو عامل ينتمي إلى الاقتصاد وغير ذلك. وهكذا، بدأت تظهر فروع جديدة في العلوم الإنسانيّة المختلفة تؤكد على وجود هذا التكامل وعلى ضرورة الربط الوثيق بينها وبين علوم اخرى من جانب آخر. كما هو الحال في «علم الاجتماع الطبي»، «علم الاجتماع السياسي»، «علم الاجتماع اللغوي»، «الجغرافيا الاقتصادية»، «علم الاجتماع الحربي»، وغير ذلك.
ويمكن تعريف النظريات على انها «تنظيمات من التعميمات والمفاهيم التي تكون على علاقة مع بعضها بعض، انها الافكار المعقدة التي تتكون من عدد من الافكار الاقل ترابطا، انها تعمل على تجميع اجزاء المعرفة التي تشكل معا وحدة ذات معنى(1).
ويؤكد البعض ان النظريات أو المبادىء تمثل اعلى درجات التجرد المعرفي، واكثرها بعدا عن البيانات أو المعلومات التي اعتمدت في الاساس.
والنظريات الجيدة في العلوم الاجتماعية تتصف بما يلي:
(1) توضح العلاقة بين المتغيرات التي تم تحديدها من قبل.
(2) تشكل نظاما استنتاجيا، وتكون منطقية التنسيق ويتم اشتقاق المبادىء المجهولة فيها من المبادىء المعروفة.
(3) ان تكون مصدرا للفرضيات القابلة للاختيار.
وتثور هنا قضية مدى حياد العلوم الاجتماعية ومدى حياد الباحث الاجتماعي، بمعنى مدى ارتباط البحث العلمي في ميادين العلوم الاجتماعية بالايديولوجية التي يتبناها مجتمع ما أو حتى مدى تأثيره بأيديولوجية الباحث نفسه. ولا شك في ان حسم هذه القضية يرتبط بالموقف الفلسفي اما موقف مثالي أو موقف مادي. ويتعين تجنب الخلط بين «النظريات الاجتماعية» وهي نظريات مشروعة يحكم الواقع لها أو عليها و«النظريات الفلسفية والسياسية» للمجتمع الامثل. فالماركسية مثلاً والبنيوية تحاولان الجمع بينهما، بل لا تميزان بين العقيدة الفلسفية أو السياسية والدينية الخاصة بأي باحث ما وحقيقة العلاقات الاجتماعية، كما تتجلى من خلال الواقع ذاته بما في ذلك العقائد، ولكن باعتبارها شيئاً اجتماعياً(2).
ويرتبط بالايديولوجية مصداقية البحوث الاجتماعية من المجتمعات العربية ذلك انها لم تكن دائماً عربية لا من حيث الباحثين ولا من حيث التوجهات ولا من حيث اللغة. فالذين كتبوا علمياً في بداية هذا القرن عن العرب كانوا ينتمون إلى مجتمعات تستخدم المعرفة الاجتماعية للسيطرة على العرب ولدعم نفوذ الغرب عليهم(3).
وارتبطت البحوث الاجتماعية بالنزعة الاستعمارية الانجليزية والفرنسية خاصة. وبديهي انّه ليس من المفروض ان يكون الاجنبي اكثر قدرة على البحث لتخلصه من الماقبليات ولتجرده، لان ذلك قد يعرضه إلى تجاهل امور من الاهمية بمكان فينقل ما تجمعت لديه من افكار وأحكام يسلطها على الموضوع. وهذا لا يعني ان الباحث العربي لابد له ان يصد عن النظريات الغربية السائدة، وانما نعني ذلك ان عليه ان يسعى دوماً الا تطغى النظريات على المنهاجية الا آلات مسح ووسائل تحليل عليه نقدها هي على ضوء الواقع الاجتماعي العربي لا نقد المجتمع العربي على ضوئها هي، كما هو حاصل في كثير من البحوث الاجتماعية التي يلهث فيها الباحث لاثبات بديهيات ثابتة منذ عهد بعيد، أونقل استنتاجات قد تكون تحققت فعلاً في مجتمعات اخرى، ولكن في ظروف مغايرة. فنراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات ويسلطونها من اعلى على الاوضاع الاجتماعية العربية. والحال ان تلك المفاهيم والنظريات وان كانت طريفة في حد ذاتها وجديرة بالاهتمام والدرس والعناية فانها اصلاً وليدة المجتمع الاوروبي واستخدامها باسم عالمية المعرفة العلمية امر غير مشروع لانها لم تأخذ بعين الاعتبار كل الاوضاع والظروف الممكنة انسانياً. ونقلها بتلك السهولة والبساطة إلى المجتمع العربي يدل على التقليد والتبعية للغرب ويدل على الهزيمة الحضارية.
ولذا نلاحظ ان كثيراً من البحوث الاجتماعية لا مبرر لها سوى ارادة اثبات صحة النظرية اياً كانت. فتكون بمثابة تصريف النظريات على حساب المنهاجية وعلى حساب الواقع الاجتماعي العربي.
الوطن العربي في حاجة إلى ابراز خصوصياته عن طريق البحث الميداني وعن طريق التنظير اكثر مما هو في حاجة إلى تجاوز تلك الخصوصيات نحو معرفة في نهاية التجرد كما تدعونا إلى ذلك اتجاهات البحث الغربية.
علينا ان نركز على منهاجيات تساعد على مزيد من التعرف على الذات.
المدينة في ضوء معطيات علم الاجتماع الحضري:
ان معظم الدراسات المبكرة التي عالجت موضوع المدين كانت تنتمي لعلوم اخرى غير علم الاجتماع الحضري، كالتاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والسياسة والآثار والفلسفة، حتى الدراسة الاولى التي قدمه احد علماء الاجتماع كانت معالجة اقتصادية، فقد كتب رينيه موريه كتابه: «نشأة المدن ووظائفها الاقتصادية» سنة 1910 وكانت دراسته للمدينة دراسة اقتصادية بعيدة عن الحضرية والتحضر(1).
وقد كانت البداية الحقيقية لنشأة وتطور علم الاجتماع كمجال متميز للبحث والدراسة على يد العالم الامريكي روبرت بارك R. Park الذي كانت مقالته عن المدينة سنة 1915، ايذاناً ببدء مرحلة جديدة لقيام فرع جديد ومستقل من فروع علم الاجتماع يوجه اساساً لدراسة المدينة (علم الاجتماع الحضري) ومع ان الاهتمام السوسيولوجي بدراسة المدينة والحياة الحضرية بصفة عامة لم يكن مقصوراً على ما قامت به جامعة شيكاغو ـ التي انتمى لها كل من بارك وييرجسي وتلاميذهما ـ في دراسات وبحوث وجهت اساساً لدراسة مدينة شيكاغو. ومع ان الاصول الفكرية والنظرية لتلك المدرسة كانت تتفق مع الكثير من الافكار التي ساقها دور كايم وفيير. الا ان هناك اجماعاً بين المهتمين بالتاريخ لعلم الاجتماع الحضري على ان هذا الفرع من علم الاجتماع كان في البداية علماً امريكياً(2).
وبلغ علم الاجتماع الحضري الذروة من الأهمية في اواخر العشرينات واوائل الثلاثينات تحت تاثير البرنامج الدراسي الذي وضعه بارك وييرجسي وزملاؤهما في جامعة شيكاغو. وفي نفس الوقت لعبت ظروف العصر حينذاك دوراً هاماً في تحديد الموجهات النظرية والتصورية لهذه المدرسة. فقد ظلت التناقضات واضحة بين (المدينة) و(الريف) في الولايات المتحدة مما سهل النظرة إلى المستوطنات الحضرية على انها تمثل شكلاً متميزاً وفريداً من نوعه عن اشكال التنظيم الاجتماعي.
ومثلت النظر إلى المدينة على انها شكل متميز من اشكال المجتمعات المحلية الإنسانيّة اتجاهاً اساسياً في تراث علم الاجتماع الحضري، حتى التعديلات التي لحقت مجال العلم ومداخل دراسته واساليب بحثه كانت انعكاساً واضحاً لما طرأ على هذه النظرة من تعديل مستمر. وشهدت دراسة المدينة مداخل نظرية عديدة، كان من ابرزها واكثرها ارتباطاً بالاطار العام للتحليل السوسيولوجي مرحلتان متميزتان هما المدخل الايكولوجي والمدخل التنظيمي أو السلوكي، ولقد كان مدخل المتصل الريفي ـ الحضري بمثابة رد الفعل أو التعديل المباشر للمدخلين السابقين. ويستند هذا المدخل إلى فكرة ان اي خاصية للظاهرة بدرجة معينة وان هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى التجريبي أو الواقعي. ومن ثم يشير المتصل الريفي ـ الحضري إلى وجود نوع من التدرج بين خصائص الريفية والحضرية اشبه بخط مستقيم. حيث تتزايد درجة اي خاصية أو تقل بنسب متفاوتة تُمكن من تصنيف المجتمعات وفقاً لوقوع خصائصها على نقطة معينة على طول هذا المتصل. وتسهل بالتالي من تفسير الاختلاف والتنوع في انماط السلوك وأساليب الحياة(1).
وذهب عدد من الباحثين القدامى والمحدثين ــ سواء من كان منهم من المؤرخين الاجتماعيين أو من علماء الاجتماع ذي النزعة التاريخية ـ إلى ان ظواهر التحضر والحضرية وان كانت تمثل تغيراً ثورياً في النمط الكلي للحياة الاجتماعية، فانها لابد وان تكون نتاجاً لتطورات مجتمعية، بحيث لا يمكن فصلها عن السياق التاريخي الذي مهد لها أو دعمها، وانّه إذا كانت العملية تحدث وتزداد نمواً بمعدلات هائلة في كل انحاء العالم في الوقت الحاضر الا انها تختلف في صورتها ومداها واتجاهاتها باختلاف الزمان والمكان ايضاً. انها عملية لا تزال واقعة ومستمرة لم تتوقف بعد. وما زال الكثير من مصاحباتها ونتائجها ومشكلاتها تمثل واقعاً حياً تعيشه اجزاء عدة من ارجاء المعمورة. الامر الذي يجعل من الصعب التكهن باتجاهاتها المستقبلية ولقد ساعدت هذه الدراسات التاريخية لظواهر التحضر على دراسة المدينة في ضوء النماذج المجتمعية وفي تتبع نموها ومعرفة خصائصها في الثقافات المختلفة وخاصة التاريخية منها ومكنت من تجنب التصور الخاطىء: «بأن الحياة الحضرية بخصائصها المعروفة نتاج للثقافة المعاصرة» ذلك التصور الذي من شأنه أن يعزل الطابع الحقيقي للحياة الحضرية عن السياق التاريخي الذي دعمها وجعلها تتخذ اتجاهات محددة. ولعل من اهم ما اسهمت به هذه الدراسات التاريخية انها مهدت الطريق لتحليل عمليات التحديث في دول العالم الثالث وتوجيهها، حيث تبذل في الوقت الحاضر جهوداً مكثّفة نحو محاولة اختبار مدى صدق النظرية الغربية بتطبيقها على واقع الدول النامية باستخدام المنهج المقارن.
الاتجاهات النظرية الكلاسيكية ودراسة المدينة:
ويمكن عرض الاتجاهات النظرية الكلاسيكية التي تتناول موضوع المدينة، وتعطي تفسيراً لنشأة المدن ولظاهرة التحضر. ثم تقييمها وهل يمكن تطبيقها على واقع المدينة العربية الإسلامية وتبدأ بالاتجاه التاريخي
(1) الاتجاه التاريخي
يعتبر الاتجاه التاريخي احد اتجاهات علم الاجتماع الحضري وهو يصور تطور اشكال المجتمعات المحلية الحضرية الاولى. ويهتم هذا الاتجاه كذلك بدراسة تحول المناطق الريفية إلى مناطق حضرية، ويتناول التطور والانتشار الثقافي والحضري(2).
ويتمثل هذا الاتجاه في كتابات ن. س. ب. جراس N.S.B. Grass (1922) ولوتش Loche (1937) وهاريس واولمان Harris g Olman (1945). فقد ناقش هؤلاء العلماء الجذور التاريخية للمناطق الحضرية وطبيعتها وتنوعها وخصائصها. ومن اشهر محاولات الاتجاه التاريخي تلك التي قدمها جوردن تشيلد Child حيث يحدد ملامح ما اطلق عليه (الثورة الحضرية المبكرة) ومن بين هذه الملامح الاستيطان الدائم في صورة تجمعات كثيفة، وبداية العمل بالنشاطات غير الزراعية، وفرض الضرائب وتراكم رؤوس الاموال، واقامة المباني الضخمة وظهور طبقة حاكمة مسيطرة، وتطور فنون الكتابة، وتعلم مبادىء الحساب، والهندسية، والفلك، واكتساب القدرة على التعبير الفني ونمو التجارة(1).
وتناول فوستيل دي كلانج Fustel de Couange تاريخ المدينة العتيقة وارجعها إلى نفوذ الدين الحضري، وعرض لويسى ممفورد المدينة من جهة نظر تاريخية والقى الضوء على نموها وكبر حجمها واشار إلى انها تمر بمراحل ونماذج معينة هي:
1 ـ مرحلة النشأة Eopolis.
2 ـ مرحلة المدينة Polis.
3 ـ مرحلة المدينة الكبيرة Metropolis.
4 ـ مرحلة المدينة العظمى Megalopolis.
5 ـ مرحلة المدينة التيرانوبوليس Tyrannopolis.
6 ـ مرحلة المدينة النكروبوليس Nekopolis.
مرحلة النشأة: ويقصد بها المدينة في فجر قيامها، وتتميز بانضمام بعض القرى إلى بعضها واستقرار الحياة الاجتماعية إلى حد ما، وقد قامت المدينة في هذه المرحلة بعد اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان، وقيام الصناعات اليدوية والحرفية.
مرحلة المدينة: وتمتاز بوضوح التنظيم الاجتماعي والاداري والتشريع، وتتفشى فيها التجارة، وتتسع الاسواق للمبادلة، وتتنوع الاعمال والوظائف والاختصاصات وتتميز بالتمييز الطبقي بين مختلف الفئات، واتساع اوقات الفراغ، وظهور الفلسفات، ومبادىء العلوم النظرية والاهتمام بالفلك والرياضيات وقيام المؤسسات والفنون ونشأة المدارس، وعقد حلقات المناظرات.
مرحلة المدينة الكبيرة: وتعرف بالمدينة الام، ويتكاثف فيها عدد السكان، ويتوفر فيها الطرق السهلة وتربطها بالريف شبكة من المواصلات السريعة. وتهتم الحكومة فيها بتحقيق مطالب سكانها، وتنفرد بمميزات خاصة كالتجارة أو الصناعة. وتتنوع الوظائف وتعدد المهن والتخصص ونشأة المعاهد الفنية العليا.
مرحلة المدينة العظمى: وتتمثل في انبثاق المدن العظمى في القرن التاسع عشر، ويبدو في هذه المدن التنظيم الآلي والتخصص وتقسيم العمل. وظهور الفردية وتنتشر النظم البيروقراطية في الادارة واجهزة الحكم، ويظهر الصراع الطبقي بين العمال واصحاب الاعمال، مما يؤدي إلى تناقضات اجتماعية وفساد في الادارة، وتنتشر الانحرافات والجرائم في محيط الاحداث.
مرحلة المدينة التيرانوبوليس: وتمثل اعلى درجات الهيمنة الاقتصادية للمدينة، فيها تعتبر مسائل (الميزانية والضرائب والنفقات) من اهم الميكانيزمات المسيطرة، كما تظهر المشكلات الادارية والفيزيقية والسلوكية الناجمة عن كبر الحجم.
ويشهد المجتمع حركة واسعة النطاق للرجوع إلى الريف أو إلى مناطق الضواحي والاطراف هرباً من ظروف العيش غير المرغوبة.
مرحلة المدينة النيكروبوليس: ويمثل هذا النموذج الحضري نهاية المطاف في مراحل التطور التاريخي، ومع انّه لم يتحقق بعد، الا انّه آت لا محالة ـ في نظر ممفورد ـ عندما يصل الانحلال إلى ذروته مقترناً بافول الحضرية، واحياء جديد للريفية، وظهور مدن الاشباح.
ويؤخذ على نظرية ممفورد انها تعمل على تحطيم الحضارة والفنون والعلوم وتدعو إلى الحروب(1).
وتناول يوسكوف الاشكال الحضرية التي ظهرت في العالم منذ فترة تمتد إلى ما قبل الميلاد، وتصل إلى العصر الحديث، وحدد هذه الاشكال في ثلاث موجات حضرية تتلخص في الآتي:
الموجة الحضرية الاولى (سنة 4500 قبل الميلاد ـ سنة 500 بعد الميلاد) وهي الفترة الكلاسيكية للتحضر، حيث ظهرت المراكز الحضرية حول احواض الانهار واوديتها التي استخدمت لزيادة انشطة الزراعة ونقل المحاصيل، ونشأت هذه المدن تؤدي وظيفتها الدفاعية لصد هجمات المغيرين.
الموجة الحضرية الثانية (سنة 1000 ـ 1800 بعد الميلاد) وتميز هذه الفترة بامتداد المراكز الحضرية واتساع نطاقها، وارتباطها بالنمو الصناعي المكثف(2).
لقد استعرض يوسكوف الفترات التاريخية لعملية التحضر التي ميزت المجتمع العالمي. اما ايريك لامبارد E.Lampard فقد اهتم بتوضيح اشكال التحضر التي مرت بالعالم فرأى انّه يمكن التمييز بين اربعة اشكال هي(3):
التحضر البدائي Primordial Urbanzation وتحدث فيه محاولات عديدة من قبل الإنسان ساكن المركز العمراني بصفة عامة لاحداث التكيف مع البيئتين الفيزيقية والاجتماعية.
التحضر المميز المحدد Defintive Urbanization ويبدأ في هذا الشكل ظهور المدن وتتحدد وظائفها وتستبين خصائصها، وتبرز مشكلاتها ورغم ان هذا الشكل قد ساد مناطق العالم بصفة عامة الا انّه كان اوضح بالنسبة لمناطق بذاتها وهي تلك التي شهدت مولد المدن الاولى بالعالم (مصر، والعراق).
التحضر الكلاسيكي Classic Urbanization وهو المرحلة الاخيرة التي بدأت تتضح معالمها مع بدايات القرن العشرين حيث سعى سكان المناطق المجاورة للمدينة إلى الهجرة اليها والاستقرار بها سعياً وراء فرصة عمل متاحة بدرجة اكثر في المجال الصناعي وتدر دخلاً اكبر وتحقق في ذات الوقت مستوى معيشياً اعلى. ولم يخل هذا الشكل من الظواهر التي ترتبت على تركز العمال بالمدن وارتبطت بعلمهم مثل الغياب، والانحراف والسكن، وقضاء وقت الفراغ.. الخ.
(2) الاتجاه التنظيمي
ينظر الاتجاه التنظيمي إلى المدينة باعتبارها شكلاً فريداً من النسق الاجتماعي أو التنظيم يشتمل على تطوير وسائل الاتصال والميكانيزمات الاجتماعية والسياسية بما يسمح بانتقال المجتمع من الشكل البسيط إلى صورة اكثر تعقيداً. كما ان التحضر معناه تراكم التطور والتعقد النظامي. ويحتوي ذلك التعقيد النظامي تاريخياً على تطور الحكومات المركزية القوية. وتطوير الاسواق المحلية والاقليمية والعالمية. وانتشار الاشكال المختلفة للتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، كالنقابات واتحادات العمال وروابط اصحاب العمل.. الخ فضلاً عن التغييرات التي لحقت ببناء وحدات التنظيم القائمة ووظائفها كالاسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية، واتساق المكانة، والتدرج الطبقي والتكامل المعياري وبناء القوة وطبيعة الضبط الاجتماعي والبيروقراطية.
وفيما يرى «ويرث» فكلما زاد عدد الكسان، وارتفعت معدلات كثافتهم وعظم تباينهم، عبر ذلك عن المظاهر الحضرية، تلك التي تتمثل في ضعف الروابط القرابية، واختفاء روابط الجيرة وانهيار الاسس التقليدية للتماسك الاجتماعي، وتصبح العلاقات الاجتماعية علاقات غيرشخصية، وانتقالية، ومؤقتة، وعابرة، وجزئية، مما يؤدي إلى افول العلاقات الاولية، ليحل محلها العلاقات الثانوية، ويحل الضبط الرسمي محل روابط التضامن.
اما متغير اللاتجانس فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغير «الحجم» و«الكثافة» وهو يؤدي إلى سلسلة من الظروف الاجتماعية لعل من اهمها ظهور نسق اكثر تعقيداً للتدرج الطبقي، وزيادة معدلات الحراك باشكاله الفيزيقية والاجتماعية، وتكوين شخصية «عالمية كوزموبوليتية».
وفي الاتجاه المضاد، قد يؤدي التمايز إلى نوع من الجمود يسيطر على حياة المدينة مما يعمل على وجود نسق للتفاعل الاجتماعي يتميز بعلاقات غير شخصية.
كما ان تنوع النشاطات والبيئات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الحضري من شأنه أن يؤدي إلى قدر لا يستهان به في تفكك الشخصية وزيادة معدلات الجريمة والانتحار والمرض العقلي.
كما اشار روبرت إلى ان التغيرات التي ترتبط بالتحضر قابلة للانشار إلى خارج المدينة.
ويؤخذ على نظرية لويس ويرث انّه استهدف اطلاق تعميمات تنطبق على جميع المدن، مع ان استنتاجاته لا تنطبق الا على المدن الصناعية وحدها. كذلك فان وضع نتائجه في ضوء ظروف حياة المدينة في فترة العشرينات والثلاثينات من هذا القرن. وهي فترة تميزت بمعدلات انتاجية منخفضة، وانهيار اصحاب المناطق الداخلية في شيكاغو. وندلل على ذلك بان كثيراً من المثقفين الامريكيين ابدوا قلقهم البالغ على ظروف التفكك الاجتماعي والتباين الثقافي والكساد الاقتصادي الذي تعرضت له الولايات المتحدة. اما المناطق الخارجية فقد خرجت من مجال دراسته. يضاف إلى ذلك ان المدن الامريكية خلال الفترة التي وضع فيها نظريته تميزت بالهجرة اليها من بلدان اقل حضارة. اما الانتاج فقد بدأ بالارتفاع بعد ظهور هذه النظرية. ويظهر خطأ نظرية ويرث في انّه اعتبر ان العلاقات الثانوية قد حلت محل العلاقات الدولية بينما تبين من نظريات اخرى ان العلاقات الاولية والجيرة تعد من مظاهر الحياة اليومية بين ساكن المدن. ومن ناحية اخرى فقد اكتشف علماء الاجتماع ان المناطق الريفية في انجلترا تتسم العلاقات الاجتماعية فيها بالتنوع والتعقيد. وتتجلى هذه العلاقات في صور متعددة تتمثل في الجيرة، والنسب، والزواج، والعضوية في الكنيسة، والعضوية في جماعات عمرية متقاربة، وفي النوادي الاجتماعية. وقد اكد مان هذا المعنى، فالتنقل من المجتمع الريفي إلى المجتمع الحضري في رأيه لا يؤدي بالضرورة إلى التغير في العلاقات الاجتماعية من علاقات اولية إلى علاقات ثانوية.
وقد اعترض اوسكار لويس في كتابه ثقافة الفقر Cluture of Poverty على نظرية ويرث. وقال ان المهاجرين من ريف المكسيك إلى مدنه قد احتفظوا بعائلاتهم الممتدة، وتبدو اهمية الجماعات الاولية للانسان الحضري مثلما تبدو اهميتها للانسان الريفي.
ويذكر ويرث ان الضبط الرسمي يسود بين سكان المدن. ومع ذلك يلاحظ قلة اهمية الضبط الرسمي في النسق الحضري. وتبدو اهمية الضبط غير الرسمي. هذا ولم يقتنع علماء النفس بالخصائص التي ذكرها ويرث للحياة الحضرية.
ففي رأيهم ان الحجم والثقافة والكثافة واللاتجانس وهي حقائق ديموجرافية لا تمت بصلة إلى الجانب السيكولوجي، واخيراً يؤخذ على لويس ويرث انّه لم يضع تحت الاختبار اكثر من الخصائص التي ذكرها وهي الحجم والكثافة واللاتجانس، وأغفل ذكر المراحل الهامة التي تؤثر بها الخصائص الحضرية على الشخصية والاتجاهات.
وبالرغم من النقد الذي وجه إلى نظرية ويرث، فلم تقدم نظريات اخرى في الفكر الغربي أو علم الاجتماع الكلاسيكي تصوراً وادراكاً شاملاً لطبيعة حياة المدينة كما فعلت نظرية ويرث.
(3) الاتجاه السيكولوجي
الاتجاه السيكولوجي يحاول ان يفسر المجتمع في ضوء علم النفس الاجتماعي، وذلك بالتركيز على الذات واتجاهات الفرد وعواطفه ودوره في العقل الجمعي، وبمعنى آخر كيف يفسر الفرد الجماعة؟ في ضوء هذا التصور فان الجماعات ليست موجودة فيزيقياً وانما هي مجرد حصيلة جمع عدد من الافراد يلعب فيها الفرد دوراً.
ويلجا الاتجاه السيكولوجي في مجال التنمية الحضرية إلى اكتشاف الضغوط السيكولوجية ومواقف الافراد في محاولة لفهم الظروف الإنسانيّة المعقدة، في المناطق الحضرية على وجه الخصوص ويعتبر ماكس ويبر Max Weberمن انصار اعلى درجات الفردية/التفرد.
وبعيداً عن محاولة تصور المجتمع المحلي الحضري في ضوء ثنائية متعارضة الاطراف أو في ضوء متصل تتدرج على طوله خصائص كلا المحورين أو القطبين الريفي والحضري برزت محاولات اهتمت بتحليل المجتمع الحضري كظاهرة تستحق الدراسة لذاتها ودون حاجة إلى مقارنتها بظواهر اخرى معارضة. وقد عرفت هذه المحاولات بالتصورات الاستنباطية. وسبب هذه التسمية ان اصحابها كانوا يستدلون على صحة نظرياتهم بالاسلوب المنطقي فكانوا يبدأون تصورهم للمجمع الحضري ـ والمدينة بصفة خاصة ـ ببعض الافتراضات أو القضايا التي يعتبرونها مسلمات أو مصادرات في غير حاجة إلى برهان، ثم ينتقلون عنها إلى استنباط قضايا اخرى غيرها تمثل خصائص مميزة لحياة الحضرية. ويتوقف صحة النتائج على صحة المقدمات وسلامة التسلسل المنطقي. ومن هذه المحاولات كانت نظرية لويس ويرث التي سبق ذكرها.. وتبعه في نفس الاسلوب جورج زيمل G. Simmel لكنه بدأ في تصوره للحياة الحضرية بخصائص اجتماعية ـ وليست ايكولوجية كالحجم والكثافة واللاتجانس. كبديهيات يستنبط منها مختلف الخصائص والنتائج السيكولوجية، وشرع في تحديد ما يمكن ان يترتب على التعقيد النظامي غير المحدود للمدن الكبرى من نتائج على سيكولوجية الافراد. وانتهى زيمل إلى نفس النتائج التي توصل اليها ويرث على اساس متغيرات الحجم والكثافة واللاتجانس. مثال ذلك ان زيمل كان على يقين بان ساكني الحضر بحاجة ماسة إلى مزيد من الدقة والتوقيت ليتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم وسط هذه الشبكة المعقدة للوظائف الحضرية، وان من اهم نتائج هذا التعقيد تطوير اقتصاد السوق والتنظيمات البيروقراطية الكبرى، وسيطرة روح العقلانية والعلاقات اللاشخصية، وهذا ينعكس بدوره على شخصية الحضري. فلكي يتوافق الحضري مع هذا التعقيد النظامي عليه ان يكون اكثر عقلانية واحساساً بالكم والوقت ان «المال» و«العقل» وليس «الروح» اول «القلب» يصبحان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان من اهم المقومات التي تضمن بقاء واستمرار وتوافق الشخصية الحضرية والإنسان في المدينة يشعر انّه في حالة ضياع نظراً لتعدد جوانب الحياة فيها، هذه الحالة النفسية هي التي تجعل الناس يبتعدون عن الاستجابة العاطفية نتيجة لتعقد الحياة الحضرية الامر الذي تصبح معه العلاقات بين الإنسان واقرانّه وبينه وبين البيئة عموماً علاقات جزئية.
وبالمثل تابع كنجز دافز K. Davis نفس الطريقة الاستنباطية في حديثه عن المجتمع الحضري اذ استطاع ان يتوصل إلى استنتاج عدد كبير من الخصائص الحضرية التي تترتب على «زيادة الحجم» المرتبطة بعملية التحضر كمقومات مسلم بها. وتختلف هذه الخصائص كثيراً عن نتائج ويرث، حيث اشار دافيز إلى ان اهم النتائج التي تترتب على الحجم هي زيادة التغير الاجتماعي وانتشار العلاقات السطحية الثانوية وتطوير الروابط الطوعية، كما ان تزايد الكثافة يعني في نظره زيادة الاتجاه نحو العزل المكاني وانتشار الفردية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة سيطرة وسائل الضبط الرسمي.. الخ.(1)
ويؤخذ على الاتجاه السيكولوجي انّه في تحليله للظواهر الاجتماعية يرجعها إلى ظواهر نفسية من صنع الافراد وكأن المجتمع ليس له وجود والحق انّه تحدث في المجتمع امور لا يصح ان ننسبها إلى افراد معينين، وذلك لانها تنشأ من علاقات الاراد في حالة الاجتماع وتبادل وجهات نظرهم وتفاعل افكارهم واحتكاك مشاعرهم وتوحد مواقفهم. هذا بالاضافة إلى ما يحيط بهم من ظروف طبيعية وبيئية وتاريخية تصهرهم جميعاً في بوتقة جمعية وتؤدي إلى ظهور عقل جديد للجماعة وهو ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميته بالعقل الجمعي. وهذا العقل مستقل عن الافراد، وله منطق خاص ومظاهر للسلوك تختلف عن مظاهر السلوك الفردي.
كذلك فان المدرسة النفسية ترفض مشاركة الفرد في حياة المجتمع وحاجياته في حالة احتياج الفرد للمساعدة.(2)
(4) اتجاه التوجه القيمي والثقافيValue - Orientation
تؤكد هذه الدراسة على متغير القيم الثقافية أو الاجتماعية كمتغير محوري عند دراسة انماط استخدام الارض والبنيات الحضرية الاجتماعية. وتدخل كتابات ماكس فيبر في اطار تراث هذه المدرسة فقد اعتبر فيبر قيم الإنسان الاجتماعية الثقافية المتغير المفسر المستقل على حين اعتبر البناء الاجتماعي للمدينة متغيراً تابعاً.(3)
ورغم ما تعرضت له مدرسة القيم من وجوه نقد عديدة فان كثيراً من العلماء الاجتماعيين اكدوا ان القيم لا يمكن تجاهلها.
ودليل ذلك ان كل من ديكسون في كتابه «مدينة الغرب الاوروبي» وجونز في كتابه «الجغرافيا الاجتماعية للبلفاست» وفون جروندام في مقال عن المدن الإسلامية اجمعوا على اهمية القيم الثقافية وتأثيرها على الايكولوجيا الحضرية. ففي المدن الإسلامية تحدد القيم الدينية الانشطة الموسمية لدرجة كبيرة. فعندما ينادي المؤذن للصلاة تتوقف بعض الانشطة، وفي شهر رمضان تتغير ساعات العمل ومواقيت الانشطة اليومية وتتعرض بعض الانشطة الاخرى في مجالات التجارة والصناعة لبعض التقلصات الوقتية مما يوضح اهمية القيم في تفسير بعض الانماط الاكولوجية من هذا النوع.
ويكاد يقر كثير من علماء الاجتماع ان القيم تتدخل في تشكيل كثير من الظواهر الاجتماعية داخل المراكز الحضرية. فقد وظف فيبر في كتابه عن المدينة فكرة ان القيم تعد عنصراً مسؤولاً عن كثير من وجوه التباين القائمة بين المدن في العديد من الوضعيات الثقافية المميزة.
ولقد سيطرت هذه الفكرة كذلك على اتجاهات الباحثين الذين يدرسون التنظيم الاجتماعي من خلال الرؤية الحضارية المقارنة.
(5) التطور الاقتصادي
تمثل الحضر فيه وفقاً لهذا التصور مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاقتصادي البشري وبالتالي ارتبط التحضر والنمو الحضري، بحركة الانتقال والتحول إلى التنظيمات الاقتصادية الاكثر تعقيداً أو بمعنى ابسط الانتقال من حالة تقوم فيها الحياة الاجتماعية على اساس العمل أو الانتاج الاولي كالصيد والزراعة إلى حالة تقوم فيها الحياة عى اساس العمل الصناعي والتجاري والخدمات، أو هي بعبارة ثالثة حالة الانتقال من اقتصاد المعيشة إلى اقتصاد السوق، والواقع لقد ترجم هذا التصور في صياغات وعبارات مختلفة، اكدت كلها الاتجاه الذي غلب على معظم الدراسات الحضرية الغربية والاميركية بصفة خاصة التي اكدت الارتباط بين عمليتي التصنيع والتحضر.(1)
لاشك ان عملية الانتاج الزراعي والصناعي في تطور وتحول اساسي دائم، وفقاً لنمو العلم وعمقه، فبينما كان يستخدم الإنسان في انتاجه المحراث اصبح يستخدم الكهرباء والذرة كما ان النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض بما فيها علاقات التوزيع ـ هو الآخر أيضاً لم يتخذ صيغة ثابتة في تاريخ الإنسان بل اتخذ الواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.
والاقتصاد الماركسي يرى ان كل تطور في عمليات الانتاج واشكاله يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية وعلاقات التوزيع خاصة، فلا يمكن ان يتغير شكل الانتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم، كما لا يمكن أيضاً ان تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الانتاج في تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك ان المستحيل ان يحتفظ نظام اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن أو ان يصلح للحياة الإنسانيّة في مراحل متعددة من الانتاج لان اشكال الانتاج تتطور خلال التجربة البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية.
فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية، ما ذام شكل الانتاج مختلفاً في المجتمعين، وعلى هذا الاساس تقدم الماركسية المذهب الاشتراكي باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للانتاج في تلك المرحلة.(2)
واما الاقتصاد الاسلامي فهو يرفض هذه الصلة الحتمية بين تطور الانتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى ان للانسان حقلين يمارس في احدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله ان يستثمرها ويسخرها لاشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الافراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، واشكال الانتاج هي حصيلة الحقل الاول، والانظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين ـ بوجوده التاريخي ـ تعرض لتطورات كثيرة في شكل الانتاج. أو في النظام الاجتماعي ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات اشكال الانتاج وتطورات النظم الاجتماعية، ولاجل ذلك فهو يعتقد ان بالامكان ان يحفظ نظام اجتماعي واحد بكيانه وصلاحياته على مر الزمن مهما اختلفت اشكال الانتاج.
وعلى اساس هذا المبدأ «مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الانتاج» يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي بوصفه نظاماً اجتماعياً صالحاً للامة في كل مراحل انتاجها. وقادراً على اسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الارض بيدها.(1)
وان قيام المدن الإسلامية في القرن السابع الميلادي لم يكن بسبب التغير والتطور في وسائل الانتاج ولم يكن بسبب التطور الاقتصادي والنشاط التجاري القائم في مكة اهم مدن الجزيرة العربية، بل كانت هناك حضارات ومدن اكثر اهمية من الناحية التجارية والاقتصادية والحضارية. ومع ذلك تعرضت للذبول والانهيار وانتظرت الدور القيادي للمدينة العربية.
وانبثقت الثورة الحضرية من الجزيرة العربية لتمتد وتنتشر في كل مدن الشرق الاوسط حتى شمل مدن الامبراطورية الرومانية والمدن اليونانية والبيزنطية.
النظرية الايكولوجية ودراسة المدينة:
تشير هذه التسمية في علم الاجتماع الحضري إلى اعمال مدرسة شيكاغو أو المدرسة الاميركية التي عرفت باعمال ثلاثة من رواد علم الاجتماع في أميركا هم روبرت بارك وارنست بيرجي ورودريك كينزي، تلك الاعمال التي وضعت منذ البداية الاطال النظري العام الذي انطلقت من خلال العديد من الدراسات اللاحقة التي كانت لها مكانتها العلمية واهميتها النظرية في تاريخ العلم مثل دراسات لويس ويرث وروبرت دوفيلد وميلتون سينجر وغيرهم.
اما بارك فقد صاغ الاطار العام للنظرية، حين ذهب إلى اعتبار المدينة (مكاناً طبيعياً لاقامة الإنسان المتحضر) وعندما صورها على انها «منطقة ثقافية» لها انماط ثقافية خاصة بها، ان المدينة في نظره «تيار طبيعي» يخضع لقوانين خاصة به، ولانها كذلك فانه من الصعب تجاوز هذه القوانين لاجراء اي تعديلات في بنائها الفيزيقي أو نظامها الاخلاقي وهي ـ اي المدينة ـ بناء متكامل ـ بمعنى ان ما يصدق عليها ينسحب على كل قسم من اقسامها الفرعية ـ بحيث تصبح لكل محاورة من محاوراتها خصائص مميزة استمدتها من خصائص سكانها، لتكشف عن استمرار تاريخي خاص بها ـ وعلى هذا الاساس فان المدينة تمثل وحدة على درجة عالية من التنظيم من حيث المكان، انبثقت وفقاً لقوانينها الخاصة. عند هذا الحد يأتي دور ارنست برجسي ورودريك ماكينزي، حيث يرجع الفضل إلى اولهما في تحديد التنظيم الخارجي للمدينة من حيث المكان ذلك التنظيم الذي اصبح سمة مميزة للنظرة الايكولوجية بينما يهم ماكينزي بدوره في ابراز القوانين الداخلية والعمليات التي تسيطر على هذا التنظيم.
ان سيطرة التوجيه البيولوجي كان واضحاً على النظرية الايكولوجية في صورتها الاولية. غير ان ذلك لا يعني ان بارك حاول ان يطور نظرية اجتماعية للمماثلة العضوية شأنه شأن سبنسر وغيره من علماء الاجتماع الاوائل. وانما عنى في الاساس بالبحث على عدد من المبادىء أو الاسس التي تبسط دراسة التنظيم الاجتماعي وتجعله اكثر قابلية للتحليل بمعنى انّه اي بارك عني بصياغة ايكولوجية حاول بعدها توضيح مدى ملائمتها أو كفاءتها للمعالجة السوسيولوجية للمجتمع الحضري.
ولقد حقق بارك هذا الهدف من خلال تحليله النظري للتنظيم الاجتماعي إلى مستويين: مستوى حيوي وآخر ثقافي. اما المستوى الاول فيمثل البناء الاساسي أو التحتي للتنظيم، فيه تكون المنافسة هي العملية الاساسية والموجهة. ويكون البقاء للاقوى هو القانون المسيطر وفي مقابل ذلك يمثل المستوى الثقافي بناء فوقياً، يكون فيه الاتساق والتماثل والاتصال اهم العمليات المنظمة وتكون التقاليد والنظام الاخلاقي هو القانون المسيطر.
ويمثل المستوى الاول المجتمع المحلي، بينما يعبر المجتمع عن المستوى الثقافي بالمعنى الذي يفرض فيه «البناء الفوقي» ذاته على البناء «التحتي أو الحيوي» اما الايكولوجيا فتعنى في الاساس بدراسة وتحليل المستوى الاول بينما تخرج تركيبات النظام الثقافي عن دائرة اهتمام البحث الايكولوجي.
فالايكولوجيا توجه في الاساس لتوضيح وبحث العمليات والعوامل التي تحقق التوازن الحيوي في المجتمع. فهي اذاً دراسة وصفية وتحليلية لكل مظاهر التركيب المادي والحيوي للبيئة الحضرية.
ويتحقق اكبر انجاز للنظرية الايكولوجية في صورتها الاولى على يد ارنست بيرجي E. Burgess، وبخاصة فيما قدمه من تصور نظري للنمط الايكولوجي للمدينة. وتعرف هذه النظرية باسم نظرية الدوائر المتمركزة أو بالتصور الحلقي. ويطلق بيرجسي اقرب الحلقات إلى الداخل أو المركز «حي الاعمال المركزي» وهو يقع في قلب المدينة، وفي الحلقات المحيطة بذلك المركز تتحرك حلقات اخرى تجاه الحافة الخارجية للمدينة. تمثل الحلقة الاولى منطقة الاعمال المركزية. وفيها تدور اكثر نشاطات المدينة كثافة، وتقع على اطرافها حلقة ثانية هي منطقة التحول والانتقال التي تتعرض باستمرار للتغير نتيجة اتساع ونمو الحلقة الاولى، كما تتميز بكثافتها السكانية العالية وظهور التفكك الاجتماعي. اما الحلقة الثالثة فتضم منطقة سكنى الطبقات العاملة، ويليها منطقة الفيلات وفي النهاية تقع الحلقة الخاصة خارج حدود المدينة، حيث تشكل الضواحي والاطراف مناطق سكنية لذوي الدخل المرتفع. وقد عالج بيرجسي نمو المدينة في ضوء امتدادها الفيزيقي وتمايزها في المكان. ان هذه الحلقات الخمس تمثل في نظره مناطق متتابعة من الامتداد الحضري. وهو في تأكيده لهذا الوصف الفيزيقي، ذهب إلى ان ظاهرة النمو الحضري هي نتيجة لازمة لعمليات التنظيم والتفكك في نفس الوقت تشبه تماماً عمليات الهدم والبناء في الكائن العضوي.
وإذا كان كل من بارك وبيرجي قد صورا المدينة ككيان فيزيقي يتميز بحلقاته ودوائره الخمسة، فان ماكينزي جاء بدوره ليوضح القوانين والعمليات التي تعمل داخل هذا الكيان وتفسر بالتالي وجود هذه المناطق المميزة. وذلك من خلال عمليات كالمنافسة والتركز والتركيز والعزل والغزو والتتابع.
وقد تعرضت النظرية الايكولوجية الحضرية لنقد حاد وكان عامل الزمن والظروف المجتمعية هو اكبر نقد حقيقي وجه للنظرية فقد عجزت عن مواجهة التغييرات التي مرت بها المدينة، واصبح من الصعب تطبيقها لتفسير هذه التغيرات. لقد اكدت التجارب ان كثيراً من الدراسات الوصفية والقضايا النظرية التي عرضتها مدرسة شيكاغو في صورتها المبكرة، كانت عبارة عن تصوير وتفسير لحال مدينة شيكاغو في فترة معينة من تاريخها، بحيث يصبح من الصعب تطبيقها لتفسير الحياة الحضرية بوجه عام، بل لتفسير مدينة شيكاغو ذاتها في مرحلة ما بعد التغيير ـ ولعل اهم ما وصفت به النظرية الايكولوجية المبكرة، انها كانت تسير في طريق خاطىء في تحليلها لظاهرة الحضرية، وذلك عندما وجهت كل اهتمامها إلى الجوانب الجيوفيزيقية Geophysieal للمدينة، دون ان تهتم بحياتها الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ـ على حد تبير دون مارتندال(1) هي بناء التفاعل وليست بناء الحجر والصلب والاسمنت والاسفلت.
ولقد كان من اهم ما انتقدت بشأنه النظرية ذلك الفصل الحاد بين المجتمع Societyوالمجتمعت المحلي. وحصر التحليل الايكولوجي في نطاق المجتمع المحلي وحده. ان محاولة بارك هذه كانت تعني تجاهلاً واضحاً لاهمية العوامل الثقافية، الامر الذي جعل النظرية تواجه بنفس الانتقادات التي وجهت للحتمية الجغرافية. ولم يكن تركيز بارك وبيرجسي على البناء الفيزيقي للمدينة كما لم يكن تأكيدهما على القوانين الخاصة للمدينة «كبيئة طبيعية» يقلل من اثر النقد الحاد الموجه للنظرية لتجاهلها دور العوامل الثقافية.
فالمكان الحضري ليس مجرد موقع فيزيقي طبيعي، بل يستخدم دائماً وفقاً لحاجات ثقافية تتحدد من خلال المشاعر والقيم والافكار ومن ثم فان النظرية الايكولوجية عندما تقوم باغفال العوامل الثقافية بهدف تبسيط مشكلة البحث، فانها تسلب البيئة الإنسانيّة أو تجردها من كل معنى.
ان النظرية الايكولوجية بهذا المعنى قامت على تصورات غير كافية لصياغة نظرية محددة المعالم في المدينة يمكن ان تتميز عن نظرية اخرى تعالج موضوعاً آخر في اطار النظرية السوسيولوجية. واكثر من ذلك فان هذه التصورات لم تكن من الكفاءة بحيث تميز النظرية السوسيولوجية والاقتصادية.
الاتجاهات النظرية ودراسة المدينة العربية الاسلامية
(تحليل نقدي)
تستند الاتجاهات النظرية لدراسة ظاهرة التحضر وتفسيرها على التجارب التي شهدتها المدن الغربية في التحضر، وهي تعبر عن واقع تلك المجتمعات وما شهدت من صراع طبقي وتناقضات اجتماعية وكذلك تعبر عن اثر الثورة الصناعية التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر. وتعبر عن الحضارة الغربية بكل ابعادها وخصائصها.
وتلك النظريات كانت تعتمد على معايير غربية في التحضر وتستند على مفاهيم ومصادرات وتعميمات نابعة من واقع تلك المجتمعات وما شهدته من تقدم صناعي وتكنولوجي وتقدم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كان الامر كذلك فهل تصلح تلك النظريات لدراسة ظاهرة التحضر في كل مكان وزمان؟ وهل يمكن دراسة المدينة العربية الإسلامية في ضوء تلك المداخل المعرفية والاتجاهات النظرية؟
ان الاجابة على هذا السؤال تعتمد اولاً على تقييم المفاهيم والتعميمات التي قامت عليها تلك الاطر النظرية ـ ولابد من اعطاء تعريف للمفاهيم والتعميمات، ان تحديد المفاهيم بدقة ضرورة تحتمها الموضوعية للوصول إلى نتائج سليمة في البحث. ولتجنب اعطاء اراء مسبقة لا يدعمها الدليل لابد من تقييم المفاهيم بعد تعريفها للنظر في امكانية قبولها في البحث.
خاصة واننا لا زلنا نستعمل معظم تلك المفاهيم الاجتماعية كما وردت في الدراسات الغربية، الامر الذي قد يساعد على خروج دراسات سطحية تزيف الواقع بدل توضيحه وتفسيره وذلك لعدم مطابقة المفهوم للواقع، وما هذا الا جزء ولكنه هام من الاخطاء الشائعة في دراساتنا الاجتماعية العربية.وللتعميمات اثرها واهميتها في هذا الخصوص وفي هذه النقطة بالذات والتعميمات هي:
عبارات تربط بين مفهويمن أو اكثر من المفاهيم. اي انها عبارات توضح العلاقة بين المفاهيم، وبما انها تعمل على ربط فكرة مجردة بغيرها فهي اكثر تجرداً منها، وتتضمن كلمة تعميم المعنى الذي يرى انّه يمكن تطبيق تلك العبارة عالمياً أو بصورة عامة. والتعميمات في الوقت نفسه عبارات افتراضية يعتقد بانها حقيقة True لان الادلة تعمل على تدعيمها.(1)
وما زالت التعميمات تمثل عبارات قوية ومختصرة تدور حول الخبرة البشرية. وفوق هذا كله فهي تركز على العلاقات بين الاشياء، وانّه يمكن تطبيقها في مواقف عديدة وتمثل هذه التعميمات بجانب المفاهيم، اهم دعائم تنظيم المحتوى الاساسي لمنهج العلوم الاجتماعية. لذا يفضل البعض ان يطلق على التعميمات اسم «عبارات المفاهيم Concepgt Statement» أو الافكار الاساسية وفي العلوم الطبيعية قد لا يثور اي اشكال يتعلق بتحديد المفاهيم أو المصادرات والفرضيات والقوانين وان كان ذلك وارداً فيما يتعلق بالتطبيق اي في مجالات التقنية واستخداماتها ذلك ان حدود التجربة الفيزياوية أو الكيمياوية وابعادها واضحة محددة، لكن الامر يختلف بشكل حاد إذا تعلق البحث العلمي بحياة البشر وسلوكهم ومجتمعاتهم، حيث تتداخل وتتشابك عوامل كثيرة تجعل من التعميم في المنهج وفي المضمون خروجاً على قواعد العلم ودخولاً في متاهات وتناقضات مما يؤدي إلى نتائج مبتسرة بعيدة عن الواقع.
وقد يكون للوضع الراهن في العلوم الاجتماعية ما يبرره من حداثة النشأة وعدم استقرار التقاليد العلمية، وظروف وتاريخ بزوغ هذه العلوم في المجتمعات الغربية المتقدمة صناعياً.
ان المفاهيم التي هي اهم اسس البناء المعرفي سواء من حيث البناء النظري، أو المنهجية أو حتى الاستخدامات للعلم. ولعل التوصل إلى القوانين يعتمد في اساسه والى حد كبير على دقة المفاهيم وتطابقها مع الواقع. فاذا استطعنا ان ندقق في معاني المفاهيم بما يتناسب والواقع العربي وخصوصيته، تمكنا عندئذ من بناء نماذج نظرية علمية تساعد في دراسة وفهم المجتمع العربي وفي اعطاء تفسير للظواهر الاجتماعية ومنها ظاهرة التحضر.
والمفاهيم ينطبق عليها نفس الكلام الذي ينطبق على النظرية وهي مشتقة من وقائع معينة ومن تجارب تاريخية خاصة على سبيل المثال مفهوم أو مصطلح القرون الوسطى الذي سبق النهضة، هذا التقسيم للتاريخ تقسيم اوروبي. فقد ارتبط تطور الشعوب الاوروبية بهذا التقسيم ولكن بقية اجزاء العالم لم تمر به ولم تعرفه والقرون الوسطى الاوروبية بدأت بما يعرف بالعصور المظلمة التي بدأت مع انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوط روما على يد القوط سنة 476 م ثم تلاه افول الغرب لمدة تزيد عن ستة قرون. ولكن هذه الفترة بالذات كانت شيئاً مختلفاً بالنسبة للمدن العربية ففي القرن السابع الميلادي شهدت المجتمعات العربية ثورة حضرية ادت إلى تطوير المدن في العالم العربي وظهور مدن جديدة. ومع بداية ظهور الإسلام بدأ العرب في انشاء المدن التي شهدت نمواً حضرياً لم يسبق له مثيل. وكانت المدن الإسلامية العربية تمثل درجة عالية من التحضر.
وبما ان مفهوم العصور الوسطى مرتبط بالمجتمعات الغربية فانه ليس صالحاً لتطبيقه عالمياً. ولا يقتصر الامر طبعاً على هذا المفهوم الذي يرتبط بالبحث بشكل مباشر، ولكنه ينسحب على كثير من المفاهيم المرتبطة بالتحضر، كالتحديث والتغيير الاجتماعي.
بالتحليل الموضوعي لعملية التحديث (Modernization Process) يجد الدارس:
انها عملية انسانية مستمرة ترتبط ارتباطاً مباشراً باستخدام وتطوير الإنسان الدائم للجانب المادي من المعرفة الإنسانيّة التراكمية واستقلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها ايجابياً لتحقيق التقدم الإنساني بصورة مستمرة.
وتؤدي اضطرارية عملية التحديث الإنساني الكلية لان يكون مفهوم العصرية متغيراً تبعاً لتغير في عامل الزمن. ففي اي حقبة زمنية يكون المجتمع أو المجتمعات التي تمتلك اكثر المعرفة المادية تقدما واكبر مقدرة على التحكم بالبيئة هي الاكثر عصرية من غيرها من المجتمعات المزامنة لها.
فالعصرية اذاً هي مفهوم نسبي يعكس اكبر مقدرة للانسان على التفاعل واستخدام البيئة في مرحلة معينة. وليس بمفهوم مطلق ينطبق على كل العصور، فلكل عصر عصريته، ولكل حقبة زمنية مواصفات ونموذج للعصرية.
فعصرية العصور الوسطى تختلف بالتأكيد عن عصرية وقتنا الحاضر، وهذه بالطبع ستختلف عن عصرية مستقبل ما بعد مئات السنين.
ولهذا السبب يجب ان يكون تحليل ظاهرة العصرية مشروطاً بالحقبة الزمنية التي يجري دراستها، وذلك لتلافي الوقوع في الالتباس بأن العصرية هي ظاهرة مطلقة من جهة، وحتى لا يتم استخدام اسس حديثة في المقارنة بين عصرية حقبة سابقة مع عصرية الوقت الحاضر بدون الاخذ بعين الاعتبار التغير الحاصل في عامل الزمن من جهة اخرى.
وإذا كانت عملية التحديث تهدف إلى التفاعل مع البيئة واستخدامها للرقي بالحياة الإنسانيّة. فان التاريخ قد شهد تطور عدة حضارات سابقة حاولت جاهدة وبقدر استيعابها وتطويرها للمعرفة الإنسانيّة التراكمية، استخدام البيئة بهذه الغاية، ونجحت بذلك ضمن المعطيات التاريخية التي وجدت فيها وبقدر الامكانيات التي اتيحت لها. وفي الحقيقة مثلت كل حضارة من تلك الحضارات الرائدة عصرية عصرها. فالحضارة الإسلامية كانت الاكثر عصرية قبل تطور الحضارة الغربية. وقبل ذلك كانت هناك الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والتي مثل كل منها عصرية الحقبة الزمنية التي سادت فيها. هذه النقطة غير واضحة في معظم الكتابات الغربية المتعلقة بالتحديث والتي ترى عصرية الغرب بدون سوابق، وكأن العالم لم ير أي نوع من العصرية سوى الغربية فعملية التحديث اقدم من عملية الغربنة من الناحية التاريخية.(1)
وفي هذه النقطة بالذات هناك تناقض واضح في الكتابات الغربية ويرجع هذا التناقض إلى انّه على الرغم من ايمان المختصين بفكرة ظاهرة العصرية بالمقدرة على التحكم بالبيئة، وانهم يتفقون على اعتبار عمية التحديث في المجتمع الإنساني عملية تاريخية عامة ابتدأت مع ظهور الإنسان واستمرت باستمرار محاولاته التفاعل مع البيئة المحيطة به واستخدامها لخدمة منافعه، على رغم ذلك فهم يؤكدون ان عملية التحديث ابتدأت مع بداية تبلور اسس الحضارة الغربية واقتصرت على المنهاج الذي تطورت من خلاله النظم السياسية الاقتصادية، والاجتماعية السائدة في الغرب. وكأن الإنسان لم يبدأ في التفاعل مع البيئة إلاّ منذ بداية تبلور اسس الحضارة الغربية، فبالرغم من ايمان دانكوارترستو بان التحكم بالبيئة هو اساس عملية التحديث، نجده يؤكد بان هذه العملية بدأت في اوروبا اثناء عصر النهضة، وامتدت إلى ما وراء البحار مع ابتداء التوسع الاوروبي، ويدعم س، ايزنستادت (S.N. Eisenstadt) هذه الفكرة فيذكر في كتاباته بأن عملية التحديث هي التغير نحو تلك الاشكال من النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطورت في اوروبا الغربية واميركا الشمالية منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر.
يقدم لنا كل من رأى دستور وايزتستادت مثالاً جلياً عن عدم وجود تمييز واضح عند الغربيين بين الغربنة والتحديث كعمليتين تاريخيتين منفصلتين ومما يثير الاهتمام بهذا الشأن اعتبار هؤلاء المختصين ان النقلة النوعية في المعرفة الإنسانيّة والتي استطاع الاوروبيون تحقيقها في عصر نهضتهم كانت الاولى من نوعها في التاريخ الإنساني وانها هي النقلة الوحيدة التي مكنت الإنسان من بسط نفوذه على البيئة.
ولم يعتبر هؤلاء ان النقلات المعرفية عبر العصور كانت ركائز اساسية اعتمد عليها الغرب في احداث نقلته الجديدة في المعرفة الإنسانيّة.
وبمعنى آخر تناسى هؤلاء بان تفاعل الإنسان مع البيئة ابتداء منذ وجد الإنسان وان التحكم بالبيئة الذين يعزون بدايته لعصر النهضة الاوروبي ما هو إلاّ حلقة متطورة من مسيرة الإنسان الطويلة في تفاعله مع بيئته. وما يثير الاهتمام بالفعل في هذه النظرة الغربية هو ليس كونها مغلوطة تماماً، ولكن كونها جزئية منتقاة للتاريخ الإنساني هدفها المحافظة على استمرار هيمنة النفوذ الغربي على بقية العالم.
فالادعاء بأن الغرب عصري في وقتنا الحاضر هو ادعاء صحيح وواقعي وليس لدينا أي دليل علمي يدحضه، ولكن الادعاء بأن التاريخ الإنساني لم يشهد عصرية قبل ظهور الحضارة الغربية هو ليس فقط ادعاء خاطئاً وانما يدل على عدم الموضوعية والتحيز الايديولوجي وروح الاستعلاء لدى الكتاب الغربيين.
ان تقييم النظريات الغربية في التحضر للنظر في مدى امكانية تطبيقها لفهم وتفسير ظاهرة نشأة المدن الإسلامية يحتاج إلى بحث مستقل.
والتوسع في تقييم ونقد المداخل النظرية الغربية وما تشتمل من مفاهيم وتعميمات ترتبط بالبناء المنهجي يتطلب دراسة متأنية، وفي هذا الحيز المتاح لا يمكن سوى الاثارة السريعة إلى ان دراسة المدينة العربية الإسلامية بمعايير غربية وفي ضوء النظريات الغربية للتحضر يؤدي إلى نتائج مبتسرة في البحث، ومحاولة تفسير ظاهرة التحضر في المجتمع العربي اعتماداً على الاطر الغربية يؤدي إلى تزييف الواقع ويؤدي إلى الغموض بدل الوضوح، ويؤدي إلى سطحية الدراسة.
منقووووووول
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)