يعتبر كل من كلفورد جيرتز، وديل أيكلمان، ولورنس روزن، وهلدر جيرتز،وبول رابينو أهم الباحثين الأنثربولوجيين ذوي المرجعية النظرية التأويلية الذين درسوا المجتمع المغربي.
وقد سعى هذا الاتجاه التأويلي كما هو معلوم، إلى فهم طبيعة النظام الاجتماعي المغربي وضبط آليات تغيره انطلاقا من تصورات الأفراد و تمثلاتهم الثقافية حول الوجود وحول علاقاتهم الاجتماعية.
وهذا التصور النظري هو الذي دفع كل من جيرتز وأيكلمان، وهما بمثابة الوجهين البارزين ضمن هذا الاتجاه التأويلي، إلى التركيز أكثر على دراسة المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها كمفتاح لفهم النظام الاجتماعي والنظام المجتمعي ككل بالمغرب.
وتتغيى ورقتنا هذه عرض و إبراز أهم الخلاصات والاستنتاجات التي خلص إليها هذا الاتجاه التأويلي حول الإسلام بالمجتمع المغربي، وذلك من خلال المقارنة بين أعمال كل من جيرتز وأيكلمان[1].
وعلى الرغم من أن أيكلمان يُعرض عن فكرة وجود"مدرسة تأويلية" ينتمي إليها إلى جانب جيرتزوالآخرين[2]، بيد أننا نعتقد أن القراءة المتفحصة لدراستي كل من جيرتز و أيكلمان، المذكورتين أعلاه، تبين أن ما يجمع بين هذين الأنثربولوجيين أكثر بكثير مما يفرقهما[3].
فعلى الرغم من أن كلا الباحثين له أسلوبه الخاص في الكتابة والتحليل، فإن هناك نوعا من التطابق بينهما على مستوى الخطوات المنهجية المتبعة، وعلى مستوى الاستنتاجات العامة التي توصلا إليها.
وبتعبير آخر، فإن للرجلين في عمليهما السابقي الذكر مواطن ائتلاف واختلاف سوف نسعى جاهدين لرصدها وتفسيرها في حدود ما تسمح به هذه المقارنة.
I.الإطار النظري:النظرية الڤيبرية حول التفاعل القائم بين المنظومات الثقافية والمعتقدات الدينية.
من المعلوم لدى ذوي الاختصاص أن كلفورد جيرتز،هو أحد كبار الأنثربولجيين المعاصرين الذين أسهموا في تطوير دراسة الأنساق الرمزية والثقافية داخل الممارسات الأنثربولوجية سواء على مستوى النظرية أو على مستوى المنهج[4].
وقد عمل جيرتز، منذ مقالته الشهيرة "الدين كنسق ثقافي"، على بلورة تعريف عام للدين ينسحب على جميع الأشكال الدينية الممكنة، فالدين حسبه «نسق من الرموز يعمل على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة، وانتشار و استمرار دائمين لدى الناس، وذلك عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، مع إضفاء طابع الواقعية على هذه التصورات بحيث تبدو هذه الطبائع والدوافع واقعية بشكل متفرد»[5].
ويقصد جيرتز من خلال هذا التعريف للدين أن هذا الأخير يربط الصورة الجوهرية للحقيقة بمجموعة من الأفكار المتماسكة حول الكيفية التي ينبغي على الإنسان العيش وفقها، موفقا بذلك بين الأنشطة البشرية وصورة النظام الكوني، وباعثا في الوقت نفسه صورا عن هذا النظام الكوني فوق مستوى الوجود البشري.
وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي ُوجهت إلى هذا النموذج التحليلي لجيرتز حول الدين، فإن محصلته كانت، في نظرنا، واضحة وإجرائية، لأنها دعمت التصور الڤيبريالمتجاوز للمنظور التبسيطي، الذي يقيم تعارضا بين وهم الاستقلال المطلق للخطاب الديني، وبين النظرة الاختزالية التي تجعله انعكاسا مباشرا للبنيات الاجتماعية. هذا التصور الڤيبري الذي سيعتمد عليه بورديو ويزكيه فيما بعد[6].
وقد نحى ديل أيكلمان هذا المنحى نفسه، حيث يقول بهذا الصدد:«إن الأفكار والمنظومات الفكرية، وخاصة منها تلك التي تبنى على أساسها مواقف الناس تجاه الكون، لا يمكن أن يستقيم تفسيرها، من وجهة نظر تحليلية صرفة، كما لو كانت مجرد وحدات أفلاطونية تتموقع فوق مستوى التاريخ، بحيث لا تمسها حوادث الزمن و تطالها صروفه»[7].
ويرى أيكلمان أن النموذج الڤيبري المتضمن في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية يعد بمثابة التحليل السوسيولوجي الأكثر ملاءمة لتحليل الأوضاع التاريخية المحددة، والأكثر قابلية لتوظيفه في بلورة المتغيرات السوسيولوجية في شكل مفاهيم إجرائية»[8].
كما أن أيكلمان أحال أكثر من مرة على أفكار جيرتز، التي تعزز هذا الطرح الڤيبري وتأجرأه، واستعان بها على رسم معالم وحدود مرجعياته وخلفياته النظرية المؤطرة لدراستة حول «أبي الجعد».
وبناءا على ما سبق، يبدو جليا أن كلا من جيرتز وأيكلماناعتمدا، بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، على الطرحالڤيبري الذي يرى أنه لا تستقيم دراسة الهوية الدينية سوى بتناولها ضمن النسق الديني التي تشكل جزءا منه، بالإضافة إلى السياق الاجتماعي التي تندرج داخله. وعليه عمل كل من الأنتربولوجيين على دراسة الإسلام بالمجتمع المغربي في سياق التغير الاجتماعي، بمعنى وضعه داخل سياقه التاريخي.
II. الربط بين التاريخ و البنية الاجتماعية.
تعتبر مسألة الجمع بين أدوات الأنثربولوجي والمؤرخ في دراسة الأنساق الدينية من أهم ما يميز الاتجاه التأويلي. وإذا كنا قد أبرزنا فيما سبق الجذور النظرية لهذا الربط، فإننا سوف نحاول فيما سيأتي من هذه الفقرة الوقوف على الاستعمال العملي التطبيقي لهذا المنحى المنهجي عند جيرتزوأيكلمان من خلال متنيهما السابقي الذكر.
يعتبر جيرتز التاريخ المغربي تاريخا دينيا بالأساس[9]. حيث إن الشخصية الصانعة لهذا التاريخ كانت ولا تزال شخصية دينية بالدرجة الأولى، فالولي المحارب هو الذي يشيد المدن أو يهدم الأسوار. فإدريس الثاني، الذي يعد أول ملك حقيقي للبلاد، كان في الوقت ذاته حفيدا للرسول وقائدا حربيا كبيرا ومصلحا إسلاميا مجددا، وتعد الصفتان الأخيرتان بمثابة العامل المحدد، فلولا توفرهما لما أصبح هذا الرجل في الغالب ملكا للبلاد.
كما أن مؤسسي الدولتين العظيمتين المرابطية والموحدية كانا في الأصل مصلحين دينيين. وأزمة الزوايا التي طبعت التاريخ المغربي واستمرت زهاء القرنين نتجت عن إفلاس الإيديولوجية الموحدية وسقوط دولتها، كما أن القضاء على هذه الأزمة و وضع حد لها تم على يد الدولة العلوية الناشئة.
ويرى كل من جيرتز وأيكلمان أن الحضارة الإسلامية بالمغرب قد تشكلت بالأساس عن طريق القبائل المتحركة التي كانت تمثل مركز الثقل الثقافي. ويضفي أيكلمان على هذه الفكرة لمسة من التنسيب حيث يرى أن المدن قد دخلت بالتدريج منذ مجيء الإسلام للمغرب في علاقة اقتصادية متبادلة مع القبائل المحيطة بها، وكان لها دور في صنع الأنشطة السياسية[10].
ويميل جيرتز إلى الاعتقاد بأن تأثير الفقهاء قد تقوى بفعل الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب بعدما كان محدودا خلال "المغرب القديم"، حيث إن التدخل الأوربي لم يستتبع ردود أفعال غاضبة ضد المسيحية الغازية فقط، و إنما ضد التقاليد "المرابوتية" القديمة أيضا.
في حين ينزع أيكلمان إلى الاعتقاد بأن الإديولوجية الإصلاحية لم تستطع أن تعوض مع ذلك إيديولوجيا الزوايا والصلحاء.
ويرى جيرتز أن الإسلام لعب دورا هاما في الحفاظ على الذات والشخصية الاجتماعية أثناء مرحلة الاستعمار، إذ أنالظهير البربري هو الذي لعب الدور الكبير في تشكيل الحركة السلفية والحركة الوطنية معا. كما أن المغرب استطاع الحفاظ على وحدته الروحية بفضل مؤسسة الملكية، إذ أعاد الملك محمد الخامس إلى الوجود فكرة الولي، حيث جمع أثناء فترة حكمه بين الولي الصالح والسياسي المقتدر.
وقد وقف أيكلمان بدوره عند أزمة الزوايا التي استمرت منالقرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، وفصًلَ في كافة العوامل التي كانت وراءها: كفقدان المغرب السيطرة على تجارة الذهب، واحتلال الأسبان والبرتغاليين للشواطئ المغربية، وتنازلات السلاطين المرينيين، ودور العثمانيين في الجزائر في دعم المعارضة ضد السياسات المرينية.
كما رفض أيكلمان تفسير عزلة المغرب، التي دامت من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، بالعوامل الطبيعية، كالسلاسل الجبلية وغياب الموانئ الطبيعية، هذه العزلة التي ترجع في نظره إلى سياسة السلاطين المتعاقبين على الحكم خلال هذه الفترة.
ويبدو للمقارن بين ما أورده كل من جيرتز وأيكلمان حول التاريخ المغربي، أنه على الرغم من أن أيكلمان لم يختلف مع جيرتز في استنتاجاته الكبرى، إلا أنه أبدى معرفة عميقة ودقيقة بالأحداث التاريخية الكبرى، وكذا بالنقاش الدائر حول دلالاتها وتأثيرها على المسار التاريخي للمغرب.
كما أن أيكلمان نهج إستراتيجية تقوم على أساس التفصيل في إيراد المعطيات التاريخية الدقيقة، أكثر مما يستدعيه البرهان النظري، للكشف عن قصور، ليس فقط الكتابات الكولونيالية،التي ذكر بعض أصحابها بالاسم، كألفريد بيل، وإنما أيضا من لم يذكرهم بالاسم كجيلنر وهارت، بل حتى جيرتز نفسه في بعض التفاصيل الدقيقة من تاريخ المغرب.إذ يخيل للقارئ أحيانا أن أيكلمان يتفادى التعبير عن مواطن الاختلاف بشكل مباشر وواضح مع جيرتز، في حين أنه يعمل على إبراز مواطن الائتلاف فيما بينهما ويشدد عليها[11].
وقد اتخذ المنظور التاريخي عند أيكلمان بعدا أكثر إجرائية منه عند جيرتز في دراستهما للواقع الاجتماعي، بيد أن كليهما قد أتبثا بأن عملية فهم الحاضر تبقى مرتبطة بمعرفة الماضي حيث لا تستقيم بدونه.
III. الإسلام بالمغرب من منظور جيرتز وأيكلمان.
اعتمد كيلفورد جيرتز في رصد وتحليل التغيرات الدينية بالمغرب بالأساس على المعطيات الميدانية والتاريخية التي جمعها حول الموضوع. واستنادا على التصور الڤيبري-الذي يجعل من الدين مؤسسة اجتماعية، والعبادة نشاطا اجتماعيا، والاعتقاد قوة اجتماعية، ويرى أن الحياة الدينية لمجتمع ما ينبغي أن تبدأ من تحليل أنساق الدلالة التي يستعملها الفرد داخل الحياة الاجتماعية - قام جيرتز بتحليل قصة الولي اليوسي التي تجسد في نظره «صورة الروحانية الحقيقية» عند المغاربة بغض النظر عما كان عليه هذا الرجل في الواقع. وقد كشف جيرتز، من خلال تحليله لصورة اليوسي كما يتمثلها ويتداولها الخيال الشعبي المغربي، عن كنه معنى البركة التي ليست مجرد مفهوم ديني وإنما عقيدة بكاملها. وهي تعني أن المقدس يتجلى في العالم كهبة وقوة يختص بها أناس معينون دون غيرهم. وتعكس مسألة امتلاك البركة سواء من مصدرها النَسبي أو ألإعجازي، أو هما معا معظم دينامية التاريخ الثقافي المغربي. وترمز قصة اليوسي مع السلطان المولى إسماعيلإلى العلاقة القائمة بين البركة الانتسابية والبركة الإعجازية، وكيف تفرض الثانية على الأولى الاعتراف بها وإضفاء الشرعية عليها؟. فقد كان الأولياء، وهم مالكو البركة بامتياز، بمثابة المؤسسين الحقيقيين للوعي والنماذج المشكلة للمجتمع في المغرب القديم. بيد أن التغيرات التي مست المجتمع المغربي انطلاقا من تجربة الاستعمار إلى المؤسسات الجديدة التي ظهرت للوجود مع استعادة السيادة الوطنية، غيرت هذه الصورة. حيث عمل المغاربة جاهدين على الحد من نضج هذه التناقضات التي نشأت بحكم هذه التغيرات. حيث اجتهدت الحركة السلفية لتحول دون اصطدام الدين بالعلم. ويخلصجيرتز إلى أن التقاليد الدينية المغربية المعدلة تبقى رهينة استمرارية نمط الحياة التي تصوره، مما يفسر حسب رأيه، في جزء كبير العلمانية الواقعية التي تطبع الحياة اليومية للمغاربة. حيث إن الاعتبارات الدينية في المجتمع المغربي ،رغم كثافتها، لا تلعب دور الموجه للسلوك سوى في بعض المجالات المحدودة. بيد أن هذا التمييز بين أشكال الحياة الدينية وجوهر الحياة اليومية يسير حتما نحو نقطة الانفصام الروحي[12].
ويرى جيرتز أن الحياة الدينية بالمجتمع المغربي لم تعرف تغيرا كبيرا منذ نهاية (الستينيات تاريخ صدور كتابهIslam observed) حتى بداية التسعينيات (تاريخ صدور الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب) بسبب استمرارية النظام السياسي، ذلك أن المغرب وبعكس بلدان إسلامية كثيرة لم يفرض على الدين التكيف مع التغيرات العنيفة على هيأة وشاكلة السلطات المركزية[13]. وتعتبر هذه الخاصية حسب جيرتز بمثابة صمام الأمان الحقيقي ضد كل الاحتجاجات الدينية، وهذا ما يفسر نجاح الدولة عبر السياسات الحكومية المتوالية للحد من خطورة الحركات الإسلاموية التي بقي تأثيرها حبيس الجامعات وبعض المناطق الهامشية[14].
ويقول جيرتز بهذا الصدد: « إن النظرة الروحية للمغاربة، كما يرونها هم، موحدة و غير مجزأة
المزيدثورة الصورة وصورة الثورة تحليل سميولوجي وسوسيولوجي لنماذج من الصور المتحركة للثورات العربية.
كتبها مُنْدِيبْ عبدالغني ، في 6 أكتوبر 2011 الساعة: 22:50 م
بعدما شاهدت العشرات من الأشرطة المصورة التي تعرض لمختلف المشاهد ذات الصلة بما يحدث في عدد كبير من الدول العربية ، من انتفاضات شعبية عارمة وردود فعل رسمية عنيفة في أغلبها ، حاولت أول شيء أن أحصي هده الفيديوهات المبثوثة على مختلف مواقع الشبكة العنكبوتية ، وبالأخص موقع اليوتوب ، فوجدتها عديدة لا تحصى لكثرتها. ومرد ذالك بالأساس إلى كون الأحداث لا زالت جارية بالمجتمعات العربية, سواء منها التي صنعت الثورة وقلبت نظام الحكم كتونس ومصر , فيما يمكن أن نسميه بثورة مابعد الثورة ؛ أو في تلك التي مازالت تنافح من أجل التغيير مند شهور عدة كليبيا واليمن, أو في تلك التي تجري فيها الأنظمة القائمة إصلاحات ملموسة كالمغرب والأردن والجزائر والسعودية وغيرها. ولذالككلما دخلت الشبكة العنكبوتية ،وجدت العشرات من الفديوهات الجديدة التي تحمل مفاهيم جديدة كالبلطجية والشبيحة، وتحمل أسماء أماكن من البلاد العربية ، لم أسمع عنها من قبل كالقصرين وجبلة ومصراتة وتعز و الكسوة وحرستا و الدامة وغيرها. لا يمكن إذن إحصاء هذه الصور المتحركة\الرسائل المصورة ليس لكثرتها،وإنما لأن سيرورات أسباب إنتاجها وإنتاجها لا زالت قائمة. إذا كانت هذه الظاهرة غير قابلة للتعداد ، فهل هي قابلة للتصنيف؟ كيف يمكن تصنيف ظاهرة،بصرية ومرئية ،لا يمكن ضبط عددها الكمي ولا النوعي،طالما أن صيرورة الإنتاج لازالت مستمرة كميا ومن المحتمل أن تكون نوعيا أيضا، إذ لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتأكد من أن الكم القادم سوف لن يأتي بأنواع جديدة من فديوهات الثورة هذهـ ليقبل القارئ منا هده التسمية على علاتها ـ بعد كتابة هذه السطور. وعليه فإن تصنيفنا لهذه الوثائق المصورة, أيا كان شكل ومضمون هذا التصنيف, سيظل بالضرورة محكوما بتاريخيته كما بإبستميته ،هذا بالإضافة إلى البعد المغماراتي والتعسفي الذي ينطوي عليه كل تصنيف على حد تعبير كلود لفي ستروس . يمكن التمييز إذن بشكل عام بين ثلاثة أنواع من فديوهات الثورة:النوع الأول ونسميه بالساخن ـ وسوف نشرح,فيما سيأتي من هده السطور,الخلفيات النظرية والإبستمولوجية لهذه التسميات ـ ونقصد به الفديوهات التي أنتجت, على مستوى الشكل,في غالبها بواسطة هواتف محمولة, أما على مستوى المضمون فإنها تحمل صورا من قلب المعارك,حيث يعم القتل ويسود التعذيب, وحيث تنطوي عملية تسجيل هذه الفديوهات على خطر الموت . النوع الثاني وندعوه بالبارد, ونقصد به مقتطفات من تغطية بعض القنوات الفضائية العربية,سواء الداعم منها والمساند للانتفاضات العربية كقناة الجزيرة, أو المعادي لها كالقنوات الرسمية لكل من ليبيا واليمن وسوريا. وتتميز هذه الصور, على مستوى الشكل, بكونها ملتقطة من قبل مصورين محترفين وبمعدات احترافية,أما على مستوى المضمون فإنها تندرج في إطار الصراع السياسي بشكليه الصريح والمضمر بين الجهات الداعمة للتغيير في البلدان العربية أو المناهضة له، والمستعملة للصورة والصورة المتحركة على سبيل التحديد كأداة حرب ومواجهة وإستراتجية صراع.النوع الثالث وننعته بالرمزي الفني , ونقصد به بعض الأفلام القصيرة الموضوعة على الشبكة العنكبوثية ,والتي تتميز بكل خصائص العمل الفني السينمائي من تأليف ، وإخراج، وتمثيل، ورمزية،وجمالية فنية ؛كفيلم الثورات العربية بجزأيه الأول والثاني من تأليف وإخراج صفوان ناصر الدين .
لا يدعي هذا التصنيف البتة الإحاطة والشمولية,وإنما هو لا يعدو كونه مجرد نموذج تحليلي تمثيلي بالمعنى الفيبيري للكلمة,أي مجرد إطار تحليلي مقترح في إطار محاولة جمع شتات هذه الصور المتحركة وإنتاج المعنى الذي تحبل به,أو دعونا نقول من باب التنسيب, بعضا منه على الأقل.
الصورة كتقنية في مواجهة السلطة كقوة
كلما دلفت إلى الشبكة العنكبوثية باحثا عن هذه الصور المتحركة ذات الصلة بالثورات العربية ,وكلما شاهدت هذه الصور ـ وأعدت مشاهدتها مرات عدةـ قارئا إياها في كل مرة بسؤال محدد ودقيق ومختلف عن سابقه ـ وهي منهجية تقتضيها ضرورة التحليل كما بعرف ذالك أهل الصناعة ـ تكرست لذي تلك المقولة، التي كنت ولا أزال أكررها على مسامع طلبتي بجامعة محمد الخامس في سياق تحليلنا لماهية السلطة بكل أنواعها وأشكالها وأبعادها وألوانها وتجسداتها، التي مؤداها أن المجتمعات الحديثة لما أدركت أن السلطة مفسدة و السلطة المطلقة مفسدة مطلقة,ومعنى ذالك أن السلطة بطبيعتها تنزع نحو الاستبداد وخدمة نفسها على حساب الآخرين,قسمتها إلى ثلاثة أجزاء متساوية يراقب بعضها البعض الأخر:سلطة تشريعية,سلطة قضائية وسلطة تنفيذية,ولما لم يف هذا التقديم بالغرض المطلوب، وهو الحد من غلواء
السلطة كقوة نزاعة باستمرار نحو الاستبداد ,خلقت سلطة رابعة وهي الإعلام,ثم سلطة خامسة وهي الشبكة العنكبوتية,أ ي ما يسمى بالإنترنيت.
فالإنترنيت كتقنية إعلامية خلقت ثورة في مجال التواصل وكسرت الحدود وخرقت الطابوهات,ودكت حصون الرقابة والتعتيم .فالصورة التي أنتجتها التقنية الحديثة ونشرها اقتصاد السوق الحرة ,أصبحت وسيلة ديمقراطية في يد الملايير من سكان العالم تنتج بدورها "الصور الوقائع" ,أي الوقائع والأحداث في شكل صور .فأي فرد عادي وبسيط يستطيع أن يلتقط بهاتفه النقال صورا لوقائع وأحداث ,في غفلة من المشاركين فيها ودون علمهم ,أو بعلمهم ورضاهم,ووضعها على أحد المواقع ضمن شبكة الإنترنيت ,كموقع اليوتوب على سيل المثال,لتصل إلى العالم بأسره.أليست الصورة هنا كتقنية,في يد معظم سكان العالم تواجه السلطة كقوة مستبدة ـ مراقبة وحاجبة ومعتمة ـ للحقيقة العارية في كل ثانية؟
إن المقولة الذائعة والتي مفادها أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة بامتياز , هي مقولة تعبر عن ثورة الصورة لدرجة أن الفرد العادي اليوم أصبح في معظم المجتمعات المعاصرة يستهلك يوميا من الصور أكتر ما يستهلك من الغداء والكساء والكلمات.
هل تكذب الصور؟
عندما أطرح هذا السؤال أستحضر إبدالين (براديغمين) اثنين متعارضين :الأول
يقول يمكن التلاعب بالصور الثابتة والمتحركة على حد سواء,حيث إن التقنية المرتبطة بالصورة لها وجهان,وجه زائف ومزيف ,ووجه عاكس وشفاف ,وذلك هو الإبدال الثاني الذي يرى أن الصورة لا يمكن أن تعكس سوى الوقائع على حقيقتها. و تعتبر أبهى صورة تكشف عن الوجه الزائف والمزيف للصورة،
الصورة التي قدمها كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي السابق، إلى العالم وهو يحول إقناعه بحقيقة امتلاك عراق صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل .لقد استعمل باول في هذه الواقعة الإبدالين معا : استعمل الصورة الكاذبة (الإبدال الأول)،معتمدا في ذالك على الفكرة السائدة حول صدقية ومصداقية الصورة(الإبدال الثاني) خصوصا عندما ترتبط هذه الصورة بتقنية عالية ومتقدمة ،وهي الأقمار الاصطناعية.
إن الهدف من استحضارنا لهذين الإبدالين هو إبراز وعينا بحدود فكرة شفافية الصورة وقدرتها على عكس الحقائق العارية.
فديوهات الثورة العربية:الصورة وخيال الصورة
حسب التصنيف الذي أوردناه أعلاه ,فإن الصور ذات الصلة بالثورات العربية ثلاثة أنواع :ساخن وبارد ورمزي فني.وإذا كنا قد وضعنا النوع الساخن على رأس هذا التصنيف ، فلأنه أقرب إلى الإبدال الثاني وأبعده عن الإبدال الأول المذكورين سالفا.ونقصد بذلك الوضع الذي تكون فيه الصورة كخيال ،أي الصورة المتحركة المستهلكة،أقرب إلى الصورة كحدث وكواقعة.
عندما كنت أشاهد عددا من الفديوهات الساخنة،و أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:"أحرار بانياس يواجهون الدبابات بأجسادهم " و "وحشية الأمن السوري ضد الأحرار في كلية الحقوق بجامعة دمشق" و " دمشق برزة" و "محاولة الاستيلاء على دبابة بمصراته "و يا حصرتاه على الأمن الجزائري" و "قنص مواطن ليبي في أحد أزقة فشلوم"؛كنت أتساءل عن ذالك الخطر المحذق بالشخص الممسك بجهاز الهاتف المصور، الذي يمكن أن يصاب برصاصة طائشة _ أو مستَهدٍفة_ أو شظايا قذيفة أو غيرها أثناء عملية التصوير ذاتها. وبعدما تراكمت مشاهدة العشرات من هذه الصور الساخنة التي تم الإمساك بتلابيبها وسط وابل من الرصاص ،وبأياد مرتعدة وأنفاس خائفة،ولم يكن يحدث أي مكروه للمصور أثناء التصوير ،بمعنى أثناء مشاهدتي لهذه الصور ،المتحركة،وفق زمني الذاتي كمشاهد ؛ وعلى الرغم من أن وجداني، كإنسان وكمواطن عربي،كان ينزع بي نحو الإبدال الثاني للصورة ،بيد أن توجسي ،أو حذري الإبستمولوجي كسوسيولوجي ،كان يميل بي نحو الإبدال الأول للصورة .و لم يحسم هذا التجاذب بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي في تمثلي لهذه الصور إلا عند مشاهدتي لعدد من الفديوهات التي تحمل عناوين مثل" ليبي استشهد وهو يصور أحد الشهداء و "سوريا قنص شاب أثناء التصوير" وغيرها من صور الموت على مواقع الإنترنيت.
الموت على مرأى ومسمع الانترنيت
بعدما تطابق في ذهني ما هو منطقي بما هو واقعي، وتحققت من أن الموت قد طال بالفعل من كان يمكن أن يطال،بدأت أبحث ضمن فديوهات الثورة عن مشاهد الموت والقتل وإزهاق الأرواح،وكأن مرجعيتي الأنثربولوجية تحثني على الاعتقاد بأن التغيير ـ كجديد يسعى لطرد القديم و أخد مكانه ـ لا يمكن أن يستثب له الأمر سوى بتقديم تضحيات جسام يتم التقرب (تقديم القرابين)فيها بأعز ما يطلب:الحياة. إنها سنة التغيير بالمجتمعات البشرية مند فجر التاريخ ،فلتحقيق إنجازات عظيمة ينبغي التضحية بما هو أعظم منها.
أ. موت مسموع على صفحات صور متحركة
يستمد هذا العنوان السوريالي الطابع مشروعيته من إعلان انتمائه ،بشكل من الأشكال ،إلى مجالي السوسيولوجيا و السميولوجيا . وهذا العنوان هو حصيلة قراءتنا لفديو من فديوهات الثورة التي ألمعنا إليها أعلاه، و يحمل عنوان"ليبي استشهد وهو يصور أحد الشهداء".ذالك أن هذا الشريط الذي لا يتعدى عمره العشرين ثانية، يخبرنا عن عمليتي تصفية جسدية تمتا في بحر عشر ين ثانية، بيد أن عمليتي القتل هاتين لم تلتقطهما الكاميرا وإنما أوحت بهما الصورة. وهذا وصفه وبيانه: الشريط هو عبارة عن مشهد عند زاوية شارع ،يبدو فيه جسمان لرجلين ملتصقين بباب دكان حديدي مقفل ، وفي قلب الصورة تترآى بضعة أجساد لرجال مسلحين ، تم يسمع صوت _قريب من الكاميرا _ وسط أصوات متفرقة للرصاص ، يصيح:"طاح شهيد،طاح شهيد"، يتجه رجل من المسلحين نحو الصوت والكاميرا، وكأنه يفطن للتو بوجودهما ويبدو وكأنه يوجه سلاحه نحو الكاميرا تم يسمع صوت إطلاق رصاص يتبعه صوت يتأوه مرتين :آه،آه وتسقط الكاميرا فوق عشب على الأرض ليتوقف كل شيء: الصورة والصوت ثم الشريط. إن ما ذكرناه للتو هو ما يسمى في قاموس السميولوجيا ب: ما تقره الصورة، أما ما توحي به هذه الصورة فهو أن رجلا ،من ثوار ليبيا المسالمين، وهو يصور مقتل أحد المواطنين على يد رجال من كتائب القذافي،لقي نفس المصير. أما آليات وأدواته هذا الإيحاء فهي كالآتي :عنوان الشريط ، الذي يهيئ المشاهد ويعده لتمثل مضمون الشريط ؛ حركات الكاميرا الدالة على وجود الخوف و حضور الخطر؛لباس الرجلين اللذين يقفا على مقربة من حامل الكاميرا ،وضوح صوت المتكلم.كل هذا يشي بالنسبة للمشاهد بهوية المصور: رجل مسالم يصور بهاتفه النقال (رداءة الصورة قلة الضوء ) مشهد قتل مليشيات النظام مواطنا يمارس حقه الشرعي في الاحتجاج والتظاهر ،و يعلن تضامنه معه من خلال استعمال نعت شهيد بدل صفة خائن أو منشق أو عميل التي ت
المزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق