خليل العناني
وبوجه عام، يمكن القول إن الحركات الإسلامية، وإن كانت من أهم الأطراف المستفيدة من سقوط الأنظمة الأوتوقراطية العربية، فإن ثمة استحقاقات وتحديات عديدة سواف تواجهها هذه الحركات، إذا ما قدر لهذه البلدان أن تشهد تحولا ديمقراطيا راسخا خلال السنوات القليلة المقبلة. وهو ما تحاول هذه الدراسة الاقتراب منه، وإلقاء بعض الضوء عليه.
تنطلق هذه الدراسة من فرضيتين أساسيتين ،أولاهما أن الحركات الإسلامية لم يكن لها دور بارز في إشعال الثورات العربية، وذلك لأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بطريقة ومنهج هذه الحركات، والذي يتجنب الصدام المباشر مع الأنظمة السلطوية، خاصة في ظل تجاربها السابقة، سواء في مصر أو تونس، وبعضها يتعلق بطبيعة اللحظة التاريخية والمزاج الثوري الذي يمور في العالم العربي، ويتجاوز الأطروحات والقوي الأيديولوجية الكلاسيكية. أما الفرضية الثانية، فهي أن الثورات العربية، وإن وفرت للحركات الإسلامية فرصة ربما تكون تاريخية فيما يخص الحصول علي الشرعية والتمتع بالشرعية القانونية، فإنها أيضا تحمل تحديات عديدة لهذه الحركات، ليس أقلها القدرة علي العمل في بيئة منفتحة سياسيا وأيديولوجيا، وهي التي اعتادت العمل في سرية ووفق بنية تنظيمية مغلقة تعتمد علي التعبئة الفكرية والحركية، ومنها ما يتعلق بالقدرة علي التماسك والبقاء بشكل موحد دون التعرض لانشقاقات أو انقسامات داخلية.
سيظل السؤال حول من أشعل فتيل الثورات العربية المطالبة بالديمقراطية والحريات عصيا علي الإجابة، خاصة إذا ما كان المقصود هنا هو تحديد هوية الطرف القابع خلف ديناميات الثورة ومحركها. فثمة عوامل كثيرة متقاطعة ومتداخلة ما بين مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية، إلي ثورة تكنولوجية ولوجيستية عبأت ونظمت وسهلت انتشار الحالة الثورية وهيمنة المزاج الثوري علي الشعوب العربية وانتقاله من دولة لأخري. ولعل عدم معرفة هوية الطرف المحرك لهذه الحالة الثورية، والتي تختلف من بلد لآخر، هو سبب نجاحها وديمومتها.
بيد أن طرح السؤال علي هذا النحو لا يخلو من أهمية، إذا كان الهدف هو استكشاف واختبار طبيعة الأوزان السياسية والمجتمعية للقوي المحركة للثورة ومستقبلها في مرحلة ما بعد السلطوية، خاصة إذا قدر لهذه البلدان أن تشهد انتقالا ديمقراطيا حقيقيا.
هنا، يمكن القول بدون مبالغة إن المجتمع، كوحدة سوسيولوجية تحليلية، كان بمثابة الحاضنة الرئيسية للثورات العربية، والمغذي لديمومتها، والموجه لبوصلتها. والمقصود بمفهوم المجتمع هنا ليس تلك البنية التقليدية التي تجمع بين أفراد وجماعات وطبقات وفئات لا يربط بينها سوي الانتماء المكاني لبقعة جغرافية بعينها، وإنما يقصد به أساسا مفهوم الجماعة Community المتناغمة فكرا وعقلا ومنهجا. وهو هنا يتجاوز النظر للأفراد، باعتبارهم مجرد كتلة سكانية أو بشرية صماء، وإنما كوحدة إنسانية متفاعلة مع بعضها وفاعلة في محيطها، استنادا إما إلي منظومة قيمية وأخلاقية، أو تستهدف تحقيق مصالح وأهداف مشتركة. وهنا، قد ينقسم المجتمع إلي عدة جماعات فاعلة تتداخل مع بعضها بعضا بشكل أفقي، وتتقاطع منظوماتها القيمية، وتتشابه مطالبها وطموحاتها، في حين تحاول الدولة ونظامها السياسي إشعال الصراع بين هذه الجماعات من أجل ضمان السيطرة عليها.
ويصبح منطقيا أنه إذا ما زادت مساحات الالتقاء والتناغم بين هذه الجماعات، مقابل انحسار أو تآكل مساحات التعارض والصراع بينها ولو بشكل مؤقت، فإن دوائرها وحلقاتها المجتمعية تزداد ارتباطا واتساعا، في حين تصبح حركتها الجماعية أكثر فاعلية وتأثيرا. وبمرور الوقت، يتحول المجتمع بصيغته التقليدية الساكنة من Society إلي Community في شكل جماعة كبيرة فاعلة تتحرك بقوة وثقة وتصبح فجأة أشبه بديناصور كبير يصعب إيقافه.
بيد أن هذه الكتلة الجماعية لا تعمل في فراغ، وهنا ننتقل إلي المستوي الكلي للتحليل، والمتعلق بالدولة كوحدة سياسية حولتها الأنظمة السلطوية إلي أداة قمع وبطش وهدف تسعي الكتلة الجماعية لاسترداده وتحريره من قبضة الأوتوقراطية. ويصبح الصدام بين الطرفين واقعا لا محالة، إذا توافر شرطان، الأول: اتساع دوائر الكتلة الجماعية بحيث تغطي المجتمع أفقيا ورأسيا، فيحدث التشبيك Net Working والانصهار Fusion بشكل تلقائي ربما لا تتوقعه الجماعات المنشئة لهذه الكتلة ذاتها. والثاني: خشونة الفعل الدولتي، وانعدام المسئولية المجتمعية والإنسانية والأخلاقية للنخبة الحاكمة، مما يؤدي إلي ضعف وأحيانا انعدام مناعة النظام السياسي، بحيث يصبح معرضا للانتكاس وربما الانهيار. وتصبح حصيلة المواجهة بين الطرفين بمثابة مقدمة للفعل الثوري الذي تتوقف نتائجه اللاحقة علي معطيات كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن.
إذا ما حاولنا تطبيق هذا النموذج التحليلي علي الثورتين التونسية والمصرية، فسوف يتضح ما يلي:
أولا- لا توجد بؤرة سياسية معينة للثورة، سواء تخطيطا كان أو تنفيذا، نقصد أن الثورة لم تكن من صنع حركة سياسية بعينها أو تيار أيديولوجي محدد، وإنما كانت نتيجة لفعل جماعي (التقاء الكتل الجماعية السابق الإشارة إليها) في لحظة زمنية معينة أشعلت اللحظة الثورية فانتفض المجتمع خلفها والتف حولها، وذلك من أجل تحقيق هدف محدد.
ثانيا- كانت القوي الحية الجديدة هي المحرك الرئيسي في الثورتين التونسية والمصرية، وهي قوي متجاوزة للأطر الأيديولوجية والسياسية وبنيتها التنظيمية التقليدية. لذا، فقد كانت إسهامات القوي الحزبية والدينية في هذه الثورات إما شبه منعدمة، كما كانت الحال في تونس، أو غير مهيمنة، كما كانت في الحال المصرية. ولعل ذلك أحد أسباب نجاح الثورتين، وهو ما ازداد وضوحا في الحالة الليبية التي لم تعرف أية تنظيمات سياسية أو أيديولوجية مستقرة. ومن المدهش أن المجتمع الليبي (وهو المعروف بانقساماته العمودية علي أساس قبلي) هو الذي يدير الثورة وينقلها من منطقة لأخري. وعليه، فإن الخطاب السياسي لهذه القوي الجديدة لم يكن فقط متجاوزا في مفرداته ومعادلاته ومطالبه لخطاب قوي المعارضة التقليدية، وإنما أيضا كان بمثابة خطاب جامع يتحدث باسم الجميع في حالة غير معتادة من التوحد العفوي بين مكونات الأمة.
ثالثا- كان المجتمع (في حالته الجديدة بعد الانتقال من السكون إلي الحركة) بمثابة الراعي الرئيسي للثورات والمغذي لها، سواء بإدامة الحالة المعنوية المرتفعة لدي الثوار من خلال التوحد والتوافق حول مطالب الثورة، أو من خلال توفير الدعم المادي والبشري لها. ومن هنا، تأتي الشرعية الثورية التي من المفترض أن تصبح فيما بعد إرثا مشتركا للجميع.
رابعا- تبدو إسهامات القوي الحزبية والدينية التقليدية في هذه الثورات، وإن جاءت متأخرة، فإنها أيضا اضطرت للالتزام (كما في الحالة التونسية، أو أجبرت عليه كما كان في الحالة المصرية) بالسقف السياسي والمطلبي للقوي الحية التي أشعلت الثورة. صحيح أن ثمة قدرا من الذكاء قد بدا علي خطاب وسلوك الإسلاميين من أجل تفويت الفرصة علي المتربصين بالثورات العربية داخليا وخارجيا، إلا أن ترددهم في اللحاق بالثورات في بداياتها أضعف من موقفهم السياسي والمجتمعي لاحقا.
بناء علي ما سبق، يصعب القول إن حركة ما أو جماعة بعينها كان لها الفضل في إشعال الثورات العربية التي كانت، بشكل أو بآخر، تعبيرا عن التقاء الإرادة العامة للمجتمع في لحظة تاريخية معينة، كما سبقت الإشارة إليه. بيد أن الوجه الآخر لذلك هو أن جميع القوي والحركات السياسية والمجتمعية لها نصيب في ثمار الثورة، حسب دورها وإسهامها في إنجاح الثورة، أو علي الأقل هذا ما تقيس به هذه القوي مصالحها وطموحاتها في مرحلة ما بعد الثورة. وبما أن هذه الدراسة تختص فقط بالنظر في دور الحركات الإسلامية في الثورات العربية، فيمكن القول إن إسهامات هذه الحركات في إشعال الثورات العربية كانت محدودة، مقارنة بالوضع التنظيمي والحركي لها. صحيح أن بعض هذه الحركات قد دفعت بقواعدها للانخراط في العمل الميداني لاحقا، بيد أنها لم تكن بأي حال رائدة له، كما أن مشاركتها كانت كطرف ضمن أطراف وقوي وحركات أخري دون هيمنة.
وربما يعزو البعض الحضور الضعيف للإسلاميين في الثورات العربية إلي ذكاء قياداتها وإدراكهم لحساسية اللحظة الثورية وحساباتها، خاصة في ظل إرث التربص السلطوي والرفض الغربي لهذه الحركات، مما قد يزيد من احتمالات وأد الثورات العربية وإجهاضها في مهدها، كما حدث في الجزائر أوائل التسعينيات. بيد أن ذلك أيضا لا ينفي ضعف الخيال السياسي لهذه الحركات وعدم استشعارها المبكر للزخم الثوري. ولعل أهم دلائل هذه الفرضية ما يلي:
- انعدام أو فقر الخيال الثوري لدي التيارات الإسلامية، وذلك نتيجة لخبرتها السلبية مع الأنظمة الحاكمة كما هي الحال في مصر (الصدام التاريخي بين عبد الناصر والإخوان، فضلا عن المواجهة المستمرة بين مبارك والجماعة طيلة العقدين الأخيرين)، وسوريا (أحداث حماة عام 1982)، وتونس (أحداث باب سويقة عام 1990). وقد اختزنت ذاكرة الإسلاميين هذه الأحداث طيلة العقدين الأخيرين، فكانت النتيجة إسقاط الخيار الثوري من حساباتها، والاعتماد علي المنهج التدريجي كخيار وحيد للإصلاح. ولعله من اللافت أن لغة الخطاب الإسلامي الحركي طيلة العقود الثلاثة الماضية قد خلت من مفردات العمل الثوري كالتغيير، وإسقاط الأنظمة، وتعطيل الدساتير ... إلخ.
- جاءت الثورات العربية نتيجة لفعل جماعي يتجاوز الأطر التنظيمية والأيديولوجية والسياسية الكلاسيكية، ومعبرة عن قوي وتيارات جديدة لم تعرف العمل الحزبي بشكله التقليدي. فالسواد الأعظم للثورتين التونسية والمصرية لم يخرج من عباءة الأحزاب القائمة، وإنما من حركات اجتماعية وثقافية تتسم بالمرونة الشديدة في حركيتها وأفكارها وعضويتها. وهو ما يختلف جذريا عن طبيعة وبنية الخطاب الإسلامي الحركي الذي يتسم بالمركزية الشديدة والالتزام الأيديولوجي والتنظيمي. وهنا، كان أمام الحركات الإسلامية أحد خيارين، إما المشاركة في الثورات العربية، ولكن وفق شروط وقواعد اللعبة التي يحددها محركوها والداعون إليها، وإما عدم المشاركة، وما قد يؤدي إليه ذلك من خسارة سياسية ومجتمعية ليس فقط بين قواعدها وأعضائها، وإنما أيضا بين جموع الشعب.
- لم تكن مشاركة الحركات الإسلامية في الثورة أمرا اختياريا أو بقرار تنظيمي، إنما كانت أمرا واقعا فرض عليها بفعل تطورات الفعل الثوري الذي كان سريعا وحاول الجميع اللحاق به. فعلي سبيل المثال، رفضت جماعة الإخوان المسلمين في مصر المشاركة إيجابيا في تظاهرة 25 يناير 2011 في بداياتها. وهو أمر ليس غريبا علي الجماعة، التي لم يكن لها حضور ثقيل في غالبية المناسبات التعبوية التي قامت في مصر خلال الأعوام الثلاثة الماضية (لم تشارك الجماعة في إضراب 6 أبريل 2008 وغيرها من إضرابات العمال والمهنيين والضرائب العقارية ... إلخ)، وذلك إما بسبب تخوفها من قمع النظام لها، أو عدم تأثيرها في هذه الدوائر الساخطة. في حين جاءت مشاركة الإخوان في الثورة المصرية، بعدما تأكد لها أن ما يحدث يتجاوز كونه تظاهرة فئوية، كي يصل إلي العمل الثوري التاريخي. صحيح أن نفرا من شباب الإخوان قد انخرط في الثورة منذ يومها الأول (إسلام لطفي وأحمد عبد الجواد ومحمد القصاص)، بيد أن ذلك لم يأت بقرار تنظيمي، وإنما من خلال مشاركة فردية عكست الفجوة الجيلية والفكرية داخل التنظيم الإخواني. وما لبثت الجماعة لاحقا أن انضمت للثورة بكل قوتها وأصبحت طرفا فاعلا في ديناميتها سياسيا وميدانيا. وفي تونس، كانت حركة النهضة آخر الملتحقين بقطار الثورة التونسية، وذلك نتيجة لضعف الحركة وتآكل بنيتها القاعدية بسبب الضربات المتلاحقة التي تعرضت لها طيلة العقدين الماضيين، فضلا عن انفصال المستوي القيادي (الذي كان أغلب رموزه في المهجر) عن القواعد الحركية في تونس.
- لم يكن متاحا للإسلاميين بأي حال أن يعبروا عن هويتهم الذاتية في الثورات العربية، ليس فقط لأنهم لم يشعلوها أو يبادروا للقيام بها، وبالتالي لا يحق لهم تلوينها بشعاراتهم وأيديولوجياتهم، وليس أيضا لتخوفهم من أن يتم إجهاض الثورة بسببهم، وإنما أيضا لإدراكهم عواقب ذلك علي دورهم، وإمكانية بقائهم كجزء من التركيبة الثورية فيما بعد. فكما قلنا سابقا، لم يكن شباب الثورتين التونسية والمصرية ليسمحوا ببروز أية هوية فئوية أو عمودية قد تؤثر في شمولية الثورة، وتحجب صورتها كحركة قاطعة للمجتمع، ومعبرة عنه بكافة جماعاته وأطيافه. صحيح أن ثمة حضورا لبعض رموز التيارات الاسلامية في المشهد الثوري (علي العريبي والعجمي الوريني في تونس، ومحمد البلتاجي وبعض قيادات الصف الثاني في مصر)، إلا أنه كان حضورا ملتزما بالتيار الثوري العام، وليس متمايزا أو منفصلا عنه.
- لم يحتكر فصيل حركي بعينه المشهد الإسلامي في الثورات العربية، وإنما تنوعت خريطة الإسلاميين الذين انخرطوا في العمل الثوري، بحيث ضمت مختلف فصائل وجماعات التيار الديني، بدءا من الإخوان المسلمين، مرورا بالحركة السلفية، وانتهاء ببقايا التنظيمات الجهادية التي كان لها حضور في الثورة المصرية بدرجات متفاوتة. وهو ما يؤكد مجددا تجاوز الثورة المصرية للأطر الأيديولوجية والعقائدية لمختلف القوي الدينية والسياسية. فلم يحدث من قبل أن انخرط الإخوان والسلفيون والجهاديون، وفي بعض الأحيان الصوفية، في عمل تنظيمي وحركي يستهدف تغيير نظام الحكم، ليس فقط بسبب الاختلافات الشديدة بين خطاباتها وأيديولوجياتها، وإنما أيضا بسبب العداء التاريخي الذي وصل إلي حد الاتهام بالتواطؤ مع النظام السابق، كما كانت الحال بين السلفيين والإخوان علي سبيل المثال.
إذا كان حضور التيار الإسلامي في الثورات العربية متماشيا مع حضور بقية القوي الأخري، وباعتباره يعبر عن فصيل اجتماعي وسياسي موجود ومتجذر في المجتمعات العربية، ولم يكن حضورا استئثاريا أو استثنائيا بأي حال من الأحوال - وهو أمر مهم وفارق، حيث اعتادت الحركات الإسلامية أن تكون هي المحرك الأساسي للشارع العربي، خاصة في الشرائح الدنيا والوسطي - فإن الثورات العربية هي أعم وأشمل من أن تختزل في فصيل أو لون سياسي واحد دون بقية القوي والتيارات.
قد يبدو لوهلة أن الحركات الإسلامية هي الفائز الأكبر في الثورات العربية. فقد أسقطت هذه الثورات تلك الأنظمة الأوتوقراطية التي أقصت وهمشت وحجبت الشرعية عن الحركات الدينية، خاصة الإسلامية. بيد أن الوجه الآخر لهذا الانطباع هو أن هذه الحركات سوف تواجه تحديات واستحقاقات لم تعمل لها حسابا طيلة العقود الثلاثة الماضية. وهنا، نتعرض للفرضية الثانية في هذه الدراسة. فالثورات كما تمنح فرصا، فإنها تفرض قيودا وقواعد جديدة ملزمة لكافة الأطراف، حتي تكتمل أهداف الثورة.
هنا، يمكن الإشارة إلي بعض المكاسب التي سوف تحصدها الحركات الإسلامية في مرحلة ما بعد الثورات العربية. أولا، سيكون من حق هذه الحركات الحصول علي وضع شرعي وقانوني يمكنها من العمل بحرية وعلنية. فالثورات لم تسقط فقط الأنظمة السلطوية، وإنما أسقطت معها ثقافة الإقصاء والاستبعاد التي كانت حاجزا أمام القوي والتيارات الدينية. فجماعة الإخوان المسلمين في مصر محظورة منذ عام 1954، وحركة النهضة التونسية لم تحظ باعتراف رسمي من الدولة منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. ثانيا، سوف يفتح المجال السياسي لهذه الحركات بشكل أكبر مما كان عليه الوضع سابقا، وسيكون بمقدورها أن تمارس دورا سياسيا كثيفا، سواء من خلال المشاركة في المناسبات الانتخابية بدون قيود، أو من خلال عقد تحالفات والدخول في ائتلافات سياسية علنية. ثالثها، فتح المجال الاجتماعي والحركي أمام التيارات الإسلامية من أجل تأكيد وترسيخ حضورها الشعبي، مما يعني إمكانية التمدد القاعدي مجتمعيا وثقافيا.
بيد أن ثمة تحديات كثيرة تنتظر الحركات الإسلامية، لعل أهمها ما يلي:
أولا- تحدي الانتقال من السرية إلي العلنية. فقد دأبت الحركات الإسلامية علي العمل بعيدا عن القواعد المؤسسية التي تحكم عمل الأحزاب والقوي السياسية الأخري، وهو ما وفر لها قدرا من السيولة والتغلغل في المجتمعات العربية. ويترتب علي العمل السري سلسلة طويلة من القيم والمبادئ التي ينشأ عليها أفراد الحركة وأعضاؤها، مما يخلق ثقافة ومنظومة قيمية بعيدة عن الشفافية والوضوح. لذا، فإن أول تحد سوف يواجه هذه الحركات هو كيفية تغيير البنية العقلية والفكرية لأعضائها، ونقلها من الحيز السري بآلياته وتفاعلاته إلي الإطار العلني بمسئولياته والتزاماته.
ثانيا- تحدي الفصل ما بين النشاطين الديني والسياسي. فقد دأبت الحركات الإسلامية علي الخلط بين الدعوي والسياسي، ولم توجد حدود فاصلة بين الدور الديني والاجتماعي لهذه الحركات ونشاطها السياسي. وهذا التحدي لا يمكن حله بمجرد التمييز بين المجالين الديني والسياسي عن بعضهما بعضا، وإنما من خلال عملية فصل كلي في الوعي والفكر الحركي بين منطق الجماعة الدينية ومنطق الحزب السياسي. ولا تشجع النماذج العربية (كما هي الحال في الأردن والمغرب واليمن) التي تجمع بين الأمرين علي إمكانية تكرارها في مصر وتونس. فالمشكلة لم تكن يوما في العلاقة التنظيمية التي تحكم علاقة الحزب بالجماعة ومساحات الانفصال والتلاقي بينهما، وإنما في الفلسفة التي يستند إليه كلاهما. فالعضو الذي يقرر الانتماء لجماعة دينية ليس هو حتما من يقرر الانتماء إلي حزب سياسي وبالعكس. من هنا، تبدو محاولة جماعة الإخوان المسلمين في مصر لإنشاء حزب سياسي أشبه بإعادة استنساخ التجربة الأردنية، مما سوف يؤدي إلي مشاكل مستقبلية قد تعوق نشاط كلا الطرفين.
ثالثا- تحدي إدارة التوازنات والعلاقات الداخلية في الحركات الإسلامية. فمن المعروف عن هذه الحركات تماسكها الداخلي والتزامها التنظيمي والأيديولوجي. ولعل أحد أسباب ذلك هو شعور الحركة بكونها دوما مستهدفة من الأنظمة السلطوية، وهو ما كان سببا في تأجيل كثير من الاستحقاقات التي كانت مفروضة علي هذه الحركات تحت وطأة القمع الخارجي. أما الآن، وقد سقطت هذه الحجة، فإن ملفات داخلية كثيرة سوف تكون محل نقاش وجدل كبيرين داخل هذه الحركات، منها - علي سبيل المثال - إمكانية الانتقال من ثقافة التلقين والطاعة إلي النقاش والاختلاف، والعلاقة بين الأجيال، والعلاقة بين المستويات التنظيمية المختلفة (مجالس الشوري والمكاتب التنفيذية وسلطات رئيس الحركة)، وما يتعلق بالانتخابات الداخلية، ومنظومة الحراك والترقي الداخلي.
رابعا- تحدي تطوير الخطاب الفكري والأيديولوجي للحركات الإسلامية. ففي مرحلة ما بعد الثورات، لن يكون مقبولا من هذه الحركات أن تظل متخندقة في أطروحاتها الدينية والفكرية دون الانفتاح علي غيرها من التيارات والرؤي والأفكار الأكثر تقدمية واعتدالا، وإلا فستخسر حتما الكثير من قواعدها ومؤيديها. والأكثر من ذلك أن هذه الحركات سوف تكون مطالبة بأن تضبط خطابها وتفاعلاتها الداخلية مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورات العربية، وإلا فإنها ستفقد الزخم الثوري وتسير خلف المجتمع وليس في مقدمته.
خامسا- تحدي الانقسامات والانشقاقات الداخلية. من المتوقع أن تتعرض بعض الحركات الإسلامية العربية إلي هزات داخلية عميقة، عطفا علي الحالة الثورية التي تتطلب تجديدا للبنية التنظيمية والفكرية لهذه الحركات، كي تكون علي مستوي التوقعات والطموحات التي حملتها الثورات العربية للشارع العربي. وقد بدأت بالفعل مؤشرات علي هذه الانقسامات في بعض الحركات، وإن بشكل غير علني حتي الآن. فعلي سبيل المثال، هناك خلاف متزايد بين قادة حركة النهضة التونسية حول كيفية التعاطي مع المرحلة الجديدة. وهو انقسام يعكس عدم توافق الرؤية بين جناحي الداخل والخارج في الحركة. فالجناح الأول يبدو الأكثر انغلاقا وتحفظا علي تقديم تنازلات، سواء في خطاب الحركة، أو في موقعها الحركي داخل النظام السياسي الجديد، في حين يبدو جناح الخارج أكثر مرونة واستيعابا للحظة الثورية، بحكم احتكاكه بالثقافة الغربية، وقبوله بالتعددية الفكرية والأيديولوجية. أما في مصر، فثمة مؤشرات علي خروج وانسحاب بعض قيادات الجماعة وقواعدها، سواء باتجاه قوي سياسية وحزبية مدنية ناشئة، أو لإرساء تجربة إسلامية جديدة، بعيدا عن التجربة الإخوانية بكل إرثها وتعقيداتها، وهو ما قد يضر بالحركة "الأم" علي المدي الطويل.
وخلاصة القول، فإن مستقبل الحركات الإسلامية والتحولات التي قد تطالها سوف يتوقف علي ما قد تفضي إليه الثورات العربية الراهنة من نتائج علي المدي الطويل، وأي الأشكال قد تأخذها الدولة العربية الجديدة، سواء بالانتقال نحو نظم ديمقراطية حقيقية، أو الوقوع مجددا في براثن السلطوية والأوتوقراطية.
إحدي أبرز نتائج الثورات العربية الراهنة هي عودة الجدل بشأن الحركات الإسلامية، سواء فيما يتعلق بدورها في إشعال هذه الثورات، أو مستقبلها السياسي والحركي، خاصة في ظل حالة الإقصاء والتهميش التي تعرضت لها هذه الحركات طيلة العقود الخمسة الماضية.
من يصنع الثورات العربية ؟
الإسلاميون والثورات العربية :
الإسلاميون ومرحلة ما بعد الثورات:
من يصنع الثورات العربية ؟
الإسلاميون والثورات العربية :
الإسلاميون ومرحلة ما بعد الثورات:
وبوجه عام، يمكن القول إن الحركات الإسلامية، وإن كانت من أهم الأطراف المستفيدة من سقوط الأنظمة الأوتوقراطية العربية، فإن ثمة استحقاقات وتحديات عديدة سواف تواجهها هذه الحركات، إذا ما قدر لهذه البلدان أن تشهد تحولا ديمقراطيا راسخا خلال السنوات القليلة المقبلة. وهو ما تحاول هذه الدراسة الاقتراب منه، وإلقاء بعض الضوء عليه.
تنطلق هذه الدراسة من فرضيتين أساسيتين ،أولاهما أن الحركات الإسلامية لم يكن لها دور بارز في إشعال الثورات العربية، وذلك لأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بطريقة ومنهج هذه الحركات، والذي يتجنب الصدام المباشر مع الأنظمة السلطوية، خاصة في ظل تجاربها السابقة، سواء في مصر أو تونس، وبعضها يتعلق بطبيعة اللحظة التاريخية والمزاج الثوري الذي يمور في العالم العربي، ويتجاوز الأطروحات والقوي الأيديولوجية الكلاسيكية. أما الفرضية الثانية، فهي أن الثورات العربية، وإن وفرت للحركات الإسلامية فرصة ربما تكون تاريخية فيما يخص الحصول علي الشرعية والتمتع بالشرعية القانونية، فإنها أيضا تحمل تحديات عديدة لهذه الحركات، ليس أقلها القدرة علي العمل في بيئة منفتحة سياسيا وأيديولوجيا، وهي التي اعتادت العمل في سرية ووفق بنية تنظيمية مغلقة تعتمد علي التعبئة الفكرية والحركية، ومنها ما يتعلق بالقدرة علي التماسك والبقاء بشكل موحد دون التعرض لانشقاقات أو انقسامات داخلية.
سيظل السؤال حول من أشعل فتيل الثورات العربية المطالبة بالديمقراطية والحريات عصيا علي الإجابة، خاصة إذا ما كان المقصود هنا هو تحديد هوية الطرف القابع خلف ديناميات الثورة ومحركها. فثمة عوامل كثيرة متقاطعة ومتداخلة ما بين مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية، إلي ثورة تكنولوجية ولوجيستية عبأت ونظمت وسهلت انتشار الحالة الثورية وهيمنة المزاج الثوري علي الشعوب العربية وانتقاله من دولة لأخري. ولعل عدم معرفة هوية الطرف المحرك لهذه الحالة الثورية، والتي تختلف من بلد لآخر، هو سبب نجاحها وديمومتها.
بيد أن طرح السؤال علي هذا النحو لا يخلو من أهمية، إذا كان الهدف هو استكشاف واختبار طبيعة الأوزان السياسية والمجتمعية للقوي المحركة للثورة ومستقبلها في مرحلة ما بعد السلطوية، خاصة إذا قدر لهذه البلدان أن تشهد انتقالا ديمقراطيا حقيقيا.
هنا، يمكن القول بدون مبالغة إن المجتمع، كوحدة سوسيولوجية تحليلية، كان بمثابة الحاضنة الرئيسية للثورات العربية، والمغذي لديمومتها، والموجه لبوصلتها. والمقصود بمفهوم المجتمع هنا ليس تلك البنية التقليدية التي تجمع بين أفراد وجماعات وطبقات وفئات لا يربط بينها سوي الانتماء المكاني لبقعة جغرافية بعينها، وإنما يقصد به أساسا مفهوم الجماعة Community المتناغمة فكرا وعقلا ومنهجا. وهو هنا يتجاوز النظر للأفراد، باعتبارهم مجرد كتلة سكانية أو بشرية صماء، وإنما كوحدة إنسانية متفاعلة مع بعضها وفاعلة في محيطها، استنادا إما إلي منظومة قيمية وأخلاقية، أو تستهدف تحقيق مصالح وأهداف مشتركة. وهنا، قد ينقسم المجتمع إلي عدة جماعات فاعلة تتداخل مع بعضها بعضا بشكل أفقي، وتتقاطع منظوماتها القيمية، وتتشابه مطالبها وطموحاتها، في حين تحاول الدولة ونظامها السياسي إشعال الصراع بين هذه الجماعات من أجل ضمان السيطرة عليها.
ويصبح منطقيا أنه إذا ما زادت مساحات الالتقاء والتناغم بين هذه الجماعات، مقابل انحسار أو تآكل مساحات التعارض والصراع بينها ولو بشكل مؤقت، فإن دوائرها وحلقاتها المجتمعية تزداد ارتباطا واتساعا، في حين تصبح حركتها الجماعية أكثر فاعلية وتأثيرا. وبمرور الوقت، يتحول المجتمع بصيغته التقليدية الساكنة من Society إلي Community في شكل جماعة كبيرة فاعلة تتحرك بقوة وثقة وتصبح فجأة أشبه بديناصور كبير يصعب إيقافه.
بيد أن هذه الكتلة الجماعية لا تعمل في فراغ، وهنا ننتقل إلي المستوي الكلي للتحليل، والمتعلق بالدولة كوحدة سياسية حولتها الأنظمة السلطوية إلي أداة قمع وبطش وهدف تسعي الكتلة الجماعية لاسترداده وتحريره من قبضة الأوتوقراطية. ويصبح الصدام بين الطرفين واقعا لا محالة، إذا توافر شرطان، الأول: اتساع دوائر الكتلة الجماعية بحيث تغطي المجتمع أفقيا ورأسيا، فيحدث التشبيك Net Working والانصهار Fusion بشكل تلقائي ربما لا تتوقعه الجماعات المنشئة لهذه الكتلة ذاتها. والثاني: خشونة الفعل الدولتي، وانعدام المسئولية المجتمعية والإنسانية والأخلاقية للنخبة الحاكمة، مما يؤدي إلي ضعف وأحيانا انعدام مناعة النظام السياسي، بحيث يصبح معرضا للانتكاس وربما الانهيار. وتصبح حصيلة المواجهة بين الطرفين بمثابة مقدمة للفعل الثوري الذي تتوقف نتائجه اللاحقة علي معطيات كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن.
إذا ما حاولنا تطبيق هذا النموذج التحليلي علي الثورتين التونسية والمصرية، فسوف يتضح ما يلي:
أولا- لا توجد بؤرة سياسية معينة للثورة، سواء تخطيطا كان أو تنفيذا، نقصد أن الثورة لم تكن من صنع حركة سياسية بعينها أو تيار أيديولوجي محدد، وإنما كانت نتيجة لفعل جماعي (التقاء الكتل الجماعية السابق الإشارة إليها) في لحظة زمنية معينة أشعلت اللحظة الثورية فانتفض المجتمع خلفها والتف حولها، وذلك من أجل تحقيق هدف محدد.
ثانيا- كانت القوي الحية الجديدة هي المحرك الرئيسي في الثورتين التونسية والمصرية، وهي قوي متجاوزة للأطر الأيديولوجية والسياسية وبنيتها التنظيمية التقليدية. لذا، فقد كانت إسهامات القوي الحزبية والدينية في هذه الثورات إما شبه منعدمة، كما كانت الحال في تونس، أو غير مهيمنة، كما كانت في الحال المصرية. ولعل ذلك أحد أسباب نجاح الثورتين، وهو ما ازداد وضوحا في الحالة الليبية التي لم تعرف أية تنظيمات سياسية أو أيديولوجية مستقرة. ومن المدهش أن المجتمع الليبي (وهو المعروف بانقساماته العمودية علي أساس قبلي) هو الذي يدير الثورة وينقلها من منطقة لأخري. وعليه، فإن الخطاب السياسي لهذه القوي الجديدة لم يكن فقط متجاوزا في مفرداته ومعادلاته ومطالبه لخطاب قوي المعارضة التقليدية، وإنما أيضا كان بمثابة خطاب جامع يتحدث باسم الجميع في حالة غير معتادة من التوحد العفوي بين مكونات الأمة.
ثالثا- كان المجتمع (في حالته الجديدة بعد الانتقال من السكون إلي الحركة) بمثابة الراعي الرئيسي للثورات والمغذي لها، سواء بإدامة الحالة المعنوية المرتفعة لدي الثوار من خلال التوحد والتوافق حول مطالب الثورة، أو من خلال توفير الدعم المادي والبشري لها. ومن هنا، تأتي الشرعية الثورية التي من المفترض أن تصبح فيما بعد إرثا مشتركا للجميع.
رابعا- تبدو إسهامات القوي الحزبية والدينية التقليدية في هذه الثورات، وإن جاءت متأخرة، فإنها أيضا اضطرت للالتزام (كما في الحالة التونسية، أو أجبرت عليه كما كان في الحالة المصرية) بالسقف السياسي والمطلبي للقوي الحية التي أشعلت الثورة. صحيح أن ثمة قدرا من الذكاء قد بدا علي خطاب وسلوك الإسلاميين من أجل تفويت الفرصة علي المتربصين بالثورات العربية داخليا وخارجيا، إلا أن ترددهم في اللحاق بالثورات في بداياتها أضعف من موقفهم السياسي والمجتمعي لاحقا.
بناء علي ما سبق، يصعب القول إن حركة ما أو جماعة بعينها كان لها الفضل في إشعال الثورات العربية التي كانت، بشكل أو بآخر، تعبيرا عن التقاء الإرادة العامة للمجتمع في لحظة تاريخية معينة، كما سبقت الإشارة إليه. بيد أن الوجه الآخر لذلك هو أن جميع القوي والحركات السياسية والمجتمعية لها نصيب في ثمار الثورة، حسب دورها وإسهامها في إنجاح الثورة، أو علي الأقل هذا ما تقيس به هذه القوي مصالحها وطموحاتها في مرحلة ما بعد الثورة. وبما أن هذه الدراسة تختص فقط بالنظر في دور الحركات الإسلامية في الثورات العربية، فيمكن القول إن إسهامات هذه الحركات في إشعال الثورات العربية كانت محدودة، مقارنة بالوضع التنظيمي والحركي لها. صحيح أن بعض هذه الحركات قد دفعت بقواعدها للانخراط في العمل الميداني لاحقا، بيد أنها لم تكن بأي حال رائدة له، كما أن مشاركتها كانت كطرف ضمن أطراف وقوي وحركات أخري دون هيمنة.
وربما يعزو البعض الحضور الضعيف للإسلاميين في الثورات العربية إلي ذكاء قياداتها وإدراكهم لحساسية اللحظة الثورية وحساباتها، خاصة في ظل إرث التربص السلطوي والرفض الغربي لهذه الحركات، مما قد يزيد من احتمالات وأد الثورات العربية وإجهاضها في مهدها، كما حدث في الجزائر أوائل التسعينيات. بيد أن ذلك أيضا لا ينفي ضعف الخيال السياسي لهذه الحركات وعدم استشعارها المبكر للزخم الثوري. ولعل أهم دلائل هذه الفرضية ما يلي:
- انعدام أو فقر الخيال الثوري لدي التيارات الإسلامية، وذلك نتيجة لخبرتها السلبية مع الأنظمة الحاكمة كما هي الحال في مصر (الصدام التاريخي بين عبد الناصر والإخوان، فضلا عن المواجهة المستمرة بين مبارك والجماعة طيلة العقدين الأخيرين)، وسوريا (أحداث حماة عام 1982)، وتونس (أحداث باب سويقة عام 1990). وقد اختزنت ذاكرة الإسلاميين هذه الأحداث طيلة العقدين الأخيرين، فكانت النتيجة إسقاط الخيار الثوري من حساباتها، والاعتماد علي المنهج التدريجي كخيار وحيد للإصلاح. ولعله من اللافت أن لغة الخطاب الإسلامي الحركي طيلة العقود الثلاثة الماضية قد خلت من مفردات العمل الثوري كالتغيير، وإسقاط الأنظمة، وتعطيل الدساتير ... إلخ.
- جاءت الثورات العربية نتيجة لفعل جماعي يتجاوز الأطر التنظيمية والأيديولوجية والسياسية الكلاسيكية، ومعبرة عن قوي وتيارات جديدة لم تعرف العمل الحزبي بشكله التقليدي. فالسواد الأعظم للثورتين التونسية والمصرية لم يخرج من عباءة الأحزاب القائمة، وإنما من حركات اجتماعية وثقافية تتسم بالمرونة الشديدة في حركيتها وأفكارها وعضويتها. وهو ما يختلف جذريا عن طبيعة وبنية الخطاب الإسلامي الحركي الذي يتسم بالمركزية الشديدة والالتزام الأيديولوجي والتنظيمي. وهنا، كان أمام الحركات الإسلامية أحد خيارين، إما المشاركة في الثورات العربية، ولكن وفق شروط وقواعد اللعبة التي يحددها محركوها والداعون إليها، وإما عدم المشاركة، وما قد يؤدي إليه ذلك من خسارة سياسية ومجتمعية ليس فقط بين قواعدها وأعضائها، وإنما أيضا بين جموع الشعب.
- لم تكن مشاركة الحركات الإسلامية في الثورة أمرا اختياريا أو بقرار تنظيمي، إنما كانت أمرا واقعا فرض عليها بفعل تطورات الفعل الثوري الذي كان سريعا وحاول الجميع اللحاق به. فعلي سبيل المثال، رفضت جماعة الإخوان المسلمين في مصر المشاركة إيجابيا في تظاهرة 25 يناير 2011 في بداياتها. وهو أمر ليس غريبا علي الجماعة، التي لم يكن لها حضور ثقيل في غالبية المناسبات التعبوية التي قامت في مصر خلال الأعوام الثلاثة الماضية (لم تشارك الجماعة في إضراب 6 أبريل 2008 وغيرها من إضرابات العمال والمهنيين والضرائب العقارية ... إلخ)، وذلك إما بسبب تخوفها من قمع النظام لها، أو عدم تأثيرها في هذه الدوائر الساخطة. في حين جاءت مشاركة الإخوان في الثورة المصرية، بعدما تأكد لها أن ما يحدث يتجاوز كونه تظاهرة فئوية، كي يصل إلي العمل الثوري التاريخي. صحيح أن نفرا من شباب الإخوان قد انخرط في الثورة منذ يومها الأول (إسلام لطفي وأحمد عبد الجواد ومحمد القصاص)، بيد أن ذلك لم يأت بقرار تنظيمي، وإنما من خلال مشاركة فردية عكست الفجوة الجيلية والفكرية داخل التنظيم الإخواني. وما لبثت الجماعة لاحقا أن انضمت للثورة بكل قوتها وأصبحت طرفا فاعلا في ديناميتها سياسيا وميدانيا. وفي تونس، كانت حركة النهضة آخر الملتحقين بقطار الثورة التونسية، وذلك نتيجة لضعف الحركة وتآكل بنيتها القاعدية بسبب الضربات المتلاحقة التي تعرضت لها طيلة العقدين الماضيين، فضلا عن انفصال المستوي القيادي (الذي كان أغلب رموزه في المهجر) عن القواعد الحركية في تونس.
- لم يكن متاحا للإسلاميين بأي حال أن يعبروا عن هويتهم الذاتية في الثورات العربية، ليس فقط لأنهم لم يشعلوها أو يبادروا للقيام بها، وبالتالي لا يحق لهم تلوينها بشعاراتهم وأيديولوجياتهم، وليس أيضا لتخوفهم من أن يتم إجهاض الثورة بسببهم، وإنما أيضا لإدراكهم عواقب ذلك علي دورهم، وإمكانية بقائهم كجزء من التركيبة الثورية فيما بعد. فكما قلنا سابقا، لم يكن شباب الثورتين التونسية والمصرية ليسمحوا ببروز أية هوية فئوية أو عمودية قد تؤثر في شمولية الثورة، وتحجب صورتها كحركة قاطعة للمجتمع، ومعبرة عنه بكافة جماعاته وأطيافه. صحيح أن ثمة حضورا لبعض رموز التيارات الاسلامية في المشهد الثوري (علي العريبي والعجمي الوريني في تونس، ومحمد البلتاجي وبعض قيادات الصف الثاني في مصر)، إلا أنه كان حضورا ملتزما بالتيار الثوري العام، وليس متمايزا أو منفصلا عنه.
- لم يحتكر فصيل حركي بعينه المشهد الإسلامي في الثورات العربية، وإنما تنوعت خريطة الإسلاميين الذين انخرطوا في العمل الثوري، بحيث ضمت مختلف فصائل وجماعات التيار الديني، بدءا من الإخوان المسلمين، مرورا بالحركة السلفية، وانتهاء ببقايا التنظيمات الجهادية التي كان لها حضور في الثورة المصرية بدرجات متفاوتة. وهو ما يؤكد مجددا تجاوز الثورة المصرية للأطر الأيديولوجية والعقائدية لمختلف القوي الدينية والسياسية. فلم يحدث من قبل أن انخرط الإخوان والسلفيون والجهاديون، وفي بعض الأحيان الصوفية، في عمل تنظيمي وحركي يستهدف تغيير نظام الحكم، ليس فقط بسبب الاختلافات الشديدة بين خطاباتها وأيديولوجياتها، وإنما أيضا بسبب العداء التاريخي الذي وصل إلي حد الاتهام بالتواطؤ مع النظام السابق، كما كانت الحال بين السلفيين والإخوان علي سبيل المثال.
إذا كان حضور التيار الإسلامي في الثورات العربية متماشيا مع حضور بقية القوي الأخري، وباعتباره يعبر عن فصيل اجتماعي وسياسي موجود ومتجذر في المجتمعات العربية، ولم يكن حضورا استئثاريا أو استثنائيا بأي حال من الأحوال - وهو أمر مهم وفارق، حيث اعتادت الحركات الإسلامية أن تكون هي المحرك الأساسي للشارع العربي، خاصة في الشرائح الدنيا والوسطي - فإن الثورات العربية هي أعم وأشمل من أن تختزل في فصيل أو لون سياسي واحد دون بقية القوي والتيارات.
قد يبدو لوهلة أن الحركات الإسلامية هي الفائز الأكبر في الثورات العربية. فقد أسقطت هذه الثورات تلك الأنظمة الأوتوقراطية التي أقصت وهمشت وحجبت الشرعية عن الحركات الدينية، خاصة الإسلامية. بيد أن الوجه الآخر لهذا الانطباع هو أن هذه الحركات سوف تواجه تحديات واستحقاقات لم تعمل لها حسابا طيلة العقود الثلاثة الماضية. وهنا، نتعرض للفرضية الثانية في هذه الدراسة. فالثورات كما تمنح فرصا، فإنها تفرض قيودا وقواعد جديدة ملزمة لكافة الأطراف، حتي تكتمل أهداف الثورة.
هنا، يمكن الإشارة إلي بعض المكاسب التي سوف تحصدها الحركات الإسلامية في مرحلة ما بعد الثورات العربية. أولا، سيكون من حق هذه الحركات الحصول علي وضع شرعي وقانوني يمكنها من العمل بحرية وعلنية. فالثورات لم تسقط فقط الأنظمة السلطوية، وإنما أسقطت معها ثقافة الإقصاء والاستبعاد التي كانت حاجزا أمام القوي والتيارات الدينية. فجماعة الإخوان المسلمين في مصر محظورة منذ عام 1954، وحركة النهضة التونسية لم تحظ باعتراف رسمي من الدولة منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. ثانيا، سوف يفتح المجال السياسي لهذه الحركات بشكل أكبر مما كان عليه الوضع سابقا، وسيكون بمقدورها أن تمارس دورا سياسيا كثيفا، سواء من خلال المشاركة في المناسبات الانتخابية بدون قيود، أو من خلال عقد تحالفات والدخول في ائتلافات سياسية علنية. ثالثها، فتح المجال الاجتماعي والحركي أمام التيارات الإسلامية من أجل تأكيد وترسيخ حضورها الشعبي، مما يعني إمكانية التمدد القاعدي مجتمعيا وثقافيا.
بيد أن ثمة تحديات كثيرة تنتظر الحركات الإسلامية، لعل أهمها ما يلي:
أولا- تحدي الانتقال من السرية إلي العلنية. فقد دأبت الحركات الإسلامية علي العمل بعيدا عن القواعد المؤسسية التي تحكم عمل الأحزاب والقوي السياسية الأخري، وهو ما وفر لها قدرا من السيولة والتغلغل في المجتمعات العربية. ويترتب علي العمل السري سلسلة طويلة من القيم والمبادئ التي ينشأ عليها أفراد الحركة وأعضاؤها، مما يخلق ثقافة ومنظومة قيمية بعيدة عن الشفافية والوضوح. لذا، فإن أول تحد سوف يواجه هذه الحركات هو كيفية تغيير البنية العقلية والفكرية لأعضائها، ونقلها من الحيز السري بآلياته وتفاعلاته إلي الإطار العلني بمسئولياته والتزاماته.
ثانيا- تحدي الفصل ما بين النشاطين الديني والسياسي. فقد دأبت الحركات الإسلامية علي الخلط بين الدعوي والسياسي، ولم توجد حدود فاصلة بين الدور الديني والاجتماعي لهذه الحركات ونشاطها السياسي. وهذا التحدي لا يمكن حله بمجرد التمييز بين المجالين الديني والسياسي عن بعضهما بعضا، وإنما من خلال عملية فصل كلي في الوعي والفكر الحركي بين منطق الجماعة الدينية ومنطق الحزب السياسي. ولا تشجع النماذج العربية (كما هي الحال في الأردن والمغرب واليمن) التي تجمع بين الأمرين علي إمكانية تكرارها في مصر وتونس. فالمشكلة لم تكن يوما في العلاقة التنظيمية التي تحكم علاقة الحزب بالجماعة ومساحات الانفصال والتلاقي بينهما، وإنما في الفلسفة التي يستند إليه كلاهما. فالعضو الذي يقرر الانتماء لجماعة دينية ليس هو حتما من يقرر الانتماء إلي حزب سياسي وبالعكس. من هنا، تبدو محاولة جماعة الإخوان المسلمين في مصر لإنشاء حزب سياسي أشبه بإعادة استنساخ التجربة الأردنية، مما سوف يؤدي إلي مشاكل مستقبلية قد تعوق نشاط كلا الطرفين.
ثالثا- تحدي إدارة التوازنات والعلاقات الداخلية في الحركات الإسلامية. فمن المعروف عن هذه الحركات تماسكها الداخلي والتزامها التنظيمي والأيديولوجي. ولعل أحد أسباب ذلك هو شعور الحركة بكونها دوما مستهدفة من الأنظمة السلطوية، وهو ما كان سببا في تأجيل كثير من الاستحقاقات التي كانت مفروضة علي هذه الحركات تحت وطأة القمع الخارجي. أما الآن، وقد سقطت هذه الحجة، فإن ملفات داخلية كثيرة سوف تكون محل نقاش وجدل كبيرين داخل هذه الحركات، منها - علي سبيل المثال - إمكانية الانتقال من ثقافة التلقين والطاعة إلي النقاش والاختلاف، والعلاقة بين الأجيال، والعلاقة بين المستويات التنظيمية المختلفة (مجالس الشوري والمكاتب التنفيذية وسلطات رئيس الحركة)، وما يتعلق بالانتخابات الداخلية، ومنظومة الحراك والترقي الداخلي.
رابعا- تحدي تطوير الخطاب الفكري والأيديولوجي للحركات الإسلامية. ففي مرحلة ما بعد الثورات، لن يكون مقبولا من هذه الحركات أن تظل متخندقة في أطروحاتها الدينية والفكرية دون الانفتاح علي غيرها من التيارات والرؤي والأفكار الأكثر تقدمية واعتدالا، وإلا فستخسر حتما الكثير من قواعدها ومؤيديها. والأكثر من ذلك أن هذه الحركات سوف تكون مطالبة بأن تضبط خطابها وتفاعلاتها الداخلية مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورات العربية، وإلا فإنها ستفقد الزخم الثوري وتسير خلف المجتمع وليس في مقدمته.
خامسا- تحدي الانقسامات والانشقاقات الداخلية. من المتوقع أن تتعرض بعض الحركات الإسلامية العربية إلي هزات داخلية عميقة، عطفا علي الحالة الثورية التي تتطلب تجديدا للبنية التنظيمية والفكرية لهذه الحركات، كي تكون علي مستوي التوقعات والطموحات التي حملتها الثورات العربية للشارع العربي. وقد بدأت بالفعل مؤشرات علي هذه الانقسامات في بعض الحركات، وإن بشكل غير علني حتي الآن. فعلي سبيل المثال، هناك خلاف متزايد بين قادة حركة النهضة التونسية حول كيفية التعاطي مع المرحلة الجديدة. وهو انقسام يعكس عدم توافق الرؤية بين جناحي الداخل والخارج في الحركة. فالجناح الأول يبدو الأكثر انغلاقا وتحفظا علي تقديم تنازلات، سواء في خطاب الحركة، أو في موقعها الحركي داخل النظام السياسي الجديد، في حين يبدو جناح الخارج أكثر مرونة واستيعابا للحظة الثورية، بحكم احتكاكه بالثقافة الغربية، وقبوله بالتعددية الفكرية والأيديولوجية. أما في مصر، فثمة مؤشرات علي خروج وانسحاب بعض قيادات الجماعة وقواعدها، سواء باتجاه قوي سياسية وحزبية مدنية ناشئة، أو لإرساء تجربة إسلامية جديدة، بعيدا عن التجربة الإخوانية بكل إرثها وتعقيداتها، وهو ما قد يضر بالحركة "الأم" علي المدي الطويل.
وخلاصة القول، فإن مستقبل الحركات الإسلامية والتحولات التي قد تطالها سوف يتوقف علي ما قد تفضي إليه الثورات العربية الراهنة من نتائج علي المدي الطويل، وأي الأشكال قد تأخذها الدولة العربية الجديدة، سواء بالانتقال نحو نظم ديمقراطية حقيقية، أو الوقوع مجددا في براثن السلطوية والأوتوقراطية.
تعريف الكاتب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق