مُدُن العقل
هارولد بلوم
مقدمة هارولد بلوم لكتاب "دبلن" لجون توميدي ضمن سلسلة "أماكن بلوم الأدبية" 2005
ترجمة: أمير زكي
يوليو 2013
***
يمكن الجدال بأن المدينة الأم للمخيلة الأدبية الغربية ليست آثينا ولا أورشليم، بل الإسكندرية القديمة؛ حيث تجلت ثمرة الاندماج بين الثقافتين الهلنستية والعبرانية. كل الكُتَّاب الغربيين ذوي التعالي الاستطيقي الأصيل سكندريون، سواء كانوا يعرفون ذلك أو لا؛ بروست وجويس وفلوبير وجوته وشكسبير ودانتي يشتركون جميعا في هذا التراث المتنوع وإن لم يكن ذلك بشكل واضح. من منتصف القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الثالث بعده، كانت الإسكندرية هي مدينة الروح والعقل ورغم أن أفلاطون وموسى لم يتصالحا فيها أبدا (هذا الشيء المستحيل) إلا أنها استثارت بشكل حاد نوعا جديدا من الحساسية تَعَلمنا أن نطلق عليها الحداثة، التي يمتد عمرها الآن إلى ستة وعشرين قرنا. الحداثي الأول كان الشاعر كاليماخوس[i]، الذي قال إن القصيدة الطويلة هي شر طويل، والذي أكد عنه أرسطارخوس[ii (أقدم ناقد أدبي حاول صياغة مجمع أدبي علماني) أنه هو ورفقائه Neoteroi (حداثيون). د. صمويل جونسون، بويلو، سانت بيف، ليسينج، كوليريدج، ي. أ. ريتشاردز، إمبسون، وكينيث بيرك[iii]كلهم أخلاف لأرسطارخوس.
ف. إ. بيترز[iv]في كتابه المستبصر "حصاد الهلينستية" يختصر إنجاز الإسكندرية الهلينستية برصد رائع: "الغنوصية، الجامعة، التعليم المسيحي المنهجي، الشعر الرعوي، الرهبانية، الرومانسية، علم النحو، صناعة المعاجم، تخطيط المدن، اللاهوت، القانون الكنسي، الهرطقة، السكولانية". أنا لا أعرف لِم استبعد بيترز الأفلاطونية الجديدة، التي بدأها أفلوطين، وأنا نفسي أضفت النقد الأدبي لما سبق، وأكثر من ذلك يمكن أن أضيف مفهوم "المكتبة". الآن نفت الإسكندرية يونانييها ويهودها، وتقريبا كل من هو ليس عربيا، وبالتالي لم تعد مدينة العقل، ولم تعد صاحبة التقليد الشعري الممتد من كاليماخوس إلى كافافي، إلا أننا لا نستطيع أن نعبر عن تقديرنا الحقيقي للمدن الأدبية بدون أن نبدأ بالإسكندرية. أنا أرشح مرشد الروائي إ.م. فورستر[v]للمدينة الذي يتأمل بعمق دلالتها الثقافية.
نحن جميعا سكندريون، حتى دانتي كان كذلك، طالما اعتمد على التفسيرات الأفلاطونية الجديدة الهلينستية لهوميروس، الذي لم يقرأ شعره قط. فيرجيل مرشد دانتي كانت هلينستي الثقافة، واتبع ثيوقريطس[vi]في المحاكاة الرعوية والسكندرية لملاحم هوميروس. ولكن على الرغم من أن ثقافتنا الأدبية تظل سكندرية (ضع في الاعتبار كل أساطيرنا الحالية عن الحداثة)، إلا أننا نتبع القديس أوغسطين في رؤية أورشليم كمدينة الله، مدينة الملك داوود وخليفته الشهيد يسوع الناصري. جامعاتنا سكندرية - بشكل لا يمكن تجاهله - في انتقائيتها البراجماتية، ورغم ذلك هي مستمرة في رفع مرتبة أثينا سقراط وأفلاطون وأرسطو كمدينة المعرفة والديمقراطية (المفترضة). أثينا بركليس الحقيقية كانت أوليجارشية وبلوتوقراطية يملك فيها السادة العبيد، هذا الذي يظل منتشرا في معظم أنحاء العالم، في السعودية أو في الكثير من الأماكن بالأمريكتين. آثينا الأدبية، في عصرها الذهبي، تأسست على يدي هوميروس وأنتجت الدراما الغربية الوحيدة التي يمكنها أن تتحدى شكسبير: أسخيلوس، يوريبيديس، سوفوكليس، وأرسطوفان الإلهي (أنا أتبع هاينريش هايني الذي لاحظ أن: "هناك إله واسمه آرسطوفان").
آثينا الآن في سبات باستثناء الألعاب الأوليمبية والسياحة، بينما أورشليم حية جدا كمركز للصراع الإسرائيلي العربي. للأسف، لقد خفت مجديهما، ولكن كذلك خفت مجد روما، حيث لا يُقرأ فيرجيل كثيرا وكذلك دانتي الفلورنسي حتى ولا يصل أحد لقاماتيهما. مدن العقل تظل ممثلة في باريس ولندن، المدينتين ربما في لحظة انهيارهما العقلي. اللغة العالمية الآن هي الإنجليزية الأمريكية، ومدينة نيويورك بالتالي هي أهم الأماكن الأدبية. هذا بالضرورة يجلب نتائج مختلطة، ولكنه يوضح مقارنتي المكررة بالإسكندرية القديمة، التي خلطت الابتكار بالانهيار الشديد في نهاية عصر. لقد تخلف وعي الإسكندرية وكذلك وعينا، على الرغم من نشوتنا المتناقضة بالجديد.
2
هل المكان الأدبي - بالتعريف البراجماتي - مدينة؟ الشعر الرعوي مثله مثل كل الأشكال الأدبية كان ابتكارا حضريا. الكتاب العبري الذي روجع في المنفي البابلي، والذي يحتوي في الأساس على أسفار التكوين والخروج والعدد، ألفه السارد باسم يهوه في قاعة أعدها سليمان بحرص في أورشليم. لا يمكننا تحديد بداية ما أصبح فيما بعد "الإلياذة" و"الأوديسة"، ولكن اليونان التي تتحدث عنها الملحمتان متركزة في أثينا وطيبة. نفت فلورنسا دانتي وكافالكنتي[vii]، إلا أنهما طورا استخدامهما الأكبر للعامية في روما وميلان. إن مال مونتيني لعزل نفسه من باريس المبتلاة بالحرب[viii]، إلا أنه كان يعرف أن قراءه ساكنين فيها. الأدب الإليزابيثي اليعقوبي استقر افتراضيا في لندن، وتركز في في مسرح جلوب الخاص بشكسبير. إن كانت النهضة الأمريكية انبعثت من كونكورد[ix]إميرسون، وثورو، وهاوثورن، فهي بشكل متساو كانت في موطنها في مدينة نيو يورك الخاصة بويتمان، وملفيل، وعائلة جيمس الصاعدة. وعلى الرغم أن فوكنر ظل في أكسفورد ميسيسيبي بقدر إمكانه، ووالاس ستيفنز في هارتفورد، فإن كان عليّ أن أرشح الكلاسيكية الكبرى في الولايات المتحدة في القرن العشرين، سأختار بدون تردد أشعار هارت كرين، وريث ويتمان الشرعي وهو الشاعر الملحمي لمدينة نيويورك. أكد لي كينيث بيرك[x] عندما رأيته بداية 1975 فصاعدا، أن قصيدة ويتمان "عبّارة بروكلين المارة"، وقصيدة هارت كرين "الجسر" هما أعظم قصيدتين أمريكيتين.
روائيونا العظام – فيليب روث – بينشون – دي لايلو – أصبحوا غير منفصلين عن روح مدينة نيويورك. فقط كورماك مكارثي المتهرب، المتنبيء صاحب "خط الطول الدامي" ظل بعيدا عن مدينة المدن، والذي استبدلها بلندن وباريس كالعواصم الأكثر إثارة للخيال.
3
بغض النظر عن عزلة أي كاتب بارز بسبب مهنته، إلا أنه (أو أنها) يميل ليجد صديقا مقربا في فنان أدبي معاصر. وربما هو انجذاب بين المتنافسين: شكسبير وبن جونسون، بايرون وشيلي، هاوثورن وملفل، همنجواي وسكوت فيتزجيرالد، إليوت وباوند، هارت كرين وآلان تيت وهؤلاء مجرد ثنائيات قليلة تبقى داخل التقليد الأنجلو أمريكي. إلا أن هذا الميل موجود في كل مكان: جوته وشيلر، ووردسوورث وكولريدج، سويفت وبوب، تولستوي وتشيكوف، هنري جيمس وإديث وارتون، وآخرين عديدين، كثيرين جدا على الحصر. الأماكن تتغير: همنجواي وفيتزجيرالد في باريس، بايرون وشيلي معا في المنفى الإيطالي، إليوت وباوند في لندن. هناك استثناءات كبيرة: سرفانتس، ميلتون، فيكتور هوجو، إميلي ديكنسون، جويس وبيكيت (على الرغم أن هذا فحسب بعد ارتباطهما المبكر).
المدن هي جوهر أساسي للعلاقات الأدبية، هذا يتضمن تلك التي يسيطر عليها رمز الأب، مجتمع أولاد بين جونسون في لندن: كاريو، لافليس، هيريك، ساكلنج، راندولف[xi]وآخرين عديدين، أو د. صمويل جونسون وناديه الذي ضم بوزويل، جولدسميث، بيكر[xii]، ضمن آخرين، أو مالارميه وتلاميذه، ومن ضمنهم فاليري، الذي كان في طريقه للتفوق على أستاذه. لندن الحداثية دوما ما تستدعي بلومزبيري[xiii]، مع فيرجينيا وولف كالرمز المتألق، الزينة في المجموعة التي كانت تعتبر إ. م فورستر البطريرك الخاص بها في حالتها التراتبية.
حتى في عصر شاشات الكمبيوتر كان القرب أساسي في الزمالة الأدبية. ولكن حتى الآن أنظر للمدينة كمكان أدبي فقط فيما يتعلق بالأدباء. ولكن كموضوع، وفي الحقيقة كـ "معطى" في الأدب، فالمدينة مسألة أكبر. الانتقال من الحديقة (الجنة) إلى المدينة كتركيز أدبي واضح بقوة في الكتاب العبري، عندما نقل يهوه بيته من جبل سيناء إلى جبل صهيون، ثم إلى هيكل سليمان، ظل جبل سيناء هو الأصل لأنه جبل العهد ولكن في حزقيال (من إصحاح 28 آية 12 إلى ما يليه) وضع (عدن، جنة الله) كهضبة على جبل صهيون، كل من الجبل الأرضي والفردوس. عندما استقر يهوة في الهيكل، كانت عدن قريبة، ولكن مع ذلك لم يكن الانتقال من الجنة إلى المدينة قد اكتمل. هذه مدينة مقدسة، ولكن بالنسبة للتخيل الأدبي فكل المدن العظيمة مقدسة. باريس ولندن ودبلن وبيترسبرج وروما ونيو يورك تقدسوا أيضا، بغض النظر عن المعاناة والظلم الصادر عن تلك المدن.
4
في الولايات المتحدة العاصمة الوطنية واشنطن دي سي هي بالكاد مدينة عقل، ليس فقط بالنسبة لمدينة نيويورك، ولكن أيضا بالنسبة لبوسطن وشيكاجو وسان فرانسيسكو. باري ولندن وروما كلها عواصم ومراكز ثقافة، ولكن واشنطن دي سي لم تضم سوى كتاب أمريكيين رئيسيين قلائل وكانت مصدر موضوعات للروائيين السياسيين فحسب مثل هنري آدامز وجور فيدال[xiv]. الرواية الأمريكية العظيمة لا تزال تحتاج لأن تُكتَب، بخلاف الأعمال العظيمة المبكرة مثل "الرسالة القرمزية" "موبي ديك"، "هكلبري فن" و"صورة سيدة"[xv]، وبضعة أعمال بارزة متأخرة مثل "بينما أرقد محتضرا"، "الصخب والعنف"، "الشمس تشرق أيضا"، "جاتسبي العظيم" إلى "قوس قزح الجاذبية" "مسرح ساباث"، "العالم السفلي" و"خط الطول الدامي".[xvi]أنا لا أعرف إن كان ذلك يتطلب أن تتحول واشنطن دي سي لموضوع للكتابة، أو أن يتم تأليف الكتاب من قبل ساكن فيها.
التصنيع في المدن العظمى في القرن التاسع عشر قدم لنا روايات فيكتور هوجو وديكنز وزولا، تلك التي أنتجت واقعية متخيلة تماما، ربما لم تعد متاحة لنا الآن. الحضرية الكمبيوترية لا يبدو أنها تميل لاستثارة الأدب المتخيل. التحديد المضاعف overdetermination المرئي يغزو العين الداخلية ويجعلنا نهجر السرد أو الجمال الشكلي للشعر والدراما. هناك شيء حزين متكرر في الاستدعاءات المتجددة للأماكن الأدبية، هنا والآن في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين.
[i] Callimachus من القرن الثالث شاعر وناقد يوناني وأحد الدارسين بمكتبة الإسكندرية القديمة.
[ii] Aristarchus of Samothrace آرسطارخوس الساموثراكي (القرنان الثاني والثالث قبل الميلاد) نحوي ومكتبي بمكتبة الإسكندرية، وصاحب نسخة منقحة من أشعار هوميروس.
[iii] Samuel Johnson(1709-1784)، Nicolas Boileau-Despréau(1636-1711) شاعر فرنسي،Charles Augustin Sainte-Beuve(1804-1869) ناقد أدبي فرنسي، Gotthold Ephraim Lessing(1729-1781) كاتب وفيلسوف ألماني، Samuel Taylor Coleridge(1772-1834) الشاعر الإنجليزي، Ivor Armstrong Richards(1893-1979) ناقد أدبي وخطيب إنجليزي، William Empson(1906-1984) ناقد أدبي إنجليزي، Kenneth Duva Burke(1897-1993) فيلسوف وناقد أدبي إنجليزي.
[iv] Francis Edward Peters(1927) أستاذ تاريخ بجامعة نيو يورك.
[v] Edward Morgan Forster(1879-1970) روائي إنجليزي، الإشارة لكتابه "تاريخ الإسكندرية ومرشد إليها".
[vi] Theocritus (القرن الثالث قبل الميلاد) المعروف بمؤسس الشعر الرعوي.
[vii] Guido Cavalcanti (القرن الثالث عشر الميلادي) شاعر فلورنسي وكان صديقا لدانتي.
[viii] الحرب الأهلية الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا والتي امتدت من 1562 إلى 1598.
[ix] مدينة كونكورد ماساشوتس
[x] Kenneth Burke (1897-1993) فيلسوف وناقد أدبي أمريكي.
[xi] Thomas Carew(1595-1640)، Ritchard Lovelace (1618-1657)، Robert Herrick (1591-1674)، John Suckling (1609-1642)، Thomas Randolph (1605-1635) شعراء إنجليز جميعهم يعتبرون تلامذة لبن جونسون ومنسوبون لمدرسة الشعراء الفرسان Cavalier poets.
[xii] James Boswell (1740-1795) الكاتب الأسكتلندي، Oliver Goldsmith (1730-1774) كاتب أيرلندي، Edmund Burke (1729-1797) كاتب أيرلندي، جميعا كانوا أعضاء في النادي الأدبي الذي أسسه صامويل جونسون في لندن.
[xiii] الإشارة لجماعة بلومزبري التي كانت تضم عددا من الكتاب والمثقفين الإنجليز أبرزهم فيرجينيا وولف والاقتصادي جون كينيز والروائي إ. م. فورستر.
[xiv] Henry Adams (1838-1918)، Gore Vidal (1925-2012)
[xv] الروايات على التوالي لناثانيل هاوثورن، هرمان ملفيل، مارك توين، هنري جيمس.
[xvi] الروايات على التوالي لفوكنر، فوكنر، همنجواي، سكوت فتزجيرالد، توماس بينشون، فيليب روث، دون ديلايلو، كورماك مكارثي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق