بعدما شاهدت العشرات من الأشرطة المصورة التي تعرض لمختلف المشاهد ذات الصلة بما يحدث في عدد كبير من الدول العربية ، من انتفاضات شعبية عارمة وردود فعل رسمية عنيفة في أغلبها ، حاولت أول شيء أن أحصي هده الفيديوهات المبثوثة على مختلف مواقع الشبكة العنكبوتية ، وبالأخص موقع اليوتوب ، فوجدتها عديدة لا تحصى لكثرتها. ومرد ذالك بالأساس إلى كون الأحداث لا زالت جارية بالمجتمعات العربية, سواء منها التي صنعت الثورة وقلبت نظام الحكم كتونس ومصر , فيما يمكن أن نسميه بثورة مابعد الثورة ؛ أو في تلك التي مازالت تنافح من أجل التغيير مند شهور عدة كليبيا واليمن, أو في تلك التي تجري فيها الأنظمة القائمة إصلاحات ملموسة كالمغرب والأردن والجزائر والسعودية وغيرها. ولذالككلما دخلت الشبكة العنكبوتية ،وجدت العشرات من الفديوهات الجديدة التي تحمل مفاهيم جديدة كالبلطجية والشبيحة، وتحمل أسماء أماكن من البلاد العربية ، لم أسمع عنها من قبل كالقصرين وجبلة ومصراتة وتعز و الكسوة وحرستا و الدامة وغيرها. لا يمكن إذن إحصاء هذه الصور المتحركة\الرسائل المصورة ليس لكثرتها،وإنما لأن سيرورات أسباب إنتاجها وإنتاجها لا زالت قائمة. إذا كانت هذه الظاهرة غير قابلة للتعداد ، فهل هي قابلة للتصنيف؟ كيف يمكن تصنيف ظاهرة،بصرية ومرئية ،لا يمكن ضبط عددها الكمي ولا النوعي،طالما أن صيرورة الإنتاج لازالت مستمرة كميا ومن المحتمل أن تكون نوعيا أيضا، إذ لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتأكد من أن الكم القادم سوف لن يأتي بأنواع جديدة من فديوهات الثورة هذهـ ليقبل القارئ منا هده التسمية على علاتها ـ بعد كتابة هذه السطور. وعليه فإن تصنيفنا لهذه الوثائق المصورة, أيا كان شكل ومضمون هذا التصنيف, سيظل بالضرورة محكوما بتاريخيته كما بإبستميته ،هذا بالإضافة إلى البعد المغماراتي والتعسفي الذي ينطوي عليه كل تصنيف على حد تعبير كلود لفي ستروس . يمكن التمييز إذن بشكل عام بين ثلاثة أنواع من فديوهات الثورة:النوع الأول ونسميه بالساخن ـ وسوف نشرح,فيما سيأتي من هده السطور,الخلفيات النظرية والإبستمولوجية لهذه التسميات ـ ونقصد به الفديوهات التي أنتجت, على مستوى الشكل,في غالبها بواسطة هواتف محمولة, أما على مستوى المضمون فإنها تحمل صورا من قلب المعارك,حيث يعم القتل ويسود التعذيب, وحيث تنطوي عملية تسجيل هذه الفديوهات على خطر الموت . النوع الثاني وندعوه بالبارد, ونقصد به مقتطفات من تغطية بعض القنوات الفضائية العربية,سواء الداعم منها والمساند للانتفاضات العربية كقناة الجزيرة, أو المعادي لها كالقنوات الرسمية لكل من ليبيا واليمن وسوريا. وتتميز هذه الصور, على مستوى الشكل, بكونها ملتقطة من قبل مصورين محترفين وبمعدات احترافية,أما على مستوى المضمون فإنها تندرج في إطار الصراع السياسي بشكليه الصريح والمضمر بين الجهات الداعمة للتغيير في البلدان العربية أو المناهضة له، والمستعملة للصورة والصورة المتحركة على سبيل التحديد كأداة حرب ومواجهة وإستراتجية صراع.النوع الثالث وننعته بالرمزي الفني , ونقصد به بعض الأفلام القصيرة الموضوعة على الشبكة العنكبوثية ,والتي تتميز بكل خصائص العمل الفني السينمائي من تأليف ، وإخراج، وتمثيل، ورمزية،وجمالية فنية ؛كفيلم الثورات العربية بجزأيه الأول والثاني من تأليف وإخراج صفوان ناصر الدين .
لا يدعي هذا التصنيف البتة الإحاطة والشمولية,وإنما هو لا يعدو كونه مجرد نموذج تحليلي تمثيلي بالمعنى الفيبيري للكلمة,أي مجرد إطار تحليلي مقترح في إطار محاولة جمع شتات هذه الصور المتحركة وإنتاج المعنى الذي تحبل به,أو دعونا نقول من باب التنسيب, بعضا منه على الأقل.
الصورة كتقنية في مواجهة السلطة كقوة
كلما دلفت إلى الشبكة العنكبوثية باحثا عن هذه الصور المتحركة ذات الصلة بالثورات العربية ,وكلما شاهدت هذه الصور ـ وأعدت مشاهدتها مرات عدةـ قارئا إياها في كل مرة بسؤال محدد ودقيق ومختلف عن سابقه ـ وهي منهجية تقتضيها ضرورة التحليل كما بعرف ذالك أهل الصناعة ـ تكرست لذي تلك المقولة، التي كنت ولا أزال أكررها على مسامع طلبتي بجامعة محمد الخامس في سياق تحليلنا لماهية السلطة بكل أنواعها وأشكالها وأبعادها وألوانها وتجسداتها، التي مؤداها أن المجتمعات الحديثة لما أدركت أن السلطة مفسدة و السلطة المطلقة مفسدة مطلقة,ومعنى ذالك أن السلطة بطبيعتها تنزع نحو الاستبداد وخدمة نفسها على حساب الآخرين,قسمتها إلى ثلاثة أجزاء متساوية يراقب بعضها البعض الأخر:سلطة تشريعية,سلطة قضائية وسلطة تنفيذية,ولما لم يف هذا التقديم بالغرض المطلوب، وهو الحد من غلواء
السلطة كقوة نزاعة باستمرار نحو الاستبداد ,خلقت سلطة رابعة وهي الإعلام,ثم سلطة خامسة وهي الشبكة العنكبوتية,أ ي ما يسمى بالإنترنيت.
فالإنترنيت كتقنية إعلامية خلقت ثورة في مجال التواصل وكسرت الحدود وخرقت الطابوهات,ودكت حصون الرقابة والتعتيم .فالصورة التي أنتجتها التقنية الحديثة ونشرها اقتصاد السوق الحرة ,أصبحت وسيلة ديمقراطية في يد الملايير من سكان العالم تنتج بدورها "الصور الوقائع" ,أي الوقائع والأحداث في شكل صور .فأي فرد عادي وبسيط يستطيع أن يلتقط بهاتفه النقال صورا لوقائع وأحداث ,في غفلة من المشاركين فيها ودون علمهم ,أو بعلمهم ورضاهم,ووضعها على أحد المواقع ضمن شبكة الإنترنيت ,كموقع اليوتوب على سيل المثال,لتصل إلى العالم بأسره.أليست الصورة هنا كتقنية,في يد معظم سكان العالم تواجه السلطة كقوة مستبدة ـ مراقبة وحاجبة ومعتمة ـ للحقيقة العارية في كل ثانية؟
إن المقولة الذائعة والتي مفادها أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة بامتياز , هي مقولة تعبر عن ثورة الصورة لدرجة أن الفرد العادي اليوم أصبح في معظم المجتمعات المعاصرة يستهلك يوميا من الصور أكتر ما يستهلك من الغداء والكساء والكلمات.
هل تكذب الصور؟
عندما أطرح هذا السؤال أستحضر إبدالين (براديغمين) اثنين متعارضين :الأول
يقول يمكن التلاعب بالصور الثابتة والمتحركة على حد سواء,حيث إن التقنية المرتبطة بالصورة لها وجهان,وجه زائف ومزيف ,ووجه عاكس وشفاف ,وذلك هو الإبدال الثاني الذي يرى أن الصورة لا يمكن أن تعكس سوى الوقائع على حقيقتها. و تعتبر أبهى صورة تكشف عن الوجه الزائف والمزيف للصورة،
الصورة التي قدمها كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي السابق، إلى العالم وهو يحول إقناعه بحقيقة امتلاك عراق صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل .لقد استعمل باول في هذه الواقعة الإبدالين معا : استعمل الصورة الكاذبة (الإبدال الأول)،معتمدا في ذالك على الفكرة السائدة حول صدقية ومصداقية الصورة(الإبدال الثاني) خصوصا عندما ترتبط هذه الصورة بتقنية عالية ومتقدمة ،وهي الأقمار الاصطناعية.
إن الهدف من استحضارنا لهذين الإبدالين هو إبراز وعينا بحدود فكرة شفافية الصورة وقدرتها على عكس الحقائق العارية.
فديوهات الثورة العربية:الصورة وخيال الصورة
حسب التصنيف الذي أوردناه أعلاه ,فإن الصور ذات الصلة بالثورات العربية ثلاثة أنواع :ساخن وبارد ورمزي فني.وإذا كنا قد وضعنا النوع الساخن على رأس هذا التصنيف ، فلأنه أقرب إلى الإبدال الثاني وأبعده عن الإبدال الأول المذكورين سالفا.ونقصد بذلك الوضع الذي تكون فيه الصورة كخيال ،أي الصورة المتحركة المستهلكة،أقرب إلى الصورة كحدث وكواقعة.
عندما كنت أشاهد عددا من الفديوهات الساخنة،و أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:"أحرار بانياس يواجهون الدبابات بأجسادهم " و "وحشية الأمن السوري ضد الأحرار في كلية الحقوق بجامعة دمشق" و " دمشق برزة" و "محاولة الاستيلاء على دبابة بمصراته "و يا حصرتاه على الأمن الجزائري" و "قنص مواطن ليبي في أحد أزقة فشلوم"؛كنت أتساءل عن ذالك الخطر المحذق بالشخص الممسك بجهاز الهاتف المصور، الذي يمكن أن يصاب برصاصة طائشة _ أو مستَهدٍفة_ أو شظايا قذيفة أو غيرها أثناء عملية التصوير ذاتها. وبعدما تراكمت مشاهدة العشرات من هذه الصور الساخنة التي تم الإمساك بتلابيبها وسط وابل من الرصاص ،وبأياد مرتعدة وأنفاس خائفة،ولم يكن يحدث أي مكروه للمصور أثناء التصوير ،بمعنى أثناء مشاهدتي لهذه الصور ،المتحركة،وفق زمني الذاتي كمشاهد ؛ وعلى الرغم من أن وجداني، كإنسان وكمواطن عربي،كان ينزع بي نحو الإبدال الثاني للصورة ،بيد أن توجسي ،أو حذري الإبستمولوجي كسوسيولوجي ،كان يميل بي نحو الإبدال الأول للصورة .و لم يحسم هذا التجاذب بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي في تمثلي لهذه الصور إلا عند مشاهدتي لعدد من الفديوهات التي تحمل عناوين مثل" ليبي استشهد وهو يصور أحد الشهداء و "سوريا قنص شاب أثناء التصوير" وغيرها من صور الموت على مواقع الإنترنيت.
الموت على مرأى ومسمع الانترنيت
بعدما تطابق في ذهني ما هو منطقي بما هو واقعي، وتحققت من أن الموت قد طال بالفعل من كان يمكن أن يطال،بدأت أبحث ضمن فديوهات الثورة عن مشاهد الموت والقتل وإزهاق الأرواح،وكأن مرجعيتي الأنثربولوجية تحثني على الاعتقاد بأن التغيير ـ كجديد يسعى لطرد القديم و أخد مكانه ـ لا يمكن أن يستثب له الأمر سوى بتقديم تضحيات جسام يتم التقرب (تقديم القرابين)فيها بأعز ما يطلب:الحياة. إنها سنة التغيير بالمجتمعات البشرية مند فجر التاريخ ،فلتحقيق إنجازات عظيمة ينبغي التضحية بما هو أعظم منها.
أ. موت مسموع على صفحات صور متحركة
يستمد هذا العنوان السوريالي الطابع مشروعيته من إعلان انتمائه ،بشكل من الأشكال ،إلى مجالي السوسيولوجيا و السميولوجيا . وهذا العنوان هو حصيلة قراءتنا لفديو من فديوهات الثورة التي ألمعنا إليها أعلاه، و يحمل عنوان"ليبي استشهد وهو يصور أحد الشهداء".ذالك أن هذا الشريط الذي لا يتعدى عمره العشرين ثانية، يخبرنا عن عمليتي تصفية جسدية تمتا في بحر عشر ين ثانية، بيد أن عمليتي القتل هاتين لم تلتقطهما الكاميرا وإنما أوحت بهما الصورة. وهذا وصفه وبيانه: الشريط هو عبارة عن مشهد عند زاوية شارع ،يبدو فيه جسمان لرجلين ملتصقين بباب دكان حديدي مقفل ، وفي قلب الصورة تترآى بضعة أجساد لرجال مسلحين ، تم يسمع صوت _قريب من الكاميرا _ وسط أصوات متفرقة للرصاص ، يصيح:"طاح شهيد،طاح شهيد"، يتجه رجل من المسلحين نحو الصوت والكاميرا، وكأنه يفطن للتو بوجودهما ويبدو وكأنه يوجه سلاحه نحو الكاميرا تم يسمع صوت إطلاق رصاص يتبعه صوت يتأوه مرتين :آه،آه وتسقط الكاميرا فوق عشب على الأرض ليتوقف كل شيء: الصورة والصوت ثم الشريط. إن ما ذكرناه للتو هو ما يسمى في قاموس السميولوجيا ب: ما تقره الصورة، أما ما توحي به هذه الصورة فهو أن رجلا ،من ثوار ليبيا المسالمين، وهو يصور مقتل أحد المواطنين على يد رجال من كتائب القذافي،لقي نفس المصير. أما آليات وأدواته هذا الإيحاء فهي كالآتي :عنوان الشريط ، الذي يهيئ المشاهد ويعده لتمثل مضمون الشريط ؛ حركات الكاميرا الدالة على وجود الخوف و حضور الخطر؛لباس الرجلين اللذين يقفا على مقربة من حامل الكاميرا ،وضوح صوت المتكلم.كل هذا يشي بالنسبة للمشاهد بهوية المصور: رجل مسالم يصور بهاتفه النقال (رداءة الصورة قلة الضوء ) مشهد قتل مليشيات النظام مواطنا يمارس حقه الشرعي في الاحتجاج والتظاهر ،و يعلن تضامنه معه من خلال استعمال نعت شهيد بدل صفة خائن أو منشق أو عميل التي ت
المزيد