كيفين هارتنيت
ت: أمير زكي
أغسطس 2012
***
في الشتاء الماضي كتبت مقالين عن رواية "الأخوة كارامازوف" تضمنا اعترافا بأنني أفضل "قدرة تولستوي على رؤية زوايا الحياة اليومية أكثر من إحساس دوستويفسكي بالحدود المتطرفة للخبرة". هذا الجملة جلبت ردود فعل من القراء أكثر من أي شيء آخر كتبته، هذا الذي حثني لأن أتعمق أكثر في السؤال: أي من عملاقي الأدب الروسي هذين يعتبر الروائي الأعظم؟
كما يبدو فلست أول شخص يناقش هذه المواجهة. الناقد الأدبي جورج ستاينر زودنا بأكثر القرارات ثقة عن المشكلة في كتابه "تولستوي أم دوستويفسكي"[1]، والذي وضع فيه تولستوي كـ"الوريث الأهم للتقليد الملحمي"، ودوستويفسكي كـ"واحد من أهم العقول الدرامية منذ شكسبير". آيزيا برلين ناقش المميزات المتعارضة البادية في مقاله الخالد "القنفذ والثعلب". نابوكوف ناقش ذلك في "محاضرات عن الأدب الروسي"، وكان الانتصار فيه لتولستوي. بينما تميل سيدات أمريكا الأوائل لدوستويفسكي: فكل من هيلاري كلينتون ولورا بوش أشارت إلى "الأخوة كارامازوف" على أنها روايتها المفضلة.
مع ذلك لم أكن راضيا عن الإجابات التي وجدتها على الإنترنت، لذلك قررت أن أحصل على إجابة أخرى – أو بالأحرى ثماني إجابات أخرى. وصلت لأبرز أكاديميي الأدب الروسي إلى جانب قراء كثيفين غير أكاديميين أعرفهم وسألتهم إن كان بالإمكان أن يساهموا بـ500 كلمة ليحددوا الامتيازات المتعلقة بتولستوي ودوستويفسكي. تقريبا كلهم وافقوا، على الرغم من أن البعض كرر مشاعر الأستاذ المتميز المتقاعد الذي أجابني من على شاطيء بالمكسيك قائلا: "الحقيقة لا توجد منافسة في عالم الأدب. من وجهة نظري على الأقل، الإثنان كاتبان عظيمان، وهما يعيشان في عالم بعيد عن المنافسة". بالطبع هذا حقيقي – ولكن بجانب كونه حقيقيا فمن الطريف (وأحيانا من الموحي) أن تضع ويليامز في مواجهة ديماجيو، وبيرد في مواجهة ماجيك[2]حتى لو في نهاية اليوم عرفنا أن الإثنين عظيمين بشكل لا يمكن الشك فيه.
بهذه الطريقة استمتعوا بثمانية وجهات نظر عارفة وشغوفة بإثنين من أعظم الساردين في العالم.
كارول أبولونيو، أستاذة ممارسة للغة الروسية، جامعة ديوك
السؤال توجه فورا إلى عقلي وعطّل عمل فص المخ الأمامي، كان هناك هسيس ودخان، ورائحة كبريت في الجو، تحسست في الظلام ورقة ب50 كوبك وحركتها لأعلى، خشخشت على المشمع، ضوء الشمعة المهتز من الأعلى أنار الصورة الصغيرة والتي لا تخطئها لنسر بوجهين، أرفع رأسي: إنه دوستويفسكي إذن.
بطله هو الرأس: طُعم الأذكياء. الذكاء الذي يدفع الكلمات التي لا تنتهي. نعم! لقد فكرت في نفس هذا الشيء اللعين العديد من المرات! كيف تكون هناك عدالة في العالم إن كانت على حساب دموع طفل؟ كيف يكون الله بهذه الطيبة وهذه القوة ويسمح بالمعاناة في العالم؟ إن كان الله موجودا، إذت فكيف يسمح لي بأن أسير على الأرض كمخلوق مريض شكّاء حاقد لأني كائن هزيل في أكثر المدن تجريدا وقصدية على الأرض. إن لم يكن الله موجودا، بالتالي كيف يمكننى أن أكون القائد؟ هل عليّ أن أعيد تذكرتي؟ إقرأ! إنهما يعطوننا الخبز الذي نصنعه بأنفسنا، ونحن نقبله منهم في مقابل حريتنا: سحر رخيص في مكان الأعاجيب، أنا أحب البشرية، ولكن كيف تتوقع مني أن أحب هذا المخمور الثرثار على الطاولة، هذا الفاضل الذي يبيع ابنته للدعارة لكي يجلس هنا ويشرب؟ اثبت أنك موجود، وبعد ذلك! حرّك الجبل، ساعتها سأؤمن.
شخصيته الرئيسية هي العقل، ولكن بطله هو القلب. المنطق والكلمات لن توصلك إلى شيء: كلام أكثر، حقائق أقل. إثنان زائد إثنان تساويان أربعة، ولكن كون إثنان زائد إثنان تساويان خمسة هو أيضا أمر جذاب إلى حد ما. عناق، والآن قبلة، سقوط على الأرض، قدم على السور الحديدي لجسر سان بيترسبرج البارد. انسكاب الدموع، انسكاب الدماء، التحول للشحوب، أن يغشى عليك، تقدم روح الانحطاط، أن تغلق الباب على إصبعك، الأصوات الحزينة للأرغن، اليتامي رثوا الثياب يطلبون حسنة، اللهاث المحتضر لكثيري العمل، الحصان المضروب، النفس الصعب سماعه لامرأة عجوزة مكروبة على الجانب الآخر من الباب المغلق – أنت، أنت القاتل – رنين العملات في الفنجان، الدوران الدائخ لحلقة الروليت، حمى المخ، الظل في مدخل الممر، الشابة النبيلة التي تنحني نحو الأرض أمامك، أنت، أنت الدودة الشهوانية! صرخات، حبل، مسدس، صفعة على الخد، وفجأة...
فجأة صورة تظهر من الظلام: فتاة نحيلة وخجولة ترتدي شال أخضر، وجهها شاحب ومتعب من المرض، ابتسمت بمرح وفتحت يدها لي. عليّ أن أذهب، لأنني لو لم أفعل، سأظل أتحدث ولن أتوقف.
***
إيلين تشانسز، أستاذة الأدب الروسي بجامعة برينستون
السؤال بلا معنى في ذهني. من الميول المضجرة في المجتمع المعاصر هو الدافع للترتيب. من هو الأفضل؟ من رقم واحد؟ السؤال لا يجب أن يكون "من هو الروائي الأعظم؟" ولكن بالأحرى: "ما الذي أتعلمه من قراءة كتب تولستوي ودوستويفسكي، أو أي أحد آخر؟".
لم يجب أن يكون كل شيء سباق؟ لم يجب أن يكون هناك تنافس في كل شيء؟ هذا يتضمن أن هناك فائز وخاسر. لم قراءة تولستوي أو دوستويفسكي أو أي شخص يجب أن تكون جزءا من نمط "النجاح" و"الفشل"؟ صياغة السؤال "تولستوي أم دوستويفسكي: من هو الروائي الأفضل؟" بهذه الطريقة هو إضرار، كما أرى، لفعل التأمل في معنى كتب الأديبين.
هذا السؤال مكافيء لسؤال "أيهما شراب أفضل: اللبن أم عصير البرتقال؟ أيهما طعام أفضل: التوت أم الفراولة؟ أيهما أفضل: السماء أم العشب، الليل أم النهار؟"
بالنسبة لي فكل من دوستويفسكي وتولستوي عظيم بقدر متساو. كل منهما مهتم بالأسئلة الكبرى المهمة في الحياة. إيفان كارامازوف في رواية دوستويفسكي "الأخوة كارامازوف" سأل كيف لرب عادل أن يخلق عالم يتضمن معاناة أطفال أبرياء. تولستوي، خلال شخصيته، ليفين، في "آنا كارنينا" سأل ما هو معنى الحياة. كل من دوستويفسكي وتولستوي أكد على أن ماهية الحياة لا يمكن أن تكون بالاعتماد على العقل وحده. كل من دوستويفسكي وتولستوي فهم أن تكون صادقا في الانسجام الأصيل مع الحياة يعني احترام الطبيعة غير الواحدية في الحياة.
كل من الإثنين يقدم تصورات عميقة عن علم النفس. تولستوي يؤكد على الطرق التي تربط الناس ببعضهم البعض في السياق الاجتماعي، دوستويفسكي يحفر بعمق في النفس البشرية الفردية. تولستوي يرسم عالم من الأشياء المتطرفة تحدث للناس العاديين. دوستويفسكي يظهر لنا الأشياء المتطرفة التي يقدر الناس العاديون عليها. كل من الكاتبين يصف أزمة الإيمان. كل منهما يصف الرحلة إلى حياة من القيم الروحية.
كل من دوستويفسكي وتولستوي يكتب بطريقة تنقل طاقة الحياة، هذه الطاقة التي تأتي – مع دوستويفسكي – عن طريق صراع الأفكار، خلال التوتر الذي يخلقه بالإثارة واستخدام كلمات مثل "وفجأة". إيفان كرامازوف يقول إنه يحب الحياة أكثر من معنى الحياة. تولستوي يظهر حب الحياة في هذا العالم – رائحة الأرض، جمال الزهرة. هو يتحدث عن العيش في حياة أصيلة.
كل من دوستويفسكي وتولستوي يجعلانني أفكر فيما هو مهم في الحياة، كلاهما يدفع القاريء لتقدير هذه الأشياء التي لن يحصل عليها عن طريق المال أو المنافسة – الحب، والحياة نفسها...
... إذن من هو الكاتب الأعظم، دوستويفسكي أم تولستوي؟ كلا من دوستويفسكي وتولستوي عظيم... وهناك أيضا تشيكوف، وبوشكين، وماندلستام، وآخماتوفا، وبيتوف... وهؤلاء فقط الروس...
***
راكيل شانتو، طالبة دراسات عليا، مدرسة وودرو ويلسون للعلاقات العامة والخارجية
الأرجح أن هذه الكلمات تعبر عني أكثر مما تعبر عن تولستوي أو دوستويفسكي. لقد رفعت يدي من فترة طويلة عن فكرة الإطراء الموضوعي للأدب: القراءة هي عملية متحيزة أكثر مما يمكن أن نعترف، كل أنواع الأشباح تزحف على الأوراق، الأذواق والخبرات والميول ما قبل التاريخية. فإن قلت أن دوستويفسكي كاتب أعظم من تولستوي، فأنا أعني فقط أنه أعظم بالنسبة لي.
لقائي الأول بالأدب الروسي كان عشوائيا كما يمكن أن يتم توقعه من فتاة في الثانية عشر تعيش في ضواحي كوستاريكا. كل من تولستوي ودوستويفسكي ظهر مثل البطاطس التي تخرج من كيس بلاستيكي ضخم يحتوي على عدة كتب ذوات قيم متنوعة. كنت محظوظة بما يكفي لأن أكون في هذا الوقت صغيرة جدا وفضولية جدا وغير متعلمة بحق. على عكس معظم الناس فقد قرأت "الحرب والسلام" بدون أن تكون لديّ أدنى فكرة عن سمعة الكتاب، تبعتها بوقت قصير "الجريمة والعقاب" مع نفس النقص الفضائحي للاحترام، أحببت الإثنين: تولستوي من أجل القصة التي كتبها، ودوستويفسكي من أجل الأفكار التي طرحها.
بعدها بعدة سنوات استمر الكاتبان في سكن أماكن مختلفة في عقلي وذاكرتي. تولستوي يستحضر صور السهوب التي لا تنتهي وبيوت بيترسبرج الأنيقة، حيث الشخصيات العظيمة والمعقدة تسير وسط مشاغل الحياة، كتبه نماذج للحرفية الأدبية، قصص ملحمية تخبر عن مهارة مكتملة. أعمال دوستويفسكي أقل دقة، وأكثر غموضا، اختبرت كتبه كمعركة لا تتوقف للأشباح التي لا تهدأ – حتى عندما تقلب الصفحة، أو تنهي الفصل، أو تنتهي من الرواية وتقرأها من جديد. رواية دوستويفسكي الموضوعة على الرف هي بوتقة تحتوي على القلق والارتباك، حزمة من الغضب معلمة بالحاجة اليائسة إلى الخلاص، أبطاله يظهرون في مواقف متطرفة، حيث ليست شخصيتهم فقط التي توضع في الاختبار بل طبيعتهم.
الذي أجده جذابا عند دوستويفسكي ليس فقط تفاصيل القصة، ولكن التغيرات والتحولات الخاصة في حياتي روديون راسكولنيكوف وديميتري كارامازوف؛ إنها الإمكانية المجردة لوجودهما. تبقى في النهاية الفكرة المذهلة للعقل بأننا من الممكن أن نكون مثلهما؛ فكل واحد منا، أي إنسان عادي أو شخص بسيط يلازمه أعلى مستوى وأقل نقطة من الإمكانيات الأخلاقية. شخصيات تولستوي تخبرني الكثير عنها، شخصيات دوستويفسكي تخبرني الكثير عن نفسي. وإن لم تكن هذه هي الكتابة ذات الأهمية القصوى، فلا أعرف إذن ما هي هذه الكتابة.
***
كريس هنتنجتون، كاتب رواية "مايك تايسون نام هنا"
قراءة تولستوي تحيلني إلى عالم آخر؛ قراءة دوستويفسكي تجعلني أشعر أنني أعيش في هذا العالم. أثناء قراءتي لتولستوي أنجذب إلى حلم الخدم والممتلكات الريفية، والألقاب الملكية التي لا نهاية لها والمراتب العسكرية، العديد من الخيول الجميلة! كلب وفي! نساء مثل كيتي وآنا كارنينا! ولكن أضع الكتاب بعدها لأجد نفسي أستخدم الشماعة لأتخلص من الشعر في بلاعة الحمام، فلا أشعر بمثل شعور معركة أوسترليتس[3]. بل أشعر أنها حياتي مرة أخرى.
من جهة أخرى، في الكثير من الأحيان سيغضبني أحدهم في العمل، وسأسمع هذه الكلمات من "الأخوة الأعداء" تدوي في ذهني:
"يتكلم ديمتري فيودوروفيتش بصوت مكتوم: "لم يعيش هذا الشخص؟"، لا يتمالك نفسه من الغضب، وبطريقة ما يرفع كتفيه بغرابة بحيث يبدو أقرب للاحديداب. "لا، قل لي، هل سيكون من المسموح له أن يشين الأرض بوجوده؟"."
أقول مثل هذا النوع من الخراء كل الوقت. هذا جزء من طرافة أن تكون حيا.
وبينما أقود حياتي (وهي بعيدة جدا عن التزلج على الجليد في موسكو أو حصد البذور في أرضي) فبمجرد أن أتخيل أنني أشبه ليفين[4]فهذا يدعوني للسخرية من ذاتي، أنا أحبه أكثر مما كان يمكنه أن يحبني. ولكني لست قريبا من هذا اللطف أو هذا الإخلاص. أرى أنني أستطيع القول بحرية أنني معجب بالأمير ميشكين[5]، وعلى أي حال فبالنسبة لـ"الأخوة كارامازوف" فأنا هناك تماما أفعل نفس الأشياء؛ أنا ديمتري وإيفان، وأمسك بيد أليوشا، رسالة "الأخوة.." هي أننا جميعا بعضنا البعض، نحن نتشارك نفس المشاعر، نحن نعاني بنفس الطريقة، وإن عبرنا عن ذلك بشكل مختلف، يمكنني أن أكون بريئا ومذنبا في نفس الوقت.
وهذا بالنسبة لي يعني الحياة.
أعتقد أن بورخيس قال إن هناك شيء مراهق في حب دوستويفسكي – أن النضج يتطلب كتابا آخرين. كل ما أعرفه، عندما قرأت "الجريمة والعقاب" لأول مرة، أن الكتاب كان مجهدا بالنسبة لي، أنا لم أفهمه! ما الذي عليّ أن أشعر بالذنب تجاهه، وأنا في الثامنة عشر؟ لم أكن قد فعلت أي شيء، كنت مهتاجا ذو طاقة كامنة. كانت "الحرب والسلام" الأفضل بالنسبة لي - لأنه كان لديّ طبع الأمير آندري[6]، مستعد لأن أذهب إلى الحرب.
كنت غاضبا بداخلي ومهتاجا ولكن لم يكن لديّ ندم كبير، وبالتأكيد لم يكن بإمكاني فهم جنون إيفان فيودوروفيتش. كنت قد قضيت الصيف على بحيرة هاريسون[7]منجذبا لفتاة جميلة في السابعة عشر. إن سألتني لم لاحق الأمير ميشكين ناستاسيا أو سمح لأجاليا الجميلة أن تهرب فلن تكون لديّ فكرة.
في المراهقة، كنت وفيا لأصدقائي، ولكني أيضا كنت عنيدا وصلبا بحيث أنني لم أكن لأتحمل صديقا مثل صديق ميشكين روجوزين، هذا النوع من الرابطة لم أستوعبه إلا لاحقا، عندما فهمت ما الذي يعنيه أن أربط نفسي بشخص مدى الحياة – عندما فهمت ماذا تعني المغفرة المتبادلة. عندما كنت في بداية العشرينيات أحد أصدقائي طعن وهو سكران صديق آخر، لم يكن الأمر خطيرا. واحد من أفضل أصدقائي طلب مني ألا أقابل الفتاة التي انفصل عنها، ولكني بدلا من ذلك تزوجتها، ثم فقدتها، كنت ألاحقها وسط الثلوج مثل ديمتري. أنا أفهم دوستويفسكي الآن. أي مراهق يمكنه أن يفهم مثل هذه الأشياء؟
على أي حال، أنا أدرك أن "المنافسة" بين دوستويفسكي وتولستوي هي مجرد تدريب على الحب. لإنهاء النقاش سأقتبس جزءا من شخص أكثر نضجا وحكمة مني:
"مؤخرا لم أشعر أنني بحال جيدة وقرأت "منزل الأموات"، كنت قد نسيتها إلى حد ما، قرأتها مرة أخرى، أنا لا أعرف عملا أفضل وسط كل أدبنا الحديث، بما في ذلك بوشكين. إنها ليست فقط النبرة ولكن وجهة النظر الرائعة – الحيوية، الطبيعية، المسيحية. كتاب مذهل وبناء. أمتعت نفسي اليوم كله كما لم أفعل من فترة طويلة، إن رأيت دوستويفسكي قل له إنني أحبه".
- ليو تولستوي، خطاب إلى ستراخوف، 26 سبتمبر 1880
***
آندرو كوفمان، كاتب "أن تفهم تولستوي" ومحاضر الآداب واللغات السلافية بجامعة فيرجينيا
كل الكتاب المتوسطين أشبه ببعضهم البعض؛ ولكن كل الكتاب العظماء يكونون عظماء على طريقتهم الخاصة[8]. لذلك فالخيار بين كاتبي النثر العظيمين في روسيا في القرن التاسع عشر في النهاية يختصر إلى سؤال عن أي نوع من العظمة يقصده كل قاريء. تعاطفي الشخصي مع تولستوي، وأيضا فمعياري للحكم على العمل الأدبي هو كما أعترف تولستولي تماما.
يكتب تولستوي: "هدف الفنان ليس أن يحل الأسئلة نهائيا، ولكن أن يدفع الناس أن يحبوا الحياة بكل مظاهرها التي لا تنتهي ولا تتوقف". وفقا لهذا المعيار فروايات تولستوي تنجح في حين أن روايات دوستويفسكي تسقط.
حقيقي أن دوستويفسكي رأى وشعر بالخبرة الحديثة بكل عمقها العازل والمأساوي، هو أظهر القوة المهووسة بالأفكار وأزمات وانكسارات وانفجارات الروح النفسية التي تصبح مألوفة في عالمنا الحديث، ولكن الذي لم يفعله على أي حال هو أن يجعلك تحب الحياة بكل تجلياتها، في الحقيقة هو يحاول أن يفعل ذلك، ولكنه يظهر نقائصه.
مع نهاية "الجريمة والعقاب" ألقى راسكولنيكوف بنفسه على قدمي سونيا، التي تبعته إلى سيبريا حيث كان يقضي عقوبته لقتله ضحيتين، سونيا تقفز، تنظر إليه وترتجف: "السعادة المطلقة اشتعلت في عينيها؛ هي فهمت، وبالنسبة لها لم يعد هناك أي شك أنه أحبها، أحبها بلا حدود، وأخيرا جاءت اللحظة..." إن كان في هذا دوي أوبرا الصابون أو دوي تلك الروايات الفرنسية العاطفية التي تربى عليها دوستويفسكي، فهذا لأنها ميلودراما. حب سونيا المطلق هو مثل أعلى، و"اللحظة" التي من من المفترض أنها جاءت هي تجريد.
الذي يحتاجه القاريء المعاصر كما يرى تولستوي ليس المزيد من التعثر وراء "السعادة المطلقة" أو "الفكرة العظيمة" كما يدعي ستيبن تروفيميتش أنه اكتشف بالقرب من نهاية "الشياطين"، ولكن القدرة على تقبل الواقع المشوه. كاتب "آنا كارنينا" يعلمنا كيف نسعى لمعنى، ليس من خلال المحاولات الرومانسية العظيمة مثل آنا وفرونسكي، ولكن بداخل حدود البنى الاجتماعية والأسرية المشوهة مثل كيتي وليفين.
روايات تولستوي تصف أعراف واستمراريات السلوكيات الإنسانية عن طريق وسائل السرديات الكبرى التي تمتد ببطء على مر الزمن في سياق التابلوهات الطبيعية الواسعة. "كما هي الحال عادة" و"كما يحدث كثيرا" هي جمل تقابلها كثيرا عند تولستوي. عالم دوستويفسكي في المقابل هو العالم الذي يمكنك فيه أن تعود لبيتك في أحد الأمسيات وفجأة تجد فأسا مغروسا في جمجمتك، الحياة دائما على حافة تدمير نفسها، المأساة موجودة في أحد الأركان أو في غرفة معيشتك.
حسنا، غرفة معيشة تولستوي هي حيث يعيش الناس. هناك حيث ناتاشا روستوفا[9]ذات العينين السوداوين المتكلمة التي تبلغ 12 عاما تأتي وهي تجري بدمية في يدها، أو حيث، بعد مرور عقد، تستمتع هي وبيير بواحد من هذه الحوارات الطبيعية الدافئة بين زوج وزوجة عن لا شيء وكل شيء.
"أنا واقعي بحس عال" يزعم دوستويفسكي بحق. ولكن تولستوي كان واقعيا بكل الحس، كتب: "بطل قصتي هي الحقيقة"، وهذه الحقيقة هي التي يعرفها كل جيل بطريقته وليس فقط هؤلاء الذي يعيشون وسط أزمة اجتماعية أو يأس وجودي. إن حثنا دوستويفسكي على أن نتقرب من السموات، إذن فتولستوي يعلمنا عن طريق المثل الفني كيف يمكننا أن نلامس المتعالي هنا والآن في العالم العابر الفوضوي.
***
جاري سول مورسون، أستاذ على كرسي فرانسيس هوبر للآداب والإنسانيات، جامعة نورث ويسترن
هناك قصة سوفيتية تقول ان ستالين سأل في مرة اللجنة المركزية: "أي انحراف هو الأسوأ؛ اليمين أم اليسار؟" البعض استطاع القول بخوف: "اليسار"، آخرون بتردد: "اليمين". الربان العظيم قال الإجابة الصحيحة: "الإثنان سيئان". وأنا أجيب على سؤال: "من هو الروائي الأعظم؛ تولستوي أم دوستويفسكي؟" الإثنان أفضل.
دوستويفسكي تحدث إلى القرن العشرين. كان فريدا في تنبؤه أنه لن يكون عصرا لطيفا منيرا، ولكنه سيكون الأكثر دموية، فـ"الشياطين" تنبأت بغرابة شديدة وبتفصيل بما ستكون عليه الشمولية.
باختين فهم المبدأ الرئيسي في أخلاق دوستويفسكي: الإنسان ليس أبدا مجرد منتج للقوى الخارجية، لا الوراثة ولا البيئة، كل على حدة أو معا، يمكنهما أن يفسرا الإنسان تماما، كل إنسان لديه "شيء خاص" يكوّن العنصر الأساسي في الذات. بالطبع فبعض الناس، وكل العلوم الاجتماعية التي تطمح أن تطابق العلوم الطبيعية، ترفض وجود هذا الشيء الخاص، ولكنهم يطبقون نظرياتهم فقط على الآخرين، فبغض النظر عما يدعيه، لا أحد اختبر في نفسه أنه مجرد لعبة في يد القوى الخارجية، كل شخص يشعر بالندم أو الذنب، ولا يوجد مهرب من ألم الاختيار، نحن نتصرف وكأننا نؤمن بأن كل لحظة تسمح بأكثر من ناتج ممكن، وأن حريتنا هي التي تجعلنا لا يمكن التنبؤ بنا من الأصل، بدون تلك اللا مقدرة على التنبؤ كانت ستنقصنا الإنسانية، كنا سنصبح كأفراد الزومبي، ولا أحد لديه مسئولية أخلاقية تجاه الزومبي، بالتالي فالأخلاق تتطلب: أن تعامل الشخص الآخر دائما كشخص قادر على المفاجأة، كشخص لا يمكن التنبؤ به تماما من الظاهر.
دوستويفسكي ازدرى كل من الرأسمالية والاشتراكية لأن كل منهما تعامل مع الناس كمجرد منتج للقوانين الاقتصادية (أو أي قوانين). إن كانت الاشتراكية سيئة، فهذا بسبب أنها تفترض أن الخبراء يعرفون كيف ينظمون الحياة من أجل الأفضل، والاشتراكية لا تنكر فقط ولكنها تنزع بحرص القدرة على الاختيار من أجل ما هو مفترض أن يكون خيرا أعظم. في أفضل الحالات هذه الآراء تقود إلى "المفتش الكبير"[10]، في أسوأ الحالات تقود إلى الخطط الكابوسية لبيوتر ستيبانوفيتش[11].
تولستوي يتكلم بشكل أكبر للقرن الحادي والعشرين، الفكرة الرئيسية لرواياته هي الإمكان، في كل لحظة مهما كانت صغيرة أو عادية، هناك شيء يحدث لا يمكن أن يحسب تماما عن طريق اللحظة الماضية. مثل دوستويفسكي، تولستوي رفض أيضا إمكانية العلوم الاجتماعية، التي تنتهي دوما لتشبه "علم الحرب" والذي يروج له جينرالات "الحرب والسلام". مثل رجال الاقتصاد الكلي هذه الأيام، هؤلاء "العلماء" محصنون ضد الأدلة المضادة. عندما تستخدم كلمات تولستوي، فالعلم الاجتماعي هو محض خرافة.
إن فهم العلماء الاجتماعيون الناس مثل تولستوي، فسيكونون قادرين على وصف الإنسان بشكل مُصَدَق كشخصيات تولستوي، ولكن بالطبع لا أحد منهم يقترب من ذلك.
إن عرفنا لمرة أننا لن يكون لدينا علم اجتماعي، بالتالي سنتعلم، مثل الجينرال كوتوزوف[12]، أن نتخذ القرارات بشكل مختلف. نحن المثقفين سنكون أكثر حذرا، أكثر تواضعا، ومستعدين لتصحيح أخطائنا بالإصلاح المستمر.
إن وضعنا عصر الأيدولوجيات وراءنا، ربما سنحتاج تحذيرات دوستويفسكي بشكل أقل من احتياجنا لحكمة تولستوي.
***
دونا توسينج أوروين، قسم اللغات والآداب السلافية بجامعة تورونتو (كندا)، وكاتبة "نتاجات الوعي.. تورجينيف، دوستويفسكي، تولستوي".
أنا ملت في البداية لأن أقول تولستوي؛ مزجه بين الحساسية الأخلاقية وحب الحياة كان جذابا بالنسبة لي. لم أحب عالم دوستويفسكي الخارق الذي يتعلق بالذات التي في أزمة. الكاتبان لديهما العديد من الأشياء المشتركة، ولكن لديهما أيضا اختلافات تجعل من غير الممكن مقاومة المقارنة.
الإثنان ربطا الذات بالعامل الأخلاقي، فبالنسبة للإثنين فالفرد هو المصدر الأعظم للخير والشر، وبالنسبة للإثنين فالطيبة التي تعتمد على الأنانية الطاغية، طبيعية ولكنها ضعيفة. بالنسبة للإثنين فالمشاعر تتغلب على العقل في النفس، في حين أن تولستوي أقرب إلى اليونانيين والتنوير في ربطه بين الفضيلة والعقل. عند دوستويفسكي، العقل ملطخ دوما بالأنانية، وبالتالي هو يعتمد على الحب الذي يحث الدوافع الأخلاقية، دوستويفسكي يركز أكثر على الشر؛ لهذا السبب تستبق كتاباته بشاعات القرنين العشرين والواحد وعشرين الصغير. تولستوي يصف الجرائم، كإعدام فيريشاجين (الحرب والسلام)، أو قتل الزوج لزوجته في "سوناتا كريتسر"، ولكن ليس الحقد الخالص الذي تجسد في الشخصيات الدوستويفسكية كستافروجين (الشياطين) أو سميردياكوف (الأخوة كارامازوف). أكثر شخصيات تولستوي شرورا، كدولوخوف في "الحرب والسلام" يبدو أنه يغزو نصوصه من عالم (دوستويفسكي؟) آخر. دوستويفسكي أيضا مثّل الطيبة الخالصة؛ الأمير ليو نيكولايافيتش ميشكين (الأبله) على الرغم من أنه سمي على اسم تولستوي، هو أكثر فضلا من أي شخصية تولستولية، وكذلك أليوشا كارامازوف. كلا الكاتبات ساخران حاذقان. حلول تولستوي العقلانية لمشكلات المجتمع تبدو ساذجة، في حين أن حلول دوستويفسكي النبيلة تبدو عاطفية.
أدب تولستوي يغطي مدى أوسع من الخبرة عن أدب دوستويفسكي. لا أحد وصف الطفولة، الحياة الأسرية، الزراعة، الصيد، الحرب بشكل أفضل. وليس من قبيل الصدفة أن يتم الاحتفاء بتولستوي لتصويره للطبيعة والحيوانات. دوستويفسكي عادة ما يربط الجسدي بالحقير (قارن فيودور كارمازوف الكبير الممتليء بابنه أليوشا الأثيري)، في كتاباته المرض غالبا ما يجلب بصيرة، في حين أن تولستوي غالبا (وإن لم يكن دوما) يفضل أحوال الصحة على أحوال المرض.
أدب دوستويفسكي يستهدف كشف الشخصية لأكبر مدى ممكن. هو يؤمن بأن كل فرد فريد، وبالتالي في النهاية هو غير مفهوم بالنسبة للآخرين؛ شخصياته تتأرجح ما بين الخير والشر؛ هذا يجعل مستقبل أي منهم، حتى الأكثر فضيلة، غير متوقع. شخصيات تولستوي معقدة ولكنها ليست فريدة؛ التنوع بينهم (وهو أعظم مما عند دوستويفسكي) هو نتيجة لامتزاجات غير متناهية عمليا، وليس تنظيريا بداخل الإمكانيات المتأصلة في الطبيعة البشرية، وتفاعل ذلك مع العالم الخارجي. تولستوي يصف نقاط تلاقي الصدف والقوى التاريخية والشخصيات، من وجهة نظره فكلما انفصلنا عن الظروف الخارجية كلما صرنا أحرارا. تولستوي انجذب في نهاية عمره للفوضوية المسيحية، في حين أن دوستويفسكي في روايته الأخيرة "الأخوة كارامازوف" يبدو مدافعا عن للثيوقراطية الممثلة في شخص مثل زوسيما[13].
ما زلت أفضل أرضية واتساع تولستوي عن تشريح دوستويفسكي الرائع والحاد للنفس، ولكني لا أستطيع تخيل الحياة بدونهما معا.
***
جوشوا روثمان، طالب دراسات عليا للغة الإنجليزية بجامعة هارفارد، وكاتب عمود "عبقري" الذي ينشر كل أحد بقسم الرأي بجريدة ذا بوسطن جلوب
لديّ الأسباب المعتادة التي تجعلني أفكر أن تولستوي هو الروائي "الأفضل" – الحقيقة هو الأفضل على الإطلاق، التنوع الذي لا يصدق في المشاهد والموضوعات التي يستكشفها؛ أسلوبه الدقيق والمرتب؛ هناك نبرته الملحمية، بمزجها الخاص بين الحياد والإنسانية. أنا أقف مكتوف الأيدي أمام الطريقة التي تصف بها رواياته كل أحد من الداخل، حتى الكلاب والخيول. لديّ نفس رد فعل أخت زوجته تانيا بيرس، التي كانت نموذج ناتاشا في الحرب والسلام، تجاه كتابته: "ولكن كيف يمكنك أن تندس داخل قلب فتاة تحب، كيف يمكنك وصف إحساس أم – أقسم بحياتي أنني لا أفهم". أعتقد أن تولستوي هو الأفضل في "دس نفسه" أكثر من أي روائي آخر.
إنها مشاهد تولستوي تلك التي تدهشني بشكل أكبر، أنا مقتنع أنه وحده أعظم كاتب للمشاهد في الأدب. غالبا ما يأخذ دوستويفسكي شهادة أنه أكثر درامية (جورج ستاينر في كتاب "تولستوي أم دوستويفسكي يدعو دوستويفسكي "واحد من أعظم العقول الدرامية بعد شكسبير"). ولكن روايات تولستوي فريدة بطريقة أنها مبنية من مشاهد قصيرة مكتملة سهلة القراءة، وبطريقة أن المشاهد تعتمد على بعضها البعض حتى تقدم أكثر الموضوعات تعقيدا بطريقة تلقائية وطبيعية.
قم بجولة في مشاهد حفل كيتي وفرونسكي في "آنا كارنينا". في المشهد الأول، كيتي وآنا يجلسان على الأريكة، كيتي تدعو آنا إلى الحفل، وتقترح عليها أن ترتدي فستان بلون أرجواني، بعدها مجموعة الأطفال يركضون نحو آنا، آنا تأخذهم بين ذراعيها، وينتهي المشهد. بقراءة هذا المشهد نفهم كيف ترى كيتي آنا: كأم شابة غامضة وجميلة وشاعرية. بعد ذلك بمشهدين، كيتي تصل للحفل وهي ترتدي فستان بلون وردي وترى آنا – ترتدي فستان مخملي أسود، في هذا المشهد تسرق آنا فرونسكي من كيتي. بالضبط هنا، بوضع هذين المشهدين، الذان يتكونان من صفحتين أو ثلاث فقط، يكون لديك الفارق بين الطفولة والنضج، بين البراءة الجنسية والخبرة، لا يوجد روائي آخر يظهر لك كل هذا في هذا الوقت القصير.
ليس فقط لأنه مشاهده تتحرك بسرعة، ولكن لكونها تسمح لتولستوي أن يركز في أشياء عادية جدا كلون الفستان. أحد أفضل المشاهد في نهاية "آنا كارنينا" يتم أثناء عاصفة رعدية؛ في "الحرب والسلام" يكتب مشهدين عند شجرة البلوط عارية ثم مثمرة. في كل مشهد تبدو التفاصيل غير ملحوظة – ولكن بعد عدة مشاهد، تجدها تجمع نفسها في بناء يمثل أكبر من مجموع اجزائه. تولستوي اطلق على هذا البناء "الشبكة" دوستويفسكي كان يبني شبكات أيضا، بالطبع، وفي بعض الأحيان تكون أقوى. ولكني أفضل مواد تولستوي العادية عن مواد دوستويفسكي غير العادية، لأنها من الممكن أن تعلمك كشف "المشاهد" و"الشبكات" في حياتك.
[1] الكتاب ترجم إلى العربية بواسطة أحمد حمدي محمود ونشر في جزئين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2005.
[3] معركة أوسترليتس: المعركة التي انتصر فيها الفرنسيون بقيادة نابليون الأول على الروس والنمساويين عام 1805، المعركة تمت بأوسترليتس الموجودة بجمهورية التشيك حاليا.
[8] يُنوّع الكاتب هنا على أول جملة لتولستوي في رواية آنا كارنينا: "كل العائلات السعيدة أشبه ببعضها البعض، كل عائلة تعيسة هي تعيسة بطريقتها الخاصة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق