بشير عبد الفتاح
تجنح التجارب السياسية العربية الحديثة، في معظم الحالات، باتجاه وضع العديد من الجيوش العربية ضمن قائمة الجيوش "المتدخلة" في العملية السياسية، استنادا لأسباب عديدة، من أبرزها: الدور البارز الذي اضطلعت به تلك الجيوش في استقلال بلدانها عن الاستعمار الأجنبي، فضلا عن هشاشة الوسائط السياسية العربية المدنية، كالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، علاوة علي نمط التربية العسكرية لهذه الجيوش، ومناخ العلاقات المدنية العسكرية الذي يحوطها.
لكن الثورات الشعبية التي تشهدها بعض دول المنطقة في المرحلة الحالية، والتي لعبت بعض الجيوش العربية دورا محوريا في إنجاحها من عدمه، تطرح تساؤلات بشأن إمكانية تغير مثل هذا الدور "التدخلي" لتلك الجيوش خلال المرحلة المقبلة، وتحولها إلي جيوش "حارسة" للعملية السياسية، من دون التدخل في توجيه مساراتها، خصوصا وأن تلك الثورات قد رفعت شعار الديمقراطية والدولة المدنية، في زمن لم يعد يتسع لغير هذه القيم والمبادئ.
لكن الثورات الشعبية التي تشهدها بعض دول المنطقة في المرحلة الحالية، والتي لعبت بعض الجيوش العربية دورا محوريا في إنجاحها من عدمه، تطرح تساؤلات بشأن إمكانية تغير مثل هذا الدور "التدخلي" لتلك الجيوش خلال المرحلة المقبلة، وتحولها إلي جيوش "حارسة" للعملية السياسية، من دون التدخل في توجيه مساراتها، خصوصا وأن تلك الثورات قد رفعت شعار الديمقراطية والدولة المدنية، في زمن لم يعد يتسع لغير هذه القيم والمبادئ.
أدوار تدخلية :
تضرب السمة التدخلية للجيوش العربية في العملية السياسية بجذورها في عمق التاريخ العربي، علي نحو امتدت أصداؤه جلية إلي نهاية القرن التاسع عشر، حيث إن أول تحرك عسكري في مصر، بقيادة أحمد عرابي عام 1881، لم يخل من نزعة سياسية، ثم في مطلع القرن العشرين، ابتداء من انقلاب "الاتحاد والترقي" العثماني في عام 1908 الذي خلف تداعيات مهمة علي دور الجيوش في دول المشرق العربي، خصوصا بعد مشاركة عناصر من جيوشها في هذا الانقلاب.
وتدريجيا، بدأت الدول العربية تعرف ظاهرة الانقلابات العسكرية، التي استهلها العراق بانقلاب بكر صدقي في عام 1936، ومن بعده جاء اليمن في عام 1948 عبر محاولة عبد الله الوزير. غير أن الضباط السوريين احتلوا صدارة المشهد الانقلابي العربي بسلسلة الانقلابات العسكرية التي بدأت منذ ربيع عام 1949 كانقلابات الزعيم، الحناوي، الشيشكلي.
وسرعان ما لحق الجيش المصري بالركب مع قيام "الضباط الأحرار" بانقلاب عام 1952، ليبلغ إجمالي الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدول العربية بين عامي 1936 و1970 فقط 41 انقلابا عسكريا، توالي علي أثرها تدخل الجيوش العربية في الشأن عام بصور شتي، تراوحت ما بين ممارسة الضغوط علي النخب الحاكمة، وإعلان التمرد أو التهديد به، والانقلاب والاستيلاء علي السلطة، وتقرير السياسات والتوجهات، وتغيير هياكل الدولة وهويتها ... الخ.
ويمكن تناول أهم التوجهات التي حكمت أدوار الجيوش في فترات الثورة، وما بعدها، من خلال وقائع محددة، في النقطتين التاليتين:
أولا- الجيوش في فترات الثورة:
من بين عوامل عديدة تؤثر في إنجاح الثورات التي تشهدها بعض الدول العربية هذه الأيام، يبرز دور الجيوش في هذا المضمار، ليس لأن تلك الجيوش هي القوي المنظمة الأقدر علي حسم مسيرة الثورة، وضبط إيقاع الأحداث والتطورات المتلاحقة كحماية الثوار من بطش القوي المناهضة للثورة فحسب، ولكن لكونها كذلك الأكثر جاهزية لحماية الثورة ذاتها من أية ثورات مضادة، والتصدي لمحاولات سرقتها من قبل العناصر أو الدوائر الموالية للنظام البائد، كما تلك المستفيدة منه.
من الحياد إلي الانحياز للثورة .. تونس ومصر نموذجا :
في ثورة الشعب التونسي ضد نظام الرئيس المخلوع بن علي، لعب الجيش دورا مفصليا في إنجاحها،حيث التزم الحياد إبان تحول الحالة الثورية إلي فعل ثوري، ولم يتدخل إلا لحفظ الأمن والحيلولة دون انهيار الدولة بعد تعطل مظاهر الحياة فيها.
ولقد ارتكز هذا الموقف من جانب الجيش التونسي علي ركائز شتي، أهمها: استياء الجيش من سياسة الإضعاف والتهميش المتعمدين له من قبل بن علي لمصلحة الأجهزة الأمنية الأخري، التي كان يحتمي بها. وفي اللحظات الأخيرة من عمر نظام بن علي، تحول موقف الجيش إلي الانحياز للثورة، خاصة مع موقف قائد جيش البر، الجنرال رشيد بن عمار، الذي حاصرت دباباته قصر قرطاج، مما أجبر الرئيس المخلوع علي مغادرة البلاد.
وفي الحالة المصرية، سلكت الأمور مسلكا مشابها إلي حد كبير، وإن اختلفت كثيرا طبيعة الجيش المصري وتكوينه وعلاقته بالسياسة عن نظيره التونسي، خصوصا في ظل اتصال عسكر مصر بالسلطة السياسية منذ ثورة عام 1952، كون جميع الرؤساء الذين حكموا مصر منذ ذلك التوقيت قدموا جميعا من المؤسسة العسكرية. وكان واضحا للعيان منذ اندلاع الثورة في الخامس والعشرين من يناير، وعقب استدعاء الجيش لملء الفراغ الذي خلفه انسحاب الشرطة، أن الجيش وضع مسافة بينه وبين القيادة السياسية، وحرص علي أن يتدخل في لحظة احتدام الأزمة لإقناع الرئيس مبارك بالتنحي لوقف تدهور الأوضاع. وبشكل عام، كان موقفه متوازنا طيلة الوقت، وإن مال في بعض الأحيان تجاه الشارع ومطالبه.
الانشقاق العسكري في اليمن :
وفي الحالة اليمنية، بدا الأمر جد مختلف، إذ عمد الرئيس علي عبد الله صالح منذ اندلاع الثورة الشعبية ضد نظامه إلي التلويح بدعم الجيش له.
وعلي الرغم من إقدام بعض الضباط والرموز العسكريين علي إعلان الانشقاق علي نظام الرئيس صالح والانضمام إلي صفوف المعارضة أو الثوار، فإن الموقف الرسمي للجيش اليمني، علي الأقل حتي مثول تلك المطبوعة للنشر، يبقي منحازا للرئيس صالح، علي نحو من شأنه أن يؤخر عملية حسم الثورة لمصلحة الثوار، ما لم تحدث تحولات استراتيجية مفاجئة في مواقف قيادات الجيش، تتغير علي أثرها موازين القوي خلال الأزمة.
" الانقسام العسكري" في ليبيا :
أما في ليبيا، فإن غموضا واضحا يكتنف جيشها، بدءا من أدائه وتسليحه، مرورا بتشكيلاته، وانتهاء بتوجهاته وعقيدته العسكرية، بشكل كان له بالغ الأثر في بلورة موقفه المنقسم حيال ثورة الشعب الليبي ضد نظام العقيد القذافي.
ففيما يخص تسليحه وأداءه، ورغم أن ليبيا تعد إحدي أكثر الدول إنفاقا علي التسلح في العالم، فإن أغلب الوحدات العسكرية بها تبدو ضعيفة التسليح والتدريب ومحدودة الخبرة، إلي الحد الذي قلص من قدراتها علي الأداء العملياتي بشكل بدا واضحا في الإخفاقات المتتالية لتلك القوات، إبان قيامها بمهام وحملات عسكرية في عدد من الدول الإفريقية.
وعلي خلاف ذلك، ومقارنة بالقوات المسلحة النظامية، الهزيلة، تبدو الأجهزة الأمنية والتشكيلات شبه العسكرية المعنية بحماية القذافي، والتي يقودها أبناؤه وأقرباؤه وأصهاره، أفضل تجهيزا وتحديثا في العتاد والتدريب بسبب توجيه غالبية موارد البلاد إليها.
وعلي خلفية الشك في ولاء القوات المسلحة النظامية، يوفر محيط القذافي العائلي، وباقي أعضاء قبيلة القذاذفة والقبائل الأخري المتحالفة معهم، أهم مكونات القيادة العسكرية في البلاد.
وقد طرحت تشكيلة القوات شبه العسكرية، التي شكلها القذافي لتحقيق نوع من التوازن في مواجهة طموحات القوات المسلحة النظامية، والتي تضم، حسب بعض التقديرات، أكثر من 150 ألف مرتزق، تساؤلات عديدة بشأن مدي وطنية الجيش الليبي والمسافة التي تفصله عن القذافي من جهة، والشعب الليبي من جانب آخر.
وفيما يتصل بتوجهات ومواقف الجيش الليبي، تشي العقود الأربعة المنقضية بأنه لا يدين كله بالولاء التام للقذافي، فما فتئ الزعيم الليبي يتعرض لمحاولات انقلابية للإطاحة بنظامه (جرت عدة محاولات أعوام 1975، 1985، 1993).
ولقد انعكست كل هذه الملابسات مجتمعة علي موقف الجيش الليبي من ثورة الشعب ضد العقيد القذافي، فلم يحسم الجيش موقفه بالانحياز إلي جانب الثوار، علي غرار ما جري في كل من تونس ومصر، كما لم يقف كلية في صف النظام، مثلما حدث في حالة البحرين، ومن ثم اتسم موقفه بشيء من الانقسام ما بين الولاء للقذافي أو الانحياز إلي ثورة الشعب.
ومن جهة أخري، شرعت رموز قبلية وعسكرية ليبية مهمة للانضمام إلي صفوف الثورة.
ثانيا- جيوش ما بعد الثورات :
تطرح التجارب السابقة للجيوش العربية في التعاطي مع الثورات إبان حقبة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، والتي عمدت تلك الجيوش علي أثرها إلي الإمساك بالسلطة وتثبيت جذورها فيها بعد تحرير البلاد، تساؤلات عديدة بشأن الدور الذي يمكن أن تضطلع به تلك الجيوش في مرحلة ما بعد الثورات الشعبية التي تشهدها دول عربية عديدة هذه الأيام.
وفي حين يبدو من السابق لأوانه حاليا إجراء تقويم موضوعي واضح ومتكامل لمواقف الجيوش العربية حيال العملية السياسية، عقب الثورات الشعبية الراهنة، والتي كان لبعض هذه الجيوش دور محوري في إنجاحها، يمكن القيام باستشراف مبدئي للأدوار المتوقعة لتلك الجيوش في حالتي تونس ومصر، اللتين اتضحت معالمهما جزئيا حتي الآن، من خلال عدد من المؤشرات، التي تلوح في آفاق ما بعد الثورات الشعبية العربية، كتصريحات قيادات هذه الجيوش بخصوص المشاركة في السلطة والحكم من عدمه، إضافة إلي إسناد بعض المناصب والمسئوليات المهمة في البلاد لرموز أو شخصيات تنتمي للمؤسسة العسكرية، أو محسوبة عليها بشكل أو بآخر، فضلا عن مواقف وقرارات قيادات تلك الجيوش حيال الدساتير وشكل نظام الحكم المرتقب، حتي كتابة هذه السطور علي الأقل.
1- "الجيش الحامي" في تونس :
وعبر محاولة حذرة لتطبيق المؤشرات الآنفة الذكر علي الأفعال الثورية العربية الحالية، يتكشف لنا في الحالة التونسية، ابتداء، أن قيادات الجيش التونسي لم تبد أية نية صريحة للاستيلاء علي السلطة، وفرض وصاية الجيش علي الأمة، ومحاولة استثمار دورها في دعم الثورة وحمايتها، أو استغلال حالة الفراغ السياسي وأجواء الاضطراب الأمني والاقتصادي، التي أعقبت فرار الرئيس السابق، متذرعة بإنقاذ البلاد، كون الجيش هو وحده الأقدر علي الاضطلاع بذلك، في ظل عجز وهشاشة القوي السياسية والحزبية.
بيد أن ذلك لم يحل دون لعب الجيش دورا أساسيا في ترتيب المرحلة الانتقالية التي دشنت بتعيين الوزير الأول السابق "محمد الغنوشي" رئيسا للدولة بمقتضي الفصل 56 من الدستور، ثم نقل رئاسة البلاد إلي رئيس البرلمان "فؤاد المبزع" بموجب الفصل 57 من الوثيقة الدستورية.
وفي أول تدخل معلن من جانب الجيش التونسي في الأحداث، خاطب رئيس أركانه رشيد عمار الشعب التونسي، إبان تظاهرات تطالب بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية التي كانت تتولي مؤقتا تسيير شئون البلاد، علي نحو مباشر وليس عبر وسائل الإعلام. وكان خطابه حميميا، وأكد خلاله أن ثورة الجيش هي ثورة الشعب، وأن الجيش هو حامي الديمقراطية والشرعية الدستورية، وحامي البلاد والعباد، ولن ينتهك الدستور.
وباستقراء المعطيات الواقعية ومجمل التطورات التي أعقبت مغادرة "بن علي" البلاد، يمكن القول إن الجيش لا يبدي استعداده للسيطرة علي السلطة السياسية خلال المرحلة الحرجة الراهنة، بالنظر إلي عدد من الاعتبارات، أهمها: انغماس الجيش بمهمة صعبة تتمثل في إدارة المرحلة الانتقالية عبر تهدئة الأوضاع، وإعادة الاستقرار لمؤسسات الدولة، ودعم الشرعية الدستورية لهذا التحول، في الوقت الذي تحتاج فيه منطقة الحدود مع ليبيا والممتدة بطول 459 كلم وكذا الحدود مع الجزائر، والممتدة بطول 965 كلم، لجهود إضافية من أجل مراقبتها وتأمينها والحيلولة دون تسرب جماعات، يكون هدفها إثارة الفتنة الداخلية، في ظل تأزم الأوضاع الداخلية في البلدين المجاورين حاليا.
هذا، وتدرك قيادات الجيش التونسي جيدا أن أية محاولة من جانبها للسيطرة علي الحكم بعد ثورة "الياسمين"ستفقدها احترام المواطن التونسي، كما ستشكل عامل احتقان سياسيا جديدا ومصدر انفجار اجتماعيا آخر، لأن المطلب الأساسي للثوار هو بناء مجتمع ديمقراطي، وتعزيز سلطة القانون من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن التونسي.
2- "الجيش الضامن" في مصر :
أما في الحالة المصرية، فتجدر الإشارة بداية إلي أمرين، أولهما أن دور القوات المسلحة في الحياة المدنية عامة لم يكن منصوصا عليه دستوريا أو قانونيا بأية صيغة، ثانيهما أن الجيش المصري ليس جيشا أيديولوجيا، لكنه جيش ذو عقيدة وثقافة وطنية، وهو جيش غير متحزب وغير طبقي، تأتي عناصره وقياداته من المخزون الثقافي المصري في ريف مصر وحضرها دون تمييز.
ومنذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وحل مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وانخراط أغلب أعضاء هذا المجلس في الحياة المدنية، وفيما بدا للبعض أن الجيش كان ينأي بنفسه بعيدا عن العملية السياسية، ولم يفكر في أن يكون طرفا في تعقيدات الصراع علي السلطة، لعب الجيش دورا سياسيا لافتا وبصيغ مختلفة، ما بين حكم البلاد بشكل منفرد أولا، ثم بشراكة أو بتنافس مع العسكريين، الذي تحولوا بمرور الوقت إلي قادة شبه مدنيين.
غير أن هزيمة يونيو عام 1967 أتاحت للقيادة السياسية الفرصة لإعادة صياغة العلاقات المدنية - العسكرية، فانسحب الجيش من السياسة، وتفرغ لأداء مهمة الدفاع عن الوطن، فاستقرت صيغة جديدة قبل فيها الجيش الخضوع للقيادة المدنية. وقد سهلت الخلفية العسكرية لرئيس الجمهورية طيلة هذه الفترة الانتقال السلس إلي هذه الصيغة. وتدريجيا، تراجع الجيش إلي خلفية المشهد السياسي. فبينما تجنب التدخل المباشر والصريح في السياسة، ظل واقفا عند الأفق للتحوط ضد ما قد يحدث من تهديدات للأمن الوطني في ساحة السياسة الداخلية، ومقدما الدعم للسلطات الشرعية التي يخضع لقيادتها عندما تحتاج إليه وتطلبه، علي غرارما حدث في عامي1977 و1986، عندما أنقذ الجيش البلاد من فتن هددت السلم الأهلي.
وبدورها، مهدت ثورة الخامس والعشرين من يناير2011، وما أفرزته من عجز السياسيين، كما الأجهزة الأمنية، عن احتواء ثورة الغضب، الطريق مجددا أمام عودة الجيش لاحتلال صدارة المشهد السياسي بشكل تدريجي وغير مباشر، ثم بآخر صريح، بعد أن سلم الرئيس السابق، مجبرا، السلطة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة، الذي عقد بدونه حتي قبل التنحي.
وحتي كتابة هذه السطور، يمكن القول إن الجيش المصري يبدو ميالا للعب دور الضامن لعملية الانتقال السلمي والآمن والمنضبط نحو الديمقراطية بفعالية وبأقل تكلفة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية ممكنة، استنادا لخطة واضحة ومتكاملة، ووفقا لجدول زمني محدد.
فبعد أن حل الجيش البرلمان ووعد بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية حرة خلال ستة أشهر، شكل لجنة لتعديل الدستور، وحدد موعدا للاستفتاء علي التعديلات "الخلافية" التي وضعتها اللجنة، كما أعلن عزمه عدم تقديمه مرشحا رئاسيا في الانتخابات المقبلة، ولم يسند المجلس العسكري أيا من المهام الإدارية أو السياسية لأي من رجالاته، باستثناء رئاسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون التي لم تستمر سوي بضعة أيام. وهي الخطوات التي ارتأي فيها فريق من المراقبين أدلة علي استعداد المجلس العسكري لتسليم الحكم إلي سلطة مدنية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، خصوصا في ظل سأم الشعب المصري من استحواذ القادة العسكريين علي السلطة السياسية طيلة العقود الستة المنقضية، علاوة علي الضغط الدولي في اتجاه إصلاح سياسي حقيقي. وإن راودت فريقا آخر شكوك في أن الجيش يحاول استغلال الأحداث للاحتفاظ بالسلطة عبر تسريع المرحلة الانتقالية، وعدم منح الأحزاب والقوي السياسية الوقت الكافي لتنظيم انتخابات حقيقية وعادلة تنبثق عنها حكومة مدنية قوية.
ومن زاوية أخري، فإن السيطرة الكاملة لقيادة مدنية منتخبة علي شئون الدفاع والجيش في ديمقراطية ناشئة تبدو أمرا غير متصور حدوثه، خاصة في الحالة المصرية، التي لعب فيها الجيش دورا رئيسيا في حماية البلاد من الفوضي، وفي سد فراغ السياسة والشرعية، بعد أن كادت الطبقة السياسية، حكومة ومعارضة، تقود البلاد إلي الفوضي. وفي الوقت نفسه، فإن إبقاء كافة شئون الدفاع والجيش خارج نطاق سلطات حكومة منتخبة ديمقراطية هو أمر يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، ويمكن له أن يتسبب في تعريض التجربة الديمقراطية الوليدة لخطر جدي.
علي الجانب الآخر، تطرح تساؤلات حول ما إذا كان من الممكن عمليا للجيش الانسحاب، مثلما تعهد، من مقدمة المشهد السياسي في نهاية المرحلة الانتقالية أم لا. ويستند هذا الطرح علي عدد من الاعتبارات، أبرزها: افتقاد البلاد حاليا التأهيل الكفيل بنقلها إلي حقبة الديمقراطية الحقيقية، في ظل غياب تقاليد أو ثقافة ديمقراطية يمكن الاستناد إليها في كبح جماح التطرف والنوازع الاستبدادية عميقة الجذور، في وقت لا تبدو فيه الوسائط السياسية المصرية مهيأة لممارسة الحكم بشكل مستقر خال من الأزمات، مع حداثة عهد البلاد بالديمقراطية ونوعية الطبقة السياسية الموجودة في مصر، مما قد يوجد حاجة ملحة لاستمرار اضطلاع الجيش بدور سياسي، يضمن حدا أدني من الاستقرار السياسي، ويحصن الأمن الوطني ومصالح البلاد العليا ضد التداعيات السلبية الخطيرة للثورة.
وربما يفسر هذا الطرح دعوة البعض إلي تمديد المرحلة الانتقالية، التي يدير خلالها المجلس الأعلي للقوات المسلحة أمور الدولة، إلي حين أن تكتمل جاهزية البلاد ثقافيا وسياسيا ومؤسسيا وأمنيا لممارسة الديمقراطية بمعناها الحقيقي.
لكن الحالتين المصرية والتونسية، اللتين ترتبطان بوجود دول متماسكة، لم تتكررا بعد ذلك. فقد بدأت أنماط أخري لأدوار الجيوش في الظهور في حالات ليبيا تحديدا، ثم اليمن، ثم البحرين، ثم سوريا، بما يشير إلي أن الأدوار التي لحقت بالجيوش خلال فترات الثورة، وبعدها، لاتزال قيد التشكيل. فالجيوش الحارسة ليست النمط الرئيسي لأدوار الجيوش العربية حاليا، رغم أنها قد تصبح كذلك.
لمزيد من التفاصيل حول الموضوع، انظر :
1- جاك ووديز، الجيوش والسياسة، ترجمة: عبد الحميد عبد الله، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1982).
2- خالد محمد الضمور، العسكريون والحكم في سوريا، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة، 2891.
3- جابر سعيد عوض، العسكريون والسياسة في أمريكا اللاتينية، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، العدد رقم (67) يناير 2891.
4 - جيورجي ميرسكي، الجيش والمجتمع والسياسة في البلدان النامية، (موسكو: دار التقدم، 1987).
5- غسان سلامة، المجتمع والدولة في الشرق العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987).
6- Morris Janowitz: Armed Forces and society، World perspective، in on military intervention، Ed. By M. M. Janowitz and vandoorn. Rotterdam am university press، 1971، P.20.
7- M. Janowitz: the military in the political Development of New nation، Chicago university press، 1969، P.P . 192-193.
8- أحمد شوقي الحفني، عوامل انتشار الظاهرة العسكرية، مجلة المنار، العدد رقم ( 64)، أبريل، 1990.
تعريف الكاتب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق