يمكن اختصار المبدأ الأساسي الكامن وراء هذا المفهوم بالجملة التالية «الفرد في سبيل الجميع والجميع في سبيل الفرد »، ووصفه وسيلة للحفاظ على السلام بين الدول، قد يكون التنظيم الدبلوماسي والقانوني الخاص بالأمن الجماعي واقعاً في منتصف المسافة بين توازن قوى منعدم وحكومة عالمية. ومع أنه يُنظر أحياناً إلى فكرة الحكومة العالمية الواحدة على أنها حل لمشكلة الحرب، فإن من المستبعد تماماً أن يتم اللجوء إليها في تصميم واعٍ. وتبدو فكرة الأمن الجماعي جذابة لأنها توحي بالحصول على الفوائد المزعومة لحكومة عالمية من دون تغيير الملامح الرئيسة لنظام الدول الفوضوي.
وبتعابير شكلية، يشير الأمن الجماعي إلى مجموعة آليات ذات ركيزة قانونية، صُممت لمنع اعتداء أي دولة على أخرى، أو قمع ذلك الاعتداء إن حدث. ويتم تحقيق ذلك عبر توجيه تهديدات ذات صدقية إلى المعتدين الحقيقيين أو المحتملين، وتوجيه وعود ذات صدقية أيضاً إلى الضحايا الحقيقيين أو المحتملين، باتخاذ تدابير جماعية فاعلة للحفاظ على السلام، وتنفيذها عند الضرورة. وقد تراوح هذه التدابير بين المقاطعة الدبلوماسية وفرض العقوبات وحتى القيام بأعمال عسكرية. ويكمن أساس الفكرة في عقاب جماعي ضد المعتدين من خلال استخدام قوة كبيرة جداً. وتتنازل الدول المنتمية إلى هذا النظام عن اللجوء إلى القوة لحل النزاعات الناشبة بينها، ولكنها تعد في الوقت نفسه باستخدام القوة الجماعية ضد أي معتدٍ. أما في المسائل الأخرى كافة فتبقى الدول كياناً صاحب سيادة.
ويكمن الهدف في نظام الأمن الجماعي في الحفاظ على السلام بين أعضاء النظام، وليس بين النظام والخارج. فعلى سبيل المثال، لا يُعَد حلف شمال الأطلسي نظام أمن جماعي. إنه تحالف، وربما يمكن تسميته نظامَ الدفاع الجماعي. من وجهة نظر مثالية، تضمحل الحاجة إلى التحالفات في نظام أمن عالمي؛ إذ إن الأمن الجماعي يسمح للدول بالتخلي عن استخدام أحادي الجانب للقوة لأنها موعودة بالمساعدة إذا ما استخدمت دولة ما القوة ضدها بصورة غير قانونية. في الوقت عينه، يُطلب من الدول كافة المشاركة في تعزيز العقوبات على المعتدي.
ثلاثة أسباب تشرح لنا انجذاب المحللين (وأحياناً الدول) إلى فكرة الأمن الجماعي.
- أولاً، تَعِد هذه الفكرة الدول كافة بالأمن، وليس الدول الأكثر قوة فحسب. من حيث المبدأ، تملك الدول كلها دافعاً للانضمام إلى مثل هذا النظام بما أنها كلها عرضة لتهديد الحرب.
- ثانياً، يؤمن الأمن الجماعي مبدئياً يقيناً أكبر بالعلاقات الدولية، على الأقل في تعزيز رد فعل منسق على الحرب.
- ثالثاً، يركز الأمن الجماعي على مشكلة واضحة ظاهرياً، هي الاعتداء بالصورة النمطية المعروفة له، كالاعتداء العسكري على سلامة أراضي الدول الأعضاء أو على استقلالها السياسي.
وقد ظهرت أول محاولة رئيسة لإنشاء نظام أمن جماعي في نهاية الحرب العالمية الأولى،مع توقيع ميثاق عصبة الأمم. ومثلت المادة 10 من الميثاق التي تضمن السلام، مع المادة 16 التي تؤمن التهديد بالرد المضاد، جوهرَ الأمن الجماعي. وقد طُلب في المادة 10 من كل دولة
عضو ضمان وحدة أراضي الدول الأعضاء الأخرى وسلامتها السياسية. ولتأمين هذا الوعد، كانت كل دولة عضو (وفقاً للمادة 16 ) بحالة حرب تلقائية مع أي معتدٍ. وتعكس قصة عصبة الأمم المؤسفة التي فشلت في المحافظة على السلام والأمن الدوليين (حتى إن خليفتها، الأمم المتحدة، لا تذكر عبارة «الأمن الجماعي » في ميثاقها) بعض المشكلات الرئيسة مع هذا المفهوم باعتباره وسيلة للحفاظ على السلام.
أولاً، ما لم يكن الأمن الجماعي عالمياً فعلاً، وشاملاً أكثر الدول قوة في النظام على وجه الخصوص، فلن يكون فاعلاً على الأرجح. وإذا كانت الدول الأخيرة خارج النظام، فلن تستطيع الدول الأخرى الاعتماد على الأمن الجماعي لحماية أنفسها من القوى العظمى. هذا ما كانت عليه الحال في مرحلة ما بين الحربين. فالولايات المتحدة لم تنضم إلى النظام، أما القوى العظمى الأخرى (بما فيها الاتحاد السوفياتي والصين وألمانيا واليابان) فلم تكن قط من الأعضاء الدائمين في النظام.
ثانياً، تعتمد فاعلية الأمن الجماعي على إيمان الدول المشترك بنظرية أن السلام «لا يتجزأ ؛» أي أن الاعتداء على أي دولة يعني اتباع الأعضاء السلوك ذاته، بغض النظر عن المكان الذي يقع فيه الاعتداء، وعن هويتي كل من المعتدي والضحية. كانت هذه النظرية مشتركة بين دول عدة عند نهاية الحرب العالمية الأولى، نظراً إلى الانتشار السريع والكبير للحرب والدمار الذي سببته. غير أنه يبقى ضرباً من المثالية، الاعتقاد بأن الأمن الجماعي قادر على الحلول تماماً محل توازن القوى وحسابات المصلحة القومية. فعلى سبيل المثال، كان السبب في رفض بعض الدول فرض عقوبات على إيطاليا بعد غزوها لأبيسينيا (الحبشة) عام 1934 ، اعتقادها أنه بإمكان إيطاليا أن تبقى حليفة مفيدة ضد ألمانيا.
ثالثاً، على الرغم من سهولة إدراك معنى كلمة «اعتداء »، فإنها تبقى صعبة التحديد عند التطبيق. فمثلاً، سمحت المعاهدات اليابانية مع الصين بإبقاء الفرق اليابانية متمركزة على سكك الحديد اليابانية في منشوريا، وقد كان لهذه الفرق حق الدفاع عن نفسها. لذلك، عندما انفجرت قنبلة على سكة حديدية قرب مدينة مودكن في أيلول/سبتمبر 1931 ، احتل اليابانيون المدينة وسيطروا على مقاطعة منشوريا كاملة، فادعت الصين على اليابان لاعتدائها عليها، أما اليابان فقد زعمت بأنها كانت تدافع عن نفسها. وقد أمضت عصبة الأمم عاماً كاملاً لتحديد من كان على حق؛ وفي هذه الأثناء تمكنت اليابان من إنشاء الدولة اللعبة الخاصة بها في المنطقة.
أخيراً، يُعَد مفهوم الأمن الجماعي محافظاً إلى حد كبير، وهو مكرس للحفاظ على وضع الأراضي القائم، ويُعرِّف «الاعتداء » بأنه أسوأ جريمة في العلاقات الدولية، ويفترض وجود آليات سلمية لحصول تغييرات إقليمية، ما يجعل الحرب غير ضرورية. وفي القرن الحادي والعشرين، في الوقت الذي أصبحت الحروب داخل البلدان هي القاعدة بدلاً من أن تكون بينها، من غير المرجح أن يكون الأمن الجماعي حلاً، وإن آمنت القوى العظمى مجتمعة بفرضياته الأساسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق